web analytics
حول المركز

الهندسة الاستراتيجية

الهندسة الاستراتيجية ودائرة جدوائيتها

– كراس معرفي –

نقصد بالهندسة الاستراتيجية هو ذلك البناء التصوري الذي يستدخل مجمل المتغيرات التخصصية في قلب قراءة الحدث الواحد، أو رسم السياسة الواحدة. حيث إن تجزئة المقاربات على مر التجارب الإنسانية أدت إلى نتائج عكسية سلبياتها أكثر من إيجابياتها. فهي مجهود نظري عملاني يقوم على رسم سيرورة أنساق وآليات وأدوات مادية في نفس الآن بشكل يسمح ببناء مستقبل أكثر حيوية، وتجاوز مضائق الحاضر أو التهديدات التي ترتسم في الأفق.

لكنها عملية بناء تصوري تعتمد كل المؤثرات بشكل آني كما المؤثرات ذات المدى العميق، مهجوسة بخلاصة وجودانية هي تأسيس ضلع القوة ذات النمط العميق إلى جانب باقي الأضلاع المتعارف عليها، من قدرات اقتصادية وديموغرافية وعسكرية وثقافية وغيرها من المكونات الإنسانية المشتركة التي تعرف اختلافا في الكم والكيف، بلحاظ ما هو ثابت عيانا.

لكن الهندسة الاستراتيجية على الأقل كما نسعى إلى الدفاع عنها، ليست مهتمة بالقدرة المادية بمختلف تشكلاتها وحسب، بل هي رائية إلى التأثير الكلياني في الواقع الجيوسياسي والجيوستراتيجي في نفس الآن، هي مشروع اقتدار، تقف أمام التحديات بوعي وترسم آليات الخروج منها بقوة إضافية، كما لو أنها مشروع استشرافي يبني نفسه في الواقع القائم.

ولكي يتناسب رسم ولو صورة تقريبية لمديات الهندسة الاستراتيجية، سوف نسعى إلى تبيين معنى القوة ذات النمط العميق التي نسعى إلى تثبيتها، كما نوضح المقصد من جدلية الاستشراف بالتغيير اللحظي.

القوة ذات النمط العميق:

يتم تعريف القوة بأنها القدرة على تصريف الإرادة السياسية والاستراتيجية لكائن دولتي معين، وقدرة منع الخصم على تمرير إرادته، بمعنى أنها تتحوز جنبتين جنبة ذاتية تمنح لنفسها ما لا ترتضيه لخصمها، حيث تولد من حيث منطقها استقطابا صراعيا وصداميا في نفس الآن ضمن منطق تدبير إرادات.

وهي من حيث هدفيتها تعرف تنوعا عموديا تتوافق مع الساحات التي تشتغل بها، من القوة الصلدة العنفية إلى القوة الناعمة بحيثية الجاذبة إلى القوة الذكية التي تعمل على تدوير طرفي القوة الأولين وفق ساحة موحدة لتحقيق الأهداف بشكل أكبر، فالقوة ليست متحوزة لبعد واحد تطبق في مجمل المجالات، بل أنه صار معلوما أنه في حالة فقدان التشخيص يضحي استعمال القوة مؤديا إلى نتائج عكسية.

يعرف جوزيف ناي القوة بأنها امتلاك كميات كثيرة نسبيا من عناصر كالسكان، والإقليم الجغرافي، والموارد الطبيعية، والقوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، والاستقرار السياسي ” ( [1] ) تتكامل جميعا لتكفل القدرة على فرض التصور ومنع الآخر من الاقتدار عليك فهي عملية ثنائية لا تقوم إذا انتفت إحدى جانبيها.

ومن هنا يكون من المناسب للممانعة أن تشتغل على تنويع مقومات قوتها في جميع المجالات، وعلى رأسها إبداع ” رؤية معرفية ” جديدة تشكل آلية استقراء لكل ما يحدث في العالم وفي المنطقة، وتتحول من مدرسة قتالية ناجحة إلى مدرسة معرفية ناجحة، تكفيها مؤونة تدبير سوء التفاهم الذي يتسع عندما يتم التحرك في المناطق الأكثر حساسية في المنطقة.

كأن تتحرك في وضع نظرية خاصة تساعدها في قراءة المتحولات الدولية والمناطقية خارج التوجهات الفكرية الغربية، وتقوم بتأصيل نظري ” مغلق ” كما النسق الذي يبني نفسه بنفسه.

ونحن سنشتغل على مفهوم جديد للقوة وحيوي في نفس الآن يتوافق مع السقف الاقتداري القائم الآن، دون شطح في وهم القول بالندية الكليانية للقوى العالمية الكبرى، فالمفهوم الذي نسعى إلى تثبيته وهو القوة ذات النمط العميق، هو عملية بناء خارج الآليات الدولية المتعارف عليها، وربما هو المكان الوحيد الذي بقي الأقل اختراقا والأقل إذعانا للسياسات العولمية، مما يفتح كوة حيوية لدخول القوى المتوسطة أو الصغيرة منه إلى عالم اقتداري أقدر على المواجهة بأقل كلفة ممكنة، فالقوة ذات النمط العميق من جهة أنها مطمح حفري راكز في الجغرافيا كهدف قد يستدخل مجمل التنوعات القووية وفق قانون القابلية والاستقبال، يسمح للمكونات الطبيعية على أن تتحرك فيه بأعلى جودة ممكنة، بخلاف المكونات الطبيعية الآتية من الخارج، فهو ” تمكين ” بالقوة يحتاج إلى أن يتحول إلى بالفعل، ولأن الجغرافيا تحولت إلى قانون تخضع له جميع القوى، بل حتى أن السياسات الاستعدائية العالمية لا يمكن إلا أن تتحرك في ظل أصالتها لتنفذ مآربها، فإنها أيضا قانون يحترم أكثر الوجود الطبيعي الأصيل القائم فوقها، لأنه هناك ثمة روح أمة سارية فوقها هندستها على مر التأريخ، وتتحرك فيها كما الفاعلية المتنحية لفائدة الفاعلية السياسية القائمة، لكنها وكأي مورث متنحي في جيل ما، قد يتحول إلى مورث فاعل في جيل لاحق، بعد تولدات فكرانية جديدة تدخله فضاءه العام.

إذ هي قوة تقوم على مبنيين أساسيين، المبنى الجغرافي بوصفه الضرورة الراكزة التي لا يمكن تجاهلها تحت أي شرط وجودي، والمبنى الاستدخالي للمتغيرات البنيوية بحيث أنه يبني شبكة استقواء فعالة خارج إطار العاطفة والتجييش التي أضحت تتلاعب بها الميديا من كل حدب وصوب، وخارج قاعدة التعددية الاجتماعية بما هي حقيقة تأريخية لا تحاول استبعادها، بقدر ما تبحث عن احتوائها. محاولين رفعها إلى سقف المرتكز الحضاري المقاوم والذي لا تنال منه كل الحروب الصلبة منها والناعمة على حد سواء.

فالقوة ذات النمط العميق لا تتوافق مع القوة الناعمة من جهة أنها تبحث عن ثابت ماهوي ذي جنبة حضارية، لا قائمة على الثقافة والاقتصاد وقدرة الجاذبة لكليهما، ولا هي متوافقة مع السقف الذكي للقوة، لأنها وإن كانت تحتك بالوقائع الخارجية إلا أنها تسير عميقا في الوجود الإقليمي، ولا تقف على الوقائعيات الحيوية وحسب.

إلا أن هذا لا يعني عدم أهمية الأشياء المحسوسة والأفكار ذات المقصد الحسي فبطبعهما تتأقلمان مع سقف المقبولية الجغرافية، دون أن تتحولا إلى أقانيم تساعد في بناء عوالم موازية دون حقيقة فعلية على الأرض، ولذلك هي تظل أقوى السبل لتحقيق استراتيجية اقتدارية فاعلة تخالط المختلف الجغرافي دون اجتراح ل ” حساسياته المفرطة “، فتنساب تفصيليا لتلملم تكميماتها داخل الإطار الجغرافي المستهدف ولو بعد حين.

وهذا لا يتحقق إلا بتفكيك الأضلع البنيوية للثقافة المقاومة إلى أضلع عملانية جديدة، وتركها تتحرك وفق مشروطية الجغرافية البرانية، ولو بانفصال شبه تام تقطع مع الهوية الأم ابتداءا، لكنها تحمل خارطتها الجينية حكما، فتتحول إلى فاعل ثقافي تفصيلي في الجغرافيا البرانية بصفتها تلك، لتجر معها استتباعا باقي الأضلع التي تأتي كما المغناطيس مع فارق زمني، تحدده دائرة الرضا الجغرافي بعد التكيف الجديد.

فهذا ما أسميناه ب ” النمط العميق ” archétype به ترسم التصورات الكبرى والمتوسطة، وبه تقرأ مجمل المتحولات، دون ارتهانها إلى جغرافية معينة أو حتى قضية معينة، بل يتحول إلى سياج فكري استراتيجي يسمح بحصانة البيئة الدولية ضد التوغل المعرفي الأمريكي، وفي نفس الآن وبشكل ارتدادي يؤدي إلى حماية البيئة الجوانية.

فتصير جغرافيات الصراع هي من تحدد سقف إمكانية التوغل وكذا كيفيته، لذا يجب على الثقافة المقاومة أن ترسم خارطة طريق ” تشخيصية ” لا متمعيرة، تدرس الأشراط الموضوعية وكيفية رسم انسيابية تفصيلية لها في قلب تلك الجغرافيات، دون استتباعها بباقي التفاصيل، لأن هذه الأخيرة ستدخل وحدها بالقوة إلى أن تتحول إلى بالفعل بعد حدوث تبيئة مناسبة، وفي التوقيت الاستراتيجي المناسب.

كما لو أن هناك ” يد خفية ” تدبر التمظهرات البيئية من تلقاء نفسها ولا تحتاج إلى ترسيمات من أية جهة كانت، بوصف هذه الأخيرة دائما تكون متسرعة لتحقيق النتائج على الأرض، في حين أن اليد الخفية تتحرك بطبيعتها ضمن المقبوليات البيئية وبالسرعة التي تتحرك بها هذه الأخيرة ابتداءا.

كما لو أن الثقافة بنك استثماري ويدرس الأسواق الاستراتيجية المستهدفة وفق سقف قدرتها ومقبوليتها لاستثمار ما، ثم يرمي بقدرته التشخيصية في تلك السوق الاستراتيجية دون تسريع لوتيرة الاستثمار ولا ” نق ” من أجل الحصول على الرابحات، ولا خلق صدام شكلاني قد ” يجمد ” حساباته هناك، بقدر ما يخلق رابطة اقتصادية لا تنفصم حكما بينه وبين تلك الجغرافيات، لتصير دائرة القرار الجغرافي بيده ولو بعد حين.

أمام الثقافة المقاومة تحدي أساسي ألا هو بناء قلاع استراتيجية غير متيسرة الاختراق وبناء جسور فيما بينها لضمان خط إمداد ودعم استراتيجي أساسي، لكنه وفي نفس الآن يجب أن تفهم بأنه قد تحتاج إلى مطارح ترمي فيها الزائد عن الحاجة ويتخلص فيها من أدران ” الصدام الحضاري ” حيث الجغرافيات الجرداء التي لا تثمر أبدا ولا تحمي من لهيب الشمس الصراعية، فليست كل الجغرافيات على نفس الأهمية، بل ثمة جغرافيات كلفتها تعلو حجم الاستثمار بأضعاف مضاعفة ولا تورث إلا كفرا وجحودا لأنها بطبعها هي كذلك.

هذه تصلح لأن تكون مطرحا لتصريف أدران الصدام المعرفي الحضاري، أو لنقل هي أرض للا إنسان NO MAN’S LAND تشكل خلفية ل” كلفة ” الصدام دون احتكاك بها لما فيها من المضار الأساسية.

فالقلاع بوصفها بيئة برانية هي إحدى مرتكزات الثقافة المقاومة في إطار مواجهتها للمد الاستكباري، والتي لا تتحقق إلا باستجماع ثلاث كتل معرفية: الكتلة المبنائية الحضارية، والكتلة المبنائية الممانعة، والكتلة القيمية الصادة للتوغلات الفكرانية الاستكبارية.

فعندما يتم استجماع هذه الكتل في أية جغرافية في العالم نكون أمام قلعة مقاومة، أما الجسور فهي الفعل التواصلي المتماسك بين أصل الجغرافيا المتحركة وباقي القلاع في إطار من التعاون والتشارك العولمي، وكفالة الدعم الأساسي باستمرار.

أما المطارح فهي الجغرافيا العدائية بطبعها والتي لا تقبل لا فعلا تواصليا قيميا ولا حتى لديها مقبولية لكي تكون أرضا ثقافية مقاومة، على هذا المستوى يلزم تحييد هذه الجغرافيا وتصريف الصراع الهامشي فيها وحسب، دون استجلاب هذا الاحتقان إلى قلب القلاع القائمة، بوصفها ساقطة قوويا ويمكن التصرف معها خارج الاستراتيجية الحيوية.

فربما قاعدة كلفة – ربح تكون حاضرة ضمنيا في أصل مقاربتنا، لكنها ضرورية واقعا لترشيد الفعل الاقتداري، بدلا من جلب الأزمات التي تأكل من الزمن والوقت دون طائل أساسي.

ولذلك نحن لن ننزل إلى المستوى التشخيصي في الدراسة بقدر ما سوف نعمل على التعاطي مع الموضوع معرفيا إرائيا دون أن نغفل الإتيان بشواهد عملانية، قد – نقول قد – يساعد في تشكيل بناء استراتيجية كبرى مقاومة، تساعد في رسم السياسات التشخيصية وفق القراءات الميدانية المعنية.

الاستشراف وفق المنطق التغييري اللحظي:

الاستشراف هو عملية ذهنية تتوافق مع المطامح الجمعية التي تريدها أمة ما، وتقوم بوضع مجمل المستلزمات المنهجية والمادية الضرورية لتحقيق هذه المطامح في المستقبل، فهي تختلف عن المستقبليات، والتي تظل علما يوصف مستقبل مجتمع ما بعد عشرين أو ثلاثين سنة إن استمر وفق نفس المنطق الحياتي الذي يعيشه الآن.

بمعنى أن الفارق بين الاستشراف والمستقبليات، أن الأولى تستدخل الثانية بهاجس تغييري حتى لا يقع المحظور الذي ترتسم نهاياته من بداياته اللحظية.

لذلك هي تضحي مجالا وجودانيا غير متوافق مع اللحظة القائمة – بوصفها تبحث عن مستقبل مختلف – وفي كد يومي من أجل تغييره، هي عملية وجودانية أقرب إلى مرحلة الحينونة EN-TRAIN-DEكما طرحها الفيلسوف محمد عزيز الحبابي، فلا هي متوافقة مع اللحظة الحاضرة ولا هي عين المستقبل بل مرحلة زمنية بين – بين.

إذن الجنبة التغييرية تظل هي الصفة الثابتة للهندسة الاستراتيجية، لا تركن للحاضر بما هو قائم، ولا إلى الماضي بما هو إرث فاعل في الحاضر بدرجة أو بأخرى، بل استشراف مكابد عينه على المستقبل المأمول بإمكانيات قائمة حاضرا، قد لا يتم الاهتمام بقدراتها في حينه، فتتحول مع مرور الوقت إلى فرص وسوانح ضاعت هباءا، فقط لأن العين لم تكن عليها في حينه.

ولهذا السبب بالذات تظل الهندسة الاستراتيجية عملا بينمنهجي وبينتخصصي بالضرورة، لأنه بتداخل المناهج الفعالة والتخصصات الإنسانية الضرورية، في قلب قراءة واحدة يتم استثمار القدرات القائمة والتي قد تضيع تحت إسفين العشائريات التخصصية والقبليات المنهجية، حيث تيمة ” العصبية ” تظل هي أكبر مكون سمي يقتل أمة، وييتم أجيالا لاحقة.

وعليه فإنها تنطلق من الأشراط المادية القائمة كما البعد الجغرافي بوصفه آلية حضارية صارمة، وتبني تفاصيل تغييرية مفصلية ممهدة لتغييرات كليانية بالضرورة في المستقبل، تحترم قوانين العمل الجماعي اللحظي لكنها في نفس الآن ترسم اختراقات في البين تسمح بحدوث تغير في المستقبل، كما لو أنها تلعب دور المحول أو المزلقان تسمح بتغيير مسار قاطرة المجتمع، دون كثير أزمات أو صدامات قد تؤدي إلى كسر الموجود الإنساني المحلي من حيث تبحث عن بنائه.

فالهندسة الاستراتيجية هجاس معرفي باحث في القوة ذات النمط العميق ليتوافق مع التحديات المادية التي تعيشها المنطقة، ومجهود معرفي إحيائي يتخلص من أدران العنف المعرفي الرمزي الذي يمارس، وتسير بتبصرين متلازمين.

أولا، التبصر الاستراتيجي المتحرك من بين مسام الفكر الكبروي الحاكم على العالم ليحقنه بتصور ممانع يجاريه في الاتجاه دون صدام أساسي، وإن كانت ثمة معارك صغيرة تقع في التشخصات، فهو تبصر نقدي هادئ يذهب إلى التفاصيل دون صدام جبهي في الكبريات بدون مسوغ عملاني معتبر.

ليتحول الخطاب العولمي الممانع إلى خطاب إنساني عقلاني نقدي في الصميم، يتحرك مع أشياء العالم تحت سقف العقل، ليخلق كوة معرفية كبرى تستطيع أن تناطح التصورات العولمية في حمى المشهد العالمي.

لأنه أضحى مشهدا مفتوحا على المقدرات العقلية بغض النظر عن تلويناتها الإيديولوجية.

ثانيا، التبصر الفعال الذي يتحرك وفق مدار الفاعلية الحضارية في العالم والذي لا يرتهن لا إلى سقف الإيتيقا ولا إلى سقف الأخلاق، فالمشهد العالمي يعرف تصورات كبرى متناقضة جزئيا بهذا الخصوص، وولوج الكائن الممانع إلى دائرة هذا الجدل لن ينضج ثمرة، بقدر ما أنه سيحافظ على معامل التميز الوجودي، طبعا لا ندعو إلى التخلي عن الأخلاق المحمدية لأنها من المكونات الهوياتية الثابتة.

فالتبصر الفعال هو وعي ذاتي بأن مدار الأمور هو مدى التأثير في المشهد العالمي، ليقوم بتحوير حركة سير التأريخ المعاصر نحو جادة الصواب، والفعالية ليست تصورا يركز في الذهن، ولا صفة يحملها المرء كما الحقيبة، بل هي استراتيجية انهمامية حتى يصير العالم ” أنا ” كبروية، فرؤية الأمة للعالم هي رؤية ذاتية بالضرورة.

فالسير في الأرض سير برهاني لا سعي تعلمي وحسب، ومن هنا يكون للكائن الممانع سلطة معرفية لأن يخلق تيارا وجوديا عولميا، فالجغرافيات العالمية ملئى بالتوجهات النقدية لأصل ” الفكرة ” العولمية كما هي مطروحة، وكما يتم صوغها في المنظمات الدولية والمنظمات الغير حكومية.

ويمكنه من جهة الفعالية الحضارية أن يلملمها تحت ” إطار ” موحد لخلق توازنات عولمية جديدة، بدلا من ارتهانها لأصوات ترفع هنا وهناك دون أثر فعلي.

إذ أنه ثمة رؤية غدية حاضرة في العمق، وما نقصده من الرؤية الغدية هو عين ما طرحه الفيلسوف محمد عزيز الحبابي بتحويرات استراتيجية، لأننا نعلم يقينا بأن جميع الحضارات الأخرى تتحسس من ” التغير ” و ” التحولات ” وتنتفض فزعا من حالة بداياتها والتي سماها الفيلسوف محمد عزيز الحبابي EN-TRAIN-DE، لذلك تقف في وجه كل المتحولات التي يمكن أن تهدد هيمنتها، وتعرقل مجهودات باقي الدول في التقدم والاستقلال بقرارها، لأنها ترى التسامح مع هكذا تحولات على أنها إقرار بالهزيمة والنكوص.

ثمة هيراركية تحكم العقل الحضاري الغربي لا تتحرك مبانيه الفكرية الاستراتيجية على أساس الندية والحراك الأفقي، بل تراه حقيقة عمودية تستلزم الريادة للبعض والتابعية للباقي، لذلك يظل مفهوم ” المنتظم الدولي ” مجرد إيتوبيا يتم تسريبها لإقناع الكائنات الدولتية بأوضاعها القائمة وقبولها تحت عنوان ” الأمن والاستقرار الدوليين “.

فكل سعي للاقتدار الوطني قد يفسر على أنه مساس بالاستقرار العالمي، هي أدوار وزعت من فوق وعلى من يوجد تحت أن يقبلها.

وهذه رؤية واقعية فجة لا تتناسب مع الإمكانيات الحيوية الموجودة لدى الدول الوطنية في العالم العربي لتلعب دورا أساسيا في المنطقة. مما يجعلنا ننظر إلى ” الغد ” بكثير من المسؤولية وبكثير من الأمل الواقعي ذاته.

طرح الفيلسوف محمد عزيز الحبابي فلسفة غدية تنبني على علقة إنسانية مع التقنية بوصفها مشروعا لا نهائيا ومفتوحا دائما وأبدا لبناء مستقبل إنساني أفضل تجمع البشرية جمعاء حوله. ( [2] )

فالغدية كما يعرفها الفيلسوف هي ” الدراسة العلمية للغد انطلاقا من الإحصائيات، والاستشرافات.. الحاضرة أو المتوقعة، إنها في قبال المستقبل، مرادفة ل ” التأريخ ” كتخصص يدرس الماضي … إلا أن هدف الغدية يتجاوز الاستشراف لأنها ذات توجه فلسفي وإيتيقي، موضوعها مزدوج: الإنسان كما هو في وضع التأثر والتفاعل الحاضرين، والإنسان المهتم إلى ما يجب فعله. الغدية طرح له هدفين استخراج الخبايا الواقعية لفلسفة من أجل الغد، وفلسفة الغد ” ( [3])

طبعا لن نهتم كثيرا بالمضامين التي أعطاها الفيلسوف الحبابي على أهميتها، لأنها لا تتوافق لا مع الظرفية التأريخية التي نعيشها، ولا مع الهدف من بحثنا، لكننا نود أن نركز على حيوية هكذا مشروع في البناء الاستراتيجي، لأنها تضحي منصة استشرافية صلبة. لها فلسفة تأصيلية تنطلق من الإكراهات الواقعية بغرض تجاوزها في المستقبل والبناء لفلسفة تواصلية من أجل غد تشاركي، ويلزمها تقديم بناء فكري عالي الوضوح لهذا الغرض.

السؤال المنهجي:

المهندس عندما يعمد إلى وضع رسم لبناء مستقبلي فإنه يأخذ بعين الاعتبار أربعة أبعاد أساسية: بعد الطول، وبعد العرض، وبعد الارتفاع، وبعد الزمن. ومن خلال أخذه بهذه الأبعاد الأربع يستطيع أن يضع هندسة لائقة بالجغرافيا موضوع الطرح عنده.

نفس الشيء تقريبا يتقوم في الهندسة الاستراتيجية، فهي لا تهتم بالسياسات الخاصة ولا العمومية، كما لا تعير كبير انتباه للطروحات السياسوية التي ترتهن للحصول على مكاسب وتأشيرة الدخول إلى مركز القرار، بل هي تشتغل على القدرة الجغرافية ومواصفاتها ومدياتها الطولية والعرضية كما أنها تبحث عنصر الزمن من حيثيتين، الحيثية التأريخية لأنها المكنز التصوري الثابت في الجغرافيا، والمساحة الزمنية اللازمة لتحقيق ما تضعه من ترسيمات.

ولذلك هي لا تؤمن لا بالأثاث الدولتي ولا بالتصريف المعرفي ذي الطبخة الإيديولوجية، لكنها تبقى غائية بالأساس، لم تولد إلا لتحقيق هدف ما.

فمن جهة أنها لا تهتم بالأثاث الدولتي بمعنى أنها لا تعير كبير انتباه لمحورية ” الحدود ” الدولتية، بقدر ما تدرس الجغرافيا في قلب المناطق الحدودية أو تسير أبعد من ذلك، لأن الجغرافيا بطبعها لا تعرف حدا سياسيا فكله اعتبار محض، ولذلك هي لا تتوقف إلا حيث تقول لها الجغرافيا أين تتوقف، ولا تسير عميقا إلا حيث يقول لها التأريخ أن تتصعد.

فبالانطلاق من هذين الحقيقتين سوف يكتشف القارئ الكريم، على أن الهاجس الأساس للهندسة الاستراتيجية هو دراسة المشاريع والظواهر وفق بعدين ثابتين وبعد متغير، أما البعدين الثابتين فهو الزخم الجغرافي والزخم التأريخي لأنهما الأكثر استمساكا في اللاوعي الجمعي في الجغرافيات ذات التعدد الديني أو الإثني، والبعد المتغير هو المتحولات السياسية التي ترتسم أو يراد رسمها وفق أجندات معينة، لذلك فالسياسات العمومية أو المخرجات القرارية التي تصدر عن مراكز صنع القرار، هي متغير محض لا يمكن البناء عليها في القراءة العميقة، بقدر ما قد تعتبر هاديا لاستشرافات قصيرة الأمد، وإلا فإن الذهاب أبعد من ذلك يحتاج إلى مراجعة الاستعداد الجغرافي والتأريخي للأمة.

ذلك أن أصل الهاجس الذي تبحث عنه الهندسة الاستراتيجية أي بناء القوة ذات النمط العميق، لا يسمح لها بالتأثر بالواقع الخارجي إلا مرحليا، بل هي تريد تغيير الواقع نحو الرؤية الاستشرافية التي تريده.

فالواقع يضحي سيالا لفائدة التصور المعنائي، مما يجعل من الخطاب الاستراتيجي لكنها وإن تأخذ بالاعتبار للوقائع الجارية على الأرض، إلا أنه يحولها إلى مساحة فرصة اختراقية نحو تصورها الأساس، كما المهندس المعماري الذي يتجاوز بعض العوائق المادية لتحقيق الرسم الهندسي الذي اشتغل عليه ويسعى إلى تحقيقه.

فالمهندس الملم بتخصصه عندما يحاول أن يشيد جسرا فإنه يكون عالما بالمواد التي ستكون هذا الجسر ودارسا لقدرة صلابتها ومواتاتها للظروف، ويكون حاملا لهدف هو الربح المالي، فالمهندس يكون حاملا لتصورين هامين موضوعيين، الأول يتعلق بالوسائل الكفيلة بإتمام المشروع لتحقيق الهدف، والثاني الوسائل الكفيلة بإتمام المشروع وفق المرغوب الثابت في نفسية المهندس، وعندما يقع التطابق بين الواقع الخارجي والإرادة النفسية نكون أمام الحراك الإجتماعي المنطقي وفق المفكر فلفريدو بارتو، أي المطابقة الموضوعية بين الوسائل والهدف إن موضوعيا أو نفسيا. ( [4] )

قائلا بأنه سوف يصف الأعمال بالمنطقية تلك الأعمال التي ترتبط موضوعيا بأهدافها، وليست تلك التي ترتبط بالفاعل الإجتماعي المقدم عليها، أو التي تظل لدى شريحة كبيرة من الناس المطلعين مفسرة ذهنيا وموضوعيا. أما في حالة خلاف ذلك فإن الأعمال تظل لامنطقية دون أن يعني هذا بأنها خالية من المنطق بالمطلق ” ( الفقرة 120 من كتاب المطول في علم الإجتماع ) وقد سعى ريمون آرون إلى تفسير هذا الكلام قائلا بأن ” الأعمال اللامنطقية هي الأعمال التي لا تترابط لا ذهنيا ولا موضوعيا بروابط منطقية “. ( [5] )

والرسم الاستراتيجي يتوافق إلى حد كبير مع هذا السقف فهي تنطلق من المقومات المادية ( الوضع القائم ) والسقف النفساني الذي يتناسب مع الرغبة الجوانية ( الثابت التأريخي والمتحول الاستشرافي )، بسعي جاد نحو تحقيق ما تم رسمه مسبقا، ولذلك نقترح متحولان معرفيان لهما جنبة عملانية، نراها تدخل في هوية الهندسة الاستراتيجية التي ندافع عنها.

متحول الجذمور الاستراتيجي:

عندما عمد كل من جيل دولوز وفيليكس غواتاري لتحرير بحث ” الجذمور ” كانا يودان مناقشة فلسفة اللغة من جهة تشابك المعنى، وتشذرها عكس خلاصات الرسم الخطي الذي كان متحكما فيما قبل فترة ” المنعطف اللغوي ” الأوروبي، فاستعانا بخاصية الجذمور للتأكيد على توجههم الفلسفي الجديد، حيث أنه جذر النبتة التي تتمدد أفقيا تحت التراب لتسمح لنفسها بالتكاثر في محيطها الطبيعي، إلا أنها تمتاز بخاصية معينة من التشبيك بحيث أنه يصعب واقعا تحديد وجهتها ابتداءا، ولا التحكم في حركتها انتهاءا، تتمدد وفق اللحظة الحيوية بشكل لا انتظامي لا مدبر وبتداخل لا يمكن التكهن بمساره لكنها تتهيأ مع ” الجنبة الحيوية ” لتتكاثر بدون سابق تخطيط.

لذلك يراها الفيلسوفان ” منطقة وسطى ” لا بداية لها ولا نهاية، تخلق شبكة من الحركات والتفاعلات بشرط ذاتي. ( [6] )

ونحن ما يهمنا في هذا البحث هو التأكيد على حيوية هكذا طرح، ليس من جهة أنه كان من الأبحاث المبكرة ل ” نظرية الشبكة ” التي تطورت في الأبحاث السيبرنيتيقية لتلج مجال العلوم الإنسانية بعنفوان نظري لا يخفى.

لكن من جهة أنه يؤكد على حيوية ” المجال المحيطي ” وضرورته في تدبير العيش والتمدد، والذي يستعصي على الضوابط الاجتماعية أو قطاع الخدمات الأفقية تحقيقه، فتعقيده من صميم تعقد ” شخصية الإنسان ” التي تتلاعب بها ميكانيزمات عقلية وذوقية على حد سواء، صحيح أنه يحدث أن يصل الكائن الإيماني إلى لحظة ” التدبير الأمثل ” من جهة انصياعه لضوابط فوقية متعالية عقدية تدبر غرائزه، والتي قد تستمر بعملية جهادية ذاتية لا تتوقف أبدا، لكن يصعب أن يتحول الأنموذج الفردي إلى لحظة تكممية أفقية، فدائما ما يكون المحيط الاجتماعي حمال نواقض ذاتية، تجعل مسألة استراتيجية تدبيره هي الأولى في الاعتبار، من تلك الأقانيم الفكرية التي تفرض نفسها ك ” حلال المشاكل “، والتي سريعا ما تتحطم أمام إسفين المنفعيات الجزئية التي تنخر في زوايا لا ينتبه إليها.

ليس مقصودنا التوغل في هذه التفصيلة، لأن هكذا طرح يحتاج إلى مدارسة وبحث يستجمع مجمل خلاصات العلوم الإنسانية والدينية على حد سواء للجواب عنه، لكن ما نحن بصدد بحثه، هو كيفية ” خلق ” جذمور ممانع يتحرك أفقيا من أقصى غرب العالم الإسلامي إلى شرقه والعالم استتباعا، وفق استراتيجية عملانية تتواضع أمام التنظير العالي، ترتفع عن الأفكار الجاهزة التي لا تبقي ولا تذر مجالا للنقد.

في اللحظة العالمية التي أضحينا نعيشها المنبنية على ثقافة السوق وديموقراطية التفاوض التجاري حيث منطق الربح والخسارة هو المتغلب في حاكمية التصور، لم يعد أمام الممانعة إلا أن تبني لحظة إقليمية جديدة مرحليا، متجاوزة حمى الدولة – الأمة، متخلصة من إسفين السيادة الوطنية التي أضحت متهتكة أمام السياسات العولمية، والاشتغال على عولمة ممانعة جديدة، لا تقع تحت منطق التدبير المتوافق عليه من الأبحاث الكلاسيكية، لكن بإضافة تيمة جديدة غير مسبوقة إلى تأريخه. ( [7] )

ف ” اللحظة العالمية ” عند الباحث زكي لعايدي والذي حاول تقديم دراسة استدلالية على أننا بثنا نعيش ثمة لحظة موحدة تقوم على أساس ديموقراطية السوق ” إن اللحظة العالمية ليست مجرد إضفاء طابع الشرعية على إيديولوجية السوق، وعلى ناتجها السياسي، أي الديموقراطية. وإنما هي تأكيد على الارتباط العضوي بينهما إلى درجة قيام علاقة دائرية بين السوق والتنمية والديموقراطية. ” ( [8] ) وقد عرفها ب ” اللحظة التي تتشابك فيها الآثار الجيوسياسية والثقافية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة مع تسارع وتيرة العولمة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، فاللحظة العالمية ليست هي مرحلة ما بعد الحرب الباردة لأن أوروبا على الخصوص من عاشت آثارها الجيوسياسية، ولا مرحلة العولمة لأنها بدأت منذ زمن ليس بالقصير، بل هي تقاطع لهاتين السيرورتين الكبريين ” ( [9] ) تحاول أن تحتوي الأحداث العالمية ضمن معاني قوية، مستقرة ومنسجمة. ( [10] ) بمعنى أنها تتحول إلى جهاز معرفي كبير خالق للمعنى الأساسي العالمي، بتوسط أفكار – قيم تستطيع أن تنظم سير العالم، والتي تتحرك لزوما مع تيمة ” ديموقراطية السوق ” حيث أضحت ميكانيزمات السوق الحر متحكمة في السير الاقتصادي العالمي شمالا وجنوبا، فضلا عن تحطم المباني الإيديولوجية التي يمكن أن تقف أمام هذا التمدد.

وأن اللحظة العالمية لا يمكن أن تقوم إلا باستجماع ثلاثة شروط أساسية، وهي الحدث وعدم الرجعية والانسجام.

ففيما يتعلق بالحدث بما هو مقطع زمني يفصل بين ” الما قبل ” و ” الما بعد ” يجب أن يكون حاملا لقيمة لا لتصنيف تأريخي محض، لأن الما بعد لا يكون ذي أهمية إن لم يكن مشمولا بقيمة جديدة تنضاف إليه بعد دخول الحدث على خط البتر الزمني ( [11] ).

وواقعا ” الحدث ” عرف حراكا وتداخلا وتهميشا وفق التحولات الفكرية التأريخية التي عرفها الغرب، فمن مقام المحورية في المدرسة المنهجية الإسطوغرافية، إلى الدور المتقلص مع مدرسة الحوليات إلى مرحلة التجمد الكلي مع الجيل الثاني للمدرسة، إلى أن ظهر التوجه النقدي الذي أعاد للحدث محوريته في العملية التأريخية، لكن مع فارق أساسي أنه قطع مع مجمل التصورات السابقة إلى أن أدى به الأمر إلى الوصول إلى خلاصة أنه ” لا معنى للقول بأن المؤرخ يطمح إلى استعادة الأشياء كما وقعت، إن هدفه ليس أبدا أن يجعلنا نعيش من جديد الحدث السابق، وإنما أن يعيد تركيب هذا الحدث ويعيد إنشاءه من خلال نظام رجعي فالموضوعية التأريخية تكمن بالضبط في نبذ ادعاء مطابقة الماضي الأصلي، إذ عمل المؤرخ هو بناء نسق الواقع انطلاقا من فضاء المعقولية التأريخية، ومن ثم فإن هذا العمل يهدف قبل كل شيء إلى تربية ذات المؤرخ : ” إذ التأريخ يصنع المؤرخ بالقدر الذي يصنع فيه المؤرخ التأريخ ” بمعنى أن ” مهنة المؤرخ تصنع في آن واحد التأريخ والمؤرخ ” ” ( [12] ).

فالحدث استعاد مكانته في الهندسة المعرفية العالمية، وبدأت على أساسه تجري المراجعات الفكرية، وليس ببعيد عنا أثر حدثين على الترسيمة الاستراتيجية العالمية، حدث سقوط جدار برلين وحدث الحادي عشر من شتنبر، اللذين أديا إلى إعادة تأصيل لفكر إمبراطوري ذاتي التكون ابتداءا بعد انهيار الكتلة الشرقية، وتدخلي إكراهي بعد أحداث نيويورك وواشنطن.

إذ أنه بما هو واقعة مادية خارجية ذات أثر كبير، تؤدي إلى انقلاب في التصورات وفي السياسات، ووحدها الدولة المتمعيرة في التفكير تبقى خارج الأثر التأريخي للوجود الدولي، مما يجعلها قابلة للدهس في أية لحظة من اللحظات.

لذلك التأريخ الحدثي أعاد رزمة من المتحولات الواقعية إلى داخل الفاعلية المعرفية التأريخية، ولم يعد محكوما بسيف الإسطوغرافيا، بقدر ما جعلها تفلسفا إنسانيا جديدا يعتمدها كإواليات استدلالية على الفكرة.

وطبعا قيام الحدث بوصفه فيصل زمني عن الما قبل والما بعد حاملا لقيمة جديدة للسيرورة التأريخية، يستلزم انضمام شرط عدم الرجعية، لأنه واقعا الأحداث التي لا تقطع مع الما قبل قيميا لا تكون حدثا تأسيسيا بالمرة، وإنما متواليات زمنية تعرف تسارعا نوعيا إلى حين مجيء ” الحدث “، ولو أنه عمليا يصعب الارتهان لهذا المعامل، لأنه رغم وقوع الحدث التأسيسي يمكن للعقل السياسي في جغرافيات معينة أن يناوره لكي يؤبد المرحلة السابقة، ويتجاوز ضرباته، فمثلا فيما يتعلق بالموجة الديموقراطية العالمية والتي تتأصل على شكليات انتخابية ومضمون فكري محدد المعالم، ووجود مؤسسات وبنى سياسية خادمة لهذا المشروع الانتقالي، نجد بأن بعض الأنظمة التي حاولت تجاوز إعضالات هذه الموجة، ركزت على شكلانية الانتخابات بما هي إجراءات سياسية، دون إقحام ثقافتها إلى قلب البنى والمؤسسات السياسية المحلية.

أما الشرط الثالث والضروري فهو الانسجام فأي حدث تأريخي لا يمكن أن يكون له دور عملي في السير التأريخي، إن لم يقدم رؤية منسجمة لكل الحراكات الكبرى، وليس بالضرورة وقوع ثمة توافق في التفاصيل.

ولذلك فإن اللحظة العالمية يمكن أن تتحول إلى براديغم جديد، ليس بمعنى أنه جهاز مساعد على اكتشاف الواقع كما هو بل أيضا من جهة ” طرحه طرق جديدة للفعل والتفاعل ” ( [13] ) بما هي رؤية منسجمة، والتي يراها الباحث لعايدي متقومة في إيديولوجية ” ديموقراطية السوق ” من حيث تسارع وتيرة الخوصصة في العالم أجمع، وانفتاح العقلية الاقتصادية العالمية على مداميك السوق، وتحوير كل ذلك إلى رؤية سياسية وجيوسياسية ضمن أقنوم الديموقراطية والتنمية من داخل قوانين السوق.

بمعنى أن ” اللحظة العالمية ” المتقومة على ديموقراطية السوق لم تعد فقط رؤية كاشفة للحراك الدولي، بل آلية فعل وتفاعل داخل المشهد العالمي، إلا أن الباحث لا يستبعد استمرار بعض اللحظات المحلية والإقليمية بوصفها لحظات مقاومة لهذه اللحظة العالمية، أو في أحسن الأحوال قارئة جديدة لها. ( [14] )

ومن هنا يدخل بحثنا هذا المجال لأجل إيجاد لحظة عولمية – قد تتبدى إقليمية – تقوم بحركة عكسية وانعكاسية في نفس الآن، أردناها لحظة ممانعة تتجاوز المشتركات المعرفية الإنسانية لتقوم مقام التأسيس لمشتركات جديدة بعيدا عن الخصوصيات الثقافية والهوياتية في نفس الآن.

إذ أضحى على الممانعة أن ترسل جذمورها بشكل شبكي يتواءم مع المحيط المجالي دون أن يفرض مبدئياته على التربة الاجتماعية التي يتحرك فيها، بقدر ما يمهد إلى غرس ” برعم ” فكراني جديد متقوم على ” العدالة ” الإنسانية في أعلى تصوراتها والمتجاوزة لتفاصيل الإيديولوجيات المستحكمة، دون تأكيد على استعداءات وجودية، إذ أن غرس هذا البرعم التصوري كفيل بالإراءة الذاتية، دون حاجة إلى إلحاح خطابي بمناسبة وبدون مناسبة.

لأنه يخلق حديات شكلانية ( [15] ) دون غوص في العمق، ويخسر خرائط دون كبير ضرورة، ويخنق حركة سير الجذمور في أصل المحيط الاجتماعي الذي يتحرك فيه.

فمعادلة الإنعكاسية التي نطمح إليها هي في تسريع وثيرة إحداث تصور عولمي جديد يتحرك في نفس مجال ” التصور القائم ” وينخره من الداخل دون ارتهان معرفي له، بمعنى أنه حركة معرفية جوهرية تظهر النقيضية الذاتية في التصور القائم ليتحول في خضم صراع وجودي إلى تصور جديد أكثر اعتدالا.

ذلك أن التجاذبات الدولية أضحت على محك ” الفعالية ” وليس ” القوة ” لأن العولمة التي تقوم على ثلاثي أساسي وحوكمي في نفس الآن، هو إقحام الجميع – والاعتماد المتبادل – والحركية .

فإقحام الجميع أنهى مساحة التضاد الإيديولوجي ليفتح كوة في حرية الحركة وحرية التصرف إلى حد كبير، كما أن الاعتماد المتبادل صار القوي يقوم على الضعيف والعكس بالعكس فهي جدلية تناوبية وليست في اتجاه واحد، فالأزمة اليونانية أضحت فاعلة في قلب القدرة الاقتصادية الألمانية وهكذا وضع هو سابقة تأريخية لم يكن لها نظير، أما أن الحركية فهي الآلية الأكثر حضورا في العالم اليوم تفتح الفرص أمام الجميع، لكي يستدرك تأخره التأريخي ويدخل العالم الجديد بعنفوان أكبر، لذلك لم يكن من باب المصادفة ظهور قوى دولتية جديدة استطاعت التغلب حتى على القوى الكبرى، كما الصين الشعبية أو الهند أو البرازيل وغيرها من الدول التي تصنف كدول عالم ثاني.

فالمسألة هي في رسم الأولويات بعيدا عن التخندق ” الصراعي ” وهذا ما تسعى إليه تحديدا الهندسة الاستراتيجية لكن بخلفية ممانعة، لا تريد تماهيا مطلقا مع التيارات الكبرى، لكنها في نفس الآن تمارس مخالطة بدون ممازجة.

طبعاً البعد الروحي يظلّ في قلب الفكر الإسلامي إذا ما تمّ نزع هذه الجنبة تتهدم الأركان المعرفية، وعليه يظل من الحيوي جدا رفع سقف المعرفة الاستراتيجية إلى بعدها الروحي دون خفضها لتوازن القوى أو شيء من هذا القبيل، لأن التداخلات الإقليمية دون ضابطة روحية سوف تؤدي إلى حالة من التيه والغوص في الصغائر ومحاولة الرد عليها.

فيكون من المناسب في هذا المقام رفع مجموعة من المؤسسات الممانعة إلى السقف الروحي، لأن هكذا مؤسسات عرفت انتكاسات عقلانية راجعة لتسقيطها إلى مبحث سياسي أو اجتماعي، والحال أنها من الثوابت الوجودية للدولة، ويجب أن تتمعير إلى درجة عالية من التعاطي. ( [16] )

فالكيانية الممانعة تتحرك معياريا في رحم التزاحمات الوجودية في هذا العالم بما هو ليس ملعبا استراتيجيا لها، بل بما هو مجموعة إعاقات إبيستيمولوجية قبل أن تكون سياسية، عليها أن تخاتله وفق الحد الأدنى الأخلاقي، تحت إسفين العيش النظيري ( [17] ) الذي يكون مداره العقل الإنساني وحده بما هو فيصل تشاركي، دون ارتهان إلى المباني الحقوقية الدولية لأنها ليست وحسب حمالة أوجه، بل حمالة أغراض نقيضة. ( [18] )

فالكينونة الممانعة في العالم تظل مدخولة بالبعد الجماعي في التكليف وغير مرتهنة بعنصر الفردانية، محك الفكر الليبرالي، ذلك أنها توسعت في مقام العرض بعنوان الإنتهاك لأصالة الفرد لمصلحة أصالة المجتمع. بمعنى أن الفردانية لا حق لها إلا بالقدر الذي يكون لها من دور إيجابي داخل المجتمع، ولا يسمح للحقوق الفردية أن تنقلب أزمة للحقوق الإجتماعية، كما عليه الحال في الجغرافيا الليبرالية، وبذلك يتحقق قلب في القراءة يؤدي بالضرورة إلى إعادة ترتيب الأولويات والرؤى الإستراتيجية الكبرى، ولنا عودة بهذا الخصوص لكن بعد أن ننتهي من بسط السبب الثاني.

وثانيها، أنها لا تقبل بالمجريات التأريخية إلا بعنوان أقنمتها للأحداث المحورية والتعامل معها على هذا الأساس، بمعنى أن المباني المعرفية التأريخية والأحداث تتحرّك معيارياً، حيث لا يكون للمكان أو الزمان من دور في بحث القيمة، وهو عين الإستحضار الحضاري للبعد التأريخي الديني.

فالكينونة تتحول إلى آلية للفهم بما هي سعي تعمقي في الكائن هنا، بمعنى أن المنسوب التأريخي والمعارف الخارجية لا تشكل حاكما على الفهم والاستيعاب بقدر ما تكون الكلمة للكائن بما هو هو كآلية للفهم والضبط المعرفي للموجودات الخارجية، فربما الميتا استراتيجيا هي أول خطوة في هذا الطريق لكنها أكيد ليست نهايته فحضور الماورائيات كتصورات في الحراك الاستراتيجي ليست إلا تصورات، في حين أن اندكاكها كمصاديق قائمة الذات هي أكمل صور التعاطي.

مشكلة التمثلات الممانعة في العالم أجمع أنها تجعل من مسقط رأسها مطلع تصورها، فلا تتحرك تنظيريا إلا في سياجه كما لو أن الكون تلملم داخله، واستجمعت شرائط التمكين الإلهي فيه.

وهذا الاعتوار التصوري إن كان له سند في ” المجال الحركي ” إلا أنه مزبور الدليل في ” المجال العولمي ” بما هو مجال صراعي أخذ يفرض نفسه على الجميع.

فالتحركات لم تعد تأتي من على بعد مئات الأميال بل من الآلاف، وغرف العمليات بدأت تقام في القارات الجغرافية ولم تعد على مقربة من ميدان القتال. ( [19] )

وعليه فلا يمكن للكينونة الممانعة التي تتمعير في الوجود أن ترتهن لبضع جغرافيات، ولا يمكن أن تقبل بأن يصير التراب الجغرافي حاكما في أصل كينونتها في العالم كما هو.

إلا أنها ولاعتبارات وجودانية صرف تقوم بإجراء تحولات مقطعية تتواءم مع ” الإطار الجغرافي “، بمعنى أنها لا تفقد هويتها الصلبة أمام زخم الجغرافيا، بقدر ما أنها تعمد إلى تصريف جنبة من جنبات هوياتها لتتواءم مع التربة.

فالجذمور يتحرك بهويته الذاتية التي لها أصل تولدي لكن تطوراته تظل منقطعة جزئيا عن هذا الأصل، ليعيد نشأته وفق الشرط الوجودي المكاني دون مساس ب ” الخارطة الجينية ” له، هو تمثل وجوداني يتوافق مع المحيط المجالي ليس إلا، ابتداءا على أن يعمل بعد النشأة في إعادة موضعة المحيط المجالي وفق أشراطه الذاتية لتقوم باقي المكونات الهوياتية بالتعبير عن نفسها لاحقا.

ومن هنا يتناسب للكائن الممانع أن يتمدد أفقيا في تربة ” جغرافيا الغضب ” ( [20] ) لخلق قاعدة ارتكاز أساس لا يستهان بها في رسم معالم تصور عولمي جديد، تساعده في تقريب التصورات الاستضعافية وتقويتها ككائن وجودي عاضد، في وجه التصورات الاستكبارية التي تحرك في رحمها نقضا ككائن وجودي ناقض لأصل الوجود الإنساني.

فالتبصر الاستراتيجي يسمح للكائن الممانع أن يتحرك في ملعب المستكبرين نقضا، والتبصر الفعال يسمح له بالحركة في ملعب المستضعفين تقوية.

هما جناحي حركة لا يتناسب الاستغناء عن أحدهما لفائدة الآخر، ومن هنا الأوسطية بما هي استراتيجية تقاربية للحديات الوجودية تظل نافعة، تساعد في إسقاط التموضعات الحدية لخلق تموضع جديد، وهذا عين ما أسميناه بخلق مشترك إنساني جديد.

ويمكن ابتداءا اعتماد المبادئ السبع للسياسي الصيني المحنك دينغ شياو بينغ الذي فتح الصين على العالم أو العكس فكلاهما يصح عندما أكد على ما يلي: أولا، راقب وحلل التطورات بكل هدوء، وثانيا، تعامل مع التحولات بكل أنة وبسرية تامة، وثالثا، تأمين الوضع الذاتي، ورابعا، إخفاء المقدرات الذاتية وتفادي بقع الضوء العالمية، وخامسا، عدم إثارة الانتباه، وسادسا، لا تضحي قياديا نهائيا، وسابعا، اجتهد في تحقيق الأهداف ( [21] )، لما يسمح بتأصيل جديد للحراك العولمي.

فالمبدأ السادس لا يخلو من أهمية لأن التمدد العولمي يحتاج إلى تشاركية مطلقة بلا شرط، لا التخندق في الهرميات الناسفة لنفسها أولا، قبل أن تنسف غيرها.

والانطلاق من الأسس الثلاث من أجل فاعلية أكبر في العالم الحديث تتقوم على ثلاث: 1 – اعتماد الحكامة المبنية على الكفاءات للقطع مع الأنسجة الاجتماعية التي تعتمد الزبونية والعلاقات الأسرية الفوقية أو ما يتوافق على تسميته MERITOCRACY، 2 – والسلم الأهلي لأنه الفضاء الحيوي الذي يؤدي إلى بناء الأمة كما الدولة في إطار مفتوح ومتعافي من الأزمات المتخندقة في المصلحيات الضيقة، والتي ترتئي الحراك في المستنقعات الأزموية للحفاظ على مصالحها، وخلق احتقان اجتماعي في الغالب ليس في كبير لإزاحة الأنظار على الموضع الأساسي والحيوي للخروج من الأزمات، حتى صارت تأبيد الأزمات خبزا يوميا لهكذا عقليات، 3 – الصراحة بوصفها مقوم أخلاقي عالي الجودة لتدبير المشاكل والأزمات على حد سواء، دون الحفاظ على ذلك الغموض السلبي من سلوكيات اجتماعية هدامة، فلا استقرار يتأصل خارج معامل الصراحة الأخلاقية، وإلا فإن الكائن الممانع بدلا من أن يشتغل على بناء نفسه يقضي عمره في تدبير الأزمات التي تولد أخرى حتى يضيع الشوط التأريخي في صدامات بينية، في الوقت الذي تتقدم فيه دول أخرى خطوات كبيرة إلى الأمام. ( [22] )

ومن هنا بدلا من أن يخضع الكائن الممانع لشرط المكان التولدي ينفتح على الكون بما هو موجود مطوي، تتأثر به جميع الأمكنة.

متحول التشبيك التصوري لتجاوز معضلة الديك الرومي:

في الولايات المتحدة الأمريكية للديك الرومي حيثية خاصة، ذلك أنه يشكل الطبق الأساسي في بعض الأعياد الوطنية كعيد الشكر، أو الأعياد الدينية، لذلك يعمد الجزار الذي يريد بيع منتوجه من الديكة الرومية بأعلى ثمن ممكن، إلى الاهتمام بهم قرابة الألف يوم ويوم، يطعمهم ويهتم لأحوالهم الصحية قرابة الألف يوم قبل مجيء اليوم الأساسي حيث يعمد إلى ذبحهم وبيعهم.

المشكلة المنطقية التي أقامها الباحث نسيم نيكولاس طالب للاستدلال على عملية ” البجعة السوداء ” أن الديك الرومي يكون قد كون ثقة عالية الجودة بالجزار، لأنه انطلق من مقدمات الرعاية والاهتمام التي تتكرر لأكثر من يوم حتى تصل الألف يوم، ليتفاجئ بأنه وفي ظل أعلى منسوب ثقة ممكنة، يتم ذبحه من قبل الجزار، هذه المفاجئة هي التي تشكل البجعة السوداء. لأنها حقيقة واقعية غير متوقعة نهائيا وفاقا للاستدلال الاستقرائي الذي مارسه الديك الرومي، فمجمل المعطيات التي كان يتحوزها بالذائقة والمعاينة والمتابعة تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي النهاية السعيدة للديك الرومي رفقة الجزار، لا أن يذبح على يدي من رعاه. ( [23] )

صحيح أن البجعة السوداء كانت للديك الرومي، وإلا فإن الجزار ما اهتم بطعامه وصحته إلا ليذبحه ويبيعه محققا رابحات اقتصادية، وهذه الخلفية كانت متحققة من اليوم الأول إلى اليوم الواحد بعد الألف.

لن نناقش البنية التصورية للباحث نسيم طالب، فهو قد اهتم ببناء نظرية للتعاطي مع المعلومات التي لا نملك معرفة كفاية بها، كما اللامعلوم من أساسه، حتى نتجاوز مشاريع البجعات السوداء في المستقبل، وفي مختلف المجالات، بتوسط ضبط لآليات قراءة استفهامية في جميع الاتجاهات ولملمة القرائن المنفصلة والمتصلة وفي كل المجالات.

فالمعضلة الأساس هو أن الاستقراء الذي مارسه الديك الرومي لا يمكن أن يؤدي إلى النتيجة التي وصل إليها أخيرا، ومن هنا تنفتح أزمة ” الاقتناع ” فلو فرضنا جدلا أن ديك رومي آخر أتى لينصح نظيره الأول، بمحاولة الهرب فإنه سيرفض ذلك على اعتبار أن النصيحة لا تتحوز مصاديق خارجية تعضدها بل العكس هو المتحقق، ويمكن أن يستدخل خلفية نفسية جديدة على أن النصيحة مدارها الحسد والغيرة ليس إلا مؤسسا هذا الحكم على أن الناصح هو نظير له في الخلقة وخاضع بدوره لقواعد السلطة التي تحكم المزرعة، وبالتالي قدرته العقلية على التنبؤ بالمستقبل ليس إلا تخمين لا مستند عقلي له، مما يرفع منسوب العداء بين الديك الرومي الناصح والديك الرومي المنصوح، ويتحول الحوار إلى حمل توصيفات قدحية تبادلية لا تزيل أصل الإشكال، بقدر ما أنها سوف تؤبده، ويكون المصير النهائي هو الذبح، وهي الإرادة الأساس للجزار، فكما لو أن الديك الرومي الناصح من حيث لم يرد دعم استراتيجية الجزار في النهاية.

وهذه الأزمة الاستدلالية مرجوعها إلى حركة سير متوازية لا تلتقي واقعا، لأن الخط الأول قائم على لملمة الاستقراءات – وإن كانت التقاطية – للشواهد الدولية تساعد على بناء تصديق قد لا يكون متطابقا حقيقة مع المتحولات العالمية، لأن عملية الاستقراء هي عملية ذهنية تتبعية للشواهد العاضدة لأصل الرغبة النفعية الثابتة كخاصية هوياتية. في حين أن الاستدلال الثاني قائم على قاعدة مبنائية تنطلق من معيار تصديقي عقلاني بالأساس فيبحث إلى أن يجعل الشواهد الخارجية تابعة له. ومن هنا النهجان العقلانيان لا يلتقيان على شيء، إلا إذا استطاع الاستدلال الثاني إلى تغيير حركة الشواهد الخارجية، ليتعقبه الاستدلال الثاني بالتبع، محافظا على نفس المنطق الاستقرائي.

وواقعا يتجاذب منطقة الشرق الأوسط محوران جيواستراتيجيان متنافسان، محور يرى مصلحته في الانضمام إلى نادي الأقوياء العالميين، ويرتهن لخياراتهم الأساسية بوصفه جهازا وظيفيا، يقدم خدمات لوجيستية لتنفيذ هكذا مشاريع، ومحور يرى مصلحته في قوته الذاتية التي يشتغل على بنائها، ولو في إطار صدام أساسي مع المحور الأول، والتي تصرف في أزمات متوسطة أو صغيرة سريعا ما تكبر، مما يجعل المنطقين الاستدلالين يتحركان على سكة واحدة جغرافية بتوازي غير قابل للقاء، في غياب ترسيم سياسة محور الاستقواء الذاتي على الأرض، ليرتفع منسوب الإقناع لدى محور الاستقواء بالغير.

العنوان الأول: الإعضال المنطقي الاستدلالي الاستقرائي:

الاستقراء هو دراسة الجزئيات لإثبات الحكم الكلي، وهو ينقسم إلى قسمين استقراء تام واستقراء ناقص، والاستقراء التام هو بحث جميع الجزئيات بأسرها وصبها في قالب واحد وهو ليس من أوجه الاستدلال والاستنباط، واستقراء ناقص وهو يعد من أقسام الاستدلال إلا أنه لا يدرس جميع الجزئيات.

صحيح أن الاستقراء الناقص لا يفيد العلم بالمعنى الجزمي، إلا أنه يظل مفيدا للعلم جالب للاطمئنان مع تحقق وجود احتمال خطأ النظرية، لكن هذا الاحتمال لا ينتبه إليه، بما هو استدلال بالخاص على العام، يرتكز على الحس والعقل معا في ذلك، لأن الحس يهم الجزئيات القليلة التي تم دراستها، أما العقل فيهم جنبة إصدار الحكم الكلي بشكل انتزاعي، وهنا المعضلة الأساس لأن ” الانتزاع ” هو تكوين القناعة على هامش كبير من الخطأ لنقص المعطيات الاستقرائية الحسية.

يصرح الأستاذ يحيى محمد ” بأن الإدراك العقلي له منظاران، أحدهما قبلي، أي بغض النظر عما عليه الموضوع الخارجي سواء كان نصا أو واقعا، والآخر بعدي يتأسس بما يتزود به من مادة الموضوع المدرك، الأمر الذي تتداخل فيه الدلالتان العقلية والموضوعية، فيصبح بذلك مستنتجا ومضيفا. ففي العملية الاستنتاجية يقوم باستنساخ مفردات الموضوع ليؤلف منها ما يتسق والصورة المنطقية حسب مبادئ قبلية يرتكز عليها من غير أن يبدي إضافة إخبارية قبلية كاشفة عن الموضوع الخارجي، إلا على نحو الإضافة الحسابية التي تؤكدها الدراسات المنطقية وذلك بتحويل درجة الاحتمال المتناهية القوة إلى اليقين طبقا للعملية الاستقرائية، حيث يتم فيها تصفية الحسابات الخاصة للقضية المدركة ضمن ضوابط منطقية، مثل إدراكاتنا التصديقية للقضايا الحسية وما يترتب عليها من نتائج خاصة، وكذا إدراكنا للنصوص الواضحة الصريحة التي لا تحتاج إلى تأمل وحمولة عقلية، ولو على نحو الإجمال. فليس للحساب الاحتمالي أن يصل بذاته إلى اليقين ما لم يتم ذلك بحسب الإضافة العقلية الخاصة. لكن تظل هذه الإضافة التصديقية غاية في الضآلة قياسا مع ما يقابلها من قوة احتمالية، لهذا فهي غير محسوبة ومحسوسة إلا عند النظر المنطقي.” ( [24] ) أوردنا النص على طوله لأنه يشرح بشكل جلي دور المدرك العقلي في التعامل مع الموضوع الخارجي، ويعمل على إيضاح ذلك الميكانيزم الداخلي الدقيق الذي يقوم به العقل بوصفه الدليل الكبروي إذ أن ” المعطى الموضوعي صغرويا في الدليل لا يستغني عن تحكم مبادئ عقلية شاملة وثابتة هي التي تهيمن على عملية الاستدلال والإنتاج المعرفي ” ( [25] ).

فالعقل بما هو موجود متكامل يعرف استقلالية إن مطلقة وإن مقيدة بالموضوع الخارجي، وطبعا هذا التقيد هو موطن تكامله لأنه يتشخص مع المواضيع الخارجية يستنطقها وبحساب الاحتمالات يوقنها..

وهنا رأس الإشكال وهو أن النهج العقلي قد يؤدي إلى تحقيق اليقين الذاتي أو حتى اليقين الموضوعي الذي يهم درجة التصديق التي تتحقق في النفس، لكن الجانب التطابقي مع الواقع فهو مستحيل الحكم عليه هل يتطابق أو لا يتطابق.

والواقع أن أهم من اهتم بهذه الجنبة هو العلامة محمد باقر الصدر قدس الله نفسه الزكية، في بحثه عن طرقية جديدة لتكوين يقين المؤمن بعقائده. والحال أن منهج الشهيد السعيد يهم اليقين الذاتي واليقين الموضوعي المؤدي إلى التصديق المتحقق على مستوى النفس وليس اليقين الموضوعي بجنبته التطابقية مع الواقع في المسألة، ذلك أنه وبعد تفتت اليقين الأرسطي وفقده مصداقية لوجوده، طفق العلامة الصدر على تأسيس منهجية جديدة تبنى على الاستقراء وتكوين القناعة الشبه الجزمية على الأقل على المستوى العقلي، ففي هذا الإتجاه يأتي مشروع الشهيد السعيد محمد باقر الصدر لكي يذب عن حريم الدين من خلال حساب الاحتمالات، مع خلوصه إلى استحالة تحقق اليقين المطلق.

فمنهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات يمكن تلخيصه في الخطوات الخمس التالية:

” أولا: نواجه في مجال الحس والتجربة ظواهر عديدة.

ثانيا: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، بإيجاد فرضية صالحة لتفسير هذه الظواهر وتبريرها جميعا.

ثالثا: نلاحظ أن هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع ففرصة وجود تلك الظواهر كلها مجتمعة ضئيلة جدا. بمعنى أنه على افتراض عدم صحة الفرضية تكون نسبة احتمال وجودها جميعا إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل ضئيلة جدا.

رابعا: نستخلص من ذلك أن الفرضية صادقة ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.

خامسا: إن درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسيا مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعا إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل على افتراض كذب الفرضية. فكلما كانت هذه النسبة أقل كانت درجة الإثبات أكبر حتى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة درجة اليقين الكامل بصحة الفرضية وفقا للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي “. ( [26] )

فأساس اليقين المعتبر وفق هذه النظرية ذاتي صرف انبناءا على مذهب ارتضى له العلامة الصدر اسم ( المذهب الذاتي ) ف ” في رأي المذهب الذاتي معارف أولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة، وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم.

وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الموضوعي.

وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي” ( [27] ). والتوالد الموضوعي المتحدث عنه يعني أنه متى ما وجد تلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، أما التوالد الذاتي فيعني أنه بالإمكان أن تنشأ معرفة ويولد علم على أساس معرفة أخرى، دون أي تلازم بين موضوعي المعرفتين، وإنما يقوم التوالد على أساس التلازم بين نفس المعرفتين.

صحيح أن النظرية تتقوم على أساس دراسة الظواهر والخلوص إلى نتيجة فرضية تثبت صحتها، لكنها في العام لا تكون مطابقة للواقع بقدر ما هي استقراء له بشكل انتزاعي، وهو أمر كان منطقيا ونهاية طبيعية لأنها ارتكزت على مواضيع ميتافيزيقية، لكنه يمكن أن تسير قدما إلى اليقين الموضوعي الخارجي في مجال البحوث السياسية الدولية, هذا ما سوف نسعى لبحثه في العنوان الثاني.

العنوان الثاني: الفعل التواصلي المبنائي السياسي:

إن المعادلة الانعكاسية على الأقل كما تصورها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور تظل مفيدة جدا في إعادة بناء آلية الوصل المبنائي السياسي كما نقترحه.

مجمل نظريته تتأسس على إجراء مصالحة جذرية بين التيارين الفكريين الغربيين على أساس ميوله الفكرية والتي تركزت على ثلاث مدارس فلسفية تأثر بها كثيرا ” ألا وهي مدرسة تفكر الذات ( الذات العاقلة ) في الذات PHILOSOPHIE REFLEXIVE ، وهي المدرسة التي أنشأها فيخته وسار عليها جان نابير، ومدرسة علم الظاهرات أو الفلسفة الظاهراتية ( الفينومينولوجيا ) التي أسسها هوسرل وانتمى إليها هايدغر من بعد أن طوعها لخدمة البحث عن معنى الكينونة في الإنسان أولا، ومن ثم في اللغة، وأخيرا في الكينونة عينها، ومدرسة الفلسفة التحليلية الناشطة في الفضاء الثقافي الأنكلوساكسوني”. ( [28] )

فالتفكر الذاتي في الذات المفكرة ينبغي أن يعتمد اللغة والتفكر داخل اللغة، بتعميق النظر فيها واستيعاب تعابيرها حتى تنكشف ذوات الغير، مع وجود صعوبة في ذلك لأن اللغة بطبيعتها غامضة مبهمة وملتبسة بل حتى أنها تخفي الكثير من المضمرات، لذلك يقتضي فعل التفكر نظرا في طبيعة اللغة، أي التسلح بمنهج قوي في التأويل يتيح للإنسان المتفكر أن يعالج معالجة نقدية مستنيرة الالتباس الذي يكتنف اللغة في كل تجلياتها. فالواضح أن المسلكية التي يعتمدها ريكور تتلخص في التفكر الذاتي بتوسط اللغة كظاهرة تحتاج لتأويل حتى تنضبط منهجية فهمها، فالفلسفة التفكرية الذاتية تتحرك قصدا في نطاق الفلسفة الظاهراتية الهوسرلية ليضحي الجميع تعبيرا هيرمنيوطيقيا لهذه الفلسفة الظاهرية وإن بتنقيح بسيط.( [29] )

” لا يمثل نقد هيرمنيوطيقا المثالية الهوسرلية سوى القفا السلبي لبحث موجه في اتجاه إيجابي أضعه هنا تحت عنوان: ” الظاهرية الهيرمنيوطيقية” والقابل للبرمجة والإعداد. لا يزعم البحث الحالي تشغيل – جعل – هذه الظاهرية الهيرمنيوطيقية: بل يقصر نفسه على توضيح إمكانياتها بالذهاب، من ناحية، إلى أنه فيما وراء نقد المثالية الهوسرلية، تبقى الظاهراتية هي افتراض الهيرمنيوطيقا المتعذر تجاوزه: ومن أخرى، إلى أنه ليس بوسع الظاهراتية أن تطبق برنامجها المتعلق بالتشكل دون أن تشكل نفسها في هيئة تأويل ما لحياة الأنا” ( [30] )

فريكور قد وجه انتقادا إلى طريقة هايدغر لمقاربة الوجود والكينونة مسميا إياها بالسبيل القصير ( [31] )، مستعيضا بطريق جديد أسماه بالسبيل الطويل مبينا إياه: ” إن الطريق الطويل الذي أقترحه يطمح هو أيضا أن يبلغ بالتفكر إلى مستوى الأنطولوجيا ( علم الكينونة أو علم الوجود ). ولكنه يبلغ إليه بلوغا متدرجا فيراعي تعاقب مقتضيات علم المدلولات ( السيمانطيقا )، ومن ثم التفكر. وإن الشكل الذي أفصح عنه في ختام هذا المقطع لا يصيب إلا إمكان الإتيان بعلم الكينونة مباشر ( أنطولوجيا مباشرة )، منعتق في الأساس من كل تطلب منهجي، ومنعتق بنتيجة ذلك من دائرة التأويل التي ينشئ هو لها نظريتها.” فالواضح أن ريكور يصر على ضرورة الإعتماد الدائم على معطيات اللغة ومعطيات التفكـر في الــذات العارفـة. ( [32] )

خلاصة الانتقاد أن هايدغر يصل إلى نتائج انتزاعية بدون توسط معرفي يراه ريكور ضروريا من منهج ونضح لغوي.

ذلك أنه ” بدلا من السؤال عن الشرط الذي به يمكن الذات العارفة أن تفهم نصا من النصوص، أو أن تفهم التاريخ، يجري السؤال عن جوهر الكائن الذي يقوم فعل الفهم في صلب كينونته. وهكذا تصبح مسألة الهرمنيوطيقا جزءا من تحليل بنية هذا الكائن، أي الإنسان ” الكينونة القائمة ” DASEIN الذي يوجد في حال الفهم ” ( [33] ) والملاحظ أنه عين العيب الذي آخذه عليه غادامر فقط من حيثية أخرى، وهي أن ريكور يرى بأن هايدغر انتزاعي رامي إلى إثبات الكينونة، أما غادامر فيراه غير مبال بحجية المنهج الفهمي التي يمر عليها مرور الكرام والتي يراها كمسبقة إثباتية لمحورية الكينونة.

يخلص الأستاذ الزين إلى أن الفيلسوف ريكور يعتمد على طاقة اللغة في الإشتقاق ” عندما يصبح الفهم COMPRENDRE هو إدراك أو مسك PRENDRE شامل وجماعي COM لشيء ما. وهو ما يسميه PRENDRE-ENSEMBLE بمعنى COM-PRENDRE، وهو سانكروني أو تزامني أكثر منه دياكرونيا أو تعاقبيا لأنه يخص بنية الفهم وصيغة الإدراك. وبعده التعاقبي يصبح الفهم هذه العلاقات الكائنة بين الوحدات المؤسسة لحياة ما مثل السيرة الذاتية أو البيوغرافيا كإدراك شامل لحياة المؤلف في ضوء تجاربه المعيشة وتصوره للعالم. العلاقة بين التفسير والفهم يراها ريكور في المعنى الأنطولوجي كمجاوزة لا مناص منها إفلاتا من نسق العلامات المغلق ( البنيوية ) أو المتعاليات الحدسية والمجردة ( الفينومينولوجيا ). ليس التفسير سوى وسيط يربط فهم العلامة بفهم الذات، لكنه وسيط له أهميته إلى درجة اختزال الفهم إلى مجرد تفسير صحيح ومعالجة دقيقة للنصوص أو الرموز أو العلامات بمعنى الفهم بوصفه مسألة سطحية “. ( [34] )

زبدة الكلام بهذا الخصوص أن التفسير لا يعدو أن يكون مسلكا علائميا للتعامل مع النص ولا يمكن أن يعتبر فهما بالمعنى الصحيح للكلمة. فالفهم تفاعل للذات العارفة مع العلامات والرموز والإشارات بتوسط التفسير والتي لا يمكن أن تكون إلا دلالية.

فالمعول عليه في التأويل هو ” البحث في ثنايا النص عن حركة داخلية تنظم وتنسق الأثر وعن طاقة هذا الأثر في سبق ذاته أو الإندفاع خارج ذاته في سبيل إيداع عالم هو مادة النص أو شيئيته. وهذه الحركة المزدوجة ( الدينامية الداخلية والقصدية البرانية ) تؤسس ما يسميه ريكور ” نشاط النص ” أو العمل الفعلي للنص “. ( [35] )

بقيت الإشارة إلى أن هذا الطريق الذي اختاره الفيلسوف ريكور محاولا تجاوز مزالق غادامر الذي ظل خاضعا لهواجس كل من ديلثاي ( حل مسألة أصل العلوم الإنسانية والأصح القول الروحية ) وهايدغر ( علم الكينونة ) كانت ناجحة إلى أقصى الحدود.

فالفهم عند هانز غيورغ غادامر لا يشير إلى علم التأويل أو قواعده، ولا إلى المنهج المعرفي للعلوم الإنسانية كما هو عند ديلثي، إنما هي فعل فلسفي نواته: كيف تتيسر عملية الفهم وتكون ممكنة؟ ثم ما هو الفهم؟( [36] )

ذلك أنه لا يرى من موجبات المعرفة في العلوم الإنسانية اعتماد النهج المنطقي الاستقرائي الباحث عن القواعد والأحكام والقوانين المستندة إلى الملاحظة التجريبية ( [37] )، بل يرى الأقرب لهذه المعرفة هو الإستقراء الوجداني النفسي، حيث تبنى توجه الفيلسوف هيرمان هيلمهولتس بخصوص المعرفة في العلوم المتعلقة بالروح. عند هيلمهولتس الإستقراء في هذه العلوم تكون مرتكزة على التجربة الذاتية النفسية والبعد التاريخي للمعرفة بخلاف الإستقراء القائم في العلوم الطبيعية الذي لا يهتم كثيرا بهذه الوجدانيات وكذا بالحركة التاريخية لأن التجربة تكون وليدة الفرضية، وإذا نجحت فقد نجحت كمعيار استقرائي علمي في المستقبل، بخلاف المعارف الروحية التي تتركز على البعد الفردي الوجداني وكذا الحركة التاريخية. ( [38] ) والفيلسوف غادامر تبنى نفس الطرح بل حتى أنه طفق ينتقد الفيلسوف ديلتي لتأثر هذا الأخير بالتوجه الفلسفي الوضعاني وإن بشكل نسبي لأنه يشير بالحرف إلى أنه ” عند ديلتي الذي تأثر كثيرا بمنهجية العلوم الطبيعية والتجريبية ذات أساس منطق ميل، فإنه يهتم إلى حد ما بمفهوم الروح، فالإرث الرومانسي والمثالي الذي يملكه في مواجهة التجريبية الإنجليزية، ذلك أنه لم يتوقف قط عن الإحساس بالزهو لأنه يعيش داخل الاستقراء الحي والذي يميز المدرسة التاريخية عن أي طريق من التفكير متعلق بالعلوم الطبيعية أو القانون الطبيعي. ( [39] )

فانتصاره لرأي الفيلسوف هيلمهولتس راجع إلى النشأة الفكرية التي عرفها غادامر ذلك أنه كان مهتما ولسنوات خلت بالفن والآداب بل حتى أن هذا المبحث ضمنه في الباب الأول المتعلق بتجربة الفن، حيث يرى الحس المرهف والتوجه النفسي هو المفتاح الأساس للتعاطي معها، وهو عين ما حاول إثباته في مقام التأسيس لنظريته في الهيرمنيوطيقا رادا بذلك طروحات ديلتي الذي كان واقعا تحت نير التوجه الوضعاني في الفلسفة.

واقعا آلية الاستفهام الريكورية مساعدة أكثر في تجاوز الإعضال الوجداني الذي يحكم منطقة الشرق الأوسط، وينهي أزمة الدلالة السياسية للتصريحات والسلوكات، إلا أن البعد التأريخي للفهم الذي دافع عنه الفيلسوف غادامر يظل أداة مساعدة في استيعاب الكثير من الخطابات والعلائم والإشارات الجيوسياسية التي تتحرك في قلب جغرافية الشرق الأوسط، وعليه فالفهم بما هو فعل تاريخي، لا يمكن أن يتعاطى مع الخطاب إلا في سياق متطلبات العصر، ولهذا فإن الفهم يرتبط دائما بالزمن الحاضر، ولا وجود له خارج التاريخ. وأن المفسر مهما سمت همته يظل له فهما خاصا يختص بعصره يجب أن لا ينفك عنه، بل لا يستطيع ذلك. ( [40] ) فخلافا لرأي المذهب الفلسفي التاريخي الناشط في القرن التاسع عشر، رأى غادامر أن تاريخية انتساب الإنسان إلى الزمان والمكان تهيئ له القدرة على الفهم الأفضل، عوضا أن تكون هي العائق في تعطيل عملية الفهم. ( [41] )

كما أن تاريخ الفعل يصيب أعماق الفهم الإنساني بحيث لا يستطيع الإنسان أن يسيطر عليه أو أن يفرغ من الإحاطة به. وكلما أدرك الإنسان في وعيه الأعمق حقيقة الأثر الذي ينشئه تاريخ الفعل في فهمه لواقع التعابير الإنسانية المتنوعة، أيقن أنه خاضع للتاريخ خضوعا يستحيل معه الإلمام بشمولية هذا الخضوع. فليس من فهم إنساني من دون فعل صريح للتاريخ يضبط هذا الفهم ويوجهه. ولشدة تأثير هذا الوعي في مسرى الفهم الإنساني، قال فيه غادامر إنه أكثر من وعي للتاريخ بل قل إنه كينونة التاريخ في جـوهـر قوامه. ( [42] )

فتجاوز المنطق الاستقرائي الغالب في المنطقة وبالخصوص عند الدائرة الاعتدالية، إلى منطق الاستفهام الأنطولوجي المرتكز على الأصل الجغرافي، يساعد كثيرا في تدبير الأزمات البينية، وينهي حالة الاحتقان ” المصطنعة ” واقعا، مع التركيز على أن السقف التأريخي يكون مرجوعه إلى ” المعاصرة ” لا إلى جلب ذلك المكنز التأريخي الطويل، لأنه سيؤدي إلى انفصام في الدائرة الهيرمنيوطيقية الأساس فالدورة الهيرمنيوطيقية عند غادامر ” تدور حول ثلاثة أقطاب: المؤلف التاريخي، والمفسر الذاتي، والنص في معناه الكلي. وهي دائرة لا تنتهي وكل سؤال فيها يؤدي إلى سؤال جديد. فالمفسر يتحرك حركة دائبة من الفهم المسبق للنص، ومن معاني تاريخية متغيرة إلى الظرف التاريخي للمفسر. ومن المفسر إلى التعاطف العقلي مع المؤلف وهكذا في حركة لا تنتهي. وربما تكون الدائرة الهرمنيوطيقية هذه هي أهم ما تبرز فيه المفارقة بين منهج التأويل ومنهج البنائية القائم على النظام ” ( [43] )

وهذه الحلقة الهيرمنيوطيقية عند غادامر هي مقتبسة مع شيء من التنقيح عن دورة هايدغر ذلك أنه في مقام النقض والبناء يوضح غادامر بأنه ” سوف نعمل على أخذ التوصيف الممنوح للدائرة الهيرمنيوطيقية عند هايدغر، حتى نعمل على الاستفادة منها بخصوص الدلالة الأساسية الحديثة والتي تكستبها بنية الدائرة، حيث ما كتبه هايدغر ” لا يمكننا تجاهل هذه الدائرة والتي نصفها بالمفرغة، فالدائرة تستبطن في داخلها الإمكانية الإيجابية لمعرفة الشيء الأصلي، فلا يمكننا الإستفادة من هذه الدائرة بشكل جيد إلا إذا جعلنا التفسير هو هاجسها الأول والدائم والأخير وأن لا نجعل مكتسباتنا، أو مسبقاتنا المتعلقة بالرؤية والتمكن، خاضعة لتخمينات أو مفاهيم شعبية. ولكن بتأمين الأمانة العلمية بحملها على الفهم المتأتي من الأشياء ذاتها”. ( [44] )

فغادامر يرى بأن هذا الكلام لا يمنحنا رؤية عملانية لآلية الفهم، ولا حتى يعطينا دليلا على وجود هكذا دورة بقدر ما يدافع عن الإيجابية الأنطولوجية لها، والحال أن ما أقدم على قوله هايدغر يظل من مستلزمات الفهم فأي مفسر يحترم نفسه لا بد له من أن يتخلص من الأفكار المسبقة الغير الصحيحة والمبتسرة ويتعاطى مع الموضوعة بتجرد أكبر( [45] )” ما يعبر عنه هايدغر ليس تعليمة مخصصة لممارسة الفهم، وإنما يصف بالأحرى نمط إنجاز التأويل الذي يبتغي إرادة الفهم. لا تكمن عتبة التفكير الهيرمنيوطيقي الهيدغري في تبيان وجود حلقة ( الفهم ) وإنما كيف تنطوي هذه الحلقة على دلالة أنطولوجية إيجابية. يبدو أن هذا الوصف – كما هو – بديهي لكل مؤول يعي جيدا ماذا يصنع.

ينبغي على كل تأويل صحيح أن يتجنب اعتباطية القرارات الطائشة والتحديدات التي تفرضها عادات الفكر المترسخة ويوجه انتباهه إلى الأشياء نفسها ( باعتبارها نصوصا سديدة من منظور الفيلولوجي والتي تعالج بدورها الأشياء نفسها ). ” ( [46] )

فهايدغر يقول ” لا ينبغي الخفض من قيمة الحلقة إلى رتبة حلقة مفرغة بشرط أن نتركها كما هي، تتوارى فيها الإمكانية الإيجابية للمعرفة الأكثر أصالة والتي لا يمكن إدراكها بصورة حقيقية إلا إذا اقتنع التأويل بأن نشاطه الأولي والدائم والنهائي ليس هو التخلي في كل مرة عن مكتسبه المسبق ومدركه وتصوره السابق لصالح نزوات وقرارات طائشة أو تصورات شعبوية وإنما تأمين المحور العلمي انطلاقا من الأشياء نفسها ” ( [47] )

لم يهتم هايدغر بمشكلة الهيرمنيوطيقا والنقد التاريخي، إلا من أجل أن يخرج – في إطار هم أنطولوجي – البنية المسبقة للفهم، وعليه فبمجرد أن تتخلص الهيرمنيوطيقا من العراقيل الأنطولوجية لمفهوم الوضعانية الخاص بالعلم، فإنها تستطيع أن تعيد للفهم بعده التاريخاني ( [48] ) وهذا عين ما حاول غادامر أن يقوم به من خلال تأسيسه لحلقته الهيرمنيوطيقية ” يتعلق الأمر بتركيز النظر على الشيء قصد تجنب كل غواية قد يفرضها المؤول على نفسه. فالذي يريد أن يفهم يشكل نوعا من التصور، ينجزه قبل أن يسقطه على الأشياء. فهو يتصور باستحضار مسبق لمعنى شامل بمجرد ما يظهر المعنى الأصلي ( الأول ) للنص. لكن هذا الأخير لا يظهر بدوره إلا إذا قرأنا النص بنوع من جوانية الإنتظار بخصوص دلالته الدقيقة. إن فهم ما هو موجود هنا يتم عبر إعداد هذا التصور القبلي والمسبق الذي ينبغي أن يخضع للمراجعة المستمرة كلما تقدمنا في اختراق المعنى ” ( [49] )

فبتدوير الفهم إلى هذا السقف سيجر الاطمئنان إلى دائرة الجوار، وبمنطق عقلاني صرف يقطع استدلاليا مع الماهيات المختلفة، لأنه عقلا لا يمكن تدبير المنطقة بالرجوع إلى الماهيات، بل إلى السلوكيات المستفهمة بشكل عقلاني سليم.

فمعادلة الإنعكاسية التي نطمح إليها هي في تسريع وثيرة إحداث تصور عولمي جديد يتحرك في نفس مجال ” التصور القائم ” وينخره من الداخل دون ارتهان معرفي له، بمعنى أنه حركة معرفية جوهرية تظهر النقيضية الذاتية في التصور القائم ليتحول في خضم صراع وجودي إلى تصور جديد أكثر اعتدالا.

ذلك أن تولد ” التصنيفات السياسية ” و ” أقنمة الاصطفافات الإقليمية ” مرجوعه لاعتوار تصوري إن كان له سند في ” المجال الحركي ” إلا أنه مزبور الدليل في ” المجال العولمي ” بما هو مجال صراعي أخذ يفرض نفسه على الجميع.

فالمشكلة الأساس أنه في جغرافية الشرق الأوسط لا يستدخل الشأن العالمي إلا بما هو أرض معركة مصالحية صرف، مما يؤدي إلى تقوية وتجذر الاصطفافات الإقليمية، والإيغال في الأزمات البينية، في حين أن النماذج الإقليمية الناجحة عالميا لا تقرأ إلا في مقام الشعر السياسي، دون صياغة القرارات المحلية، فهذا يتغنى بصلابة الاتحاد الأوروبي، وهذا يبدي إعجابه بالقفزة الصينية، والآخر تجره التحالفات التي تتولد في رحم دول البريكس، كما لو أنها ليست ثمرة الهاجس العولمي نفسه.


ـ جوزيف س ناي ( الإبن ): مفارقة القوة الأمريكية ـ لماذا لا تستطيع القوة العظمى الوحيدة في العالم اليوم أن تنفرد في ممارسة قوتها ؟ ترجمة محمد توفيق البجيرمي، مكتبة العبيكان، سنة 2003، الصفحة 31 و 32.

– Mohamed Aziz Lahbabi : Le Monde De Demain, Le Tiers-Monde Accuse ; Dar Al Kitab, 1980. P :21.

– Mohamed Aziz Lahbabi : Op.Cit, pp 25 et 26.

– Raymond Aron : Les étapes de la pensée sociologique T :2 Idéa Cérès éditions, 1994. pp : 504-505.

– Raymond Aron : op.cit, p 505.

– Gilles Deleuze et Félix Guattari : Rhizome (introduction), Les Editions Minuit, 1976.

ـ سنرجئ بحث هذه التيمة إلى حين الانتهاء من الاستدلال الأوسطي للموضوع، نقول أوسطي لأنه لن ينحاز لقانون الواقع بوصفه الأدنى، ولا إلى التمعير النظري بوصفه الأعلى، يتحرك بينهما بمخاتلة تغييرية في نفس الآن، فدائما كانت الأوسطية أجدى الحلول الفكرية والتدبيرية، ونقول غير مسبوقة لأننا لم نقف عليها بعد في الكتابات، فقد تكون موجودة ولم نطلع عليها قبلا، فإن كانت هفوة فهي هفوة شخص قليل الاطلاع.

ـ زكي العايدي: المعنى والقوة في النظام العالمي ( دراسة ) ضمن العمل الجماعي تحت إشرافه ” المعنى والقوة في النظام العالمي الجديد “، ترجمة سوزان خليل، عن دار سينا للنشر سنة 1994، الصفحة 41.

– Zaki Laidi : Le Temps Mondial- Enchainements, disjonctions et médiation. Les Cahiers de ceri, numéro 14, 1996, p 6.

– Zaki Laidi : Op cit, p 7.

– Zaki Laidi : Op cit,pp 17 et 18.

[12] ـ ـ السيد ولد أباه: التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو، طبعة الدار العربية للعلوم الطبعة الأولى سنة 1994، الصفحتان 39 و 40.

– Zaki Laidi : Op cit, p 22.

– Zaki Laidi : Op cit, p 30.

– نقصد بالحديات الشكلانية تلك التموضعات التي تخلقها الجغرافيات السياسية لنفسها، بناءا على تصورات كبرى، من قبيل أن ” ألف ” يستعدي ” باء ” وأنا لا مصلحة لي في استعداء الأخير، فأضطر لضرب كشط وجودي عن ” ألف ” رغم أنه يتحوز تصورات إضافية مفيدة استراتيجيا، لكن اعتماده ولو في هذه الجنبة، قد يفهم موافقة على أصل مبدئه الاستعدائي.

– هناك مؤسسات ممانعة خنقت حراكها بتعقب التصورات المنفعية الدولتية دون تثبت استراتيجي عميق، فحاولت ركوب موجة الربيع العربي للحصول على منافع سياسية ذات أهمية، لكنها لم تعر كبير انتباه إلى سقف التداخل المصلحي العولمي، والتي سريعا ما غيرت الخارطة السياسية المؤقتة، لتنكفئ هذه المؤسسات إلى تموقعات رمادية لا هي حافظت على خطها الجهادي الأخلاقي ولا هي نالت ما أرادته من مناوراتها المتسرعة.

– يقول أمير المؤمنين سلام الله عليه ” الإنسان نوعان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق “، وكما هو بين أن ثمة جهازين حضاريين ينشأن جنبا إلى جنب لا يتداخلان فيما بينهما، إذ لكل صنف إنساني منظومة متكاملة من التعايش، لا يستدخل بعضها البعض الآخر، ولو تحت السقف الشرعي، بالأحرى تحت السقف العقلي.

– تحت عنوان حماية الإنسان ظهرت مجموعة من الأجهزة الحقوقية العنيفة التي ترى حق التدخل العسكري لأغراض إنسانية، والتي تعاني من خلل ليس فقط تشخيصي – كما ينحو إلى ذلك الكثير – بل مبنائي جعل أقلاما قانونية كبيرة تقف في وجهه، كهانس كوكلر وأوليفي كورتن ومارتي كوسكينييمي ودافيد كينيدي وغيرهم كثير، لكنه رغم ذلك بدأ يجد طريقه إلى التطبيق من داخل قبة مجلس الأمن.

– واقعا المقاومة كمؤسسات بدأ يحكمها تصوران، إما وضع بقعة ضوء على منطقة الصراع وضرب كل عدو يدخل هذا المجال، بما هي رؤية استراتيجية تساعد في تجنب إضاعة القوة في تعقبات خارجية، وهو التصور الغالب، وتصور يبني على تعقب الحراك الخارجي الدولي لاستباق العدوان في داخل بقعة الضوء، ويمكن أن نقول بأن حزب الله اللبناني تحول من التصور الأول إلى التصور الثاني مباشرة بعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي، عندما أيقن بأن غرف العمليات الأخطر تقع على مسافات بعيدة من أرض العمليات، وهو تفوق يحسب له بعكس باقي التنظيمات التي لا زالت مرتهنة لبقعة الضوء، لذلك لم يكن مستغربا أن يبادر إلى جهاد استباقي حتى لا تقوم روافع قتالية ثقيلة على مقربة من أرض العمليات.

ـ جغرافيا الغضب كتاب رائع للأنتروبولوجي الهندي أرجون أبادوراي.

– Kishore Mahbubani : Can asians think, Marshall Cavendish Editions, fourth edition, 2009, p 201   « (1) lengjing guancha, observe and analyse developments calmly; (2) chenzhuo yingfu, deal with changes patiently and confidently; (3) wenzhu zhenjiao, secure our own position; (4) taoguang yanghui, conceal our capabilities and avoid the limelight; (5) shanyu shouzhuo, keep a low profile; (6) juebu dangtou, never become a leader; and (7) yousuo zuowei, strive for achievements »

– استقينا هذه المبادئ الكلية من كتاب كيشور محبوباني المشار إليه أعلاه، وخصوصا من الدراسة المعنونة ب asia’s lost mellennium من الصفحة 42 إلى 45.

– نسيم نيكولاس طالب: البجعة السوداء تداعيات الأحداث الغير المتوقعة، الدار العربية للعلوم ناشرون، طبعة سنة 2008 راجع ابتداءا من الصفحة 80 فما يليه.

– يحيى محمد: فهم الدين والواقع، منشورات دار الهادي، سنة 2005، الصفحتان 158 و 159.

– يحيى محمد: ن.م الصفحة 159.

– السيد كمال الحيدري: المذهب الذاتي في نظرية المعرفة، منشورات دار الهادي الطبعة الأولى، 2004 الصفحة 381 و 382. ويمكن مراجعة كتاب العلامة محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء مؤسسة دار الكتاب الإسلامي عن المجمع العلمي للشهيد الصدر سنة 1410 هجري من الصفحة 403 إلى 413.

– الشهيد محمد باقر الصدر: ن.م الصفحة 126.

ـ مشير باسيل عون:الفسارة الفلسفية – بحث في تاريخ علم التفسير الفلسفي الغربي دار المشرق بيروت ضمن سلسلة المكتبة الفلسفية الطبعة الأولى 2004، الصفحة 156.

ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 157 و 158.

ـ بول ريكور: من النص إلى الفعل– أبحاث التأويل ترجمة: محمد برادة وحسان بورقية، عن عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية الطبعة الأولى سنة 2001 الصفحة 43.

ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 158 وتجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف الفرنسي وصم فسارة هايدغر بالسبيل القصير لأن ” علم كينونة الفهم إذ يعرض عن مناقشات المنهج، يحمل نفسه توا إلى مستوى علم كينونة الكائن المحدود ليستطلع فيه فعل الفهم لا كنمط في المعرفة، بل كنمط في الكينونة ويجري الإنتقال إلى هذا المستوى بتحول مباغت في الإشكالية. فبدلا من السؤال عن الشرط الذي به يمكن الذات العارفة أن تفهم نصا من النصوص، أو أن تفهم التاريخ، يجري السؤال عن جوهر الكائن الذي يقوم فعل الفهم في صلب كينونته.”

ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 159.

ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 158.

ـ محمد شوقي الزين: تأويلات وتفكيكات فصول في الفكر الغربي المعاصر، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى سنة 2001 الصفحة 70 و 71.

ـ محمد شوقي الزين: م.س الصفحة 72.

ـ نصر حامد أبو زيد: إشكاليات القراءة وآليات التأويل المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة 1999، الصفحة 42.

ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 133.

– Hans-Georg Gadamer : Vérité et Méthode – les grands lignes d’une herméneutique philosophique,édition intégrale revue et complétée par Pierre Fruchon, Jean Grondin et Gilbert Merlio, éditions du Seuil.p.21.

– Op.Cit, p.22.

ـ نصر حامد: ن.م الصفحة 42.

ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 136.

ـ مشير باسيل عون: ن.م الصفحة 141 و 142.

[43] ـ يرجى الرجوع إلى كتاب مشير باسيل عون المنوه به أعلاه بخصوص فسارة غادامر وكذا المقالة الشيقة لأحمد بهشتي.

– Hans-Georg Gadamer : op.Cit, p. 287.

– Hans-Georg Gadamer : op.Cit, p. 287.

ـ هانس غيورغ غادامر: فلسفة التأويل – الأصول. المبادئ. الأهداف. ترجمة محمد شوقي الزين، عن الدار العربية للعلوم ومنشورات الإختلاف والمركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية سنة 2006، الصفحتين 122 و132.

ـ هانس غيورغ غادامر: ن.م الصفحة 122.

– Hans-Georg Gadamer : op.Cit, p. 286.

ـ هانس غيورغ غادامر: ن.م الصفحة 123.

المفكر المغربي عبد العالي العبدوني

إغلاق