دراسات وأبحاث
الشرق الأوسط ومعضلة ” الديك الرومي “
الشرق الأوسط ومعضلة ” الديك الرومي ”
لا يمكن حلق رأس في غياب صاحبه
مثل إفريقي
في الولايات المتحدة الأمريكية للديك الرومي حيثية خاصة، ذلك أنه يشكل الطبق الأساسي في بعض الأعياد الوطنية كعيد الشكر، أو الأعياد الدينية، لذلك يعمد الجزار الذي يريد بيع منتوجه من الديكة الرومية بأعلى ثمن ممكن، إلى الاهتمام بهم قرابة الألف يوم ويوم، يطعمهم ويهتم لأحوالهم الصحية قرابة الألف يوم قبل مجيء اليوم الأساسي حيث يعمد إلى ذبحهم وبيعهم.
المشكلة المنطقية التي أقامها الباحث نسيم نيكولاس طالب للاستدلال على عملية ” البجعة السوداء ” أن الديك الرومي يكون قد كون ثقة عالية الجودة بالجزار، لأنه انطلق من مقدمات الرعاية والاهتمام التي تتكرر لأكثر من يوم حتى تصل الألف يوم، ليتفاجئ بأنه وفي ظل أعلى منسوب ثقة ممكنة، يتم ذبحه من قبل الجزار، هذه المفاجئة هي التي تشكل البجعة السوداء. لأنها حقيقة واقعية غير متوقعة نهائيا وفاقا للاستدلال الاستقرائي الذي مارسه الديك الرومي، فمجمل المعطيات التي كان يتحوزها بالذائقة والمعاينة والمتابعة تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي النهاية السعيدة للديك الرومي رفقة الجزار، لا أن يذبح على يدي من رعاه. ( [1] )
صحيح أن البجعة السوداء كانت للديك الرومي، وإلا فإن الجزار ما اهتم بطعامه وصحته إلا ليذبحه ويبيعه محققا رابحات اقتصادية، وهذه الخلفية كانت متحققة من اليوم الأول إلى اليوم الواحد بعد الألف.
لن نناقش البنية التصورية للباحث نسيم طالب، فهو قد اهتم ببناء نظرية للتعاطي مع المعلومات التي لا نملك معرفة كفاية بها، كما اللامعلوم من أساسه، حتى نتجاوز مشاريع البجعات السوداء في المستقبل، وفي مختلف المجالات، بتوسط ضبط لآليات قراءة استفهامية في جميع الاتجاهات ولملمة القرائن المنفصلة والمتصلة وفي كل المجالات.
فالمعضلة الأساس هو أن الاستقراء الذي مارسه الديك الرومي لا يمكن أن يؤدي إلى النتيجة التي وصل إليها أخيرا، ومن هنا تنفتح أزمة ” الاقتناع ” فلو فرضنا جدلا أن ديك رومي آخر أتى لينصح نظيره الأول، بمحاولة الهرب فإنه سيرفض ذلك على اعتبار أن النصيحة لا تتحوز مصاديق خارجية تعضدها بل العكس هو المتحقق، ويمكن أن يستدخل خلفية نفسية جديدة على أن النصيحة مدارها الحسد والغيرة ليس إلا مؤسسا هذا الحكم على أن الناصح هو نظير له في الخلقة وخاضع بدوره لقواعد السلطة التي تحكم المزرعة، وبالتالي قدرته العقلية على التنبؤ بالمستقبل ليس إلا تخمين لا مستند عقلي له، مما يرفع منسوب العداء بين الديك الرومي الناصح والديك الرومي المنصوح، ويتحول الحوار إلى حمل توصيفات قدحية تبادلية لا تزيل أصل الإشكال، بقدر ما أنها سوف تؤبده، ويكون المصير النهائي هو الذبح، وهي الإرادة الأساس للجزار، فكما لو أن الديك الرومي الناصح من حيث لم يرد دعم استراتيجية الجزار في النهاية.
وهذه الأزمة الاستدلالية مرجوعها إلى حركة سير متوازية لا تلتقي واقعا، لأن الخط الأول قائم على لملمة الاستقراءات – وإن كانت التقاطية – للشواهد الدولية تساعد على بناء تصديق قد لا يكون متطابقا حقيقة مع المتحولات العالمية، لأن عملية الاستقراء هي عملية ذهنية تتبعية للشواهد العاضدة لأصل الرغبة النفعية الثابتة كخاصية هوياتية. في حين أن الاستدلال الثاني قائم على قاعدة مبنائية تنطلق من معيار تصديقي عقلاني بالأساس فيبحث إلى أن يجعل الشواهد الخارجية تابعة له. ومن هنا النهجان العقلانيان لا يلتقيان على شيء ، إلا إذا استطاع الاستدلال الثاني إلى تغيير حركة الشواهد الخارجية، ليتعقبه الاستدلال الثاني بالتبع، محافظا على نفس المنطق الاستقرائي.
وواقعا يتجاذب منطقة الشرق الأوسط محوران جيواستراتيجيان متنافسان، محور يرى مصلحته في الانضمام إلى نادي الأقوياء العالميين، ويرتهن لخياراتهم الأساسية بوصفه جهازا وظيفيا، يقدم خدمات لوجيستية لتنفيذ هكذا مشاريع، ومحور يرى مصلحته في قوته الذاتية التي يشتغل على بنائها، ولو في إطار صدام أساسي مع المحور الأول، والتي تصرف في أزمات متوسطة أو صغيرة سريعا ما تكبر، مما يجعل المنطقين الاستدلالين يتحركان على سكة واحدة جغرافية بتوازي غير قابل للقاء، في غياب ترسيم سياسة محور الاستقواء الذاتي على الأرض، ليرتفع منسوب الإقناع لدى محور الاستقواء بالغير.
العنوان الأول: الإعضال المنطقي الاستدلالي الاستقرائي:
الاستقراء هو دراسة الجزئيات لإثبات الحكم الكلي، وهو ينقسم إلى قسمين استقراء تام واستقراء ناقص، والاستقراء التام هو بحث جميع الجزئيات بأسرها وصبها في قالب واحد وهو ليس من أوجه الاستدلال والاستنباط، واستقراء ناقص وهو يعد من أقسام الاستدلال إلا أنه لا يدرس جميع الجزئيات.
صحيح أن الاستقراء الناقص لا يفيد العلم بالمعنى الجزمي، إلا أنه يظل مفيدا للعلم جالب للاطمئنان مع تحقق وجود احتمال خطأ النظرية، لكن هذا الاحتمال لا ينتبه إليه، بما هو استدلال بالخاص على العام، يرتكز على الحس والعقل معا في ذلك، لأن الحس يهم الجزئيات القليلة التي تم دراستها، أما العقل فيهم جنبة إصدار الحكم الكلي بشكل انتزاعي، وهنا المعضلة الأساس لأن ” الانتزاع ” هو تكوين القناعة على هامش كبير من الخطأ لنقص المعطيات الاستقرائية الحسية.
يصرح الأستاذ يحيى محمد ” بأن الإدراك العقلي له منظاران، أحدهما قبلي، أي بغض النظر عما عليه الموضوع الخارجي سواء كان نصا أو واقعا، والآخر بعدي يتأسس بما يتزود به من مادة الموضوع المدرك، الأمر الذي تتداخل فيه الدلالتان العقلية والموضوعية، فيصبح بذلك مستنتجا ومضيفا. ففي العملية الاستنتاجية يقوم باستنساخ مفردات الموضوع ليؤلف منها ما يتسق والصورة المنطقية حسب مبادئ قبلية يرتكز عليها من غير أن يبدي إضافة إخبارية قبلية كاشفة عن الموضوع الخارجي، إلا على نحو الإضافة الحسابية التي تؤكدها الدراسات المنطقية وذلك بتحويل درجة الاحتمال المتناهية القوة إلى اليقين طبقا للعملية الاستقرائية، حيث يتم فيها تصفية الحسابات الخاصة للقضية المدركة ضمن ضوابط منطقية، مثل إدراكاتنا التصديقية للقضايا الحسية وما يترتب عليها من نتائج خاصة، وكذا إدراكنا للنصوص الواضحة الصريحة التي لا تحتاج إلى تأمل وحمولة عقلية، ولو على نحو الإجمال. فليس للحساب الاحتمالي أن يصل بذاته إلى اليقين ما لم يتم ذلك بحسب الإضافة العقلية الخاصة. لكن تظل هذه الإضافة التصديقية غاية في الضآلة قياسا مع ما يقابلها من قوة احتمالية، لهذا فهي غير محسوبة ومحسوسة إلا عند النظر المنطقي.” ( [2] ) أوردنا النص على طوله لأنه يشرح بشكل جلي دور المدرك العقلي في التعامل مع الموضوع الخارجي، ويعمل على إيضاح ذلك الميكانيزم الداخلي الدقيق الذي يقوم به العقل بوصفه الدليل الكبروي إذ أن ” المعطى الموضوعي صغرويا في الدليل لا يستغني عن تحكم مبادئ عقلية شاملة وثابتة هي التي تهيمن على عملية الاستدلال والإنتاج المعرفي ” ( [3] ).
فالعقل بما هو موجود متكامل يعرف استقلالية إن مطلقة وإن مقيدة بالموضوع الخارجي، وطبعا هذا التقيد هو موطن تكامله لأنه يتشخص مع المواضيع الخارجية يستنطقها وبحساب الاحتمالات يوقنها..
وهنا رأس الإشكال وهو أن النهج العقلي قد يؤدي إلى تحقيق اليقين الذاتي أو حتى اليقين الموضوعي الذي يهم درجة التصديق التي تتحقق في النفس، لكن الجانب التطابقي مع الواقع فهو مستحيل الحكم عليه هل يتطابق أو لا يتطابق.
والواقع أن أهم من اهتم بهذه الجنبة هو العلامة محمد باقر الصدر قدس الله نفسه الزكية، في بحثه عن طرقية جديدة لتكوين يقين المؤمن بعقائده. والحال أن منهج الشهيد السعيد يهم اليقين الذاتي واليقين الموضوعي المؤدي إلى التصديق المتحقق على مستوى النفس وليس اليقين الموضوعي بجنبته التطابقية مع الواقع في المسألة، ذلك أنه وبعد تفتت اليقين الأرسطي وفقده مصداقية لوجوده، طفق العلامة الصدر على تأسيس منهجية جديدة تبنى على الاستقراء وتكوين القناعة الشبه الجزمية على الأقل على المستوى العقلي، ففي هذا الإتجاه يأتي مشروع الشهيد السعيد محمد باقر الصدر لكي يذب عن حريم الدين من خلال حساب الاحتمالات، مع خلوصه إلى استحالة تحقق اليقين المطلق.
فمنهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات يمكن تلخيصه في الخطوات الخمس التالية:
” أولا: نواجه في مجال الحس والتجربة ظواهر عديدة.
ثانيا: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، بإيجاد فرضية صالحة لتفسير هذه الظواهر وتبريرها جميعا.
ثالثا: نلاحظ أن هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع ففرصة وجود تلك الظواهر كلها مجتمعة ضئيلة جدا. بمعنى أنه على افتراض عدم صحة الفرضية تكون نسبة احتمال وجودها جميعا إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل ضئيلة جدا.
رابعا: نستخلص من ذلك أن الفرضية صادقة ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.
خامسا: إن درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسيا مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعا إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل على افتراض كذب الفرضية. فكلما كانت هذه النسبة أقل كانت درجة الإثبات أكبر حتى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة درجة اليقين الكامل بصحة الفرضية وفقا للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي “. ( [4] )
فأساس اليقين المعتبر وفق هذه النظرية ذاتي صرف انبناءا على مذهب ارتضى له العلامة الصدر اسم ( المذهب الذاتي ) ف ” في رأي المذهب الذاتي معارف أولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة، وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم.
وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الموضوعي.
وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي” ( [5] ). والتوالد الموضوعي المتحدث عنه يعني أنه متى ما وجد تلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، أما التوالد الذاتي فيعني أنه بالإمكان أن تنشأ معرفة ويولد علم على أساس معرفة أخرى، دون أي تلازم بين موضوعي المعرفتين، وإنما يقوم التوالد على أساس التلازم بين نفس المعرفتين.
صحيح أن النظرية تتقوم على أساس دراسة الظواهر والخلوص إلى نتيجة فرضية تثبت صحتها، لكنها في العام لا تكون مطابقة للواقع بقدر ما هي استقراء له بشكل انتزاعي، وهو أمر كان منطقيا ونهاية طبيعية لأنها ارتكزت على مواضيع ميتافيزيقية، لكنه يمكن أن تسير قدما إلى اليقين الموضوعي الخارجي في مجال البحوث السياسية الدولية, هذا ما سوف نسعى لبحثه في العنوان الثاني.
ومن هنا أصل الإعضال الاستدلالي للمحورين، ذلك أن الجمهورية الإسلامية في إيران بعد الثورة سنة 1979 ومن يتماهى مع تصورها الجيوسياسي والدولي، بنت لنفسها مبصارا استقرائيا مختلفا عن المألوف المناطقي، لأنها رجعت إلى منطق استقراء السلوكات الدولية كمكون ثانوي، وحاولت الإمساك بالملاك الماهوي للنظام الدولي ولدينامية القوى الكبرى بالشكل الأساس، مما حذا بها إلى تشكيل بنية تصديقية تساعدها في الحفاظ على بوصلة ” الرؤية ” دون ارتهان إلى التصريحات الرسمية والدبلوماسية العالمية، بمعنى أن الاستقراء هم ” الماهيات ” لا التشكلات السياسية للقوى الكبرى، ومن هنا نفهم معنى الأقنمة السياسية للكيان الصهيوني، كدولة شيطان أصغر لازمة الزوال، والولايات المتحدة الأمريكية كشيطان أكبر يجب التوجس من كلماته وسلوكاته الإغوائية.
فالإمام الخميني قدس سره الشريف في مسألة تشخيص حالة الولايات المتحدة الأمريكية رجع إلى تأصيلها على أنها كائن بهيمي ” إن كيان أمريكا كلّه يدور حول محور هذه الأمور الحيوانية “الاصطياد”; فهذه البلدان لابدّ وأن تبتلعها أمريكا، وكل مَنْ يتفوّق في هذا المضمار يحوز قصب السبق من مجلس الشيوخ الأمريكي، بينما كل مَنْ يحول دون ذلك فهو مجرم في نظر هذا المجلس، وهذا هو أقصى ما يفهمونه. ” (22/4/1979) ( [6] ) وهو نفس ما كرره الإمام القائد السيد علي خامنئي حفظه الله ورعاه ” انظروا كم هو البعد الشاسع بين الخليج الفارسي وأراضي الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنهم لم يجدوا مصالح لهم إلا هنا وفي هذه المنطقة مع كل هذا البعد! وهم لا يعبأون بما إذا كان العقلاء والمنصفون ورجال القانون في العالم يوافقون على ذلك أم لا، لأنهم لا يستندون إلا إلى قوتهم الحيوانية. (20/4/1988) ” ( [7] )، كما عاد وصرح ” إنّ القضية ذات الأهمية البالغة هي السيطرة المتزايدة للشيطان الأكبر على ثروات العالم الإسلامي والتواجد السياسي والاقتصادي وحتى العسكري المطّرد في بلدانه؛ فبعد التطورات العالمية الأخيرة التي أسفرت عن سقوط الأنظمة الشيوعية الملحدة وأبعدت الاتحاد السوفيتي عن موقع المنافسة مع أمريكا، عكفت القوة الأمريكية العظمى والمستبدة على جعل كافة بلدان العالم ـ ولاسيّما الدول الإسلامية الغنية ـ تنضوي تحت سيطرتها في غياب المنافس، حتى تتفرغ لشن حربها الشاملة على النهضة الإسلامية ـ التي تمثل عائقاً كبيراً أمام نفوذها ـ وذلك بعد الانتهاء مما يسمى بالحرب الباردة. (16/6/1991) ” ( [8] )، وفي الواقع هناك شواهد كثيرة على نفس الخطاب، مما يؤكد على أن محور المقاومة من جهة رأسيته الإيديولوجية يعتمد مبصارا ماهويا، وعلى أساسه يفسر السلوكات الدولية للقوى الكبرى وخصوصا تصرفات الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه من ناحية الامتداد الجغرافي يمارس استقراءا سلوكيا محضا من جهة مقبولية الكائنات الدولتية الطبيعية في الجغرافيا الشرق الأوسطية.
لكن في محور الاعتدال واقعا لم يستطع أن يتفق على الرؤية الماهوية، بقدر ما ركز على السلوكات والتصرفات الدولية، والتي من خلالها كون قناعاته الإقليمية والدولية، فهي لا تمارس واقعا عملية الاستقراء إلا على أساس المواقف الرسمية الدولية، ولا تتعقب السلوكات خارج دائرتها الجغرافية، مما يجعل يقينها يرتفع إلى محورية الخطاب الرسمي والسلوكات الرسمية، دون غيرها سواء الواقعة خارج ” البيئة الجغرافية الأساس ” أو التي وقعت داخل البيئة، لكن يتم تبريرها بالخلفية التأريخية للأزمات الإقليمية.
خصوصا بعد أن سلم ملفه الأمني الإقليمي للولايات المتحدة الأمريكية بعد أزمة الخليج الأولى، هو من يمارس الهندسة الإيديولوجية الأمنية وهو من يحمل الثكنات إلى الداخل في شبه الجزيرة العربية كآلية حمائية من مجمل الاستعداءات.
إلا أنه وعلى ضوء تشخيص الثنائية الشميتية المشهورة في العلوم السياسية صديق / عدو، عادوا يقاربون الكائنات الدولتية العدوة للولايات المتحدة الأمريكية وفق إطار ماهوي، لا وفق سلوكياتها وسياساتها الرسمية، مهجوسين بشرعنة العلاقات الدولية الخارجية.
مما أدى إلى ارتفاع احتقان ثنائي الإعضال، نوضحه وفق التفصيل الآتي:
الجمهورية الإسلامية في إيران ماهوية الاستقراء للقوى الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، وقائعية الاستقراء للكائنات الدولتية الطبيعية بالمنطقة.
دول شبه الجزيرة العربية وقائعية الاستقراء للقوى الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، ماهوية الاستقراء للجمهورية الإسلامية في إيران.
مما يجعل من التواصل الجيو سياسي ليس منقطعا وحسب، بل تصادميا في النهاية، ودائرة الاقتناع الململمة من آليات الاستقراء تضع طرفي العلاقة على حدي النقيض، رغم أن الجميع يتحدث عن حسن النوايا وسعي نحو المشاركة الإقليمية.
والحال أن البعد المنطقي الطبيعي هو الاستقراء الوقائعي للكائنات الدولتية في المنطقة، لأن الامتداد الجغرافي والخلفية التأريخية كفيلتين بجبر ” معامل التخوف ” إلا إذا كان المعامل النفسي السياسي هو المستحكم، تحت ” معامل العداوة ” وحسب.
فالمحصلة أن المحورين كونا يقينيات تصديقية موضوعية مرجوعها إلى النفس، مما يجعل من عملية ” التوافق ” على رؤية موحدة شبه مستحيلة، بل وضدية تعاكسية بالأساس.
العنوان الثاني: الفعل التواصلي المبنائي السياسي:
إن المعادلة الانعكاسية على الأقل كما تصورها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور تظل مفيدة جدا في إعادة بناء آلية الوصل المبنائي السياسي كما نقترحه.
مجمل نظريته تتأسس على إجراء مصالحة جذرية بين التيارين الفكريين الغربيين على أساس ميوله الفكرية والتي تركزت على ثلاث مدارس فلسفية تأثر بها كثيرا ” ألا وهي مدرسة تفكر الذات ( الذات العاقلة ) في الذات PHILOSOPHIE REFLEXIVE ، وهي المدرسة التي أنشأها فيخته وسار عليها جان نابير، ومدرسة علم الظاهرات أو الفلسفة الظاهراتية ( الفينومينولوجيا ) التي أسسها هوسرل وانتمى إليها هايدغر من بعد أن طوعها لخدمة البحث عن معنى الكينونة في الإنسان أولا، ومن ثم في اللغة، وأخيرا في الكينونة عينها، ومدرسة الفلسفة التحليلية الناشطة في الفضاء الثقافي الأنكلوساكسوني”. ( [9] )
فالتفكر الذاتي في الذات المفكرة ينبغي أن يعتمد اللغة والتفكر داخل اللغة، بتعميق النظر فيها واستيعاب تعابيرها حتى تنكشف ذوات الغير، مع وجود صعوبة في ذلك لأن اللغة بطبيعتها غامضة مبهمة وملتبسة بل حتى أنها تخفي الكثير من المضمرات، لذلك يقتضي فعل التفكر نظرا في طبيعة اللغة، أي التسلح بمنهج قوي في التأويل يتيح للإنسان المتفكر أن يعالج معالجة نقدية مستنيرة الالتباس الذي يكتنف اللغة في كل تجلياتها. فالواضح أن المسلكية التي يعتمدها ريكور تتلخص في التفكر الذاتي بتوسط اللغة كظاهرة تحتاج لتأويل حتى تنضبط منهجية فهمها، فالفلسفة التفكرية الذاتية تتحرك قصدا في نطاق الفلسفة الظاهراتية الهوسرلية ليضحي الجميع تعبيرا هيرمنيوطيقيا لهذه الفلسفة الظاهرية وإن بتنقيح بسيط.( [10] )
” لا يمثل نقد هيرمنيوطيقا المثالية الهوسرلية سوى القفا السلبي لبحث موجه في اتجاه إيجابي أضعه هنا تحت عنوان: ” الظاهرية الهيرمنيوطيقية” والقابل للبرمجة والإعداد. لا يزعم البحث الحالي تشغيل – جعل – هذه الظاهرية الهيرمنيوطيقية: بل يقصر نفسه على توضيح إمكانياتها بالذهاب، من ناحية، إلى أنه فيما وراء نقد المثالية الهوسرلية، تبقى الظاهراتية هي افتراض الهيرمنيوطيقا المتعذر تجاوزه: ومن أخرى، إلى أنه ليس بوسع الظاهراتية أن تطبق برنامجها المتعلق بالتشكل دون أن تشكل نفسها في هيئة تأويل ما لحياة الأنا” ( [11] )
فريكور قد وجه انتقادا إلى طريقة هايدغر لمقاربة الوجود والكينونة مسميا إياها بالسبيل القصير ( [12] )، مستعيضا بطريق جديد أسماه بالسبيل الطويل مبينا إياه: ” إن الطريق الطويل الذي أقترحه يطمح هو أيضا أن يبلغ بالتفكر إلى مستوى الأنطولوجيا ( علم الكينونة أو علم الوجود ). ولكنه يبلغ إليه بلوغا متدرجا فيراعي تعاقب مقتضيات علم المدلولات ( السيمانطيقا )، ومن ثم التفكر. وإن الشكل الذي أفصح عنه في ختام هذا المقطع لا يصيب إلا إمكان الإتيان بعلم الكينونة مباشر ( أنطولوجيا مباشرة )، منعتق في الأساس من كل تطلب منهجي، ومنعتق بنتيجة ذلك من دائرة التأويل التي ينشئ هو لها نظريتها.” فالواضح أن ريكور يصر على ضرورة الإعتماد الدائم على معطيات اللغة ومعطيات التفكـر في الــذات العارفـة. ( [13] )
خلاصة الانتقاد أن هايدغر يصل إلى نتائج انتزاعية بدون توسط معرفي يراه ريكور ضروريا من منهج ونضح لغوي.
ذلك أنه ” بدلا من السؤال عن الشرط الذي به يمكن الذات العارفة أن تفهم نصا من النصوص، أو أن تفهم التاريخ، يجري السؤال عن جوهر الكائن الذي يقوم فعل الفهم في صلب كينونته. وهكذا تصبح مسألة الهرمنيوطيقا جزءا من تحليل بنية هذا الكائن، أي الإنسان ” الكينونة القائمة ” DASEIN الذي يوجد في حال الفهم ” ( [14] ) والملاحظ أنه عين العيب الذي آخذه عليه غادامر فقط من حيثية أخرى، وهي أن ريكور يرى بأن هايدغر انتزاعي رامي إلى إثبات الكينونة، أما غادامر فيراه غير مبال بحجية المنهج الفهمي التي يمر عليها مرور الكرام والتي يراها كمسبقة إثباتية لمحورية الكينونة.
يخلص الأستاذ الزين إلى أن الفيلسوف ريكور يعتمد على طاقة اللغة في الإشتقاق ” عندما يصبح الفهم COMPRENDRE هو إدراك أو مسك PRENDRE شامل وجماعي COM لشيء ما. وهو ما يسميه PRENDRE-ENSEMBLE بمعنى COM-PRENDRE، وهو سانكروني أو تزامني أكثر منه دياكرونيا أو تعاقبيا لأنه يخص بنية الفهم وصيغة الإدراك. وبعده التعاقبي يصبح الفهم هذه العلاقات الكائنة بين الوحدات المؤسسة لحياة ما مثل السيرة الذاتية أو البيوغرافيا كإدراك شامل لحياة المؤلف في ضوء تجاربه المعيشة وتصوره للعالم. العلاقة بين التفسير والفهم يراها ريكور في المعنى الأنطولوجي كمجاوزة لا مناص منها إفلاتا من نسق العلامات المغلق ( البنيوية ) أو المتعاليات الحدسية والمجردة ( الفينومينولوجيا ). ليس التفسير سوى وسيط يربط فهم العلامة بفهم الذات، لكنه وسيط له أهميته إلى درجة اختزال الفهم إلى مجرد تفسير صحيح ومعالجة دقيقة للنصوص أو الرموز أو العلامات بمعنى الفهم بوصفه مسألة سطحية “. ( [15] )
زبدة الكلام بهذا الخصوص أن التفسير لا يعدو أن يكون مسلكا علائميا للتعامل مع النص ولا يمكن أن يعتبر فهما بالمعنى الصحيح للكلمة. فالفهم تفاعل للذات العارفة مع العلامات والرموز والإشارات بتوسط التفسير والتي لا يمكن أن تكون إلا دلالية.
فالمعول عليه في التأويل هو ” البحث في ثنايا النص عن حركة داخلية تنظم وتنسق الأثر وعن طاقة هذا الأثر في سبق ذاته أو الإندفاع خارج ذاته في سبيل إيداع عالم هو مادة النص أو شيئيته. وهذه الحركة المزدوجة ( الدينامية الداخلية والقصدية البرانية ) تؤسس ما يسميه ريكور ” نشاط النص ” أو العمل الفعلي للنص “. ( [16] )
بقيت الإشارة إلى أن هذا الطريق الذي اختاره الفيلسوف ريكور محاولا تجاوز مزالق غادامر الذي ظل خاضعا لهواجس كل من ديلثاي ( حل مسألة أصل العلوم الإنسانية والأصح القول الروحية ) وهايدغر ( علم الكينونة ) كانت ناجحة إلى أقصى الحدود.
فالفهم عند هانز غيورغ غادامر لا يشير إلى علم التأويل أو قواعده، ولا إلى المنهج المعرفي للعلوم الإنسانية كما هو عند ديلثي، إنما هي فعل فلسفي نواته: كيف تتيسر عملية الفهم وتكون ممكنة؟ ثم ما هو الفهم؟( [17] )
ذلك أنه لا يرى من موجبات المعرفة في العلوم الإنسانية اعتماد النهج المنطقي الاستقرائي الباحث عن القواعد والأحكام والقوانين المستندة إلى الملاحظة التجريبية ( [18] )، بل يرى الأقرب لهذه المعرفة هو الإستقراء الوجداني النفسي، حيث تبنى توجه الفيلسوف هيرمان هيلمهولتس بخصوص المعرفة في العلوم المتعلقة بالروح. عند هيلمهولتس الإستقراء في هذه العلوم تكون مرتكزة على التجربة الذاتية النفسية والبعد التاريخي للمعرفة بخلاف الإستقراء القائم في العلوم الطبيعية الذي لا يهتم كثيرا بهذه الوجدانيات وكذا بالحركة التاريخية لأن التجربة تكون وليدة الفرضية، وإذا نجحت فقد نجحت كمعيار استقرائي علمي في المستقبل، بخلاف المعارف الروحية التي تتركز على البعد الفردي الوجداني وكذا الحركة التاريخية. ( [19] ) والفيلسوف غادامر تبنى نفس الطرح بل حتى أنه طفق ينتقد الفيلسوف ديلتي لتأثر هذا الأخير بالتوجه الفلسفي الوضعاني وإن بشكل نسبي لأنه يشير بالحرف إلى أنه ” عند ديلتي الذي تأثر كثيرا بمنهجية العلوم الطبيعية والتجريبية ذات أساس منطق ميل، فإنه يهتم إلى حد ما بمفهوم الروح، فالإرث الرومانسي والمثالي الذي يملكه في مواجهة التجريبية الإنجليزية، ذلك أنه لم يتوقف قط عن الإحساس بالزهو لأنه يعيش داخل الاستقراء الحي والذي يميز المدرسة التاريخية عن أي طريق من التفكير متعلق بالعلوم الطبيعية أو القانون الطبيعي. ( [20] )
فانتصاره لرأي الفيلسوف هيلمهولتس راجع إلى النشأة الفكرية التي عرفها غادامر ذلك أنه كان مهتما ولسنوات خلت بالفن والآداب بل حتى أن هذا المبحث ضمنه في الباب الأول المتعلق بتجربة الفن، حيث يرى الحس المرهف والتوجه النفسي هو المفتاح الأساس للتعاطي معها، وهو عين ما حاول إثباته في مقام التأسيس لنظريته في الهيرمنيوطيقا رادا بذلك طروحات ديلتي الذي كان واقعا تحت نير التوجه الوضعاني في الفلسفة.
واقعا آلية الاستفهام الريكورية مساعدة أكثر في تجاوز الإعضال الوجداني الذي يحكم منطقة الشرق الأوسط، وينهي أزمة الدلالة السياسية للتصريحات والسلوكات، إلا أن البعد التأريخي للفهم الذي دافع عنه الفيلسوف غادامر يظل أداة مساعدة في استيعاب الكثير من الخطابات والعلائم والإشارات الجيوسياسية التي تتحرك في قلب جغرافية الشرق الأوسط، وعليه فالفهم بما هو فعل تاريخي، لا يمكن أن يتعاطى مع الخطاب إلا في سياق متطلبات العصر، ولهذا فإن الفهم يرتبط دائما بالزمن الحاضر، ولا وجود له خارج التاريخ. وأن المفسر مهما سمت همته يظل له فهما خاصا يختص بعصره يجب أن لا ينفك عنه، بل لا يستطيع ذلك. ( [21] ) فخلافا لرأي المذهب الفلسفي التاريخي الناشط في القرن التاسع عشر، رأى غادامر أن تاريخية انتساب الإنسان إلى الزمان والمكان تهيئ له القدرة على الفهم الأفضل، عوضا أن تكون هي العائق في تعطيل عملية الفهم. ( [22] )
كما أن تاريخ الفعل يصيب أعماق الفهم الإنساني بحيث لا يستطيع الإنسان أن يسيطر عليه أو أن يفرغ من الإحاطة به. وكلما أدرك الإنسان في وعيه الأعمق حقيقة الأثر الذي ينشئه تاريخ الفعل في فهمه لواقع التعابير الإنسانية المتنوعة، أيقن أنه خاضع للتاريخ خضوعا يستحيل معه الإلمام بشمولية هذا الخضوع. فليس من فهم إنساني من دون فعل صريح للتاريخ يضبط هذا الفهم ويوجهه. ولشدة تأثير هذا الوعي في مسرى الفهم الإنساني، قال فيه غادامر إنه أكثر من وعي للتاريخ بل قل إنه كينونة التاريخ في جـوهـر قوامه. ( [23] )
فتجاوز المنطق الاستقرائي الغالب في المنطقة وبالخصوص عند الدائرة الاعتدالية، إلى منطق الاستفهام الأنطولوجي المرتكز على الأصل الجغرافي، يساعد كثيرا في تدبير الأزمات البينية، وينهي حالة الاحتقان ” المصطنعة ” واقعا، مع التركيز على أن السقف التأريخي يكون مرجوعه إلى ” المعاصرة ” لا إلى جلب ذلك المكنز التأريخي الطويل، لأنه سيؤدي إلى انفصام في الدائرة الهيرمنيوطيقية الأساس فالدورة الهيرمنيوطيقية عند غادامر ” تدور حول ثلاثة أقطاب: المؤلف التاريخي، والمفسر الذاتي، والنص في معناه الكلي. وهي دائرة لا تنتهي وكل سؤال فيها يؤدي إلى سؤال جديد. فالمفسر يتحرك حركة دائبة من الفهم المسبق للنص، ومن معاني تاريخية متغيرة إلى الظرف التاريخي للمفسر. ومن المفسر إلى التعاطف العقلي مع المؤلف وهكذا في حركة لا تنتهي. وربما تكون الدائرة الهرمنيوطيقية هذه هي أهم ما تبرز فيه المفارقة بين منهج التأويل ومنهج البنائية القائم على النظام ” ( [24] )
وهذه الحلقة الهيرمنيوطيقية عند غادامر هي مقتبسة مع شيء من التنقيح عن دورة هايدغر ذلك أنه في مقام النقض والبناء يوضح غادامر بأنه ” سوف نعمل على أخذ التوصيف الممنوح للدائرة الهيرمنيوطيقية عند هايدغر، حتى نعمل على الاستفادة منها بخصوص الدلالة الأساسية الحديثة والتي تكستبها بنية الدائرة، حيث ما كتبه هايدغر ” لا يمكننا تجاهل هذه الدائرة والتي نصفها بالمفرغة، فالدائرة تستبطن في داخلها الإمكانية الإيجابية لمعرفة الشيء الأصلي، فلا يمكننا الإستفادة من هذه الدائرة بشكل جيد إلا إذا جعلنا التفسير هو هاجسها الأول والدائم والأخير وأن لا نجعل مكتسباتنا، أو مسبقاتنا المتعلقة بالرؤية والتمكن، خاضعة لتخمينات أو مفاهيم شعبية. ولكن بتأمين الأمانة العلمية بحملها على الفهم المتأتي من الأشياء ذاتها”. ( [25] )
فغادامر يرى بأن هذا الكلام لا يمنحنا رؤية عملانية لآلية الفهم، ولا حتى يعطينا دليلا على وجود هكذا دورة بقدر ما يدافع عن الإيجابية الأنطولوجية لها، والحال أن ما أقدم على قوله هايدغر يظل من مستلزمات الفهم فأي مفسر يحترم نفسه لا بد له من أن يتخلص من الأفكار المسبقة الغير الصحيحة والمبتسرة ويتعاطى مع الموضوعة بتجرد أكبر( [26] )” ما يعبر عنه هايدغر ليس تعليمة مخصصة لممارسة الفهم، وإنما يصف بالأحرى نمط إنجاز التأويل الذي يبتغي إرادة الفهم. لا تكمن عتبة التفكير الهيرمنيوطيقي الهيدغري في تبيان وجود حلقة ( الفهم ) وإنما كيف تنطوي هذه الحلقة على دلالة أنطولوجية إيجابية. يبدو أن هذا الوصف – كما هو – بديهي لكل مؤول يعي جيدا ماذا يصنع.
ينبغي على كل تأويل صحيح أن يتجنب اعتباطية القرارات الطائشة والتحديدات التي تفرضها عادات الفكر المترسخة ويوجه انتباهه إلى الأشياء نفسها ( باعتبارها نصوصا سديدة من منظور الفيلولوجي والتي تعالج بدورها الأشياء نفسها ). ” ( [27] )
فهايدغر يقول ” لا ينبغي الخفض من قيمة الحلقة إلى رتبة حلقة مفرغة بشرط أن نتركها كما هي، تتوارى فيها الإمكانية الإيجابية للمعرفة الأكثر أصالة والتي لا يمكن إدراكها بصورة حقيقية إلا إذا اقتنع التأويل بأن نشاطه الأولي والدائم والنهائي ليس هو التخلي في كل مرة عن مكتسبه المسبق ومدركه وتصوره السابق لصالح نزوات وقرارات طائشة أو تصورات شعبوية وإنما تأمين المحور العلمي انطلاقا من الأشياء نفسها ” ( [28] )
لم يهتم هايدغر بمشكلة الهيرمنيوطيقا والنقد التاريخي، إلا من أجل أن يخرج – في إطار هم أنطولوجي – البنية المسبقة للفهم، وعليه فبمجرد أن تتخلص الهيرمنيوطيقا من العراقيل الأنطولوجية لمفهوم الوضعانية الخاص بالعلم، فإنها تستطيع أن تعيد للفهم بعده التاريخاني ( [29] ) وهذا عين ما حاول غادامر أن يقوم به من خلال تأسيسه لحلقته الهيرمنيوطيقية ” يتعلق الأمر بتركيز النظر على الشيء قصد تجنب كل غواية قد يفرضها المؤول على نفسه. فالذي يريد أن يفهم يشكل نوعا من التصور، ينجزه قبل أن يسقطه على الأشياء. فهو يتصور باستحضار مسبق لمعنى شامل بمجرد ما يظهر المعنى الأصلي ( الأول ) للنص. لكن هذا الأخير لا يظهر بدوره إلا إذا قرأنا النص بنوع من جوانية الإنتظار بخصوص دلالته الدقيقة. إن فهم ما هو موجود هنا يتم عبر إعداد هذا التصور القبلي والمسبق الذي ينبغي أن يخضع للمراجعة المستمرة كلما تقدمنا في اختراق المعنى ” ( [30] )
فبتدوير الفهم إلى هذا السقف سيجر الاطمئنان إلى دائرة الجوار، وبمنطق عقلاني صرف يقطع استدلاليا مع الماهيات المختلفة، لأنه عقلا لا يمكن تدبير المنطقة بالرجوع إلى الماهيات، بل إلى السلوكيات المستفهمة بشكل عقلاني سليم.
فمعادلة الإنعكاسية التي نطمح إليها هي في تسريع وثيرة إحداث تصور عولمي جديد يتحرك في نفس مجال ” التصور القائم ” وينخره من الداخل دون ارتهان معرفي له، بمعنى أنه حركة معرفية جوهرية تظهر النقيضية الذاتية في التصور القائم ليتحول في خضم صراع وجودي إلى تصور جديد أكثر اعتدالا.
ذلك أن تولد ” التصنيفات السياسية ” و ” أقنمة الاصطفافات الإقليمية ” مرجوعه لاعتوار تصوري إن كان له سند في ” المجال الحركي ” إلا أنه مزبور الدليل في ” المجال العولمي ” بما هو مجال صراعي أخذ يفرض نفسه على الجميع.
فالمشكلة الأساس أنه في جغرافية الشرق الأوسط لا يستدخل الشأن العالمي إلا بما هو أرض معركة مصالحية صرف، مما يؤدي إلى تقوية وتجذر الاصطفافات الإقليمية، والإيغال في الأزمات البينية، في حين أن النماذج الإقليمية الناجحة عالميا لا تقرأ إلا في مقام الشعر السياسي، دون صياغة القرارات المحلية، فهذا يتغنى بصلابة الاتحاد الأوروبي، وهذا يبدي إعجابه بالقفزة الصينية، والآخر تجره التحالفات التي تتولد في رحم دول البريكس، كما لو أنها ليست ثمرة الهاجس العولمي نفسه.
لذا يضحي حيويا الاشتغال على مجالين تبصرين في نفس الآن:
أولا، التبصر الاستراتيجي المتحرك من بين مسام الفكر الكبروي الحاكم على العالم ليحقنه بتصور ممانع يجاريه في الاتجاه دون صدام أساسي، وإن كانت ثمة معارك صغيرة تقع في التشخصات.
بمعنى أنه بدلا من التركيز على إسلامية المعارف الإنسانية، يتحول الكائن الممانع إلى خط نقدي فكري وعملاني، مدخلا تفاصيل الفكر الإسلامي كمستلزمات فكرية عقلية تتواءم مع العقل العولمي نفسه، فيكون قد قطع مرحليا مع أصل تولده دون أن يتخلى عن هويته، فبدلا من مفاهيم ” الحرمة ” و ” الحلية ” و ” الكراهة ” ذوات الحمولة الشرعية يستعاض عنهم بأفهومي ” النقض ” و ” الإثبات ” الوجوديان، فما يتهاتر شرعا يتهاتر عقلا، كما أنه ما ينبني شرعا ينبني عقلا.
ليتحول الخطاب العولمي الإقليمي إلى خطاب إنساني عقلاني نقدي في الصميم، يتحرك مع أشياء العالم تحت سقف العقل، ليخلق كوة معرفية كبرى تستطيع أن تناطح التصورات العولمية في حمى المشهد العالمي.
لأنه أضحى مشهدا مفتوحا على المقدرات العقلية بغض النظر عن تلويناتها الإيديولوجية.
ثانيا، التبصر الفعال الذي يتحرك وفق مدار الفاعلية الحضارية في العالم والذي لا يرتهن لا إلى سقف الإيتيقا ولا إلى سقف الأخلاق، فالمشهد العالمي يعرف تصورات كبرى متناقضة جزئيا بهذا الخصوص، وولوج الكائن الإقليمي إلى دائرة هذا الجدل لن ينضج ثمرة، بقدر ما أنه سيحافظ على معامل التميز الوجودي، طبعا لا ندعو إلى التخلي عن الأخلاق والقيم التعايشية لأنها من المكونات الهوياتية الثابتة والإسمنت المقوي لأي التحام.
فالتبصر الفعال هو وعي ذاتي بأن مدار الأمور هو مدى التأثير في المشهد العالمي، ليقوم بتحوير حركة سير التأريخ المعاصر نحو جادة الصواب، والفعالية ليست تصورا يركز في الذهن، ولا صفة يحملها المرء كما الحقيبة، بل هي استراتيجية انهمامية حتى يصير العالم ” أنا ” كبروية، فرؤية الأمة للعالم هي رؤية ذاتية بالضرورة.
فالسير في الأرض سير برهاني لا سعي تعلمي وحسب، ومن هنا يكون للكائن الممانع سلطة معرفية لأن يخلق تيارا وجوديا عولميا، فالجغرافيات العالمية ملئى بالتوجهات النقدية لأصل ” الفكرة ” العولمية كما هي مطروحة، وكما يتم صوغها في المنظمات الدولية والمنظمات الغير حكومية.
ويمكنه من جهة الفعالية الحضارية أن يلملمها تحت ” إطار ” موحد لخلق توازنات عولمية جديدة، بدلا من ارتهانها لأصوات ترفع هنا وهناك دون أثر فعلي.
فالتبصر الاستراتيجي يسمح للكائن الإقليمي الشرق الأوسطي أن يتحرك في ملعب المستكبرين نقضا، والتبصر الفعال يسمح له بالحركة في ملعب المستضعفين تقوية.
هما جناحي حركة لا يتناسب الاستغناء عن أحدهما لفائدة الآخر، ومن هنا الأوسطية بما هي استراتيجية تقاربية للحديات الوجودية تظل نافعة، تساعد في إسقاط التموضعات الحدية لخلق تموضع جديد، وهذا عين ما أسميناه بخلق مشترك إنساني جديد.
ويمكن ابتداءا اعتماد المبادئ السبع للسياسي الصيني المحنك دينغ شياو بينغ الذي فتح الصين على العالم أو العكس فكلاهما يصح عندما أكد على ما يلي: أولا، راقب وحلل التطورات بكل هدوء، وثانيا، تعامل مع التحولات بكل أنة وبسرية تامة، وثالثا، تأمين الوضع الذاتي، ورابعا، إخفاء المقدرات الذاتية وتفادي بقع الضوء العالمية، وخامسا، عدم إثارة الانتباه، وسادسا، لا تضحي قياديا نهائيا، وسابعا، اجتهد في تحقيق الأهداف ( [31] )، لما يسمح بتأصيل جديد للحراك العولمي.
فالمبدأ السادس لا يخلو من أهمية لأن التمدد العولمي يحتاج إلى تشاركية مطلقة بلا شرط، لا التخندق في الهرميات الناسفة لنفسها أولا، قبل أن تنسف غيرها.
والانطلاق من الأسس الثلاث من أجل فاعلية أكبر في العالم الحديث تتقوم على ثلاث: 1 – اعتماد الحكامة المبنية على الكفاءات للقطع مع الأنسجة الاجتماعية التي تعتمد الزبونية والعلاقات الأسرية الفوقية أو ما يتوافق على تسميته MERITOCRACY، 2 – والسلم الأهلي لأنه الفضاء الحيوي الذي يؤدي إلى بناء الأمة كما الدولة في إطار مفتوح ومتعافي من الأزمات المتخندقة في المصلحيات الضيقة، والتي ترتئي الحراك في المستنقعات الأزموية للحفاظ على مصالحها، وخلق احتقان اجتماعي في الغالب ليس في كبير لإزاحة الأنظار على الموضع الأساسي والحيوي للخروج من الأزمات، حتى صارت تأبيد الأزمات خبزا يوميا لهكذا عقليات، 3 – الصراحة بوصفها مقوم أخلاقي عالي الجودة لتدبير المشاكل والأزمات على حد سواء، دون الحفاظ على ذلك الغموض السلبي من سلوكيات اجتماعية هدامة، فلا استقرار يتأصل خارج معامل الصراحة الأخلاقية، وإلا فإن الكائن الممانع بدلا من أن يشتغل على بناء نفسه يقضي عمره في تدبير الأزمات التي تولد أخرى حتى يضيع الشوط التأريخي في صدامات بينية، في الوقت الذي تتقدم فيه دول أخرى خطوات كبيرة إلى الأمام. ( [32] )
ومن هنا بدلا من أن يخضع الكائن الإقليمي الشرق الأوسطي لشرط المكان التولدي ينفتح على الكون بما هو موجود مطوي، تتأثر به جميع الأمكنة.
خاتـمــة:
حاولنا في هذه الورقة المقتضبة أن نمسك ببداية حل عقلاني لمعضلة ” الديك الرومي ” وآلية الاستنصاح الممكنة، حتى تتشكل القناعات وفقا للحقائق السياسية على الأرض، لا المنبعثة من أصل السلوكات الاستقوائية الاستكبارية والبناء لحل وجودي، يكفل القيادة الشرق الأوسطية التشاركية، صحيح أننا لم نتنزل إلى السياسات التي تحكم كل كائن دولتي، لكن أردنا الاشتغال على المقتضى العقلاني المتواءم عليه بالإطباق.
ومن يهتم بالحراكات الفعلية على الأرض، يمكنه أن يطعم خلاصات هذا البحث أو ينقضها.
عبد العالي العبدوني
– نسيم نيكولاس طالب: البجعة السوداء تداعيات الأحداث الغير المتوقعة، الدار العربية للعلوم ناشرون، طبعة سنة 2008 راجع ابتداءا من الصفحة 80 فما يليه.
– يحيى محمد: فهم الدين والواقع، منشورات دار الهادي، سنة 2005، الصفحتان 158 و 159.
– يحيى محمد: ن.م الصفحة 159.
– السيد كمال الحيدري: المذهب الذاتي في نظرية المعرفة، منشورات دار الهادي الطبعة الأولى، 2004 الصفحة 381 و 382. ويمكن مراجعة كتاب العلامة محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء مؤسسة دار الكتاب الإسلامي عن المجمع العلمي للشهيد الصدر سنة 1410 هجري من الصفحة 403 إلى 413.
– الشهيد محمد باقر الصدر: ن.م الصفحة 126.
– أمريكا في فكر الإمام الخميني، دار الولاية للثقافة والإعلام، الطبعة الثانية 1424، الصفحة 15.
– أمريكا في فكر الإمام خامنئي، دار الولاية للثقافة والإعلام، الطبعة الثانية سنة 1424 هجري، الصفحة 20.
– أمريكا في فكر الإمام خامنئي، ن.م الصفحة 16.
ـ مشير باسيل عون:الفسارة الفلسفية – بحث في تاريخ علم التفسير الفلسفي الغربي دار المشرق بيروت ضمن سلسلة المكتبة الفلسفية الطبعة الأولى 2004، الصفحة 156.
ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 157 و 158.
ـ بول ريكور: من النص إلى الفعل– أبحاث التأويل ترجمة: محمد برادة وحسان بورقية، عن عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية الطبعة الأولى سنة 2001 الصفحة 43.
ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 158 وتجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف الفرنسي وصم فسارة هايدغر بالسبيل القصير لأن ” علم كينونة الفهم إذ يعرض عن مناقشات المنهج، يحمل نفسه توا إلى مستوى علم كينونة الكائن المحدود ليستطلع فيه فعل الفهم لا كنمط في المعرفة، بل كنمط في الكينونة ويجري الإنتقال إلى هذا المستوى بتحول مباغت في الإشكالية. فبدلا من السؤال عن الشرط الذي به يمكن الذات العارفة أن تفهم نصا من النصوص، أو أن تفهم التاريخ، يجري السؤال عن جوهر الكائن الذي يقوم فعل الفهم في صلب كينونته.”
ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 159.
ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 158.
ـ محمد شوقي الزين: تأويلات وتفكيكات فصول في الفكر الغربي المعاصر، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى سنة 2001 الصفحة 70 و 71.
ـ محمد شوقي الزين: م.س الصفحة 72.
ـ نصر حامد أبو زيد: إشكاليات القراءة وآليات التأويل المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة 1999، الصفحة 42.
ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 133.
– Hans-Georg Gadamer : Vérité et Méthode – les grands lignes d’une herméneutique philosophique,édition intégrale revue et complétée par Pierre Fruchon, Jean Grondin et Gilbert Merlio, éditions du Seuil.p.21.
– Op.Cit, p.22.
ـ نصر حامد: ن.م الصفحة 42.
ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 136.
ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 141 و 142.
[24] ـ يرجى الرجوع إلى كتاب مشير باسيل عون المنوه به أعلاه بخصوص فسارة غادامر وكذا المقالة الشيقة لأحمد بهشتي.
– Hans-Georg Gadamer : op.Cit, p. 287.
– Hans-Georg Gadamer : op.Cit, p. 287.
ـ هانس غيورغ غادامر: فلسفة التأويل – الأصول. المبادئ. الأهداف. ترجمة محمد شوقي الزين، عن الدار العربية للعلوم ومنشورات الإختلاف والمركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية سنة 2006، الصفحتين 122 و132.
ـ هانس غيورغ غادامر: ن.م الصفحة 122.
– Hans-Georg Gadamer : op.Cit, p. 286.
ـ هانس غيورغ غادامر: ن.م الصفحة 123.
– Kishore Mahbubani : Can asians think, Marshall Cavendish Editions, fourth edition, 2009, p 201 « (1) lengjing guancha, observe and analyse developments calmly; (2) chenzhuo yingfu, deal with changes patiently and confidently; (3) wenzhu zhenjiao, secure our own position; (4) taoguang yanghui, conceal our capabilities and avoid the limelight; (5) shanyu shouzhuo, keep a low profile; (6) juebu dangtou, never become a leader; and (7) yousuo zuowei, strive for achievements »
– استقينا هذه المبادئ الكلية من كتاب كيشور محبوباني المشار إليه أعلاه، وخصوصا من الدراسة المعنونة ب asia’s lost mellennium من الصفحة 42 إلى 45.