web analytics
دراسات وأبحاث

ألطرق السياسية والقانونية في حلّ المنازعات الدولية وكيفية توظيفها في التوافق الوطني اللبناني

ألطرق السياسية والقانونية في حلّ المنازعات الدولية وكيفية توظيفها في التوافق الوطني اللبناني

د. عباس مزهر

(مؤسس الأنتروستراتيجيا الدولية)

أعدّت لمركز الدراسات والمعلومات في المجلس النيابي اللبناني

الحياة النيابية / المجلّد الثامن والتسعون / عدد آذار 2016

* المقدّمة

* المبحث الأول: الوسائل السياسية والقانونية في حلّ المنازعات.

– المطلب الأول: الأساليب السياسية: المفاوضات، المساعي الحميدة، الوساطة، التحقيق، والتوفيق.

– المطلب الثاني: الأساليب القانونية: التحكيم، والقضاء.

* المبحث الثاني: مبادئ حلّ النزاعات: من المجتمع الدولي إلى المجتمع الوطني.

– المطلب الأول: تحديد وتشخيص المسار النسقي للنزاعات الوطنية في لبنان.

– المطلب الثاني: تطبيق وسائل تسوية المنازعات الدولية على الخلافات الوطنية اللبنانية.

* الخاتمة

* المقدّمة

     يشهد العالم اليوم حالة من الصراع المستمرّ، يتّخذ طابع التنازع والتغالب والتدافع حيناً، ويصل إلى حدّ الاحتكاك والاصطدام والعنف أحياناً. هذه الصراعات تكون خارجية بين الدول الأطراف في النزاع طوراً، وتكون داخلية بين أحزاب وجماعات متباينة في الوطن الواحد حيناً آخر. وغالباً ما ترتبط النزاعات الدولية الخارجية بصراعات محلية داخلية، خاصة عندما ترتبط جماعات من الداخل الوطني بحكومات من الخارج الدولي. وبما إنّ هذه النزاعات ينجم عنها في الغالب مآسٍ ومشكلات إنسانية على الشعوب، فقد شرعنت هيئة الأمم المتحدة مبدأ التدخّل الدولي الإنساني، باعتباره تدخّل لصالح الإنسانية. “فهو إجراء تقوم به دولة أو أكثر ضد حكومة دولة أخرى بغية إنهاء مخالفات وخروقات تقترفها هذه الأخيرة لقوانين الإنسانية، التي تطبقها الدولة أو الدول المتدخّلة ذاتها ضدّ مواطنيها ورعاياها”[1]. هذا النوع من التدخّل يستخدم القوة وفق نظرية الحرب العادلة، على قاعدة “أنّ الاعتبارات الإنسانية تسمو على مبدأ عدم التدخّل وتبرّر قرار التدخّل”[2]. وهذا ما حدث فعلاً في الكثير من الجغرافيات التي عانت من توتّرات وحروب أهلية واستبداد، منذ حروب نابوليون مروراً بالحربين العالميتين الأولى والثانية وصولاً إلى عمليات التدخّل الدولي المعاصر في الجرف الأوراسي والشرق الأوسط وإفريقيا، وأخيراً التدخّل الدولي لمكافحة الإرهاب. وهكذا أصبحت قضايا الشعوب “تقع على مختلف أجهزة الأمم المتحدة لضمان احترامها في كل مكان، بعد أن كانت هذه الحقوق وفقاً للقانون الدولي التقليدي شأناً داخلياً وموضوعاً متعلّقاً بسيادة الدولة، لا شأن للقانون الدولي بها”[3].

     إنّ هذا النوع من التدخّل الدولي المعتمد على القوة هو آخر الحلول، فالإلتزام بتسوية المنازعات بطرق سلمية له الأسبقية والأفضلية على كل أشكال التدخّل الدولي لإنهاء النزاعات، وهو من المبادئ العامة للقانون الدولي، والذي ورد في نص المادة الأولى من اتفاقية لاهاي المبرمة في 18 تشرين الأول1907، والتي تتعهّد فيها الدول الأطراف ببذل أقصى جهودها لضمان التسوية السلمية للمنازعات الدولية بقصد منع اللجوء إلى القوة قدر المستطاع. “بيد أنّ هذا النص لم يرتّب التزاماً قانونياً بعدم استخدام القوة المسلّحة، كما لم يُلزم الدول باللجوء إلى التسوية السلمية، وأنّ ما تضمّنه النص هو مجرّد تعبير عن رغبة المجتمع الدولي، ولم يرِدْ تحريم مطلق لاستخدام الأسلحة إلا بنفاذ ميثاق الأمم المتحدة”[4]. ومع تطور العلاقات الدولية حدث تقدّم كبير في الوسائل السلمية، سواء فيما يتعلّق بكيفية إعمالها واختيار الأنسب منها طبقاً لمفردات كل نزاع على حدة، ومحيطه الإقليمي والدولي، مع التأكيد على تجنّب العنف، بحيث وصل المجتمع الدولي إلى تحريم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية طبقاً للمادة 2/4، التي تقول: “يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأيّة دولة، أو على وجه آخر لا يتفق مع مقاصد الأمم المتحدة… وهذا ما يعبّر عن مرحلة متطورة للقانون الدولي”[5]. لكنّ ديباجة الميثاق أشارت فقط إلى القوة المسلّحة، حيث “إنّ لفظ القوة قد استُخدِم دون نعوت في المادة 44 رغم دلالته على القوة المسلّحة”[6]، وذلك بهدف الإبقاء على وسائل ضغط اقتصادية وسياسية لاستخدامها في حال فشل الحوار والتفاوض في حل المنازعات بالطرق السلمية.

     وينطوي مفهوم الطرق السلمية لحلّ المنازعات الدولية على رفض قانوني لاستخدام القوة في إدارة العلاقات الدولية، والذي تأكّد صراحةً مع إنشاء الأمم المتحدة سنة 1945، حيث ينصّ على تحريم اللجوء إلى القوة المسلّحة في معالجة المنازعات. وهذا ما أعاد تأكيده إعلان “مانيلا” عام 1982، بشأن تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، “والذي صدر عن الجمعية العامة في دورتها السابعة والثلاثين”[7] حيث تضمّن ميثاق الأمم المتحدة الوسائل اللازمة للتسوية السلمية في حلّ الخلافات الدولية على أساس حُسن النية، وطبقاً للمقاصد والمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، بهدف تفادي قيام منازعات فيما بينها يُحتمل أنْ تضرّ بالعلاقات الودّيّة بين الدول، مسهمةً بذلك في صيانة السلم والأمن الدوليّيَن. ومع إنشاء المنظّمات الدولية وتعاظم دورها في تأطير وتنظيم العلاقات فيما بين الدول وسعيها إلى وضع أسس دائمة وديناميكية لإقامة السلم والعدل وتطوير كافة أوجه العلاقات الدولية، “فقد تكرّس دور المنظّمات العالمية والإقليمية في حسم وتسوية المنازعات الدولية”[8]. ويتوجّب على الدول الأطراف في المنظّمات الإقليمية أنْ تبذل قصارى جهدها لتسوية منازعاتها المحليّة بالوسائل السلمية، عن طريق هذه المنظمات الإقليمية قبل إحالتها إلى مجلس الأمن. وهذا لا يمنع الدول من توجيه نظر مجلس الأمن أو الجمعية العامة إلى أي نزاع وفقاً لميثاق الأمم المتحدة. وتمتنع الدول الأطراف في نزاع دولي ما، وغيرها من الدول، عن أي تصرّف يمكن أن يؤدّي إلى تفاقم الحالة، بحيث يهدّد صون السلم والأمن الدوليين ويزيد من صعوبة تسوية النزاع بالوسائل السلمية أو يحول دون ذلك.

     وبناء على ما سبق نرى أنّ لبنان قد كان موضوعاً للتدخّل الدولي في كثير من المحطّات المصيرية، باعتباره شهد نزاعات داخلية وطنية وكذلك منازعات خارجية دولية، خصوصاً مع الكيان الإسرائيلي المثنّف عدواً للبنان. فقد تدخّلت دول إقليمية لحل الأزمة اللبنانية منذ اتفاق القاهرة عام 1969 لتنظيم الوجود الفلسطيني المسلّح فيه، وكذلك اتفاق الطائف عام 1989 الذي شمل الاطراف اللبنانية المتنازعة بوساطة سعودية لإنهاء الحرب الأهلية، إضافة إلى اتفاق الدوحة عام 2008 برعاية قطرية لحلّ الأزمة السياسية في لبنان الذي شهد اضطرابات وأحداثاً صدامية. هذا النوع من الأساليب السياسية لحلّ المنازعات الداخلية اقتصر على معالجة إقليمية، وإنْ تمّ تحت توصيات دولية، إلا أنّها بقيت في حدود التشجيع والتأييد لهذه المساعي دون أي تدخّل قضائي أو تحكيمي دولي. أمّا بالنسبة إلى الصراع العسكري المباشر بين لبنان والكيان الإسرائيلي، فقد كان التوجّه الدولي مباشراً وواضحاً على مستوى إيجاد حلول للأعمال العسكرية، كما حصل خلال عملية تصفية الحساب التي قامت بها إسرائيل على لبنان عام 1993، فانتهت باتفاق شفوي صدر عن منظمة الأمن العالمي في الولايات المتحدة الأميريكية، ونصّت على وقف تبادل إطلاق النار. وكذلك فإنّ حرب عناقيد الغضب الإسرائيلية على لبنان عام 1996 انتهت باتفاقية مكتوبة عُرفت بتفاهم نيسان، وقضت بوقف إطلاق النار بين الجانبين تحت مراقبة لجنة مشتملة على ممثلين من الولايات المتحدة، فرنسا، سوريا، لبنان، وإسرائيل. أمّا التدخّل التحكيمي للمجتمع الدولي في لبنان فقد تمثّل في ترسيم الخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة بين لبنان من جهة وفلسطين المحتلة وهضبة الجولان من جهة أخرى، في 7 تموز 2000 بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. في حين جاء التدخّل القانوني لمجلس الأمن بشأن لبنان والكيان الإسرائيلي واضحاً ورسمياً في القرار 1701، الذي نصّ على وقف الأعمال الحربية وانسحاب الجيش الإسرائيلي والمقاومة من جنوب لبنان، وتوسيع انتشار قوات اليونيفيل لمراقبة تطبيق القرار. من هنا أهمية فهم الآليات السياسية والقانونية لحلّ النزاعات الدولية، وكيفية الاستفادة من هذه الآليات لحلّ الصراعات الوطنية اللبنانية الداخلية على قواعد وأسس سلمية.

* المبحث الأول: الوسائل السياسية والقانونية في حلّ المنازعات.

     يكتسب مفهوم حلّ المنازعات أهمية خاصة من ناحية الأمن والتعاون الدوليين، بهدف إرساء السلام وحلّ المشكلات سواء داخل الدول أو فيما بينها. “هذا المعنى يجد انعكاساً متزايداً في التوسيع التدريجي للقانون الدولي، ويتصل بذلك الاعتراف بأنّ الدول وحكوماتها لا تستطيع بمفردها مواجهة أو حلّ المشاكل القائمة اليوم، فالتعاون الدولي لا مناص منه ولا غنى عنه”[9]. ومن أهمّ أشكال التعاون الدولي في حلّ الأزمات هي الطرق السياسية، التي تُصنَّف أدوات للتفاهم المباشر بين الدول، وتُعتبَر وسائل دبلوماسية لأنها تتضمّن الآليات الدبلوماسية من مشاروات ومحادثات وتبادل وجهات النظر من خلال المراسلات، وعادةً ما يكون القيّمون عليها موظفين دبلوماسيين تختارهم الدول المعنية.

     وقد وردت الطرق الدبلوماسية لحلّ المنازعات في الكثير من الاتفاقيات المبرمة في نهاية القرن التاسع عشر، حيث نصّت عليها “المادة الأولى من اتفاقية التحكيم الفرنسية البريطانية عام 1903، وكذلك اتفاقية التوفيق فيما بين الحربين العالميتَين في المادة الأولى من اتفاقية لوكارنو عام 1925، وأيضاً بعد الحرب العالمية الثانية كما ورد في اتفاقية التوفيق والتسوية بين إيطاليا والبرازيل سنة 1945”[10]. كما تضمّنت الكثير من الاتفاقيات الدولية ذات الأطراف المتعدّدة نصوصاً على هذه الطرق كما هو الحال في المادة 20 من اتفاقية لاهاي الأولى سنة 1899، والمادة 38 من اتفاقية لاهاي الثانية عام 1907 الخاصة بالتسوية السلمية للمنازعات الدولية، كما ورد النص عليها في المادة 13 من عهد عصبة الأمم، والمادة الأولى من الاتفاق العام للتحكيم المبرم في 26 أيلول 1928 في المفاوضات بشأن اتفاق مؤقت أثناء نزاعها بشأن الضمان مع إيسلندا، كما فعلت الشيء نفسه في أعقاب حرب الفولاند مع الأرجنتين سنة 1982. وطبقاً للمادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة، فإنّ الدول الأطراف في نزاع ما، عليها أن تلتمس الحل عن طريق: المفاوضات، المساعي الحميدة، الوساطة، التحقيق، التوفيق، التحكيم، والتسوية القضائية، أو اللجوء إلى المنظمات الإقليمية أو أيّة طريقة أخرى سلمية يختارونها.

     وغالباً ما لا تلجأ الدول إلى الطرق القضائية لضمان الاحتفاظ بحرّيتها في التصرّف وحفظ سيادتها، فالمجتمع الدولي الذي يتكوّن من دول ذات سيادة يدفع هذه الأخيرة إلى اختيار الطرق السلمية، والتي قد تقود إلى تسوية النزاع وليس إقامة العدالة. “فما زال المجتمع الدولي يرى أنّ السلم ضروري لإقامة العدالة، وليست العدالة هي التي تخلق السلم”[11]. ورغم ذلك فإنّ الدول الأطراف في نزاع ما، تتخوّف من المجتمع الدولي نتيجة تحكّم بعض الدول الكبرى، مما يؤثر على سيادتها. “هذه الدول هي الأكثر حساسية لتدهور مفهوم السيادة، والأكثر تخوّفاً من تدخّل المجتمع الدولي، كذريعة لبسط نفوذ الدول العظمى من جديد”[12]. لذلك تتجنّب الدول المتنازعة اختيار الطرق القانونية في حل منازعاتها: كالتحكيم والقضاء، وتركّز على انتقاء الوسائل السياسية والدبلوماسية كالمفاوضات، المساعي الحميدة، الوساطة، التحقيق، والتوفيق.

– المطلب الأول: الأساليب السياسية: المفاوضات، المساعي الحميدة، الوساطة، التحقيق، والتوفيق.

  • المفاوضات:

     إنّ طريقة المفاوضات هي الأكثر شيوعاً واستخداماً في تسوية المنازعات، لأنها غير محكومة بإطار قانوني مُلزم للدول، ولا يترتّب عنها عقود رسمية، لذلك تأتي هذه الطريقة على رأس قائمة الوسائل الدبلوماسية في ميثاق الأمم المتحدة. فهي الوسيلة الأكثر نجاحاً في حل الخلافات، كما تُستخدَم كآلية ضابطة للوسائل السلمية الأخرى لا سيما التحقيق والتحكيم، بحيث تسمح للتوصيات أو القرارات أن توضع موضع التنفيذ، وتتيح لأطراف النزاع التحكّم بصراعاتها والسيطرة على مسارات الخلافات والتوافقات. “ويُعدّ الولوج إلى المفاوضات قراراً سيادياً يتّخذه أطراف النزاع، آخذين في الاعتبار مصالحهم الوطنية الخالصة. وقد ذهبت المحكمة الدائمة للعدالة الدولية إلى أنّ طريقة اللجوء إلى التسوية القضائية ليست إلا مرحلة تالية للتسوية الودّيّة والمباشرة”[13]. فالمجتمع الدولي يدعو الدول المتنازعة – في المقام الأول وقبل أي إجراء قانوني – إلى المفاوضات التي لها الأسبقية على كل وسيلة أخرى، تماماً كما فعلت محكمة العدل الدولية في النزاع الخاص بالجرف القاري لبحر الشمال، حيث “أكدّت وقبل تعرّضها لموضوع الدعوى أنّ على الأطراف الإلتزام بالتفاوض بحُسن نيّة للوصول إلى حلّ للنزاع”[14]. لكنّ المفاوضات رغم ضرورتها وأهمّيتها لا تحتوي على أيّة ضمانة للتوصّل إلى حلول للنزاعات، وذلك لأسباب عديدة: كعدم ارتباطها بأسس مقيِّدة، وباعتبارها غير خاضعة لقواعد قانونية، ولتأثّرها بطبيعة العلاقات وتوازنات القوى بين الدول الأطراف. لذلك فإنّ الإلتزام المسبق بالمفاوضات لا يعني الإلتزام بالتوصّل إلى حل، وإنذما فقط التفاوض وإرادة التوصّل إلى اتفاق.

   ما يميّز المفاوضات أنّها تبدأ بعرض الإشكاليات التي يسهل الاتفاق حولها، ويتمّ تأجيل الموضوعات النزاعية الحادّة إلى مراحل لاحقة. هذا ما فعلته بريطانيا في العام 1973 في مفاوضاتها حول النزاع على المصايد مع أيسلندا، وكذلك في أعقاب حرب الفوكلاند مع الأرجنتين سنة 1982. فالمفاوضات ليست محصورة بكونها وسيلة لحلّ النزاعات، بل هي عملية صيانة للعلاقات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية بين الدول، ويمكن استخدامها كوسيلة مكمّلة لوسائل حلّ النزاعات الأخرى، أو كوسيلة منفردة حتى بعد عرض المشكلة على محمكة العدل الدولية أو مجلس الأمن أو الجمعية العامة أو المنظمات الإقليمية. وعادة ما تنحصر المفاوضات بين الدول الأطراف بالسلطة التنفيذية ممثلة برئيسها ووزير خارجيتها، وأحياناً يقوم بها المبعوثون الدبلوماسيون وكبار موظفي وزارات الخارجية باعتبار المفاوضات شأناً دبلوماسياً. ورغم أنّ المفاوضات لها طابع حرّيّة الطرح والتبادل العلائقي في الحوار والنقاش، إلا أنها في كثير من الأحيان ترتبط بقانون تعاهدي يقيّد الدول الأطراف بالذهاب بعدها إلى التحكيم أو القضاء الدولي، وهو عمل هادف إلى الإلتزام بحُسن النوايا وبذل العناية وليس التزاماً بالتوصّل إلى نتيجة. فالإلزام يكون في الأسلوب وليس في الهدف، لذلك لا تكون المفاوضات دائماً خياراً حرّاً ولا يحقّ دائماً للدول الأطراف في نزاع معيّن رفض المفاوضات، خاصة عندما تكون هذه الدول ملتزمة بمعاهدات دولية نافذة أو تكون ملزمة بالتفاوض طبقاً للمبادئ العامة للقانون. وهكذا تكون المفاوضات مدخلاً أوّلياً لتحديد شكل وطبيعية المنازعات، فضلاً عن كونها مقدّمة لوضع الحلول المناسبة التي تحول دون الاضرار إلى استخدام وسائل أخرى في حال تحقيق الحلّ الملائم للنزاع.

  • المساعي الحميدة:

     إنّ المسعى الحميد هو اتجاه أخلاقي في العلاقات الدولية، وغالباً ما تكون محرّكاته إيجابية بغض النظر عن أهدافه إذا ما كانت نفعية أو تغالبية لطرف على آخر. فالمساعي الحميدة هي أن تتدخّل دولة أو شخصية بين أطراف النزاع، سواء بمبادرة منها أو بناءً على طلب أحد الأطراف لحملها على الاتصال فيما بينهم بالتفاوض أو إعادة المفاوضات إذا كانت قد قُطعت، أو اللجوء إلى أية وسيلة أخرى لتسوية النزاع سلمياً. وهذا ما أكّدت عليه المعاهدة الأميريكية للتسوية السلمية المبرمة في 3 نيسان 1948 في بجوتا، حيث تنصّ الماردة 9 من المعاهدة على أنّ: “La procedure des bons offices consiste dans la demarche d’un ou de plusieurs gouvernement Americans, ou d’un ou des plusieurs citoyens eminents de l’un quelconque des Etats Americans etrangers a’ la controverse, en vue de rapprocher les parties en leur offrant la possibilite’ de trouver directement une solution adequate”[15]                                                                            

        ظهر مفهوم المساعي الحميدة للمرة الأولى في مؤتمرات لاهاي، ولكن لم يأتِ ذكره كوسيلة لحلّ النزاعات في اتفاقية جنيف عام 1928، لكنّ الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية استخدمتها بشكل فعلي وفق قرار مجلس حلف شمال الأطلسي، الذي أوكل إلى السكيرتير العام للحلف سنة 1956 مهمة القيام بالمساعي الحميدة في مختلف المواقف، ما عدا المنازعات القانونية والاقتصادية. كما إنّ هذه الوسيلة السلمية لم ترِد بوضوع في المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة، التي حدّدت وسائل حلّ المنازعات بطريق سلمية، لكنّها لم تستبعد المساعي الحميدة إذ ذكرت في النص “أو غيرها من الوسائل السلمية”. والجدير بالملاحظة أنّ الدولة التي تبادر بالمساعي الحميدة لا تكون طرفاً في المفاوضات ولا تتدخّل فيها، حيث ينتهي دورها عندما تنجح في دفع الأطراف المتنازعة على التواصل.

       وتتميّز المساعي الحميدة بصفتين أساسيّتين، هما: الصفة الاختيارية والصفة الودّيّة. فالصفة الاختيارية تختصّ بالدولة التي تقوم بالمساعي الحميدة، ولكنّها لا تقتصر عليها، بل تنطبق أيضاً على الدول الأطراف في النزاع، بحيث يحق لها قبول هذه المساعي أو رفضها، تماماً كما رفضت بريطانيا لكل الدول التي عرضت مساعيها بشأن الحرب في ترانسفال. أمّا الصفة الودّيّة للمساعي الحميدة فقد وردت في المادة 3 من اتفاقية لاهاي لسنة 1907 باعتبارها عملاً ودّيّاً، وهذه الصفة هي التي تمنح المساعي الحميدة فرصة النجاح، وذلك لأنّ الدولة التي تقوم بالمساعي الحميدة لا تكون طرفاً منحازاً لجهة دون أخرى، ولا تكون طرفاً ثالثاً في الحوار. وتجدر الإشارة إلى أنّ المساعي الحميدة تتشابه في طبيعتها مع الوساطة التي تأتي بعدها في الترتيب الهرمي لوسائل حلّ النزاعات، ولكنها تختلف عنها في الدرجة. ففي المساعي الحميدة تعمل الدولة بشكل ضمني غير علني لدفع الأطراف المتنازعة إلى الجلوس على طاولة المفاوضات دون أن تتدخّل فيها، بينما تقوم الدولة الوسيطة عبر الوساطة بالتدخل العلني الظاهر في المفاوضات، وتلعب دوراً بارزاً فيها، وتقدّم مقترحات ومبادرات تراها مناسبة في التسوية.

  • الوساطة:

     تتميّز الوساطة بالتحرّك العلني المباشر باتجاه جمع الأطراف المتنازعة وحملها على التفاوض، فهي “قيام دولة أو أكثر، أوجهاز دولي، أو بصفة استثنائية أحد الأشخاص، بناءً على طلب أو بموافقة الدول المعنية، بالبحث عن تقريب الأطراف وإعداد تسوية ودّيّة”[16]. ويتفق هذا التعريف مع المساعي الحميدة في أنّ الطريقتين لا يمكن القيام بهما دون موافقة الأطراف المتنازعة، لذلك من الصعوبة بمكان أن نحدّد الحدّ الفاصل بين الوساطة والمساعي الحميدة، حيث تتداخل هاتان الوسيلتان بشكل تفاعلي تبادلي. فالوساطة مقدّمة لكل توافق، حيث تهدف إلى إيجاد قناة تواصل بين طرفين متنازعين ومنقطعين، وذلك عبر تقديم أفكار وتفسير مقترحات وعرض صياغات بغية تقريب وجهات النظر. وبذلك قد تتحوّل الوساطة إلى توفيق بين الأطراف، ولكنّها – شأنها شأنه – غير مُلزمة للأطراف المتصارعة، وليس لها طابع رسمي. فهي تنطوي على صفة اختيارية، حيث يحق للوسيط أو الدول الأطراف رفض الوساطة. وتزخر العلاقات الدولية بالكثير من الشواهد على ذلك، فقد رفضت هولندا وساطة الصين في نزاعها مع أندونيسيا سنة 1947، كما رفضت بريطانيا وساطة أميريكا في نزاعها مع غواتيمالا سنة 1984، وكذلك رفضت الهند وساطة أستراليا بخصوص نزاعها مع باكستان على منطقة كشمير عام 1951.

     ورغم الطبيعة الاختيارية للوساطة، إلّا أنّها قد تصبح إلزامية في بعض الحالات. وقد بدا ذلك في نص معاهدة باريس عام 1856 في المادة الثامنة، التي نصّت على إلزامية مبدأ الوساطة فيما بين الدول الأطراف لتسوية المنازعات التي تهدّد السلم في أوروبا وتعطل العلاقة بين دولها، وهذا ما تقرّر بين تركيا ودول التحالف الأوروبي قبل اللجوء إلى استخدام القوة. كما ألزمت المادة 12 من الاتفاق العام لبرلين عام 1885 الدول المتعاهدة باللجوء إلى وساطة إحدى الدول الصديقة في حال نشوب نزاع خطير أو صدام مسلّح حول الحدود الإقليمية في منطقة الكونغو. كما ظهرت الوساطة الإلزامية في السلوك الدولي، عندما عيّن مجلس الأمن السيناتور الأميريكي “فرانك جراهام” وسيطاً دولياً بين الهند وباكستان سنة 1950. وتتخذ الوساطة طابعاً إلزامياً في الحالات المصيرية الحرجة، التي تتحوّل إلى احتكاك وصدام، أو لوقف حرب أهلية داخلية اندلعت بين أبناء البلد الواحد مثلما حدث مع لبنان بالوساطات الإقليمية لحلّ أزمة الحرب الأهلية فيه، أو لتفادي أزمة خطيرة تُنذر باندلاع حرب بين دولتين متنازعتين. وهذا ما فعلته بريطانيا سنة 1887 لتسوية النزاع بين فرنسا وبروسيا بشأن لوكسمبورغ، أو عندما تدخّل بابا الفاتيكان سنة 1885 بين ألمانيا وإسبانيا حول نزاعهما على جزر كارولين، وكذلك وساطته بين الأرجنتين وتشيلي بشأن قناة بيغل عام 1797، أضف إلى ذلك وساطة التحالف الأوروبي لوقف الحرب بين تركيا وإيطاليا، والتي أسفرت عن عقد اتفاقية لوزان سنة 1912. والجدير بالذكر أنّ الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية الحكومية، وكذلك بعض المنظمات غير الحكومية – مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر – قد قامت بمهام وساطة عديدة وناجحة لحلّ المنازعات الدولية.

  • التحقيق:

     إنّ مصطلح التحقيق له معنيان متميّزان، ولكنّهما مترابطان على المستوى المفاهيمي. فالمعنى الأول هو المفهوم الواسع للتحقيق الذي يشير إلى “الإجراءات التي تستخدمها المحكمة أو جهاز دولي آخر يسعى إلى حلّ مشكلة مرتبطة بوقائع. وبالنظر إلى أنّ معظم المنازعات الدولية – بما في ذلك تلك التي ترتبط بنزاع قانوني أو سياسي – تثير في الوقت عينه مشكلات مرتبطة بوقائع، فإنّ التحقيق يلعب دوراً رئيسياً حتى في مجال التحكيم والتوفيق، وعمل المنظمات الدولية والوسائل الأخرى للتسوية السلمية”[17]. أما المعنى الأخر فهو المعنى الضيّق للتحقيق الذي يشير إلى “أسلوب مؤسسي محدّد، يمكن اختياره بدلاً من التحكيم أو الأساليب الفنيّة، للتعرّف على الوقائع، مثل لجان التحقيق”[18]. وتعود محاولات تقنين هذه الآلية إلى مؤتمر لاهاي عام 1899، الذي حدّد لجنة التحقيق من ثلاثة أشخاص أحدهم محايد، ثم رفعت اتفاقية لاهاي للعام 1907 عدد اللجنة إلى خمسة منهم ثلاثة محايدين. وقد نصّت المادة السابعة من هذه الاتفاقية على أنّه من المفيد والمرغوب فيه في حالات الاختلاف على وقائع نزاع دولي لا يمسّ شرف الدولة أو مصالحها الأساسية، أن تعيّن الدولتان المتنازعتان لجنة تحقيق دولية، يُعهَد إليها بفحص وقائع النزاع وتحقيقها. ويكون تكوين اللجنة بمقتضى اتفاق خاص بين الأطراف المتنازعة، ويتضمّن الاتفاق كيفية تشكيل اللجنة وبيان بالوقائع المطلوب تحقيقها وصلاحيات اللجنة وإجراءات عملها.

     ورغم أنّ التحقيق يعتمد على قرائن وأدلّة ومقاربات ذات روحية قانونية، إلّا أنّه غير ملزم. فقد عرض المندوب الروسي قبيل انعقاد المؤتمر الأول في لاهاي عام 1899 فكرة إلزامية التحقيق بمجرّد طلبه من أحد الأطراف، لكنّ المؤتمرين رفضوا العرض وأكّدوا على الطابع غير الإلزامي للتحقيق ولنتائجه. لذلك جاء تقرير لجنة التحقيق مقتصراً على بيان الوقائع، ويُترك للأطراف كامل الحرية في اتخاذ ما تراه مناسباً في ضوء هذا البيان. ولكن فيما بعد تمّ عقد اتفاقية “كنوكس” سنة 1911 بين الولايات المتحدة الأميريكية وفرنسا وبريطانيا، بغية تطوير وسيلة التحقيق ومنحها الطابع الإلزامي في حالة الاتفاقيات التعاهدية، وبشرط أن تكون نتائج تقرير التحقيق محطّة إجماع لكلّ الأعضاء. ثمّ جاءت اتفاقية “بريان” بين الدول الأميريكية والأوروبية، حيث أضفت الطابع الإلزامي للتحقيق في حال لجوء أحد الأطراف إلى طلبه، وبمجرّد اللجوء إلى التحقيق يترتّب على الدول الأطراف وقف كل أعمال العنف والصدام، بانتظار التحقيق في جوهر الصراع. وقد تعاظم دور التحقيق مع تطوّر التنظيم الدولي، ولم يعد مجرّد إجراء يرتكز على أساس تعاهدي، بل أصبح جزءاً عضوياً من آليات مؤسسية داخل المنظّمات الدولية، وإن كان في جميع الأحوال قائماً على الإرادة الضمنية للدول الأعضاء في المنظمة.

     تتيح المادة 34 من ميثاق الأمم المتحدة لمجلس الأمن التحقيق في كل نزاع أو صراع أو أي موقف ممكن أنْ يهدد السلم والأمن الدوليين. ويلجأ مجلس الأمن عادة في تحقيقاته إلى المادة 29 من الميثاق، والتي تقتصر على التصويت في المسائل الإجرائية بأغلبية تسعة أعضاء. وقد نجحت آلية التحقيق في تحديد أسباب الأزمة اليونانية وحلّها عام 1946، وكذلك توفّقت جهود لجنة التحقيق التي أنشأها مجلس الأمن في آب عام 1947 في توقيف الأعمال العدائية بين أندونيسيا وهولندا. ورغم تطوّر آلية التحقيق وروحيتها القانونية والسعي إلى تثبيت مبدأ إلزاميتها، إلّا أنها فشلت في الكثير من المواقف الحرِجة والحساسة. فالقضية الفلسطينية أنشئ حولها العديد من لجان التحقيق، كان أهمّها لجنة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي قامت بتحقيقات عديدة ابتداءً من العام 1947، وقدّمت في تقاريرها العديد من النتائج والخلاصات والتوصيات والمقرارت، أبرزها تقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية عبرية وعربية فلسطينية. لكنّ الكيان الإسرائيلي حتى الآن لا يتقبل نتائج لجان التحقيق، مما يضرب القاعدة الإلزامية والشرعية لهذه الآلية. وكذلك رفضت الحكومة المجرية نتائج لجنة التحقيق، التي قامت ب62 جلسة بين العامين 1956 و1957 على خلفية الأزمة المجرية السوفياتية. وبذلك نلاحظ أنّ الإرادة الدولية هي التي تحدّد مدى فعالية أساليب حلّ النزاعات، التي يجب أن تنطلق من منطلقات إيجابية مقترنة بالرغبة الحقيقية في حلّ الأزمات وتسوية الخلافات على أسس سلمية.

  • التوفيق:

     يُعتبَر التوفيق أحد أهم الطرق السلمية لحل الخلافات الدولية، ولكن لكي يكون ناجحاً لا بد أن يرتبط بآلية التحكيم التي يجب أن تليه مرحلياً، وإلّا تبقى نتائجه اختيارية وليس لها طابع الإلزام، لذلك تتكامل آلية التحكيم مع التوفيق. “فهو وسيلة للتسوية الشاملة لجميع المنازعات سواء كانت قانونية أو سياسية، وإنْ غلب على أداء لجان التوفيق الطابع القانوني لتصدّيها إلى عناصر موضوعية قانونية. ولجنة التوفيق التي يُنشئها الأطراف قد تعمل بصفة دائمة أو بخصوص نزاع بعينه، كما قد تنشأ قبل وقوع النزاع أو بعده”[19]. وتعمل اللجان على فحص ودراسة النزاع بشكل موضوعي محايد، وتقوم بتحديد أسس لتسوية ما أو تطرح وجهة نظر للحل، وقد تكون موضع قبول أو رفض الأطراف المتنازعة. ذلك أنّ التوفيق ليس له أية صفة إلزامية، وهو يقع بين الوساطة التي تهدف إلى تقريب وجهات النظر وتقليص مسافات الخلف ودفع الأطراف إلى طاولة المفاوضات، وبين التحكيم الذي يقوم بتحديد عناصر لتسوية ملزمة في النزاع. وتتكوّن لجنة التوفيق عادةً من عدة شخصيات أو شخص واحد، تماماً كما فعلت كينيا وأوغندا وتنزانيا حيث كلّفت هذه الدول الدبلوماسي السويسري “فيكتور ممبريشت” بالتوفيق في قضية نزاعها عام 1977. وعادةً ما يكون عمل لجان التوفيق سرّيّاً، حيث تعقد اجتماعاتها في أحد أقاليم الدول المتنازعة. وليس ضرورياً أن يحمل أعضاء اللجان جنسية أطراف النزاع، ويُفترض بهم أنْ يتمتّعوا بالخبرة والتخصص والمعرفة بطبيعة العلاقات الدولية ومناهج المفاوضات.

     ظهرت آلية التوفيق في العلاقات الدولية منذ العام 1826 في القارة الأمريكية خلال مؤتمر “بانما”، الذي تضمّن توصيات بلجوء الأطراف المتنازعة إلى التوفيق واستبعاد استخدام القوة. كما تمّ تفعيل آلية التوفيق بعد الحرب العالمية الأولى في اتفاقية 1920 بين تشيلي والسويد، ثم اتفاقية 1921 بين ألمانيا وسويسرا، وكذلك في اتفاقية لوكارنو عام 1925، وفي مقرّرات عصبة الأمم للعام 1928. كما تمّ اعتمادها في اتفاقيات فيينا للمعاهدات عام 1969، واتفاقية دول غرب الكاريبي عام 1981، واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، واتفاقية التنوّع البيولوجي سنة 1992. أضف إلى ذلك أنّه في العام 1995 و1996 تمّ وضع قواعد نموذجية للتوفيق، ولكن بسبب طابعه غير الإلزامي انحسرت الحاجة إليه في حلّ المنازعات لصالح التحكيم ذي الطبيعة القانونية الملزمة.

– المطلب الثاني: الأساليب القانونية: التحكيم، والقضاء.

  • التحكيم:

     تعود الإرهاصات التاريخية لفكرة التحكيم إلى العصور الأمبراطورية الأولى لليونان والإغريق، حيث جرت أشكال من التحكيم ذي طبيعية دينية لتسوية المنازعات بين المدن اليونانية. “وقد مارس البابا دوراً تحكيمياً في العديد من المنازعات الدولية في العصر الروماني، كذلك قام الأمراء في القرن السادس عشر بهذا الدور التحكيمي، ثم في مرحلة تالية تمّ استبدال نظام التحكيم الفردي بنظام اللجان المختلطة للتحكيم”[20]. ومن أشهر الأمثلة التاريخية على التحكيم الفردي هو ما قام به الإمبراطور نابليون الثالث عام 1864، عندما حكّم بين الحكومة المصرية وشركة قناة السويس البحرية العالمية. ومن أبرز سوابق التحكيم عن طريق اللجان المختلطة، تحكيم النزاع الأمريكي البريطاني عام 1794 الخاص بتحديد الحدود بنهر سانياكورا، وقد تمّ هذا التحكيم عن طريق لجنة دبلوماسية مختلطة. وفي العام 1798 تمخّضت عن معاهدة “جاي” – التي انعقدت سنة 1794- ثلاث لجان مختلطة، للفصل في المنازعات بين الولايات المتحدة وبريطانيا بخصوص الحدود في كندا وقضية الديون للرعايا البريطانيين. لكنّ عمل لجان التحكيم ظلّ قاصراً عن بلوغ التوقعات المطلوبة، ولم تتمتّع بالحيادية الشافية والموضوعية الكافية، وهذا ما دفع المجتمع الدولي إلى إنشاء محاكم للتحكيم، والتي كان أول وأبرز أعمالها تحكيم “آلاباما” بين الولايات المتحدة وبريطانيا.

     يُعتبر تحكيم “آلاباما” الشكل الأول للتحكيم الدولي السليم، حيث تمّ حسم نزاع خطير بين قوتين كبيرتين هما الولايات المتحدة وبريطانيا، وذلك عبر محكمة يتّصف أعضاؤها بالاختصاص والكفاءة والموضوعية في حلّ النزاعات طبقاً للقانون. ويعود أساس النزاع إلى انقسام الولايات المتحدة – بسبب الحرب الأهلية في ستينات القرن التاسع عشر – إلى فدراليين شماليين وكونفدراليين جنوبيين. وقد قام الجنوبيون بالتعامل سراً مع بريطانيا لتعاونهم في سفن حربية، فاستخدموها لإغراق أكثر من 150 سفينة للولايات الشمالية. لكنّ انتصار هذه الأخيرة في الحرب أنتج مطالب أميريكية بدفع بريطانية تعويضات باهظة عن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الأميريكي، لكن الغلوّ والشدة في المطالب ولّد نزاعاً خطيراً بين البلدين، مما اضطرهما على اللجوء إلى التحكيم في العام 1871، حيث تشكّلت هيئة بشكل محكمة مؤلّفة من خمسة أعضاء، فتوصّلت في العام 1871 إلى حكم لصالح الولايات المتحدة الأميريكية بالحصول على تعويضات من بريطانيا، بسبب عدم حياديتها ودعمها للجنوبيين، مما أطال أمد الحرب الأهلية الأميريكية. ومن سوابق التحكيم الدولي عن طريق محكمة رسمية هو تحكيم “لو فار” بين فرنسا ونيكاراغوا، حيث تمّ توكيل محكمة النقض الفرنسية به عام 1880. وفي العام 1899 تمّ إنشاء المحكمة الدائمة للتحكيم الدولي طبقاً لاتفاقية “لاهاي” الخاصة بتسوية النزاعات بالطرق السلمية، التي صدرت عنها قرارات تحكيمية هامة، كان أبرزها التحكيم بين إيطاليا وسويسرا في نزاعهما حول “الآلب”، والحكم الصادر في النزاع الأمريكي البريطاني حول حدود “آلاسكا” سنو 1903. ومع تأسيس عصبة الأمم اعتُمِد التحكيم في المادة 13/1 من العهد ضمن الوسائل التي يتوجّب على الأعضاء اللجوء إليها، لتسوية المنازعات التي لا يمكن حلّها بالطرق السياسية والدبلوماسية. وفي العام 1928 تمّ تطوير مبدأ التحكيم وإضافة قواعد دقيقة قياساً لما كان وارداً في اتفاقية لاهاي للعام 1907 حول التحكيم، ثمّ ورد في المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة مبدأ التحكيم باعتباره وسيلة سلمية لتسوية المنازعات الدولية، إلى أنْ تكرّس التحكيم بشكل أساسي في جدول أعمال لجنة القانون الدولي للعام 1947.

     إذن، طبقاً للمادة 37 من اتفاقية لاهاي لسنة 1907 الخاصة بتسوية المنازعات، يُعرف التحكيم “بأنه طريقة لتسوية المنازعات بين الدول بمعرفة قضاة يتمّ اختيارهم من قبل هذه الدول وعلى أساس احترام القانون، وينطوي اللجوء إليه ضمناً على تعهّد بالامتثال بحسن نيّة لقرار التحكيم”[21]. لذلك يتشابه التحكيم مع القضاء الدولي للنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية من حيث المفهوم القانوني للتسوية السلمية، وذلك على قاعدة احترام القانون وبالاعتماد على إرادة الدول الأطراف في النزاع. ورغم وجود الكثير من نقاط التشابه بين التحكيم والقضاء، إلّا أنّ هناك فروقات جوهرية بينهما ذات طابع عضوي وشكلي. فهيئة التحكيم آنية ظرفية ترتبط بالنزاع مباشرة ويتمّ تأسيسها على أثره، ثمّ تنتهي بانتهاء الحكم في قضية هذا النزاع. أمّا القضاء فيتميّز بوجود جهاز قضائي دولي دائم غير مرتهن بالنزاعات الطارئة، بل له صفة الديمومة، ولا ينحصر اختصاصه بنزاع معين دون غيره، حيث يحق له التدخّل في كل النزاعات التي تنضوي في مجاله.

  • القضاء:

     يختصّ القضاء في التسوية القانونية للمنازعات الدولية أمام محكمة العدل الدولية، فهي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، وتمارس مهامها طبقاً لنظامها الأساسي المُلحق بالميثاق، المبني بدوره على النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدالة الدولية، والتي تشكّل فرعاً رئيسياً للأمم المتحدة. وتتألف هذه المحكمة من 15 قاضياً يتميّزون بالنزاهة والأخلاق والكفاءة والمعرفة القانونية العالية، ويجب أن لا تشتمل بُنية المحكمة على أكثر من قاضٍ من رعايا دولة بعينها. كما ينبغي في تشكيل المحكمة مراعاة تمثيل المدنيات والنظم القانونية الرئيسية في العالم، وهي: النظام الأنكلوسكسوني والنظام اللاتيني والشريعة الإسلامية والنظام الإشتراكي ونظام أميريكا اللاتينية وآسيا. وتقوم الجمعية العامة ومجلس الأمن مستقلَّين بانتخاب قضاة المحكمة لمدة تسع سنوات، على أن يلتزموا بالبقاء دائماً تحت تصرّف المحكمة أنْ لا يتولّوا أية مهام إدارية أو سياسية، وذلك حفاظاً على الموضوعية والحياد والانتماء إلى المجتمع الدولي وحده دون أية مؤسسة غيره، مما يكفل سلامة العدالة.

     تختصّ محكمة العدل الدولية في مجالين: الاختصاص القضائي والاختصاص الإفتائي. بالنسبة إلى الاختصاص القضائي فقد نصّت عليه المادة 34 من النظام الأساسي للمحكمة: “للدول وحدها الحق في أن تكون أطرافاً في الدعاوى التي تُرفع للمحكمة، وعلى ذلك لا يجوز للمنظّمات الدولية أو الهيئات العامة أو الخاصة أو الأفراد أن يكونوا أطرافاً في دعوى أمام المحكمة. وتؤكّد المادة 62 التي تنظّم حق التدخل أمام المحكمة هذا المعنى، فيقتصر حق التدخّل على الدولة التي لها مصلحة ذات صفة قانونية يؤثر فيها الحكم في القضية”[22]. ويحق للدولة أن تتقدّم بدعوى أمام المحكمة دفاعاً عن مصالح أحد رعاياها أو إحدى الهيئات التابعة لها، وذلك طبقاً للقواعد العامة للحماية الدبلوماسية. وطبقاً للمادة 36/1 من النظام الأساسي فإنّ المحكمة تختصّ في جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون سواء كانت قانونية أو سياسية، ورغم عمومية اختصاص المحكمة فإنّ هذا الاختصاص القضائي متوقف على رضا الطرفين، أي ولايتها اختيارية. ولكن هناك حالات إجبارية وردت في نظامها الأساسي أيضاً، مثل عرض أحد الأطراف للنزاع على المحكمة، أو إذا أعلنت المحكمة الإلزامية القانونية للفصل في المنازعات في الحالات التي فيها: تفسير معاهدة من المعاهدات، مسألة من مسائل القانون الدولي، الوقائع المتضمّنة خرق للالتزام الدولي، التعويض المترتّب عن خرق المعاهدات الدولية. وكذلك إذا تعلّق النزاع بتحديد اختصاص المحكمة. وقد ثار خلاف حول مدى التزام الدولة باللجوء إلى المحكمة، بناءً على توصية مجلس الأمن بوجوب عرض النزاع على المحكمة. وربّما يأتي إعلان الدولة بقبول الإختصاص الإلزامي للمحكمة مطلقاً وقد يكون معلّقاً على شرط قبول عدة دول بذاتها، وقد يكون موقوتاً بمدّة معيّنة، ويتمّ قبول الاختصاص الإلزامي بموجب إعلان يودَع لدى السكيرتير العام للأمم المتحدة التي يتولّى إرسال صور منه إلى الدول الأطراف في النظام السياسي للمحكمة إلى مسجل المحكمة. وقد قبلت العديد من الدول الاختصاص الإلزامي للمحكمة، ومنها مصر التي أعلنت في العام 1957 قبولها الاختصاص الإلزامي للمحكمة في كافة المنازعات القانونية، التي تنشأ بخصوص تطبيق اتفاقية القسطنطينية لسنة 1988، والخاصة بالملاحة في قناة السويس.

     بالنسبة إلى الاختصاص الإفتائي للمحكمة تنصّ المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة على أنّه “يحق لكلٍّ من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أنْ يطلب إلى محكمة العدل الدولية الإفتاء في أيّة مسألة قانونية، ولسائر فروع الهيئة والوكالات المتخصّصة المرتبطة بها، ممن يجوز أنْ تأذن لها الجمعية العامة بذلك في أي وقت، أنْ تطلب أيضاً من المحكمة افتاءً فيما يُعرض لها من المسائل القانونية الداخلية في نطاق أعمالها. ولا تباشر المحكمة اختصاصها الإفتائي ألا فيما يتعلّق بالمسائل القانونية على خلاف ما ورد بالنسبة إلى الإختصاص القضائي، حيث تختصّ المحكمة بالتصدّي للمنازعات القانونية والسياسية، التي تتفق الأطراف على عرضها أمامها. ولا تُعتبَر الفتاوى التي تُصدرها المحكمة ملزمة للجهة التي طلبتها، ولكن جرى العمل على أنْ تحترم الهيئات الدولية هذه الفتاوى وتعتبرها كما لو كانت ملزِمة قانوناً”[23]. وطبقاً للمادة 38 من النظام الأساسي تفصل المحكمة في النزاعات التي تُرفع إليها وفقاً لأحكام القانون الدولي، وهي تطبّق في هذا الشأن الاتفاقيات الدولية العامة والخاصة، والأعراف الدولية التي ترتقي إلى مستوى القانون، والمبادئ العامة للقانون الدولي.

     تدرس محكمة العدل الدولية ملفّاتها في جلسات سريّة، وتتخذ قراراتها برأي الأكثرية من القضاة الحاضرين، وعندما تتساوى الأصوات يعود الفصل في القضية للرئيس أو القاضي النائب عنه. ويحقّ لكل قاضي أن يكتب بياناً برأيه المعارض للحكم بعد صدوره، ويُرفق بيانه بملف الحكم في القضية الصادر عن المحكمة. وتجدر الإشارة بأنّ الحكم لا يتمتّع بالإلزامية إلا بخصوص أطراف النزاع في القضية، ولا يجوز الطعن عليه بالاستئناف. ولكن يُسمح بتقديم التماس بإعادة النظر في الحكم إذا ظهرت واقعة جديدة حاسمة في الدعوى وقد كانت مجهولة للمحكمة سابقاً، إلّا أنه لا يجوز بتاتاً تقديم أي التماس بعد مرور عشر سنوات من تاريخ إصدار الحكم. ويلتزم جميع أطراف النزاع بتنفيذ الحكم والسماح لمجلس الأمن أن يصدر توصياته، أو يتخذ قرارات بالتدابير الواجب اتباعها لتنفيذ هذا الحكم. هذا بالنسبة إلى الحكم القضائي. أما الإصدار الإفتائي فإنّ سلطة المحكمة فيه تقديرية من حيث إصدار الفتوى، ولها أن تمتنع عن إصدارها. وتُصدر المحكمة فتاواها علنيةً بعد إخطار الأمين العام للأمم المتحدة ومندوبي أعضاء الأمم المتحدة ومندوبي الدول الأخرى والهيئات الدولية المعنية.

     وتنبغي الإشارة إلى أنّ الوسائل السياسية أو الدبلوماسية والآليات القانونية في حل المنازعات الدولية متداخلة ومتكاملة، فغالباً ما تقود الوسائل السياسية إلى الطرق القانونية، وأحياناً يتمّ تطبيق القرارات القانونية بشكل سياسي دبلوماسي. وعلى سبيل المثال نرى المفاوضات – وهي آلية دبلوماسية – تهدف إلى التعرّف على القواعد القانونية الواجبة التطبيق، كما إنّ التحكيم – وهو طريقة قانونية – يقود إلى إعادة جلوس الأطراف على طاولة المفاوضات، وكذلك الحكم القضائي يتمّ تطبيقه أحياناً بالمساعي الحميدة وغيرها من الآليات الدبلوماسية. أضف إلى ذلك أنّه من الصعوبة بمكان تحديد الخلاف بين الدول المتنازعة ما إذا كان سياسياً أو قانونياً، وذلك بفعل تداخل وتشابك قضية النزاع على عدّة مستويات.

* المبحث الثاني: مبادئ حلّ النزاعات: من المجتمع الدولي إلى المجتمع الوطني.

     تتكون البنية النظمية للمجتمع الدولي من مجموع الدول المنضوية في تشكيله، والتي تشكّل الأنساق الكلية العامة لهذا المجتمع، حيث تتضافر وتجتمع معاً لتؤلّف البنيان الكلّي للمجتمع الدولي. ووفق نظرية الأنساق الاجتماعية، يقابل نظام المجتمع الدولي نظام المجتمع الوطني. فالمجتمع الوطني بدوره مؤلّف من أنساق يقوم عليها، وهذه الأنساق هي مجموع القوى الوطنية والتيّارات السياسية والمذاهب والمؤسسات المختلفة، التي تشكّل معاً البنية الكلّية للوطن. وقد أثبتَ علم الإجتماع الحديث والأنتروبولوجيا النسقية أنّ المجتمعات البشرية تتكوّن من أنساق نفسية واجتماعية، تشكّل البنية النفس-جماعية لكل شعب ودولة. فالمجتمع بناءٌ كلّي قائم على أنساق ونظُم تفاعلية ترابطية إعتمادية، وكذلك الدولة هي منظومة تكاملية متوازنة تحتوي أكثر الأنساق النفسية والاجتماعية والسياسية وضوحاً.

     وبناءً على هذه القاعدة العالية الثبوتية، فإنّ أي نزاع بين دولتين أو أكثر سوف يهدد السلم والأمن الدوليَّين، وذلك ما ينصّ عليه صراحةً ميثاق هيئة الأمم المتحدة. فالدول – كما قلنا سابقاً – هي أنساق أساسية من النظام الدولي العام، لذلك فإنّ أي خلل أو اضطراب يصيب بعض هذه الأنساق سوف يؤدّي إلى اضطرابات في النسق الدولي الكلّي، ومن هنا تأتي أهمية دور المجتمع الدولي في حلّ المنازعات الدولية لكي يحافظ على السلم العام، وبالتالي على استقرار العالم أجمع. من جهة ثانية تشكّل الدول جهازاً نسقياً قائماً بذاته ومؤلّفاً من المنظومات الوطنية كالأحزاب والتيارات والجمعيات والمذاهب… التي تؤلّف معاً نظام الوطن. وقياساً على هذه القاعدة فإنّ الخلافات والنزاعات الوطنية الداخلية بين منظومات الدولة سوف تهدّد البناء الكلّي للوطن، لأن تضارب الأنساق الجزئية يضرب البنية الكلية. من هنا أهمية العمل الدؤوب على حلّ النزاعات الوطنية، وتسوية الخلافات بين الأطراف الداخلية المتنازعة على أسس سلمية. وبما إنّ المجتمع الوطني يتألف من بُنى ونُظم وأنساق شبيهة بتلك التي يتألف منها المجتمع الدولي – مع فارق اختلاف الأجهزة وطبيعتها بين دولية عالمية ووطنية داخلية – يمكننا السعي إلى تطبيق وسائل حلّ المنازعات الدولية على الخلافات الوطنية، والتي تُستخدم أصلاً في تسوية الأزمات الوطنية دون الاعتماد عليها رسمياً وبشكل صريح. فالمساعي الحميدة والوساطة والمفاوضات والتوفيق… هي وسائل لحلّ المنازعات الدولية، ولكن إذا تأمّلنا في إدارة حلّ الأزمات الوطنية اللبنانية نجد الأطراف المتنازعة قد استخدمت مثل هذه الآليات بشكل تلقائي عفوي دون اللجوء إليها كوسائل دبلوماسية وقانونية، وذلك لأنها تدخل في صلب السلوك الدولي سياسياً وقانونياً، وكل سلوك إنساني لا يقتصر على قضية أو مجال معين، بل يتمّ استخدامه في مختلف القضايا والمجالات، خاصة عندما يكون الهدف واحد، وهو تحقيق السلم والأمن سواء دولياً خارجياً أو وطنياً داخلياً.

– المطلب الأول: تحديد وتشخيص المسار النسقي للنزاعات الوطنية في لبنان.

     يعود أصل النزاعات الوطنية في لبنان إلى نشأة دولة لبنان الكبير، فالصيغة التي وضعها آباء الاستقلال منذ العام 1930، والتي تكرّست في الميثاق الوطني اللبناني عام 1943، بلورت معادلة صعبة هي: “تنازل المسلمين عن الانضمام إلى الداخل السوري العربي، وتخلّي المسيحيين عن حماية فرنسا لهم. وقد نتج عن هذه المعادلة خوفٌ متبادل بين المكوّنات اللبنانية على مصيرها”[24]. والتي ستؤسّس فيما بعد لنزاعات وخلافات وطنية عميقة وخطيرة، لذلك “فإنّ أباء الاستقلال أدركوا ذلك في ميثاق 1943. إنّ عبارة طمأنة المسيحيين وطمأنة اللبنانيين… على لسان كاظم الصلح ورياض الصلح… لم تكن مجرّد بلاغة كلامية. إنّها ترد بأشكال مختلفة في وثائق 1943”[25]. من هنا دأب السياسيون اللبنانيون – منذ باكورة تشكيل الوطن اللبناني بصيغته الجغرافية والديموغرافية الحالية – على محاولة تطبيق نظرية الاندماج الوطني، لكنّها لم تحقّق النتائج المرجوّة حتى الآن. “فالتجربة اللبنانية التي قامت على التوافق الطائفي عبر تلاقي المصالح وتقاطعها، لا بمعنى الاندماج الوطني الذي لم تتمكّن الطوائف من تحقيقه، بل بمعنى تحاصص استحقاقات الطوائف”[26]. فلبنان مؤلّف من 19 عشر طائفة رسمية، وله فرادة خاصة تميّز بنيته الوطنية الداخلية وعلاقاتها الخارجية، مما يستدعي التعامل مع هذا الواقع بطرق ابتكارية ومتناسبة مع طبيعته. “فقد سعت الطبقة السياسية فيه إلى توطيد السلم الطائفي بين طوائفهم مستهدفين الاندماج الوطني عبر المساواة بين اللبنانيين قانونياً منذ العام 1936 أيام الانتداب الفرنسي، وعبر نظام التوزيع الطائفي للمقاعد الانتخابية، وعبر تلاقي المصالح بين المسيحيين والمسلمين في الميثاق الوطني عام 1943، وعبر تأكيد وتأسيس الطائفية المؤسسية نتيجة لصراعات عام 1958 أيام الرئيس كميل شمعون، وعبر تنظيم العلاقات الطائفية في عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي شجّع على شمول المبدأ الطائفي لجميع الوظائف الهامة”[27]. لكن كل هذه المحاولات لم تحقّق المناعة الوطنية اللازمة، التي كانت تنكشف طبيعتها الضعيفة في الاستحقاقات المصيرية الطارئة على مسار الوطن. وقد تمترس اللبنانيون خلف حصونهم الطائفية في مواجهة بعضهم البعض، والتي كانت أعنفها وأخطرها على الإطلاق حقبة الحرب الأهلية اللبنانية.

     إذن، يبدأ المسار النزاعي الوطني في لبنان منذ تأسيسه، والذي ظهر واضحاً في مفاهيم ميثاق 1943. فالنزاع الوطني اللبناني له طابع بنيوي، لذلك لا بدّ من حلّ بنيوي عميق للخلافات الوطنية فيه، حيث لا تفي محاولات التقريب والتعايش والتفاهم والتوافق بالغرض المطلوب، من دون تدخّل جذري يضمن التغيير الإيجابي تسوية الخلافات بشكل نهائي. فما كاد اللبنانيون ينضوون في إطار وطن واحد، حتى ظهرت أزمة سياسية كبيرة في العام 1958، حاملةً معها الملامح الأولى لاندلاع الحرب الأهلية وممهّدةً السبيل أمام مرحلة خطيرة من التنازع والاقتتال الداخلي. وقد أدّت إلى احتكاك واصطدام بين الجيش اللبناني والحركات الفلسطينية بين عام 1969 وعام 1973، حيث ظهر حلف مسيحي ماروني في مواجهة الوجود الفلسطيني والمجموعات الإسلامية المنضوية فيه، اتخذ فيما بعد طابع الصدام المسلّح، الذي تفجّر في 13 نيسان 1975، وفجّر معه الأوضاع في لبنان. وقد تألّفت أطراف النزاع في هذه الحرب من مختلف مكوّنات الشعب اللبناني، على الصعيدين الديني والسياسي، فاشتملت على: المسيحيين وخصوصاً الموارنة، الشيعة، السنّة، والدروز. أضف إلى ذلك أطراف نزاع خارجية دخلت في الصراع، وهي: منظمة التحرير الفلسطينية والجماعات المرتبطة بها، الجيش السوري، وجيش الكيان الإسرائيلي. وتوالى مسار الأحداث النزاعية متّخذاً طابع العنف التبادلي المسلّح، منذ حادثة عين الرمانة الشهيرة في 13 نيسان 1973 التي كانت شرارة اندلاع الاقتتال الداخلي، ثم اتخذت الأمور طابعاً إقليمياً في 14 آذار 1978 عندما قام الجيش الإسرائيلي باجتياح جنوب لبنان متواجهاً مع الفلسطينيين واليسار اللبناني والقوى الوطنية، بعد ذلك حدثت نزاعات خطيرة أبرزها: معارك توحيد البندقية (1979)، معركة زحلة (1981)، الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982)، حرب الجبل (1983)، انتفاضة 6 شباط (1984)، انتفاضة الاتفاق الثلاثي (1985)، إنهاء المرابطين (1985)، حرب العلم (1985)، حرب الستة أيام (1986)، حرب التحرير (1989)، حرب الإلغاء (1990)، احتلال قصر بعبدا (1990)، حرب تصفية الحساب الإسرائيلية على لبنان (1993)، حرب عناقيد الغضب (1996)، حرب تموز (2006)، وأحداث صدامات 7 أيار الداخلية (2008).

     وفي ظل هذه الأحداث الدامية التي شهدها لبنان على مدى عقود، حصل العديد من التدخّلات الإقليمية والدولية، متّبعة مختلف وسائل حلّ المنازعات بهدف تحقيق السلم والأمن في لبنان، وجمع الأطراف المتنازعة على طاولة المفاوضات والتسوية. ففي العام 1969، تدخّلت مصر في وساطة للتفاوض بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطيني، حيث كلّف الرئيس شارل حلو وفداً برئاسة قائد الجيش إميل البستاني للمحادثات مع ياسر عرفات، وذلك للتوفيق في تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، هكذا تمّ استخدام آليات الوساطة والتفاوض والتوفيق من قبل جهة إقليمية هي مصر. ولكن مع استمرار الاضطرابات في لبنان خرج التدخّل الإقليمي عن طابعه السياسي والدبلوماسي، فدخلت قوات الردع العربية عام 1977بقيادة المقدّم سامي الخطيب إلى لبنان للإشراف على ضبط الأمن، ورغم ذلك لم تتوقف النزاعات الداخلية بل اشتدّت وتيرتها صعوداً. وفي العام 1978 أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 425 الذي أدان الاجتياح الإسرائيلي للبنان وطالب بالانسحاب الفوري من جنوب لبنان، لكنّ إسرائيل تجاهلت القرار لسنوات طويلة بسبب عدم ممارسة أي ضغط دولي عليها، إلى أنْ اضطرت للانسحاب من جنوب لبنان عام 2000 بفعل ضربات المقاومة اللبنانية. وبفعل الحروب الإسرائيلية على لبنان والتي تكرّر اجتياحها في العام 1982، استقدمت الأمم المتحدة قوات سلام دولية (يونيفيل)، وكان هذا تدخّلاً عسكرياً في لبنان بهدف حفظ السلم والأمن بالقوة، ومراقبة تطبيق القرارات الدولية فيه. وفي 21 أيلول 1989 تدخّلت المنظّمات الإقليمية لإيجاد تسوية للنزاعات الداخلية اللبنانية عبر وساطة سعودية، حيث حضر إلى مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية 62 نائباً لبنانياً من أصل 73، وخرجوا بنصّ يحتوي على أربع مواد رئيسية: المبادئ العامة والإصلاحات، بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، والعلاقات اللبنانية السورية. كما شملت إقرار هوية لبنان التي كانت خلافية، وتغييرات في النظام السياسي، وإصلاحات في الإدارة والقضاء وقانون الانتخابات وقطاعات التنمية والتربية والإعلام. “وقد تمّ مصادقة وثيقة الوفاق الوطني لاتفاق الطائف في جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 5/11/1989”[28]. ومن أشكال التدخّلات الدولية لحلّ النزاعات الحربية في لبنان، المفاوضات التي قادتها الولايات المتحدة الأميريكية بشأن وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان خلال حرب تصفية الحساب عام 1993، والذي صدر بشكل شفوي عن منظمة الأمن العالمي، بوساطة أميريكية. وكذلك تدخّل الدبلوماسية الأميريكية في نيسان 1996 لوقف إطلاق النار بين المقاومة اللبنانية والكيان الإسرائيلي على خلفية حرب عناقيد الغضب، والتي نتج عنها اتفاقية مكتوبة تنصّ على إنهاء الحرب. وفي العام 2006 تدخّل المجتمع الدولي في أعقاب اندلاع حرب لبنان الثانية، التي شنُتها إسرائيل على الشعب اللبناني ومقاومته وجيشه ومؤسساته، فاتخذ مجلس الأمن الدولي القرار 1701 الذي ينصّ على وقف الأعمال الحربية. وفي العام 2008 دخل لبنان في أزمة وطنية وسياسية ودستورية معقدة، أدّت إلى أحداث صدامية عنيفة في 7 أيار من العام نفسه. وقد بلغ الانقسام الداخلي في الساحة اللبنانية حداً خطيراً، نجم عنه انقسام البنية الوطنية اللبنانية إلى موالاة ومعارضة، وبالتالي استقالة وزراء المعارضة من الحكومة اللبنانية، وانفجار الأوضاع بصورة عنيفة. لذلك حدث تدخّل إقليمي قائم على المساعي الحميدة والوساطة القطرية برعاية أمير دولة قطر من 16 إلى 21 أيار 2008، بمشاركة القيادات السياسية اللبنانية أعضاء مؤتمر الحوار الوطني، الذين جلسوا للتفاوض استناداً إلى المبادرة العربية بشأن احتواء الأزمة اللبنانية، وتنفيذاً للاتفاق الذي تمّ ما بين الأطراف اللبنانيين برعاية اللجنة الوزارية العربية في 15/5/2008، وذلك لإنقاذ لبنان والخروج من الأزمة السياسية والتزام مبادئ الدستور اللبناني واتفاق الطائف. وفي 1 آذار 2009، بدأت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مهامها، والتي انبثقت عن مجلس الأمن الدولي للنظر في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فكان هذا تدخّلاً قانونياً دولياً يعتمد على القضاء. ولكنْ لم يكن التدخّل القضائي للمحكمة موضع إجماع اللبنانيين، حيث دعمها تحالف فريق الرابع عشر من آذار، بينما عارضها فريق الثامن من آذار، وأدّت المحكمة إلى مزيد من التباعد والخلافات بين الأطراف الداخلية اللبنانية، دون أن تساهم في حلّ وتقريب الفريقين، ذلك أنّ المحكمة الخاصة بلبنان قد أساءت استخدام دورها ومارست أفعالاً جعلت القضية تلامس التدويل والتدخّل السافر في شؤون لبنان الداخلية، حسب وجهة نظر الكثير من اللبنانيين.

     إذن، كانت هذه أبرز محطّات التدخّلات الإقليمية والدولية في لبنان لتسوية منازعاته الداخلية والخارجية، باستخدام مختلف وسائل حلّ المنازعات السياسية والدبلوماسية والقانونية. ولكن ما سنحاول تحقيقه في المطلب التالي هو جعل وسائل التسوية والحلول صناعة وطنية، وليست آليات خارجية المصدر. أي أنْ تكون طرقاً وسُبُلاً قائمة على الإرادة الجماعية الوطنية للبنانيين، ومنسجمة مع ثقافتهم وأفكارهم ومفاهيمهم، مما يضمن أنْ تأتي حلول الخلافات مبنيّة على القناعة الوطنية والرغبة الحقيقية في التعايش السلمي والعيش المشترك.

– المطلب الثاني: تطبيق وسائل تسوية المنازعات الدولية على الخلافات الوطنية اللبنانية.

     ربَّ قانونيٍّ يتصدّى لهذه الفكرة بالرفض متسائلاً: كيف يمكن مشابهة قضية دولية بقضية وطنية؟ وعلى أيّ أساس تجري المقاربة بين نزاعات دولية ونزاعات وطنية؟ وأنّى تحدث مقارنة بين نسق دولي ونسق وطني؟ وبأي حق يتمّ إسقاط نماذج دولية على نماذج وطنية؟ وإلى أي مدى يصدُقُ تطبيق وسائلّ حل المنازعات العالمية الخارجية على طرق تسوية الخلافات المحلّية الداخلية؟ فالمفارقات بين الحيّز الدولي والحيّز الوطني كثيرة الاختلاف من حيث طبيعتهما ومساراتهما وتكوينهما ودور ومكانة كلّ منهما. قد تبدو هذه الحجج والتساؤلات النقدية منطقية للوهلة الأولى، ولكن عندما نتأمل الدينامية الداخلية لآليات السلوك السياسي والقانوني الوطني مقارنة بآليات وسلوك النظام الدولي في العالم، يمكننا عندئذٍ تقديم الأدلة الدامغة على صحّة طرحنا.

     بدايةً، إذا تأمّلنا دعوة رئيس مجلس النواب اللبناني كافة الأحزاب اللبنانية إلى طاولة الحوار، نجده يستخدم عدة وسائل لحلّ المنازعات من تلك المصنّفة ضمن الوسائل الدولية لحلّ الخلافات بين الدول. فهو بمجرّد دعوة الجميع إلى الحوار يستخدم آلية المساعي الحميدة داخل الوطن، وهي من الآليات الهامة في حلّ المنازعات الدولية. كذلك عندما يتّخذ موقفاً حيادياً في الحوار – كونه الراعي ويجب أنْ يتمتّع بالموضوعية – فهو بذلك يقوم بآلية التوفيق بين المتحاورين، والتوفيق من أهم الوسائل الدبلوماسية في حلّ النزاعات الدولية. أضف إلى ذلك أنّ الدعوة إلى الحوار الوطني في لبنان من قبل رئيس المجلس النيابي، إنّما تشتمل ضمناً على مسار طبيعي للمحادثة والتفاوض بين المدعوين إلى طاولة الحوار، علماً أنّ التفاوض هو من أساسيات الطرق العالمية لحلّ النزاعات الدولية. وتزخر حالات المصالحة الوطنية بين الأحزاب، بتدخّل وساطة شخصيات وأحزاب لبنانية لإجراء مصالحات بين أحزاب متخاصمة بفعل بعض الاضطرابات، ومثال على ذلك وساطة رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني “طلال إرسلان” الذي قام بوساطة لإجراء مصالحة بين الحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الله بعد أحداث السابع من أيار 2008، مع العلم أنّ الوساطة هي أحد تقنيات حلّ المنازعات الدولية التي يستخدمها المجتمع الدولي في تسوية الخلافات بين دول العالم. إذن، إنّ الوسائل السياسية والدبلوماسية في حلّ المنازعات الدولية قد مورستْ فعلاً في حلّ النزاعات الوطنية، مثل: الوساطة، التفاوض، المساعي الحميدة، التوفيق. ولكن استخدامها كان عفوياً تلقائياً وطبيعياً، أي أنّ اللجوء إليها لم يتمّ على قاعدة أنها وسائل رسمية لحلّ النزاعات الوطنية. ويعود ذلك إلى تشابه السلوك السياسي الوطني مع السلوك السياسي الدولي، وإنْ اختلفت مساحة العمل وطبيعة الأطراف المتنازعة.

     فالمجتمع الدولي يقابله المجتمع الوطني، والمجتمعات الوطنية تتضافر وتتكامل لتشكّل البناء الكلّي للمجتمع الدولي. وقد أثبتنا هذه النقطة سابقاً، استناداً إلى نظرية الأنساق الاجتماعية والسياسية. وبالنظر إلى أهداف المجتمع العالمي في حلّ المنازعات الدولية، نجدها نفسها لدى المجتمع الوطني في تسوية الخلافات الداخلية، وهي تحقيق الأمن والطمأنينة على أسس سلمية وتجنّب العنف والصدام وضمان السلم الإنساني. ونقاط التشابه هذه تشير إلى صحّة الفرضية القائلة بتطبيق وسائل السلم الدولي على السلم الوطني، والتي أساساً تُستخدم ضمناً وآلياً بفعل دوافع السلوك السياسي الهادف إلى إحقاق السلم والأمن داخل البلاد. ولكن، لا بدّ من تفعيل هذه الآليات بشكل رسمي، أي إدخالها إلى أدبيات العمل السياسي في لبنان، عبر اتفاقيات وطنية يتمّ خلالها النقاش والحوار حول تلك الطرق السياسية في حلّ المنازعات الوطنية، وكذلك أنْ ترِد في نصوص اتفقيات وطنية تشرّعها كوسائل رسمية لحلّ الخلافات الوطنية.

     بالنسبة إلى الوسائل القانونية في حلّ المنازعات الدولية: التحكيم والقضاء، نجد أنهما آليتان هامّتان وحاسمتان في تسوية المنازعات والصراعات على مختلف الأصعدة وفي كافة المجالات. فإذا نظرنا إلى التحكيم في لبنان نجده قد تطوّر مع تشريعات أصول المحاكمات المدنية منذ العام 1933 وحتى اليوم، وكذلك بالاتفاقيات المتعلّقة بمضوع التحكيم التي أبرمها لبنان مع المجتمع الدولي، والتي تضمّنت أحكاماً تُحال إلى التحكيم الدولي أو الإقليمي عند قيام نزاعات ناشئة عن تطبيق هذه الاتفاقيات. وينقسم التحكيم في لبنان إلى قسمين: “القسم الأول تضمّن قواعد التحكيم في القانون الداخلي (المواد 762 إلى 808)، ولحِظ القسم الثاني موضوع التحكيم الدولي والاعتراف بالقرارات التحكيمية الصادرة في الخارج وطرق تنفيذها (المواد 809 إلى 821)”[29]. وينظر التحكيم الداخلي في قضايا العقود التجارية أو المدنية لحلّ المنازعات الفردية التي تنشأ عن إشكالية العقد المبرم موضوع النزاع، أما التحكيم الدولي فإنّه يختص بأشكال التحكيم الخارجي الذي يلتزم به لبنان مع المجتمع الدولي حول قضاياه النزاعية الدولية. ولكن التحكيم الذي نحاول استهدافه في هذه الفقرة هو التحكيم الوطني حول النزاعات الداخلية بين الأطراف الوطنية، أي عندما تختلف الأحزاب فيما بينها يجب أن تلجأ إلى نوع من التحكيم الوطني، خاصة عندما تتعثّر الحلول حول نزاعاتها. لذلك نقترح تشكيل هيئة التحكيم اللبناني للسلم الوطني، على أنْ تضم نخبة من القضاة والشخصيات الحيادية مع ممثلين عن أطراف النزاع الوطني. وتقوم مهمة هذه اللجنة على دراسة أسباب النزاع بين الأطراف الوطنية المتصارعة، وإجراء تحقيق في طبيعة ودواعي هذا النزاع، ووضع الأطر الصحيحة لتسويته على قواعد وأسس وطنية سلمية ترعى كل الاتجاهات والمفاهيم القيمية والأخلاقية والثقافية والروحية التي يتشكّل منها لبنان. وبالنسبة إلى استخدام القضاء في تسوية النزاعات الوطنية، فلا يوجد مؤسسة قضائية أسمى من المجلس الدستوري للنظر في مثل هذه القضايا المصيرية الكبرى التي تحدّد مصير الوطن. فهو الذي يمارس الرقابة على دستورية القوانين بهدف صيانة وحماية المنظومة القانونية في لبنان، باعتبار الدستور القانون الأعلى فيه. فكل المؤسسات والسلطات الوطنية اللبنانية تستمدّ شرعيّتها من الدستور، “لذلك نستطيع القول بأنّ شرعية القضاء الدستوري تنبثق من الدستور المعبّر عن الإرادة العامة والسيادة الوطنية”[30]. وبالنظر إلى الخلافات الوطنية اللبنانية، نجدها أدّت على مدى عقود مديدة إلى انهيار البنية الوطنية، وبالتالي تهديد مفهوم الدستور اللبناني وأسسه وغاياته، منذ اندلاع الحرب الأهلية وحتى اليوم. وفي السنوات العشر الأخيرة عانى لبنان من اصطفافات وصراعات داخلية أدّت إلى خلل المؤسسات الدستورية وشلل العمل الدستوري في البلد، كإفشال الحكومة مرات عديدة وتعطيل البرلمان فضلاً عن أزمة الفراغ الرئاسي. كل ذلك يشير إلى أنّ النزاعات الوطنية كانت تصيب روحية الدستور اللبناني في مقتل، لذلك لا بدّ أن تتوفّر الإرادة الوطنية الهادفة إلى احترام القواعد الدستورية، والسعي إلى تشكيل لجنة قضائية وطنية مرتبطة بالمجلس الدستوري، تهدف إلى النظر في قضايا النزاعات الوطنية التي تهدّد المنحى الدستوري في لبنان، وبالتالي التوصّل إلى أحكام قضائية للفصل والبتّ في هذه المنازعات، على قاعدة دستورية تتعهّد القانون والمبادئ الوطنية وتراعي صيغة العيش المشترك والأسس الوطنية المُصانة في دستور الوطن، قبل إصدار أحكامها بتسوية النزاعات الوطنية بين مختلف الأطراف المتصادمة، والتي يجب أنْ تتعاهد على احترام القرارات التي تتخذها لجنة القضاء الوطني في حلّ المنازعات الداخلية.

* الخاتمة:

     لا شكّ في أنّ احترام القوانين الدولية هو من واجبات كل دولة، لا سيما لبنان الذي ننتمي إليه. فوطننا جزء لا يتجزّأ من المجتمع الدولي، وقد كان سبّاقاً في تشكيل هيئة الأمم المتحدة ومن أوائل الدول الذين شاركوا في تأسيسها منذ باكورة نشأتها. ولبنان كان على مدى سنوات عديدة ولا يزال موضوع تدخّلات المنظمات الإقليمي والمجتمع الدولي، إنْ في نزاعاته الداخلية أو لجهة صراعه مع العدو الإسرائيلي، الذي له سيرة طويلة في عدم احترام القوانين الدولية، وعدم الامتثال لقرارات هيئة الأمم المتحدة منذ اصدار قراراتها الأولى بشأن لبنان، لا سيما القرار 425 الذي ماطل الكيان الإسرائيلي في تطبيقه لمدة عشرين عاماً إلى أنْ اضطر مرغماً على تنفيذه بفعل صمود الشعب اللبناني وجيشه ومقاومته. واستمرّ العدو الإسرائيلي باحتقار القوانين الدولية عبر خروقاته اليومية: جوّاً وبحراً وبرّاً في لبنان، فضلاً عن غزوها لأقاليم عربية منذ العام 1948 واستمرارها اليوم في احتلال جغرافيات عربية دون احترام توصيات وقرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة. وقد تجلّى عدم احترامها للمجتمع الدولي في “عدم انصياعها لقرار مجلس الأمن 242، والقرارات التالية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدّة”[31]. هذا فضلاً عن أنّ المجتمع الدولي غالباً ما تتحكّم به دولٌ نافذة، تستخدم قراراته وأحكامه لفرض هيمنتها على الدول الأخرى بذريعة حلّ المنازعات وتحقيق السلم والأمن الدوليين. لذلك جاءت هذه الدراسة لتُلقي الضوء على رفع نمذجة المجتمع الوطني على غرار المجتمع الدولي، وبالتالي العمل على تفعيل الإرادة الوطنية في حلّ منازعات أبناء الوطن الواحد بطرق ذاتية داخلية وطنية، تكفل سيادة الوطن وتجنّبه أية تبعية للمجتمع الدولي الذي لا يفي دوماً بتحقيق آمال وتطلّعات الشعوب.

ألمراجع والمصادر

1- اتفاق الطائف: وثيقة الوفاق الوطني. (1989). الفكر السياسي: بيروت.

2- حلمي، نبيل أحمد. (1983). التوفيق كوسيلة سلمية لحلّ النزاعات الدولية في القانون العام. دار النهضة العربية.

3- سرحان، عبد العزيز. (1971). مشكلة الشرق الأوسط. دار النهضة العربية.

4- غالي، بطرس. (1993). نحو دور أقوى للأمم المتحدة. السياسة الدولية: القاهرة. مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. العدد 111.

5- فان غلان، جيرهارد. (1970). القانون بين الأمم. ترجمة عباس العمر. دار الآفاق الجديدة: بيروت. ج1. ط2.

6- لويتر، جين وباستاندونوا، ميشيل. (1993). التدخّل الدولي وسيادة الدولة ومستقبل المجتمع الدولي. ترجمة محمد جلال عباس. المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية: اليونيسكو. العدد 138.

7- رفعت، أحمد محمد. (2015). العلاقات الدبلوماسية والقنصلية: تسوية المنازعات الدولية. مركز القاهرة الإقليمي.

8- محمود، عبد الغني. (1988). التدخّل في الدعوى أمام محكمة العدل الدولية. دار النهضة العربية.

9- المسار التكاملي للحوار الوطني اللبناني في المقترب المنظومي البرلماني. المديرية العامة للدراسات والمعلومات في المجلس النيابي:بيروت. المجلّد 96. عدد أيلول 2015.

10- مسرّة، أنطوان. التعبئة النزاعية. بيروت: جريدة النهار. 26 آب 2008. العدد 76.

11- معوض، سيمون. قوانين التحكيم في لبنان بين التشريع والاجتهاد (الجزء الثاني). الحياة النيابية. مديرية الدراسات والمعلومات في المجلس النيابي: بيروت. المجلد 87. عدد حزيران 2013.

12- الموسى، محمد خليل. (2004). استخدام القوة في القانون الدولي المعاصر. دار وائل للنشر: عمان. ط1.

13- المولى، حيدر. العلاقة الطوائفية وقاعدة المواطنة. الحياة النيابية. المديرية العامة للدراسات والمعلومات في المجلس النيابي: بيروت. المجلّد 87. عدد حزيران 2013.

14- نافعة، حسن. (1995). الأمم المتحدة في نصف قرن: دراسة في تطور النظام الدولي منذ 1945. المجلس الوطني للثقافة والآداب: الكويت.

15- Nguyen, Quoc. Dallier, Patrick et pellet, Alain. (1980). Droit international public. 2Eme Edition. L.G.D.J: Paris.                                                                                                                                      

16- Virally, Michal. (2012). La charte de Nations Unies. 2Eme Edition:
Paris.

17- GA.LEC.37/10.

18- Evans, Malcolm. (2010). International Law. Third Edition. Oxford University Press.

19- Rousseau, Charles. (1983). Droit international public: les rapport conflictuels. Tome V. Sirey.

20- CPJI. (1924). Arret. No2. Serie A. Rec.

21- ICJ. Repports. (1969). North Continental Shelf .Part3.

22- Kelsen, Hans. (1962). Theorie pure du droit. Traduction de Charles Eisenmann. Paris: Dalloz.


– الموسى، محمد خليل. (2004). استخدام القوة في القانون الدولي المعاصر. دار وائل للنشر: عمان. ط1. ص30.

– فان غلان، جيرهارد. (1970). القانون بين الأمم. ترجمة عباس العمر. دار الآفاق الجديدة: بيروت. ج1. ط2. ص184.

– نافعة، حسن. (1995). الأمم المتحدة في نصف قرن: دراسة في تطور النظام الدولي منذ 1945. المجلس الوطني للثقافة والآداب: الكويت. ص 208.

Nguyen, Quoc. Dallier, Patrick et pellet, Alain. (1980). Droit international public. 2Eme Edition. L.G.D.J: Paris. P 777.                                                                                                                                        

Virally, Michal. (2012). La charte de Nations Unies. 2Eme Edition: Paris. P 121.

Op. Cit. P 122.

GA.LEC.37/10. P19.

Evans, Malcolm. (2010). International Law. Third Edition. Oxford University Press. P 19.

غالي، بطرس. (1993). نحو دور أقوى للأمم المتحدة. السياسة الدولية: القاهرة. مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. العدد 111. ص 11.

Rousseau, Charles. (1983). Droit international public: les rapport conflictuels. Tome V. Sirey. P 257.

Nguyen, Quoc et Diont et autres. Op. Cit. P 778.

لويتر، جين وباستاندونوا، ميشيل. (1993). التدخّل الدولي وسيادة الدولة ومستقبل المجتمع الدولي. ترجمة محمد جلال عباس. المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية: اليونيسكو. العدد 138. ص 81.

CPJI. (1924). Arret. No2. Serie A. Rec. P 15.

ICJ. Repports. (1969). North Continental Shelf .Part3. P 85.

Rousseau, Charles. Op. Cit. P 261.

رفعت، أحمد محمد. (2015). العلاقات الدبلوماسية والقنصلية: تسوية المنازعات الدولية. مركز القاهرة الإقليمي. ص 80.

المرجع السابق. ص 83.

Evans, Malcolm. (2010). International Law. Op. Cit. P 564.

حلمي، نبيل أحمد. (1983). التوفيق كوسيلة سلمية لحلّ النزاعات الدولية في القانون العام. دار النهضة العربية. ص87.

Rousseau, Charles. Op. Cit. P 314.

تسوية المنازعات الدولية. مرجع سابق. ص 89.

محمود، عبد الغني. (1988). التدخّل في الدعوى أمام محكمة العدل الدولية. دار النهضة العربية. ص 13.

تسوية المنازعات الدولية. مرجع سابق. ص 112.

للمزيد أنظر دراستنا في الحياة النيابية. المسار التكاملي للحوار الوطني اللبناني في المقترب المنظومي البرلماني. المديرية العامة للدراسات والمعلومات في المجلس النيابي:بيروت. المجلّد 96. عدد أيلول 2015. ص 104. (الدراسة من ص 101 إلى ص 117).

مسرّة، أنطوان. التعبئة النزاعية. بيروت: جريدة النهار. 26 آب 2008. العدد 76.

المولى، حيدر. العلاقة الطوائفية وقاعدة المواطنة. الحياة النيابية. المديرية العامة للدراسات والمعلومات في المجلس النيابي: بيروت. المجلّد 87. عدد حزيران 2013. ص87.

المرجع السابق. ص88.

اتفاق الطائف: وثيقة الوفاق الوطني. (1989). الفكر السياسي: بيروت. ص 325.

معوض، سيمون. قوانين التحكيم في لبنان بين التشريع والاجتهاد (الجزء الثاني). الحياة النيابية. مديرية الدراسات والمعلومات في المجلس النيابي: بيروت. المجلد 87. عدد حزيران 2013. ص 160.

Kelsen, Hans. (1962). Theorie pure du droit. Traduction de Charles Eisenmann. Paris: Dalloz. P 299.

سرحان، عبد العزيز. (1971). مشكلة الشرق الأوسط. دار النهضة العربية. ص 133.

مقالات ذات صلة

إغلاق