دراسات وأبحاث
أنتروستراتيجيا الأزمة الوطنية والدستورية في لبنان الإشكاليات والحلول
قراءة أنطولوجية للمشهد الداخلي اللبناني على ضوء سيكولوجية الدولة والأنتروستراتيجيا الدستورية
د. عباس مزهر
(مؤسس علم الأنتروستراتيجيا الدولية)
صدرت في مركز الدراسات والمعلومات في المجلس النيابي اللبناني
الحياة النيابية / المجلّد الرابع والتسعون / عدد آذار 2015
ألفهرس
الموضوع الصفحة
ألمقدمة: سيكولوجية الدولة اللبنانية …………………………….. 3
(ألباتولوجيا السياسية وأسس المعالجة)
أولاً: ألاضطراب الوطني والباتولوجيا السياسية في لبنان ……………. 5
1- ألفوبيا الوطنية والخواف السياسي …………………………… 5
2- ألقلق الوجودي الوطني والاحتماء الدمجي بالطائفية ………….. 8
3- عقدة القهر والهذاء الوطني ……………………………….. 10
4- القصور الوطني وحالة التبعية……………………………… 12
ثانياً: إشكاليات الذات الوطنية الجماعية للشعب اللبناني ……………… 14
ثالثاً: اللايقين الوطني والاغتراب الدستوري في لبنان……………….. 17
رابعاً: مأزميّة الطاقة الحيوية للشعب اللبناني وآليات الإرتباط الوطني… 20
خامساً: حلّ الأزمة اللبنانية..
من القدريّة الطائفية إلى الاقتدار الدستوري الوطني…………………. 22
1- تفعيل الأنتروستراتيجيا الدستورية ……………………………… 25
2- ألاقتدار الدستوراني القيمي في القضايا الوطنية ………………. 26
3- الأنتلجينسيا الدستورية ودور المجلس النيابي …………………. 27
ألمراجع والمصادر ………………………………………………. 29
ألمقدّمة: سيكولوجية الدولة اللبنانية
(ألباتولوجيا السياسية وأسس المعالجة)
يرى العلم الحديث بكافة ميادينه أنّ الدولة “كائن أبستمولوجي”، أي كيان معرفي صرف، تنبني مؤسساتها على المعارف التبادلية داخل أنساق الدولة، التي تتضافر في نسق كلّي عام اعتمادي ترابطي، هو: السلطة. وهذه السلطة معرفية بامتياز، فقد أثبت (فوكو) أنّ: “السلطة معرفة، والمعرفة هي سلطة بحد ذاتها”[1]. فالواقع اليوم أنّ الدول التي تمتلك المعرفة تمتلك السلطة، وكلّما زادت معرفة الدولة زادت سلطتها وقوّتها. واللافت في الحراك الدولتي المعاصر أنّ الدول التي تزداد سلطتها الوطنية وقوّتها الدولية هي التي تحقّق تقدّماً معرفياً ملحوظاً. لا بل غدت المعرفة مقياساً لنشوء الأمم وارتقاء المجتمعات وحضور الدول، فارتبطت المعرفة بقوة الدولة وسلطتها. “فالمعرفة والسلطة يقتضي كلٌّ منهما الآخر مباشرة. فلا علاقة سلطوية دون أن يتشكّل حقل معرفي بالارتباط معها، كما لا توجد معرفة لا تفترض وتكوّن في آنٍ واحد علاقات سلطة”[2].
ألسلطة وإنْ كانت نشاط أجهزة الدولة، لكنّها في الحقيقة لا تنتج عنها. فالسلطة لا تستمدّ مصدرها من قاعة البرلمان وأروقة الحكومة، بل تستمدّها من حقولها المعرفية في الاقتصاد والسياسة وحلقات التدريس ومؤسسات المجتمع المدني والصناعة والأمن، أي من الجامعات والمصانع والمستشفيات والثكنات وحتى المرافق السياحية والتجارية…والأهم أنها تستمدّها من الإطار المعارفي التبادلي بين مختلف شرائح الشعب. وبعبارة أدقّ: السلطة مستمدّة من المقومات المعارفية للدولة، والأجهزة الرسمية تمارسها.
فالأسلوب الذي قامت من خلاله مجتمعات الدول الحديثة يعتمد على أساس العلاقة الرئيسية بين السلطة والمعرفة. فالأنظمة السياسية القديمة أو التسلطية تمارس سلطتها عبر الممارسات الصرحية للعقاب عندما تُنتهك القوانين الخاصة بها. أمّا في المجتمعات الحديثة فإنّ علاقات السلطة تنبني على نسق علائقي معرفي يشارك فيه المواطنون بطرائق فعّالة في السلوك المنظّم العام ذاتياً واجتماعياً ووطنياً. “فالسلطة لا تُمارَس دون استخلاص واستملاك واستوزاع المعرفة. ففي هذا المستوى لا يوجد انزياح بين قطبي المعرفة والسطلة، أو الثقافة والمجتمع، أو العِلم والدولة”[3].
وانطلاقاً من هذه المقدّمة العالية الثبوتية كيقين علمي دولتي، تغدو الدولة اللبنانية – شأنها شأن دول العالم – جهازاً معرفياً مترابطاً. لذلك ينبغي علينا أن نبني فيها النظام المعارفي الأكمل في إدارة الحكُم، وندرس البناء المعارفي للدولة اللبنانية على ضوء السيكولوجيا الوطنية والأنتروستراتيجيا الدستورية والسياسية. وباعتبار الدولة اللبنانية كائناً أبستمولوجياً معرفياً، يجب أنْ نتدخّل لبحث مشكلات أنساقها من ناحية المعرفة. وأهم هذه النواحي بلا شكّ هي سيكولوجية الدولة اللبنانية، التي ستقودنا وفق منهج علم النفس السياسي إلى تحديد أزماتها وإيجاد الحلول المناسبة لها. هذا ما يسمح لنا بدراسة السلوك الوطني للشعب اللبناني، والعُقد النفس-اجتماعية التي تصيبه. لا بل أبعد من ذلك، ستتيح لنا سيكولوجية الدولة اللبنانية وضع اليد على الباتولوجيا السياسية والوطنية في لبنان، أي الأمراض السياسية والوطنية التي تفتك بجسد الدولة اللبنانية، وبالتالي تحديد الأنتروستراتيجيا الدستورية بشكل أدقّ.
صحيح أنّ الدولة اللبنانية كائن أبستمولوجي، ولكنّها كائنٌ مستشكل دستورياً، مريض سياسياً، متصارع جماعياً، ومتأزم وطنياً، خاصةً بسبب أحداث السنوات العشر الأخيرة التي عصفت بلبنان (2005 – 2015). وسوف نعالج الآن هذه الباتولوجيا السياسية المرضية في لبنان، وفق منهج سيكولوجية الدولة.
أولاً: ألاضطراب الوطني والباتولوجيا السياسية في لبنان
إنّ الشعب اللبناني الذي يتّسم بسمات هامة في الخلق والإبداع والثقافة والمقاومة والعيش المشترك وحريات التعبير والاعتقاد والقدرة على التكيّف والتلاؤم…يعاني اليوم من اضطرابات وعقد خطيرة تتجاوز أيّ سجال دستوري وكل عمل سياسي. وذلك مردّه إلى عاملين أساسيين: سوء استغلال الثروة البشرية المتمثّلة بالتنوّع الطائفي داخلياً من جهة، والتلاعب الخارجي بها من جهة ثانية. فمنذ استقلال لبنان عام 1943 بدأت هذه العقد الخطيرة تتشكّل، ثمّ تبلورت بعد اتفاق القاهرة عام 1969 مما أفضى إلى احتدام وتيرة الحرب الأهلية تالياً، وبعد اتفاق الطائف بدأ المنحى المأزمي يترسّخ بشكل خفي، إلى أن تفجّر وفق آلية صدمية شديدة في العام 2005 مع اغتيال الرئيس الشهيد “رفيق الحريري”، الذي أدّى إلى وضعية وجودية مقلقة في لبنان[4]، وما زلنا نعيش تداعياتها المستدامة حتى هذه اللحظة التي تتوّجت بتهديد وجودي كينوني للبنان، تجسّد مؤخراً بقوّة هدم خارجية غريبة (داعش والنصرة)، ساعية إلى خلق حالة إندكاكية للمجتمع والوطن والدولة في لبنان. هذا المسار الاضطرابي الطويل أدّى إلى إيجاد فجوات في الذاكرة الجماعية للبنانيين، عبر تراكم أحداث صدمية أليمة ملأت الفراغ الذاكري الوطني بآليات ذهنية مشوّهة وإواليات نفسية مغتربة، وطبعت الوعي العام بطابع مرضي، وأطلقت الفاعلات السلبية للاوعي الجماعي عند اللبنانيين، وعمّقت الباتولوجية السياسية اللبنانية، التي رصدنا فيها العقد الوجودية التالية:
1- ألفوبيا الوطنية والخواف السياسي
في ظلّ الإنقسام السياسي والاصطفافات الداخلية، يعيش الشعب اللبناني على صعيد المذاهب حالة من الخوف المرضي التبادلي يرتقي إلى مستوى “الفوبيا الوطنية”. هذه الفوبيا المرضية طغت على المفاهيم الوطنية الأصيلة والأساسية للدولة اللبنانية، فأدّت إلى اضطراب في مفهوم التعايش السلمي ومفهوم الأمن والأمان الوطنيَّين، وكذلك أصابت مفهوم الحكُم التوافقي بخلل كبير أفرز مشكلات وجودية خطيرة، كانقسام الرأي والوجدان إزاء القضايا الوطنية، وشلل البرلمان، وعرقلة الحكومة، وتفريغ رئاسة الجمهورية. وبذلك لم تتشوّه المفاهيم الوطنية وتغترب عن أصالتها فحسب، بل انقلبت إلى مفاهيم ضديّة. فسلاح المقاومة – على سبيل المثال لا الحصر – الذي يُفترض أن يكون عامل اطمئنان وأمان للشعب اللبناني، أصبح يُنظر إليه على أنّه عامل تهديد وخوف لشطر كبير من هذا الشعب وسياسيّيه. وبدلاً من أن يكون سلاح المقاومة ضمانة للسلم الأهلي وضرورة للعيش المشترك، تمّ تصويره تهديداً لهذين المفهومين، وذلك وفق آلية التلاعب بالعقول والتأثير على الوعي الوطني بالإيحاءات السلبية واستثارة المخاوف الغرائزية الوجودية وتحوير فعاليّات العقل الباطني الجماعي للشعب اللبناني، الذي تجاوب بديهياً وتلقائياً مع هذه الآليات المشبوهة، بسبب طبيعة التركيبة الطائفية والمذهبية القلقة والمتوجّسة، والتي تزايدت شحنتها المرضية بعد اغتيال الرئيس “الحريري”.
في الحالة الطبيعية ينبغي أن يخاف الشعب اللبناني على الشراكة الوطنية، لكنّ مصدر الخوف اليوم تفرزه تلك الشراكة. وبدلاً من أن يخاف اللبنانيون على شركاء الوطن، باتوا يخافون من شركائهم. وعوضاً عن أن يكون مبعث الخواف خارجياً من عدو أنطولوجي كإسرائيل، صار مبعث الخواف داخلياً من إخوة في العيش والمسار والوطن. بحيث تجسّدت فيهم صورة الخصم الإرتكازي بدلاً من صورة الشريك الإرتكازي. وهذا ما أدّى بالتالي إلى اضطراب مفهوم الوطنية، خاصة في تركيز هوية لبنان وشخصيته الإقليمية وتحديد أعدائه وأصدقائه. حتى القضية اللبنانية الأنطولوجية الرئيسية المتمظهرة بمواجهة العدو الصهيوني تحوّلت من قضية وحدوية جامعة إلى قضية تفريقية خلافية. “فاللبناني معرّض لهجوم مستمرّ بالرغم من كل براهينه الملموسة وحتى الشهادة، من قبل متلاعبين بالغرائز يتهمونه بنقص في لبنانيته أو عروبته وأخوّته العربية وعدائه المطلق تجاه العدو”[5]. أو يتمّ اتهامه بالارتهان إلى مشاريع أجنبية غير وطنية، وهذا المنحى الاتهامي تبادلي بصفة غالبة، ولا يقتصر على جهة دون غيرها إلا بمعدّل لهجة الخطاب الاتهامي ومضامينه.
وفي إطار هذا المناخ الوطني المضطرب، كان من الطبيعي أن تترافق الفوبيا الوطنية الشعبوية بخواف سياسي في لبنان، أدّى إلى التعبئة الصراعية التي استفحلت في لبنان بسبب نسق مجتمعه المتعدّد البنية على المستويات العقائدية والثقافية والاجتماعية. “فآباء الاستقلال، وأبرزهم كاظم الصلح ورياض الصلح وبشارة الخوري وصائب سلام…أدركوا ذلك في ميثاق 1943. إنّ عبارة (طمأنة) المسيحيين و(طمأنة) اللبنانيين على ألسنة رجال الاستقلال لم تكن مجرّد بلاغة كلامية، إنها ترِد بأشكال مختلفة في وثائق 1943”[6]. وذلك يدلّ على أنّ بذور الخواف الوطني كانت موجودة منذ تأسيس الدولة اللبنانية، لكنّها تفجّرت بشكل تدميري عنفي صدمي خلال الحرب الأهلية، ثم تجلّت بصورة دراماتيكية في الحقبة النزاعية الوطنية الراهنة. وهكذا يؤدّي الخواف الوطني إلى تحفيز الغرائز الكامنة وإطلاق الحاثات العدوانية عند الطوائف، وارتفاع نسبة العنف التبادلي بكل أشكاله اللفظية والفعلية والرمزية والصريحة.
هنا أودّ أن أورد ملاحظة هامة، لقد أطلقتُ على هذه الظاهرة المرضية في لبنان تسمية الفوبيا الوطنية والسياسية، أي الخواف وليس الخوف. لأنّ الخوف الوطني له مبرّرات منطقية ومصادر واقعية مثل: الخوف من اعتداء خارجي على الوطن، أو أزمة اقتصادية، أو كارثة طبيعية…لكنّ الخواف هو حالة مرضية يتمّ خلالها تضخيم مصادر الخوف بشكل لامنطقي ولاعقلاني، إنّها حالة من الوهم الهائل الذي يشقّ طريقه إلى الواقع الوطني بفعل الدينامية الغرائزية التحريضية وإثارة مخاوف المذاهب إزاء بعضها البعض.
2- ألقلق الوجودي الوطني والاحتماء الدمجي بالطائفية
لطالما عاش الشعب اللبناني حالة من القلق الوجودي في وطنه، لكنّ حدّة هذا القلق ازدادت في السنوات العشر الأخيرة، خصوصاً بعد الحادثة الصدمية المتمثلة باغتيال الرئيس “الحريري”، مما أدّى إلى انشطار المجتمع اللبناني، فسقطت طوائفه صريعة القلق المصيري. فالانشطار الوطني تبعتهُ حالة تفكّك في لحمة الشعب اللبناني، بحيث انفصلت وتمايزت عن بعضها البعض شرائح طائفية كبيرة، ثم تبعت هذا التفكّك البنيوي حالة من التغلّق، حيث تكتّلت كل طائفة على منظومتها بصورة إنغلاقية. فظهر القلق الوجودي الطائفي في الوطن بدلاً من القلق الشعبوي العام الجامع على الوطن. إنّه قلق ضياع وحدة الطائفة وإعادة معايشة واقع سلبي مختزن في الذاكرة الجماعية للطوائف اللبنانية، فهو قلق بدائي عميق يهدّد الوحدة الحيوية لمفهوم النُّظمة الجماعية لكل طائفة. وهذا ما برز واضحاً في النزعات الطائفية والنفَس المذهبي الذي طغى على لبنان مؤخّراً.
إنّ المشهد اللبناني اليوم، يرتسم بوضوح وفق ملامح هذا القلق الوجودي الوطني. فقد ظهرت فئات سياسية تعزّز هذا القلق ضمن حالة ديالكتيكية جدلية تبادلية، أي سياسة ناجمة عن هذا القلق، وبالتالي قلق متفاقم نتيجة هذه السياسة. حيث يتمّ التلاعب بهذا القلق وفق ترسيمة تعبئة طائفية بدائية تثير التوجّس والريبة إزاء قضايا العزل والتوازنات الديموغرافية، وكذلك اللعب المأزمي بمبدأ المناصفة بموجب وثيقة الطائف والدستور. فنرى جهة معينة تدّعي أنّ تحالفها السياسي حمى المسيحيين ومناطقهم من قوة عسكرية إسلامية، وأنّها دفعت خسائر وتضحيات لاستعادة الحقوق المسيحية والحفاظ عليها. ثم يطالعنا خطاب تخويفي يثير قلق الطائفة الشيعية، بتضخيم الخارج على أنه قوة شر مطلقة وأبدية، مثل المبالغة في تصوير هجمة خارجية على المنطقة ذات غاية تصفوية للوجود الشيعي. وكذلك يتمّ تظهير سلاح المقاومة على أنّه إعداد قِوَوي لانتقام تاريخي عقائدي من الطائفة السنيّة. ثم نجد الطائفة الدرزية في حالة ضياع عارم إثر حالة الانكشاف الوطني الذي تعيشه، مما أدّى إلى ظهور هلع وجودي عند الدروز كونهم أقلية محاصرة ديموغرافياً. وما زاد الطين اللبناني بلّة تدفّق جماعات الهيدرا الجذعية لتنظيم داعش المتعدّد الرؤوس، ليفجّر ذعراً وجودياً عند مختلف شرائح الشعب اللبناني، ويُلقي بظلال سوداوية على المزاج الوطني اللبناني.
في ظلّ هذا القلق الوجودي المتفاقم في لبنان، كان من البديهي أن يلجأ كل مذهب إلى منظومته المغلقة، إلى ربّه ودينه. فلم يعد الوطن ولا الدولة مرجعية اللبنانيين، بل غدت العقيدة والمذهب ورجال الدين وزعماء المذاهب هم المرجعيات. فوقع لبنان في مكيدة تجزؤية إنقسامية، وبدلاً من أن يظلّ حكّام وحكماء لبنان زعماء وطنيين، أصبحوا – دون إرادة بعضهم و بإدراك بعضهم الآخر – زعماء مذاهب. وهنا تكمن إشكالية الإنشطار الوطني بصورته السياسية، فتكرّسَ الخوف والقلق الوطنيان. لذا لا بدّ من علاج سياسي وطني بالضرورة، يقوم على إرادة جماعية بتحديد الأخطار الفعلية ومواجهتها. “فالتلاعب بالخوف تجاه عدائية مطلقة وأبدية وموازية للقدرة الإلهية…هي وسيلة تعبئة نفسية في نزاع داخلي”[7].
هذه المشكلة الوجودية الوطنية اليوم تجد تفسيرها في إوالية الاحتماء الدمجي للمذاهب اللبنانية في قوقعات مغلقة، كردّ فعل وقائي حمائي ضد القلق الوجودي الوطني، وذلك لتهدئة مخاوفها وردّ الخطر والتهديد بالوسائل والقوى الذاتية المذهبية، فاستدمجت نُظماتها وأنساقها ببنيتها الجماعية الأثرية الضيّقة، وفق علاقة دمجية إنصهارية تجاه المذهب وتباعدية تباينية تجاه الوطن. وهكذا فإنّ الميل الطائفي السلبي يجعل كل جماعة ” تحافظ على وجودها كوحدة اجتماعية عبادية وقانونية حصرية، ويعسر عليها عندئذٍ السير في طريق التطور (الوطني)… بحكم طابعها الطائفي البدائي بالذات “[8]. وهذا ما يجعل للحيّز الطائفي أسبقية وأهمية على الحيّز الوطني، وهكذا غدا لبنان وطناً مركّباً تركيباً دمجياً، فتبقى عناصره ومرّكباته عرضة للتفكّك والتباعد أمام الاستحقاقات الدقيقة والمنعطفات الخطرة.
3- عقدة القهر والهذاء الوطني
رغم عناصر الاقتدار والريادة والتفوّق والصفات الإيجابية عند الشعب اللبناني، إلّا أنّه على مستوى مكوّناته الطائفية ينطلق من منطلقاتٍ قهرية لاعقلانية، ذات طابع مفترض ومتوهَّم يعتمل في الذاكرة الجماعية الطائفية. ألوطنية تفترض الواقعية والعقلانية، أمّا المذهبية فتقوم على الهوامات واللاعقلانية. وإنْ بدت بعض التوجّهات المذهبية عقلانية، إلّا أنّ العقلانية المذهبية لها لاعقلانيّتها الخاصة التي تميّزها. ” فالعقل أنتج عهداً طويلاً من الميول الغريزية “[9]، وخير مثال: ألمانيا النازية، حيث كانت أهم مركز عالمي في الفيزياء والرياضيات والصناعة والاقتصاد والفن والفكر… لكنّها كانت بموازاة ذلك أخطر مركز لاعقلاني في العالم. واللاعقلانية الوطنية اليوم تطغى على المقوّمات الحيوية الرئيسية للبنان، مما سبّب اضطرابات في مفاهيم العيش المشترك والسلم الأهلي والانتماء المواطني. هذه اللاعقلانية اليوم تتجلّى في عقدة القهر والهذاء الوطني.
من هنا نلاحظ أنّ كل طائفة في لبنان تتحرّك وطنياً بصورة مشوّهة من منشأ قهري ومنطلق استضعافي، وذلك للمطالبة بحقوقها الوطنية والحفاظ على وجودها ومشاركتها السياسية في مراكز الدولة. وتكمن خطورة التفكير القهري بأنّه يستوجب بالضرورة إيجاد طرف متسلّط، فتنظر كل طائفة نظرة قهرية إلى طائفة أخرى على أنها جهة تسلّطية. فالوضعية الإزدواجية: القهر – التسلّط ينحصر بينهما كل أشكال الاتهامات المتبادلة بين الطوائف. فالطائفة التي ترى نفسها مقهورة ومهضومة الحقوق، تعيش وضعية وهمية وافتراضية من الظلم والغبن، ثم تعتبر الطوائف الأخرى في موقع المتسلّط الذي يهدّد حقوقها ويستلبها امتيازاتها. هذا الأمر يستتبع توجيه العنف إلى الطرف المفترض فيه أنّه متسلّط، ” فالعنف ينسف مشاعر التنكّر للذات والجماعة (هنا الطائفة)، ويدفع الأفراد إلى الانضواء في جماعتهم (طائفتهم)”[10]، وفق عملية استنفار جماعية تجاه الطوائف الأخرى.
إنّ عقدة القهر عند اللبنانيين التي تتمثّل بهذاء اضطهادي غير واقعي، كانت السبب الأبرز لتفجير العنف في الحرب الأهلية اللبنانية، ولا زالت اليوم فاعلة بشدّة في الأزمة الوطنية اللبنانية. وللأسف تلاعبت فئات سياسية بمفهوم القهر وغذّت هذه العقدة منذ تحقيق التوازن بموجب وثيقة الوفاق الوطني والتعديل الدستوري سنة 1990. إنّ إحساس الأفرقاء اللبنانيين بالقهر والغبن يؤدي إلى اضطرابات سياسية ووطنية: تعطيل المؤسسات، إقفال المجلس النيابي، تفريغ رئاسة الجمهورية، الخطاب المذهبي والتحريض… ” وحيث إنّ التلاعب بالغبن له فاعلية في التعبئة تجاه شريحة من المسيحيين، ظهر سياسيون تحيطهم قافلة من جامعيين وقانونيين ومدافعين سابقاً عن حقوق الإنسان، للتلاعب بالغبن منذ 2005، بالرغم من المكتسبات الوضعية في وثيقة الطائف والتعديلات الدستورية: النفي، قانون الانتخاب سنة 2000، أسلمة لبنان…”[11].
والحقيقة تُقال أنّ أول شخص استشرف هذه المشكلات عند اللبنانيين وعمل على معالجتها وتصفيتها بصورة علاجية وطنية، هو الإمام موسى الصدر الذي انطلق بها من حالة قهرية إلى حالة إقتدار وطني، فقدّم نموذجاً وطنياً لكيفية رفع الحرمان والقهر وتحقيق العيش المشترك والسلم الأهلي. ثمّ تتوّج هذا الجهد القيمي الوطني – المنتصر على القهر الوجودي بفاعلات الاقتدار الوطني – على يد رئيس المجلس النيابي ” نبيه برّي “، الذي لا يزال يعالج مشكلات لبنان بروحية إقتدارية دستورية ووطنية.
4- القصور الوطني وحالة التبعية
إذا نظرنا اليوم إلى التموضع الوجودي للشعب اللبناني والأنساق العلائقية التبادلية بين مكوّناتها الطائفية، سنلاحظ بوضوح عقدة القصور الوطني التي تستتبع حالة من التبعية للخارج، مما يؤدّي إلى مصادرة معنى الوطنية وغائية المواطنة. فكلّ طائفة في لبنان تعاني عقدة نقص وجودية عميقة، جعلتها تقوم بعملية تعويض من خلال تبعيّتها لقوى خارجية، تجد فيها ملاذاً تعويضياً وملجأً وجودياً آمناً وضامناً لبقائها. هنا يكمن جوهر المأزم الوجودي الوطني والسياسي اللبناني، في هذه الموقعية الاعتمادية بين مفهومي الدونية والتبعيّة: دونية وطنية داخلية، وتبعية دولية خارجية.
كم كان محقّاً ” غسان تويني ” عندما كتب: ” يبدو كأنّ اللبناني، بسبب عامل نفسي تاريخي متراكم، هو بحاجة دائمة إلى بابٍ عالٍ “[12]. إنّ اللبناني يعيش حالة من القصور في مجالات مختلفة، فالمسلم يعيش حالة نقص تجاه لبنانيته، والمسيحي يعيشها تجاه عروبته وقوميته وعدائه لإسرائيل. هذا ما أتاح للمتلاعبين بالغرائز أنْ يكرّسوا عقدة النقص عند الشرائح اللبنانية المختلفة، عبر التشكيك الدائم بالوطنية والعروبة والانتماء والمشروعية، مما خلق سجالاً سياسياً متمظهراً باتهامات متبادلة بالخيانة والشكّ الدائم بولاء هذه الفئة أو تلك للبنان. هذا الخطاب السلبي يقوم على اللاعقلانية وغرائز اللاوعي الوطني، ليكرّس عقدة النقص المتناقلة والمتوارثة عبر الذاكرة الجماعية الطائفية.
تتجلّى عقدة القصور في لبنان بالانتظار الدائم لتحوّلات خارجية على حساب الحاجات الوطنية والبديهيات الداخلية. لا شكّ في أنّ لبنان يتأثّر بنزاعات المنطقة وهذا أمر طبيعي لكل دول الجوار، ولكن العامل المرضي غير الطبيعي هو ارتهان لبنان لهذه التحوّلات والصراعات. فالقصور الوطني أصاب الثقة الوطنية في مقتل، وكرّس لدى اللبنانيين شعور دوني بعدم الكفاءة والاستقلالية، مما يثبّت السلوك الزبائني الملتوي والمحسوبيات والحسابات المذهبية والنزعات الإيقانية والتباعد الوطني بين الشركاء. فقد ” تمّ التلاعب بالنقص خلال السنوات 2005- 2008 من خلال إيديولوجية تُختصر بالصيغة المبسّطة التالية تجاه مسيحيين يكتبون لاوعياً في الذهنية الجماعية: حيث إنّ القيادة السنيّة متحوّلة ومتبدّلة، وفي تراجع بالنسبة إلى الشيعية في المنطقة، فإنّ حماية المسيحيين تكمن في التحالف مع توجّهات شيعية محلّية وإقليمية “[13]. لذلك يسعى مسيحيو لبنان في سلوكهم الجماعي ونشاطهم السياسي، إلى “التعويض الأعلى” عبر تحالفات داخلية وعلاقات خارجية.
كما تظهر عقدة القصور الوطني عند الطائفة الدرزية القلقة دائماً، والتي تبحث عبر زعمائها عن تموضع وطني وعربي، بله تفتّش عن موقعية وجودية لتطمئنّ على بقائها واستمرارها. ويتجلّى القصور الوطني عند الطائفة السنية اليوم بالشعارات القهرية والإحساس بالدونية والغبن والتراجع والحرمان، مما يعزّز بيئة حاضنة للتطرّف السنّي خاصة في المناطق النائية والمحرومة: شمالاً كعكّار، وشرقاً كعرسال. أمّا عند الشيعة فقد تكرّست هذه العقدة عبر مسار تاريخي طويل بالتهميش والحرمان، وقد قام بمعالجتها الإمام “موسى الصدر” بأسلوب فذّ عبر حشد الطاقات الإيجابية وتأسيس منظومة مقاومة، ثمّ إشراك الطائفة في الدولة والحكم وتأمين حقوقها الوطنية. لكن اليوم ظهرت هذه العقدة مجدّداً عند الشيعة إزاء فكرة تهدّد بقاءها، ألا وهي الهجمة التصفوية الخارجية الهادفة إلى تجريد الشيعة من عناصر القوة: كسلاح المقاومة، والامتداد الشيعي، والاستقلالية السياسية الثابتة وفق المنهج الوطني للرئيس “برّي”. وبذلك نجد نصف الطائفة الشيعية تقوم بعملية “تعويض أعلى” بمضاعفة عناصر قوّتها الداخلية في وجه التهديدات الخارجية: العدو الإسرائيلي، وقوى التكفير…
إنّ العقد الوطنية الأربعة التي تحدّثنا عنها، أدّت إلى ضرب الميل الوطني في لبنان والحسّ الجماعي الوجودي، وسبّب في هذا الوطن حالة من “اللايقين الوطني” إزاء القضايا المصيرية المشتركة ومفاهيم العيش المشترك والسلم الأهلي والأمن الوجودي. كما جعلت الشعب اللبناني يعيش حالة من الاغتراب عن أصالة الوطن، وقلقاً على الوجود والمصير. لذلك نحتاج إلى عملية طبابة دستورية وسياسية تعالج هذه الأمراض الوطنية والسياسية التي تصيب جسد الدولة وبنية الوطن اللبناني. وخير علاج لهذه المشكلات والمآزم هو “الاقتدار الوطني” القائم على “الأنتروستراتيجيا الدستورية”.
ثانياً: إشكاليات الذات الوطنية الجماعية للشعب اللبناني
تشكّل الجماعة وحدة متسقة ومنتظمة، تضمّ الأفراد في نسق إجتماعي نُظمي، يؤمّن لهم الانتماء إلى هذه الجماعة التي تحدّد أدوارهم ومكاناتهم. إنها تلك اللحمة ذات النسيج النفس إجتماعي، حيث يتداخل ويتشابك فيها الأفراد بعلاقات تبادلية توّحدهم في بوتقة اجتماعية متجانسة العناصر، ضمن عوامل مشتركة: كالدين واللغة، والشعور بالتبعية لذاك الكل الواحد، والإحساس بالنوع، والميل أو الانتماء إلى منظومة جمعية متكاملة. حيث تحدّد تصرّفاتهم وتطبع سلوكهم على أساس معاييرها وقيمها الخاصة المميزة لها. فتجمع جهودهم ومسلكياتهم باتجاه غائي موحّد، ولتحقيق هدف مشترك يلبّي رغبات ومطالب الجماعة، ويخدم رؤيتها وتصوّرها ووجودها. هذه العناصر كلّها تتوافر عند الشعب اللبناني ما عدا العنصر الديني الواحد، الذي كان سبباً لتأسيس عقد ومشاكل في الذات الوطنية الجامعة، وذلك بسبب سوء استخدام هذا العنصر الحساس والتلاعب به داخلياً وخارجياً.
لذا يعاني اللبنانيون من مشكلات في الانتماء الوطني، ومن هنا يجب أن نعالج هذه المشكلات بدراسة الشعب اللبناني من مختلف جوانبه: النفسية والاجتماعية والعقلية، والتركيز على المشتركات التي تجمعه وتوحّده والتعامل بشكل قيمي أخلاقي مع الجوانب التي يمكن أن تفرّقه: كالدين، والعقائد، والمفاهيم الخاصة بالمذهبية… فالحضور السيكولوجي والوطني للشعب يقوم على مدى التماثل الذهني المبني على وحدة القيم والمعتقدات والمعايير والقوانين والأهداف والأنظمة، التي تؤمّن له الشعور المتين بالانتماء إلى الجماعة ، وتكرّس تماسكها واندماجها وانصهار أفرادها في كيان واحد هو: الوطن، والذي يكفل بدوره الشخصية الجماعية للشعب. تلك الشخصية الجامعة التي تحكمها دينامية نفسية معقدة وخاصة، تتوقف غالباً على عنصرين هامين: اللاوعي الجمعي والشعور الجمعي. مما يقودنا إلى الحديث عن جهاز نفسي اجتماعي خاص بكل جماعة، ولا سيما الشعب اللبناني. كما إنّ الوجود الاجتماعي للشعب يعتمد على درجة امتثال الأفراد لنواميسه وأسسه ومعاييره، ودور كل فرد وإسهامه في نشاط الجماعة من الناحيتين الكمية والكيفية، وكذلك طبيعة الرابطة وشكل التفاعل بين أفرادها. إضافة إلى علاقاتها مع الجماعات الأخرى ونظرتها إليهم. أما البعد العقلي العقائدي للشعب اللبناني، فيعتمد على ثقافته وإنتاجه الفكري وتنوّعه الديني ونسبة تأثيره في الجماعة الإنسانية الكبرى، أي المجتمع الدولي هنا. وهكذا، نجد الأبعاد المختلفة للجماعة تتداخل وتترافد وتتضافر نفسياً واجتماعياً وذهنياً، لتشكل الأساس الوجودي والحضاري والوطني للشعب اللبناني، وكذلك كل الشعوب.
هذه الذات الجماعية للشعب اللبناني التي أتحدّث عنها، هي الذات الوطنية الجامعة، والتي تتواجد لدى كل شعب من شعوب العالم لكي تؤمّن وحدته وتماسكه وانتماءه إلى الوطن. تتشكّل الذات الوطنية من المفاهيم المشتركة بين ذاوت أفراد الشعب، ومن العمليات والأشكال النفسية المشتركة والمتشابهة مع دينامية الأفراد الآخرين، لتشكّل بذلك دينامية جمعية، تجتمع فيها الخصوصيات الفردانية المشتركة والمتطابقة في عمومية الجماعة، حيث تعطيها بدورها خصوصية جمعية تميّزها عن الجماعات الأخرى. وعلى هذا النحو تتكوّن الذات العمومية للجماعة، والتي لها خصائص وخصوصيات تنظيمية تستمدّها من طبيعة منظومتها الاجتماعية. كما إنّ انتظام العمليات العقلية والاجتماعية للذات الجمعية الوطنية، ترتبط بالإواليات النفسية والحركات الديناميكية اللاشعورية، ثم تتمثلن بفعل القيم والاخلاقيات المشتركة لتشكّل “الأنا الأعلى” للشعب، وتطبعه بمعاييرها وقيمها وقوانينها الجماعية، فتشكّل بذلك الضمير الجمعي الوطني للشعب اللبناني.
يقول “أنزيو” في دراسته للجماعة: “ليس ثمة واقع داخلي لا واعٍ إلا فردياً، ولكن الغلاف الجماعي يتكون من حركة الإسقاط نفسها للاستيهامات الهوامية وللموقع الذاتي، حيث يقوم بها الأفراد عليه، أي الطريقة التي تتمفصل بها – في الآلات النفسية الفردانية – سير الأنساق التحتية للشعب: الذات الجماعية، الضمير أو الأنا الأعلى الجماعي، والحيّز الغرائزي العام. وبوجهه الداخلي، يسمح الغلاف الجماعي بإنشاء حالة نفسية متعدّية الفردية، هي الذات الجماعية. فللجماعة ذات خاصة، لا بل أكثر من ذلك، إنها ذات”[14]. وبهذه النظرية الصحيحة، أثبّت وجهة نظري حول مفهوم “الذات الوطنية الجماعية” للشعب اللبناني.
ولكن من دواعي الأسف الوطني، أنّ الذات الوطنية الجماعية للبنانيين تعاني اليوم من انشطارات خطيرة، كونها مصابة في حيّزها الداخلي الدينامي الحيوي. ففي السنوات العشر الأخيرة أصاب الذات الجمعية الوطنية إشكالية إنقطاعية، فانتقل اللبنانيون من دائرة الجماعة الكلية أي الشعب إلى دوائر الجماعات الجزئية أي الطوائف. فالذات الجماعية الطائفية تتعلق بمنظومة نواتية خاصة بكل طائفة، حيث نجد أفراد الطائفة قد بدّلوا انتماءهم الوطني العقلاني الاجتماعي والسياسي بانتمائهم الإيديولوجي اللاعقلاني النفسي والهوامي. هذا الإنتماء النفسي إلى الجماعة النواتية أي الطائفة، قائم على على الميول المشحونة عاطفياً وإنفعالياً تجاه النُّظمة الضيقة للأفراد المتشاركين في المفاهيم والعقائد، مما يؤدّي إلى هذا الشكل الطوبوغرافي الطائفي للبنان. لكأنّ الجمع اللبناني اليوم يتألف من جماعات وليس من شعب، فالشعب ينبغي أن يكون لُحمة واحدة ذات نسيج وطني متداخل وموحّد. لكنّ الوقائع الأخيرة المتلاحقة والمتسارعة بعد اغتيال الرئيس “الحريري”، وكذلك التلاعب بالغرائز والشحن المذهبي والتوظيف المشبوه لمسار الأحداث، كلّها أمور أدّت إلى تشويه البنية الوطنية للبنان ولمنظومة شعبه. وبالتالي أصابت الذات الوطنية الجماعية في ركنها الحساس، المستوعِب والمُجتاف لمفهوم اللُّحمة الوطنية. فضعُف النسيج الإدراكي والموحّد للجماعة. مما يفسّر هذا التشرنق الطائفي الذي يجعل الشعب جماعات مندمجة الصرف ومستهلكة للوهم والغرائز، وعليه تظهر مشكلات في طبيعة الإنتماء الوطني الذي أدى إلى تغريب اللبنانيين عن أصالتهم الوطنية لصالح الإنزياح الطائفي.
ثالثاً: اللايقين الوطني والاغتراب الدستوري في لبنان
تكمنُ خطورة الاغتراب (alienation) الوطني عند الشعب اللبناني في وضعية الوجود الاغترابي للمواطن اللبناني عن مواطنيّته الحقّة، إنها عملية تشويه لمفهوم الارتباط الحيوي النفس-اجتماعي مع التاريخ والجغرافيا وأصالة الوطن وفعالياته الوجودية. فالانتماء إلى الوطن يقوم على “العمل اليقيني الوطني”، أي أنّه فعل إيمان بالوطن، تحكمه الغائية المثلى والهدفية العليا التي ترتقي عن منزلقات النزعات الفردية والمذهبية وتتعدّاها إلى المصلحة الوجودية الوطنية الجماعية الإنسانية للشعب اللبناني ككلّ موحد. يركّز عالم الاجتماع “رايسمان” على أهمية العنصر الجماعي في بناء المجتمع والدولة، حيث “يجب أن يصبو الإنسان إلى خارج ذاته وعصبته الضيّقة”[15]. هذا ما يسمح بتفعيل اتجاه كل نشاطات المواطن وسلوكياته والتي وضعتُها تحت تسمية “العمل اليقيني الوطني”، الذي يتبع مسار هادف وجامع. ولكن الاغتراب الوطني في لبنان أرسى حالة من “اللايقين الوطني” والشكّ الدائم بمبنائية ومعنائية الوطن، مما أضعف الحس الوطني الوحدوي لصالح طغيان الميل الطائفي التفريقي. فعندما يعيش المواطن اللبناني مغترباً عن أصالة الوطن، سيجد نفسه تلقائياً متوجّهاً إلى المنظومة البديلة أي الطائفة، فيتعامل مع مؤسسات الدولة وأجهزتها حسب توجّهاته الطائفية، وبذلك يرتسم الوطن حسب مفهوم الطائفة، لا بل أكثر من ذلك فإن خريطة الوطن تصبح في الوعي الطائفي ترسيمة ديموغرافية تختصّ بجغرافية الطائفة وليس الوطن ككلّ.
يرى “كارل ماركس” أنّ الإغتراب الإنساني هو “نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان، وما فقد الإنسان لاستقلاله وإفقاره واغترابه عن غيره من البشر، وانغماسه في عمل مجرّد من أية أصالة أو عفوية أو خلق، إلا من جوانب متعدد لاغتراب الإنسان عن طبيعته”[16]. ورأى “جان بول سارتر” على خطى “ماركس” أن البشر في اغترابهم الوجودي “يخضعون لضعف إيمانهم ويخفون حريتهم عن أنفسهم وينظرون إلى ذواتهم كأشياء”[17]. فإذا كان “ماركس” يرى الإغتراب الإنساني هو فقدان الصفة الإنسانية عند الإنسان ولاجدوية العمل والإنتاج، وإذا كان “سارتر” يعتبر الإغتراب البشري هو تشيّؤ الذات الإنسانية وجمودها وضعف فعاليّتها، فإنّ الإغتراب الدستوري الذي أتحدّث عنه هو فقدان الحس الوطني عند المواطن وارتفاع معدّلات الميول الطائفية المشحونة. هذا ما نراه بوضوح في لبنان خلال السنوات العشر الأخيرة، فأعلام الأحزاب ترفرف أكثر بما لا يُقاس من العلم اللبناني في الساحات، والشعارات الطائفية تطغى على كل الشعارات الوطنية.
لقد ترتّب على الاغتراب الأصالي الوطني في لبنان اغتراب دستوري وسياسي، أدّى إلى تعطيل المؤسسات وشلّ البرلمان وتفريغ رئاسة الجمهورية وتمييع فعالية أجهزة الدولة وتخبّط نظمات المجتمع المدني. فالإغتراب ليست فقط عملية إعاقة تطوير الشخصية الوطنية للمواطن وإمكانياته، ولا يقتصر على تغريب الدولة ومؤسساتها عن واقعها الوطني فحسب، بل يكرّس حالة من تثبيت العجز والتشويش الإدراكي للوطن كوضع قائم ولا مخرج منه. إنّها حالة “تثبيط جماعي” أسمّيها “الإحباط الوطني”، حيث يصل الإغتراب إلى حالة من تثبيط العزيمة الجمعية والهمّة الوطنية. إنّ “تثبيت التثبيط الوطني” ينجم عن إحساس المواطن بعبثية العمل الوطني كفعل انتماء إيماني للبنان، وهذه اللاجدوية العملانية تؤدّي إلى انحسار العمل الوطني ليحلّ محله النشاط الطائفي. ومن هذا المنطلق يتمّ تشييء (chosification) دستور الوطن، أي اختزاله إلى مستوى جامد ينحصر فقط في العناصر المادية للدولة، وبذلك تسعى كل طائفة إلى تحقيق مكاسب ومراكز في هذه الدولة التي غدت “شيئاً(chose) “ جامداً، فيفقد الوطن صفته المعنوية الروحية ليصير كياناً اقتسامياً تنازعياً. وعليه فإنّ تشييء دستور الوطن بدل إحيائيّته خلق ظاهرات متشيّئة في لبنان بعيدة عن طابعها الحيّ: الوطني والإنساني، فتدفع بالمواطن جانباً عن أصالة وطنه، وتطلق نزعاته الطائفية. فتصبح هذه النزعة المغتربة عن الوطنية طاقة تتحكّم بالمواطن بشكل سلبي، “فتنوب عنه وتقمع فيه الاتجاهات الإيجابية، وتعمل كقوة اجتماعية ليس لها شخصية محددة تؤدي إلى السيطرة على الإنسان وتوجيه أفعاله وأفكاره”[18]. إذن الإغتراب الأصالي الوطني عند اللبناني أخرج الوطن من دائرة الإحيائية إلى دائرة التشييء، مما أفقده صفة المواطنة الأصيلة وخلق مشاكل وأزمات وجودية تمسّ عمق الحيّز الوجودي اللبناني: شعباً ووطناً ودولة، فنشأت حالة إرتكاسية دستورية متمثّلة باللايقين الوطني، الذي أدى إلى اضطراب وضعف الصفة الإنسانية والحقوقية والمفاهيمية والقيمية للدستور اللبناني.
لذلك نرى اليوم الساحة الوطنية في لبنان ميداناً لتبادل الاتهامات، والشك الدائم بوطنية فئات معينة من قبل فئات أخرى، ونزع الصفة الوطنية اللبنانية عن جماعات معينة واعتبارها مرتهنة لإرادات خارجية، وكذلك ظهور صراعات إيديوسياسية بين الطوائف وساستها، والسعي الدائم إلى تحقيق مكاسب طائفية على حساب الطوائف الأخرى مما أدى إلى حالة من الحسد الوطني. هذه الحالة التي دفعت شرائح معينة إلى البحث عن انتصارات رمزية، وحسب تعبير “شفيق الوزّان“: “كان من المفترض عقلانياً، عدم السعي إلى الغلبة في بلد الانتصارات المستحيلة والمفخخة وبالواسطة التي يجب تسديد فواتيرها في مجتمع حيث كل الطوائف هي أقليات، حيث قد تكون مستعدة للتحالف مع الشيطان للحؤول دون انتصار فئوي، وإن كان الانتصار رمزياً”[19]. وهكذا فإن الاغتراب الوجودي الدستوري اللبناني أدّى إلى حالة اللايقين الوطني، التي كان من مفاعيلها الخطيرة حدوث تلك الانقسامات وبالتالي تعطيل عملانية وسيرورة الدولة ومؤسساتها.
رابعاً: مأزميّة الطاقة الحيوية للشعب اللبناني وآليات الإرتباط الوطني
تتمثّل علاقة الشعب بالوطن بعملية بالغة الأهمية والتعقيد، هي “توظيف الطاقة الحيوية للشعب” في الإقليم الجغرافي للوطن. فالطاقة الحيوية للشعب اللبناني هي الحاثات النفسية والإجتماعية والعقائدية والشحنات الوجودية المتدفّقة والمندفعة للتوظيف في الإقليم البيئوي (الوطن)، وذلك بغية ضمان الإستمرار الجنوسي والوطني لهذا الشعب والديمومة العضوية البنيوية لمنظومته، وإشباع الحاجات الوجودية للبقاء والحياة لديه، وتحقيق التماثل والتماهي بمفاهيم الوطن والامتثال للدولة الجامعة. فالتوظيف الوجودي الوطني هنا هو “مفهوم اقتصادي حيوي، يُقصد به: واقعة إرتباط الطاقة الحيوية بتصوّر أو أو بمجموعة من التصوّرات…أو بموضوع ما، أو بحيّز جغرافي…”[20]. وترتبط الطاقة الحيوية للشعب اللبناني بنواحٍ وجدانية كالعاطفة الوطنية والمشاعر الإنسانية والاتجاهات الدينية، كما ترتبط بطاقة فكرية ثقافية تختص بمفاهيم الشعب اللبناني وتصوّراته ومجاله الإدراكي للوجود والوطن.
إنّ عملية توظيف الطاقة الحيوية للشعب اللبناني في الحيّز الوطني يتطلّب تحميل الطاقة الحيوية المختزنة في الذات الجماعية الوطنية، التي تشكّل اللُّحمة الموحّدة لمختلف أطياف هذا الشعب. هذا التحميل الطاقوي من شأنه أنْ ينقل الإندفاعات النفسية والاجتماعية والثقافية إلى موضوع التوظيف، أي العنصر الذي يستقبل تلك التوظيفات الطاقوية المتعلّقة به، وهو الوطن. في هذه الحال تنشأ وحدة صميمة بين طاقة الذات الوطنية للشعب اللبناني وبين الوطن موضوع التوظيف، وبالتالي تتوطّد العلاقة التوظيفية بين الشعب والوطن لتشكّل مفهوم “الوطنية” بكل أبعاده. ومن هنا نفهم تفسير التعلّق بالوطن وثوابته، والدفاع عنه، والاستماتة من أجله، لا بل أيضاً التغنّي به والكتابة له ورفعه إلى مستوى القداسة… كما إنّ نشاط الدولة وعملها وهيكلياتها ناجمة عن هذا التوظيف الوجودي للطاقة الحيوية الشعبوية في الحيّز الوطني. وعندما تندمج الذات الوطنية الجماعية للشعب اللبناني بالموضوع المحدد أي الوطن، يصبح من العسير الفصل بينمها أو تمايزهما أو انفصالهما، وهذه قمة الوطنية.
ولكنّ الشعب اللبناني يعاني من مأزم خطير في آلية الارتباط الوطني، الناجمة عن خلل يشوب توظيف طاقته الحيوية في الوطن. فالذات الجماعية الوطنية للشعب اللبناني – التي تحدّثت عنها سابقاً – مسؤولة عن تثبيت طاقة الشعب في الوطن، وبما إنّها ذات مضطربة ومغتربة وخاضعة لحالة من اللايقين ومهدّدة بالانشطار والاندكاك، فقد اختلّت معها عملية توظيف الطاقة الحيوية الوطنية للبنانيين. فالإقليم الجغرافي للبنان هو موضوع التوظيف الطاقوي، لكنّ الذات الوطنية اللبنانية تسيطر عليها النرجسية الطائفية. مما يعني أن “اختيار الموضوع قد تمّ على أساس نرجسي، حتى إنّه عندما تنشأ عقبات في طريق الانفعال الملتصق بالموضوع يمكن أنْ ينكص إلى النرجسية”[21]. وهذا ما حدث بالطاقة الحيوية للشعب اللبناني، حيث انسحبت إلى توظيف طائفي وليس وطنياً. بحيث طرأ انفصال بين موضوعانية الوطن وبين طاقة الذات الوطنية المتعلّقة به ، وذلك “بفعل إشباعاتها النرجسية…وبالتالي قطعت خيط تعلّقها بالموضوع (الوطن)، الذي لم يعد موجوداً كحيّز خارجي جاذب لطاقة الشعب”[22]. وبذلك كان الحل البديل هو تحويل الطائفة إلى موضوع توظيفي للطاقة الحيوية الطائفية، وذلك بسبب فكّ الإرتباط مع الكلّ الأكبر أو المتّحَد الشعبوي أي الوطن. فصار الكلّ الأكبر البديل عن الوطن هو الدين أو المذهب، فطغى الشعور الديني على الشعور الوطني. وبدلاً من أن يستوعب الوطن الشعور الديني، أصبح هذا الأخير – بفعل لامحدوديته – يحتوي كل الوطن ويختزله إلى مستوى الطائفة. “فالتصوّرات التي يقوم عليها هذا الشعور تتألف في مضمونها من مفهوم اللامحدود ومن مفهوم الاتحاد بالكلّ الأكبر”[23]. وما هذا الكلّ الأكبر إلا الطائفية (الدين) التي تقوى بفعل ضعف الشعور الوطني، مما يُنشئ صدوداً وسدوداً في وجه توظيف الطاقة الحيوية للشعب اللبناني في الوطن، ويتسبّب بتوجيهها إلى الطائفة.
وهذا بالفعل ما أدى في لبنان إلى حلول الديموغرافيا الطائفية محلّ جغرافيا الوطن في موضوع توظيف الطاقة الحيوية للشعب اللبناني، وكذلك طغيان النزعات المذهبية على المفاهيم الوطنية، فظهرت الخلافات الوجودية الوطنية حول أنموذج لبنان ووطنيته وعروبته وطابعه الديني وعلاقاته الخارجية واستراتيجيته الدفاعية وموقعه ودوره في المنطقة والعالم. لذلك نحتاج إلى إعادة تصويب تلك الطاقة الحيوية للشعب اللبناني لكي يتم تثبيت ارتباطها بموضوعانية الوطن، وليس موضوعانية الطائفة، هذا ما تكفله الأنتروستراتيجيا الدستورية. وهي مهمة جميع اللبنانيين من سياسيين ومؤسسات ومجتمع مدني ومواطنين، وسوف نتحدّث عن هذه النقطة في العنوان التالي من البحث المخصّص لتقديم حلول الأزمة الوطنية اللبنانية.
خامساً: حلّ الأزمة اللبنانية..
من القدريّة الطائفية إلى الاقتدار الدستوري الوطني
“القدريّة الطائفية” في لبنان هي بالتحديد نمط من “اللاعقلانية الوطنية”، وبما إنّ نُظمة الحكم في لبنان وصيغة الدستور مستمدّتان من طبيعة ونسيج المجتمع اللبناني المتعدّد الطوائف والأبعاد، كان من الطبيعي أن تظهر في ممارسة السلطة وإدارة الحكم حالة من “القدريّة الدستورية والسياسية“التي أسّست أنموذجاً مسلكياً ومفاهيمياً من “اللاعقلانية الدستورية والسياسية”. خاصةً وأنّ الأزمة في لبنان هي أزمة أنطولوجية وجودية وطنية متكاملة، وليست فقط أزمة سياسية. لا بل كل المشكلات السياسية الراهنة هي من المفاعيل والنتائج الحتمية للأزمة الوطنية العميقة. فالقدرية عند الشعب اللبناني بمثابة صورة خارجية مضخّمة للقلق الداخلي عند الطوائف، نتيجة الإحساس ب“العجز الوطني” الذي أدّى إلى ظهور سمات سلبية عند اللبنانيين، مثل: إضطراب الهوية الوطنية، العجز عن الإنتاج الإيجابي، الشعور بالنقص الوطني، الاستغراق في السلوك الطائفي، إزدواجية المواقف والتفكير،… هذا العجز الوطني نجم عن عاملين خطيرين: سلسلة المآزم والصدمات الهلعية التي أصابت المجتمع اللبناني في السنوات العشر الأخيرة (إغتيال الرئيس الحريري، حرب تموز، وآثار متغيرات الربيع العربي، ومخاطر التحوّلات السلفية المشبوهة في دول الجوار…) والعامل الثاني هو التلاعب الداخلي والخارجي بمخاوف اللبنانيين وبالظروف والأحداث المستجدة بغية توظيفها في مشاريع معيّنة. وقد أدى ذلك إلى حالة خطيرة أسمّيها “النكوص الوطني”، أي تقهقر الوظائف الحيوية الوطنية للشعب اللبناني وانسحابها إلى مراتب أدنى من مستوى الوطن تتمثّل بالحيّز الطائفي. وقد أدّى هذا النكوص الوطني إلى تراجع “المشروطية الإيجابية الوطنية” للوجود اللبناني، وحلّت محلّها “المشروطية الطائفية السلبية”. وهذا ما أوصلنا بالتالي إلى اضطراب وتشويه وضرب “منطق العقلانية الوطنية”.
إنّ المشكلات التي عالجتها آنفاً: كالعقد الوطنية والاجتماعية والسياسية عند اللبنانيين، واللايقين الوطني، والإغتراب الدستوري في الوطن، واضطراب الذات الوطنية الجماعية، واللاعقلانية الوطنية، ومأزمية توظيف الطاقة الحيوية للشعب اللبناني في الوطن… كرّست حالة “القدريّة” عند الشعب اللبناني، والتي يغدو معها كل اتجاه وطني ذا طابع عبثي لاجدوي وفاقد للهدفية الجماعية الوطنية. لذلك يجب أن نفهم طبيعة ومنشأ وسيرورة “القدرية” في لبنان ثم نقدّم الحلّ الناجح والناجع لها. فالقدرية هي “قانون الإعتباط الوجودي… والاعتباط التسلّطي الذي يحيط بوجود الشعب المقهور… الذي يُدفع لقبوله كأمر واقع، كمظهر من مظاهر الطبيعة والكون والأشياء”[24]. فالقدرية عند الشعب اللبناني – بمعناها الواقعي- هي حالة من السلبية الوجودية والتشويه المفاهيمي للوطنية وبالتالي للدستور، هي تلك التصوّرات والإدراكات الخاطئة للمكانة الوطنية والدور المواطني، وهي تلك التفسيرات التنكّرية الملتوية التي يعطيها الشعب اللبناني للابتلاءات والمشكلات والنوائب التي تحلّ به. إذ لا وجود حقيقي لها، بل هي ناجمة عن نمط من التفكير الغرائزي الهوامي والذهنية الوهمية البدائية التي تعزو كل المصائب والمشكلات الوطنية إلى أسباب مضخّمة غير عادية: كالشعور بالغبن الوطني، وتوقّع العدوانية من الطوائف الأخرى، ومشاعر القلق الوجودي إزاءها، ، والدخول معها في صراعات واقعية ولكن ذات منشأ افتراضي تخييلي مضخّم…
إذن، يكمن الحلّ الجذري للأزمة الوطنية اللبنانية في عملية “الإقتدار الوطني”، حيث تنضوي تحت هذا العنوان كل آليات المعالجة الوطنية للأزمات. فالإقتدار الوطني هو تمرّد على القدرية، ورفض الواقع القهري، والخروج من المأزم الوجودي، يترافق مع ظهور إرادة وطنية جماعية تنحى نحو تحقيق وإرساء مفاهيم الوفاق الوطني والعيش المشترك، وتكريس كل الاتجاهات الإيجابية والقيم الخلقية التي من شأنها حفظ الوطن وصيانته الدائمة. ولكنْ لكي يتحقّق هذا الإقتدار الوطني لا بدّ من حدوث عملية هامة جداً عند اللبنانيين، أسمّيها “التفتّق الحيوي الشعبوي” الذي تصاحبه يقظة وطنية مصيرية في الوعي الجماعي للبنانيين. فالتفتّق الحيوي دينامية وطنية ونفسجتماعية وإيديوسياسية، أقصد بها تفسّخ البنية الإنهزامية الخضوعية والسلبية في المجتمع اللبناني، وهو إنكشاف الإنغلال الوطني والقلق الوجودي بسبب اندفاع الإرادة الوطنية الجماعية وتحوّلات الطاقة الحيوية الوطنية للشعب اللبناني وتوظيفاتها السليمة في حيّز الوطن.
ولكي تتحقّق فاعلية الاقتدار الوطني لا بدّ من تجاوز الفكرة العبثية أو المفهوم اللاجدوي للسلوك الوطني الجامع، بحيث يتم ترسيمه وفق مسار غائي وهادف. صحيحٌ أنّ هناك نزعة “سيسيفية” في العمل الوطني اللبناني، ولكن يجب الإنتصار عليها بعملية “الإصرار الوطني”. فالسيسيفية هي – وفق الأمثولة اليونانية القديمة – ذلك السلوك العبثي واللاجدوي الذي يقوم به “سيسيف” بحمل صخرة ثقيلة من سفح الجبل إلى قمّته، ما أن يصل بها إلى القمة حتى تتدحرج وتسقط إلى الأسفل، فيندفع خلفها ويرفعها من جديد إلى القمة ثم تسقط وتتدحرج، وهكذا دواليك حيث حكمت عليه الآلهة بهذا الفعل إلى الأبد. ولكن في غمرة هذه العبثية والمعاناة الدائمة لسيسيف، “فإنّ لحظات الإشراق والوعي في حياته هي لحظة عودته من القمة إلى السفح ليعاود دفع الصخرة من جديد”[25].
لقد استخدمتُ تلك الأمثولة الميثية اليونانية العريقة لأشرح عملية الإقتدار الوطني في لبنان، فالقدرية التي تسيطر على الواقع اللبناني هي نوع من المشروطية العمياء والغامضة التي تسبغ العمل الوطني في لبنان بطابع عبثي لاجدوي، مما يكرّس حالة من “اليأس الوطني” الذي يفعّل السلوك الطائفي ويشلّ السلوك الوطني. لكنّ لحظات “الوعي والإشراق الوطني” هي اللحظة التي يجب أن نندفع جميعاً وراء الصخرة لكي نرفعها من جديد، وهذا ما أسمّيه “الإصرار الوطني” الذي سيقودنا حتماً إلى موقعية الإقتدار عبر الإرادة الوطنية الجماعية للشعب اللبناني.
ومن أشكال الإقتدار الدستوري والوطني الواجب تحقيقيها، أعرضُ ما يلي:
1- تفعيل الأنتروستراتيجيا الدستورية
من الإجحاف بمكان أنْ نحصر الدستور في العلم القانوني الحقوقي، لأنّه في الحقيقة يستغرق كل العلوم الإنسانية. فلا يمكن أن نضع دستوراً لدولة ما، ويكون مغترباً عن مجتمعها وثقافتها وتاريخها وآدابها وعاداتها وتقاليدها وأعرافها. لذلك فإنّ الدستور براديغم قائم بذاته، يطال الأفاهيم والميادين العلمية التالية: الإجتماع، التاريخ، الفلسفة، السياسة، علم نفس الشعوب، الإيديولوجيا،… إضافة إلى الإستراتيجيا. لذلك فإنّ العمل الدستوري في كل القضايا يجب أن يراعي ثلاثة أبعاد هامة ورئيسية: المكان والزمان ودينامية الدولة. أي أنّ التخطيط الدستوري العلمي والعملي يهتم بالتاريخ والجغرافيا والإيديولوجيا والثقافة والسياسة، وكل ذلك مشفوع بمنحى استراتيجي ذي طبيعة نسَقيّة. لذلك سنصنّف هذا التخطيط الدستوري اصطلاحاً تحت مسمّى “الأنتروستراتيجيا الدستورية”، وهو مصطلح جديد قمنا بوضعه بالقطع والدمج بين مصطلحَين: الأنتروبولوجيا التي تعنى بدراسة علم نفس الشعوب وأديانها وعقائدها ومسلكياتها وعاداتها وتقاليدها وأساطيرها وثقافتها وصراعاتها وتاريخها، والاستراتيجيا التي تقوم على التخطيط البعيد المدى الذي لا يُسقط من حسابه الناحية التكتيكية الراهنة رغم طابعه المستقبلي. فالمسار الأنتروبولوجي يمتدّ من الماضي إلى الحاضر، والمسار الاستراتيجي ينطلق من الحاضر إلى المستقبل، وكلا المساران يهتمّان بالجغرافيا. لذا قمنا بضبط المسار الزمني بهذا المصطلح، وبناءً عليه يمكنني تعريف “الأنتروستراتيجيا” على أنّها علم التخطيط التكاملي الشامل النسقي النظمي، القائم على مسار ترابطي اعتمادي منغرس في المكان (الجغرافيا) وصائر في الزمان (التاريخ) ومحكوم بالبعد البنيوي الوظيفي الفكري النفسجتماعي والسياسيي (الدينامية).
صحيح أنّ لبنان بلدٌ صغيرٌ إلّا أنّه – وبفضل فاعلات اقتداره الإستراتيجية كانتصاراته ومكانته في الصراع العربي الإسرائيلي ودوره في محور الممانعة وغناه التعدّدي والثقافي – سيتحول عبر هذه الانتروستراتيجيا إلى مركز ثقل في المنطقة، كونه يحمل تجربة دستورية معقّدة وفريدة. فلبنان لديه اقتدارية فاعلة في هذا المجال ولكن يجب تخليصها من المشاكل الخلافية، باعتبارها قضية وجودية وطنية جامعة. حيث انتصر هذا البلد الصغير – بفعل مقاومته ومبادئه الوطنية والسياسية وأصالة شعبه وعقيدة جيشه…- على أكبر قوة في المنطقة متمثّلة بالكيان الإسرائيلي. و”إذا كان لبنان قد هزم إسرائيل بوصفها رأس حربة في المنطقة، فلا نغفل تداعيات ذلك الإنتصار على المستوى الدولي والمدى البعيد. إنّ الإنتصار الأخير يجب النظر إليه بحجم المشروع الذي تمّ إحباطه”[26]، ليس فقط في ميدان الحرب بل أيضاً في ميدان السياسة والإستراتيجيا العالمية، ليتحوّل إلى خط نقدي أساسي للتصوّرات العالمية. أي أنّ لبنان أمام فرصة لاستغلال وضعيّته الهامة في المنطقة لكي يدخل العالمية من هذه الجنبة، فيتحوّل من مكوّن فيزيقي إلى ثقافة انتروستراتيجية عابرة للقارات، وهذا ما نسمّيه “التعولم الوطني”.
2- ألاقتدار الدستوراني القيمي في القضايا الوطنية
ولكي يتحقّق تفعيل الأنتروستراتيجيا الدستورية، لا بدّ لمنظومة الشعب اللبناني أن تنتهج سلوكاً وطنيّاً إيمانياً بلبنان، عبر التركيز على البعد القيمي الخُلُقي للدستورانية اللبنانية، لكي تستمرّ في العيش السلمي الحقوقي المشترك، مما يجعل الإنتماء إلى لبنان قيمة وطنية أصيلة تنبذ كل اتجاه طائفي. فالبعد القيمي الأخلاقي الوطني لا يقبل الحكم على النوايا، ولا التفاعل مع الإحتمالات بقدر ما تنبني على الظواهر الخارجية. وبهكذا تصوّر لا يمكن نهائيّاً استباق السلوكات المشبوهة للمتلاعبين بالأمان الوطني، ولا المشاريع العدوانية التي تظهر في المنطقة، بل تجعل من بنية الوطن في مقام رد الفعل ليحافظ على الفعل التواصلي القيمي داخل منظومة الشعب لتفادي المخاطر، أي “الوقاية الوطنية”. هنا يأتي الحس الوطني لكي يتكامل مع البعد القيمي، باعتبار الحس الوطني حراكاً فيزيقياً يدفع كلّ خطر داخلي أو خارجي.
إنّ الأزمة الوطنية اللبنانية بمظهرها السياسي ليست مشكلة “إدارة حُكُم”، بل مشكلة “أخلاق حُكُم”. إنّها مشكلة قيمية مفاهيمية في الفهم الدستوري والعمل السياسي وآليات التواصل الوطني، لذلك ينبغي علينا “تقويم وتقييم” السياسة الوطنية. وهذا أمرٌ يسيرٌ إذا ركّزنا على “الأخلاق الوطنية”، خاصة أنّ المفاهيم الروحية والدينية للطوائف اللبنانية تكفل تلك الاتجاهات الأخلاقية. فإذا عملنا بشكل حثيث على تفعيل المشتركات القيمية بين الطوائف والأخلاقيات المستمدّة من روحية الطوائف بدلاً من تفعيل المفارقات الخلافية، عندئذٍ نحصل على بنية أخلاقية وطنية مشتركة. بمعنى أن نجترح حلّاً سماوياً لمشاكلنا الأرضية.
3- الأنتلجينسيا الدستورية ودور المجلس النيابي
تقع على عاتق النُخب الوطنية والمثقّفين والإعلاميين، فضلاً عن رجال الحكم والدين والسياسة والزعماء الوطنيين، مسؤولية حماية وصيانة الأسس الوطنية والاجتماعية والروحية التي يتشكّل منها نسيج المجتمع اللبناني. ولن يتحقّق ذلك إلّا بتحقيق البناء المعارفي الأكمل للدولة اللبنانية، على مستوى بنيتها الفكرية الوطنية. لذا يتناسب خلق “أنتلجينسيا دستورية معرفية وطنية” – عبر المجلس النيابي – لإنتاج فكر وطني موحد على مختلف الأصعدة التي تكفل إيجاد “ثقافة وطنية” واحدة. “ففي هذا الزمن بالذات يظلّ محورياً إستغراق البحث والمتابعة والتعمّق في القضايا الكبرى: الوطنية والدولية، لأنّها تساعد على فهم وتشخيص المشكلات الوطنية الداخلية وإيجاد الحلول المناسبة لها، كما تسمح باستكناه التحرّكات الدولية الخارجية”[27]. ومن هذه الزاوية لا يمكن أن تقوم أنتلجينسيا الأنتروستراتيجية الدستورية للبنان إلّا على أساس فهم وتحليل القضايا المحلّية والدولية الكبرى، وبناء استراتيجيتها على ضوء استفهامها.
فالأنتلجينسيا الدستورية الوطنية في لبنان هي القدرة الكبيرة على استيعاب المعارف الوطنية وفهمها العميق، والقدرة على التنظير الوطني والتشخيص السليم للأزمات. والأهم هي القدرة على إنتاج الثقافة الوطنية وتحليل المعرفة بشكل مساري زمني كمي ونوعي، والمساهمة في تطويرها لخدمة قضايا حياتية ومصيرية وطنية. لذا تقع مهمة خلق هذه الأنتلجينسيا تحديداً على عاتق المجلس النيابي اللبناني، “فالأنتلجينسيا الغربية التي خلقت حضارة مميزة في أوروبا، كانت مرعيّة من أماكن القرار والبرلمانات وجلسات الحوار والتأثيث الدبلوماسي للحياة السياسية، فضلاً عن دور الجامعات والمؤسسات والصحافة والإعلام”[28]. وبهكذا جهد يقيض للبنان أنْ يحقّق اقتداراً معرفياً دستورياً وطنياً، ليضمن وجوداً حيوياً في وجه المستجدات والمشكلات، ويخلق نُظمة دستورية قادرة على تحقيق المناعة الوطنية.
إنّ الإنتماء الوطني هو تجلّي وعي فكراني واستشرافي للبنان وشعبه، وفي غياب هكذا تصوّر عميق تتحوّل الوطنية إلى وبال خلافي وعنصر واهن سهل الإنحلال، مما سيؤدّي حتماً إلى نكسة وطنية إرتكاسية. فالتلاعب على متناقضات المجتمع اللبناني ومكوّناته الحساسة قد بلغ مداه في السنوات العشر الأخيرة، مما ساهم في عملية كيّ الوعي الوطني والتحكّم بالغرائز والميول لصالح مشاريع تضرّ بالمصلحة الأنطولوجية للبنان. لذلك من البداهة بمكان أن ينبري أصحاب المسؤوليات الوطنية إلى حماية الوعي الوطني من هكذا شوائب تخريبية، إذ إنّ رفع منسوب الوعي التأريخي المعاصر للمجتمع اللبناني يسدّ الطريق لا محالة على سيلان المعلومات السخيفة والمشبوهة، التي تتحرّك في كل اتجاه: من تمرير معلومات أو إيحاءات سياسية خاطئة، إلى تسطيح الوعي الجمعي اللبناني، إلى تحريض وتفريق لُحمة الشعب اللبناني، إلى اللعب على المخاوف والعقد الوطنية، إلى جعل المجتمع اللبناني دائرة شبقية ضيقة قلقة ومتفكّكة…
لذلك يجب الإلتفات إلى هذه المسألة الحساسة التي من شأنها صناعة الوعي الجماعي والتحكّم به، مما يضعنا أمام مسؤولية حماية الوعي الوطني للبنان وتمتين بنيته وديناميّته وتثقيفه وتشذيبه وتهذيبه وفق المصلحة الوطنية. ولتحقيق هذه الغاية يجب “توحيد الخطاب الوطني” للساسة ورجال الدولة وزعماء الطوائف، من أجل توحيد الشعب. فالشعب اللبناني يسيطر على سلوكه الطابع الأبوي، أي يتأثر بآباء الطوائف كالزعماء ورجالات الدين، فإذا توحّد خطابهم سيتوحد التأثير على مختلف شرائح الشعب اللبناني، وهنا يأتي دور المجلس النيابي في احتضان الحوار الوطني. كما ينبغي خلق جبهة إعلامية لسد الإهتزازات، تشارك فيها مختلف وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، وكذلك مواقع التواصل الإجتماعي. ويتمّ ذلك عبر دراسة الظواهر وتعبئة الشعب بشكل إيجابي وتوجيه وعيه الوطني وحماية حسه الإنتمائي، كما يجب التركيز على عملية التأريخ الوطني للمواقف المشرّفة المتفق عليها.
لقد كان هذا البحث عملاً تشخيصياً هادفاً إلى دراسة المشكلات والمآزم الوجودية التي يعاني منها لبنان، بغية تشخيصها وفهمها واجتراح الحلول المناسبة لها. كما كان رائياً إلى سدّ إعضالات وطنية أساسية في بنية الدولة والإتجاهات الوطنية والعمل السياسي، بهدف الوصول إلى بناء وطن سليم ومعافى، يشكّل إرتكازاً ثابتاً لبنية الدولة اللبنانية، ويجعل منها كائناً أبستمولوجياً معارفياً متكاملاً، كما ينبغي لها أن تكون لتواكب المستجدّات الحضارية.
ألمراجع والمصادر
1- إدريس، هاني. (2010). ألبعد الإستراتيجي. الدار البيضاء: المغرب.
2- ألعبدوني، عبد العالي. (2014). دراسات استراتيجية. المغرب: الدار البيضاء.
3- أنزيو، ديديه. (1990). الجماعة واللاوعي. ترجمة سعاد حرب. الكتاب للنشر والطباعة والتوزيع: القاهرة. ط1.
4-جمع من العلماء السوفيات. (1990). الفلسفة في القرن التاسع عشر. ترجمة حسان حيدر. دار الفارابي: بيروت. الجزء الأول.
5- حجازي، مصطفى. (2001). سيكولوجية الإنسان المقهور. المركز الثقافي العربي: بيروت. ط8.
6- شاخت، ريتشارد. (1980). الاغتراب. ترجمة كامل يوسف حسين. المؤسسة العربية للدراسات: بيروت.
7- عباس، فيصل. (2005). نقد الحضارة المعاصرة. دار المنهل اللبناني: بيروت.
8- فرويد، سيجموند. (1986). أفكار لأزمنة الحرب والموت. ترجمة سمير كرم. دار الطليعة للطباعة والنشر: بيروت. ط3.
9- فرويد، سيجموند. (1996). قلق في الحضارة. ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة: بيروت. ط4.
10- فضل الله، هادي. (2002). الفلسفة. دار المواسم: بيروت. ط1.
11- فوكو. (1990). إرادة المعرفة. ترجمة جورج أبي صالح. مركز الإنماء القومي: بيروت.
12- قرم، جورج. (1977). تعدّد الأديان وأنظمة الحكم. دار النهار للنشر: بيروت. ط2.
13- كامى، ألبير. (1997). ترجمة عبد المنعم الحفني. الدار المصرية: القاهرة.
14- كيريلنكو، كورسونوفا. (1990). الشخصية الجماعية. نرجمة موفق الدليمي. دار التقدّم: موسكو.
15- لابلانش، بونتاليس. معجم مصطلحات التحليل النفسي (للشعوب). ترجمة د. مصطفى حجازي. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر: بيروت.
16- مسرّة، أنطوان. (2008). التعبئة النزاعية. جريدة النهار. العدد 76.
17- Corban, Antoine. (2008). De’lices refoule’s de la dhimitude. L’Orient-le jour.
18- Foucault. (1985). Surveiller et punir. Ed. Gallimard.
19- Tueni, Ghassan. (2001). Liban: Patrie du risqué perpetual. Publications de l’Universite’ Saint-Joseph et Gisguf: Beyrouth.
فوكو. (1990). إرادة المعرفة. ترجمة جورج أبي صالح. مركز الإنماء القومي: بيروت. ص109.
Foucault. (1985). Surveiller et punir. Ed. Gallimard. P32.
عباس، فيصل. (2005). نقد الحضارة المعاصرة. دار المنهل اللبناني: بيروت. ص612.
سنعالج هذا الموضوع الإشكالي في الدراسة المقبلة وفق رؤية نسقية استراتيجية، وندرس أهدافه وسيرورته وآثاره على لبنان.
مسرّة، أنطوان. (2008). التعبئة النزاعية. جريدة النهار. العدد 76.
المرجع السابق. العدد نفسه.
المرجع السابق. العدد نفسه.
قرم، جورج. (1977). تعدّد الأديان وأنظمة الحكم. دار النهار للنشر: بيروت. ط2. ص98-90.
فضل الله، هادي. (2002). الفلسفة. دار المواسم: بيروت. ط1. ص298.
حجازي، مصطفى. (2001). سيكولوجية الإنسان المقهور. المركز الثقافي العربي: بيروت. ط8. ص55.
التعبئة النزاعية. مرجع مذكور. العدد76.
Tueni, Ghassan. (2001). Liban: Patrie du risqué perpetual. Publications de l’Universite’ Saint-Joseph et Gisguf: Beyrouth. P35.
Corban, Antoine. (2008). De’lices refoule’s de la dhimitude. L’Orient-le jour.
أنزيو، ديديه. (1990). الجماعة واللاوعي. ترجمة سعاد حرب. الكتاب للنشر والطباعة والتوزيع: القاهرة. ط1. ص 6.
كيريلنكو، كورسونوفا. (1990). الشخصية الجماعية. ترجمة موفق الدليمي. دار التقدّم: موسكو. ص5.
شاخت، ريتشارد. (1980). الاغتراب. ترجمة كامل يوسف حسين. المؤسسة العربية للدراسات: بيروت. ص16.
المرجع السابق نفسه. ص17.
جمع من العلماء السوفيات. (1990). الفلسفة في القرن التاسع عشر. ترجمة حسان حيدر. دار الفارابي: بيروت. الجزء الأول. ص144.
جريدة النهار. 16/آب/2008. العدد76
لابلانش، بونتاليس. معجم مصطلحات التحليل النفسي (للشعوب). ترجمة د. مصطفى حجازي. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر: بيروت. ص208.
فرويد، سيجموند. (1986). أفكار لأزمنة الحرب والموت. ترجمة سمير كرم. دار الطليعة للطباعة والنشر: بيروت. ط3. ص69.
المرجع السابق. ص83.
فرويد، سيجموند. (1996). قلق في الحضارة. ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة: بيروت. ط4. ص11.
سيكولوجية الإنسان المقهور. مرجع مذكور. ص163.
كامى، ألبير. (1997). ترجمة عبد المنعم الحفني. الدار المصرية: القاهرة. ص4.
إدريس، هاني. (2010). ألبعد الإستراتيجي. الدار البيضاء: المغرب. ص30.
ألعبدوني، عبد العالي. (2014). دراسات استراتيجية. المغرب: الدار البيضاء. المصدر إلكتروني.
المرجع السابق.