دراسات وأبحاث
الكائن الدولتي في المجتمع التعددي بين تدوير الهويات وتدبير المتوحد
الكائن الدولتي في المجتمع التعددي
بين تدوير الهويات وتدبير المتوحد
لا يكاد مجتمع ما إلا وأن يعيش ضمن حالة من التعددية والتي تظل من إحدى كمالاته، لكنها في نفس الآن قد تنقلب إلى واقع مرير في حالة انعدام الفعل التواصلي الذي يكفل لها تدبير مشاكلها أو أزماتها البنيوية.
فتعددية المجتمع تأتي حاملة لتشذر الهوية بمعنى أنها تعيش تعددا في الهويات التحتية أو التي يمكن أن نسميها بالهويات اللينة، قد يتخندق البعض في إطارها ليقلبها كسيف ديموقليس على رقاب الباقي، لتضحي معامل أزمة قد تنسف برهان العيش المشترك.
طبعا هذه حقيقة تأريخية ومعاصرة في نفس الآن لما نشهده وخصوصا بعد التحولات الأخيرة من انسداد أفق التواصل بين هذه الهويات التحتية ( إثنية، دينية، إيديولوجية … ) وارتفاع منسوب القلق من ضعف التعايش بينها، والتي في الغالب يتم تصريف أزماتها عنفا إن رمزيا أو واقعيا.
نحن في هذه الورقة لسنا في مقام تشخيص أزمة العيش المشترك بين الهويات التحتية، بقدر ما سنسعى إلى منح تصور فلسفي سياسي واستراتيجي لإمكانية إزالة فتيل الأزمات المرتبطة ب ” التعددية “.
وعلى هذا الأساس جاء بحثنا مشطرا إلى قسمين، خصصنا القسم الأول إلى لزومية خلق هوية وطنية عليا أو صلبة تمتص احتقانات الهويات التحتية أو اللينة ( العنوان الأول ) قبل بحث أفق ال ” أنا ” وال ” أنت ” في إطار تدبير المتوحد كما سطر معالمها الفيلسوف ابن باجة ( العنوان الثاني ) لنختم البحث بإراءة كليانية لمضامين العيش المشترك.
العنوان الأول: الهوية الصلبة ونقض احتقان الهويات اللينة:
أهم مناطات التوطين – بما هي دينامية خلق مؤسسة المواطنة في الدولة القومية – هو تأصيل الهوية الدولتية وتشخيصها بتراتبية بين الهوية الصلبة والهوية اللينة، والاشتغال عليهما بشكل تكاملي، بمعنى أن ثمة مستويين من الهوية يكفل للثانية مدار المناورة عليها وإمكانية تقديم تنازلات وقتية بخصوصها، ويكفل للأولى صلابة الإراءة لكيفية التعامل مع الشأن العمومي، بمعنى أنها كأجهزة معرفية تقوم بتدبير الفضاء العمومي الكلي ( دائرة الهوية الصلبة ) والفضاء العمومي الجزئي ( دائرة الهوية اللينة )، على أساس تقسيم للأدوار حتى يتسنى تدبير الإطار المعاشي للمجتمع ضمن هرمية تحترم تراتب الأولويات.
الهوية بين الصلابة والليونة:
إن السمة الغالبة في المجتمعات العالمثالثية هو تمسكها بالهوية رغبة في الحفاظ على تميزها واستقلالها وكأنه صار آخر قلاع الدفاع أمام الآخر والذي لا يتورع في صنع حصان كحصان طروادة، بل وأضحت الإشارة إلى الهوية بالشكل المرضي الذي ظهر أخيرا في كثير من الكتابات كما لو أنه الملاك الوحيد للحفاظ على الوجود الإنساني فإلى أي حد هذا الإرتكاز يظل معللا بشكل علمي ومقنع، وهل من المعقول التحدث عن الهوية في عالم يعيش تعولما فكريا وقيميا أبى ذلك المرء أو كره ؟.
ذلك ” أن التغيرات المتسارعة التي سببت الإنقلابات الإجتماعية أتت لتفسد، بقوة الأمر الواقع، العادات المتأصلة وتشوش التقاليد العلمانية، مما أدى مباشرة إلى بروز الإرتكاس القديم، ارتكاس الدفاع الذاتي. وجرت إزاحة القضايا عن سياقها التاريخي وتوجيهها نحو المؤسسات الدينية بدل العمل على نقد الجذور التي تحملها. وأعيد أيضا تقويم فكرة التجديد ( البدعة ) وحكم عليها بأنها أكثر الأمور سوءا.” ( [1] ) فالفكرة الأساسية للمفكر داريوش شايغان هو الهوية ما هي إلا غطاء إيديولوجي ارتكاسي تعتمده المجتمعات الضعيفة أمام المتحولات الدولية، لرأب الصدع الداخلي أمام الإكتساح الغربي، وأن هذا الإرتكاس دائما يكون لا تاريخي، متناسيا أن المعطيات المعرفية والإيديولجية المشكلة للهوية ما هي إلى متحولات طرأت في الزمن السالف، وطبعا اعتماد الهوية هو اعتماد إيتوبي مناقض لقوانين الواقع تم خلقها قصد التخندق وراء قناع الخصوصية والتميز الداخلي، وبالفعل قد أفلحت المجتمعات المتخلفة في الحفاظ على وحدتها الوطنية بالوقوف أمام المتغيرات الدولية وإن ظرفيا، لكنها في نفس الوقت وقفت أمام الإصلاحات الدينية الجذرية والكفيلة برأب الصدع في نسق الأمن الروحي المرجو.
إلا أن هذه الملاحظات لم تعد سليمة، وخصوصا أن خطاب الهوية انفتح على جميع المستويات ولدى مجموع الدول في العالم، وأضحت المقاربة في العلاقات الدولية مؤسسة عليه، مما يجعل من أصل استشكال داريوش شايغان منقوض على مستوى العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالأحرى على المستوى الفلسفي فهي شرط وجود لمجمل التكتلات البشرية والسياسة والاجتماعية، فليس ثمة عقل جمعي إلا ويظل مخلوطا بالهوية سواء تأسست على البعد الإثني أو الديني أو السياسي، الهوية تنقلب إلى لحمة وجودية ضرورية، لكنها في نفس الآن لا يتناسب أن تظل معامل انغلاق وإلا فإنها تنقض نفسها من جهة دورها التعايشي.
فسؤال الهوية الجماعية كمنظومة فكرية انبعثت من الرماد وانقلبت على كل الموازين الفكرية الليبرالية، لتفرض نفسها كغريزة بقاء أممية وخصوصا في بعدها الأمري ” إن الهوية الجماعية أيضا هوية آمرة، بمعنى أنها لا تحدد فقط من نكون، بل ما يجب علينا فعله “، ( [2] ) على أي وحتى لا ندخل في نقاشات هامشية، لا بأس من الرجوع إلى الموضوع.
عرفت الهوية في البيئة الاستراتيجية تضاربا في الأفكار والتصورات، مع اختلاف المدارس الفكرية المستحكمة، ففي اللحظة التي نحت المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية إلى بحث ميزان القوة بين الدول، وتشخيص مصدر التهديد لأمنها ” عليها أن تبحث عمن هي الدولة الأقوى، وأن ما يدفع الدول لتتحالف مع بعضها هو مواجهتها للتهديد نفسه ” ( [3] ) بمعنى أن مفاعيل الصراع الدولي ووحدة المخاطر هي من تؤدي إلى خلق تحالفات، لكن التوجه البنائي سرعان ما نقض هكذا تحليل لمجانبته الصواب في قراءة تعقد العلاقات الدولية.
فقد عمد هذا التوجه إلى مراجعة خلاصات المدرسة الواقعية وأعلى ” من أهمية الهوية في تعريف البيئة الأمنية للدولة، حيث رأى تيد هوبف أن الهوية المشتركة قد تقلل أزمة الأمن التي تحدثت عنها المدرسة الواقعية، ورأى كولين كال أن الهوية المشتركة آلية ثالثة إلى جانب القيم والهياكل التي تدعم فكرة السلام الديموقراطي. وترى ليزبيث أجيستام أن هناك ارتباطا بين مفهومي الهوية والأمن، وذلك لأن الهوية تعرف الذات، وتعرف الآخر الذي يواجه الذات، وبالتالي تحدد ما يعد مصدر تهديد، وترى كذلك أن ديناميكيات الهوية الوطنية يفترض فيها تداخلها مع المدركات الخاصة للأمن ” ( [4] ) ولعل أعظم من يمثل هذا التوجه هو المفكر أليكسندر وندت، عندما ركز على خصوصية وأهمية محدد ” الأنا ” و ” الآخر ” في تحديد السلوك الدولي، وتكثير التحالفات ومحوريتها حتى في رسم معالم الرؤية الأمنية، وأن هذا المحدد وإن كان للوهلة الأولى قد يكون معامل عدم استقرار، فإنه يؤدي حتما إلى سلم عالمي وأمن مشترك يؤدي إليه حتما، فقط يجب تصويب النظر في مفهوم ” الهوية التشاركية ” CORPORATE IDENTITY بوصفها هوية شخصية PERSONAL IDENTITY للدولة، عندما جعلهما شيئا واحدا ففي تحديده للهويات نجده يركز على أربعة أنواع، 1 – شخصية أو تشاركية 2 – النموذج 3 – الدور 4 – والجماعية، صحيح أنه جعلها حصرية، لكنه تعريفه ليس بنهائي بعد. ( [5] )
والهوية الشخصية أو التشاركية عندما يتعلق الأمر بمنظمة أو مؤسسة تتأسس من: التنظيم الذاتي، والبنى الثابتة التي تسمح بفرز الأدوار، والدولة بوصفها وحدة أعلى من الفرد فإنها محكومة بنفس الدينامية الخاصة لهوية الأفراد، حيث يقول: ” الناس كيانات منفصلة في إطار علم الأحياء، ولكن من دون وعي أو ذاكرة – الشعور بالأنا – إنهم ليسوا فاعل وربما حتى ليسوا بإنسان، وهذا التعريف هو الأقرب لمفهوم الدولة التي لا تملك ” أجساد ” ولا يتوفر أعضاؤها على سرد مشترك بوصفهم كائن تشاركي. وأنه لإضافة الهوية التشاركية يفترض أفراد بهوية جماعية.
فالدولة هي ” مجموعة الأنا ” من مستوى معرفي جماعي خاص، فهذه الأفكار عن الأنا لديها ميزة جينية ذاتية، ولذا فإن الهوية الذاتية أو الهوية التشاركية هي خارجية المنشأ عن الغيرية. ” ( [6] )
فنقاشنا بخصوص الهوية واستدلالنا على توجه بنائي قوي وقف في وجه المدرسة الواقعية والواقعية الجديدة، ليعطي للهوية حقها في تحديد ميكانيزمات تدبير الفضاء العمومي للدولة، ليس من باب الترف المعرفي بقدر ما هو إراءة إلى أن المسألة هي عامة وشاملة، مركزين على البعد التكاملي والأمري في نفس الآن.
طبعا الجميع يقر بأن الدول في الوطن العربي تعرف تعددا في الهويات التحتية من تمثلات إثنية متكثرة، إلى تكثر في الأديان والمذاهب، وإلى تزاحم في الإيديولوجيات التي تتحكم في الأحزاب السياسية، وكل هذه الهويات التحتية والتي يسميها الباحث حسن رشيق بالهوية اللينة لأنها تنتظم في إطار اجتماعي صغروي، تؤثث المشهد الاجتماعي والوطني، تظل ممسكة بأفق فضائها العمومي الخاص، والذي يتقاطع مع ملاكات الفضاء العمومي العام، ما نقصده من الفضاء العمومي الخاص هو ذلك المجال الاجتماعي الذي يظل خاضعا بشكل لزومي لأفق الهوية اللينة، كما المسجد والكنيسة ومقر الحزب، في حين الفضاء العمومي العام هو المجال الذي يستدخل ليس فقط الفضاء العمومي الخاص بل يتجاوزه إلى مقام التدبير الكلي داخل جغرافية السيادة الوطنية. وعليه فإنه لا يجب على الهويات اللينة أن تقع في عرض الهوية الصلبة بوصفها رامية إلى إزاحة التناقض في القرار والمساس بمقتضى الولاء
« L’identité dure tend vers l’exclusion de tout conflit de loyauté » ( [7] )
ذلك أن الجماعة كما تتحدد على الأقل عند غورفيتش على أنها وحدة جمعية حقيقية ” قابلة للملاحظة بشكل مباشر، وتقوم على أساس مواقف جمعية مستمرة ونشطة، وتسعى إلى تحقيق هدف مشترك، وهي وحدة من المواقف، ووحدة من المهمات والسلوك، وهي إذ ذاك تشكل إطارا اجتماعيا بنيويا يتجه نحو تحقيق تماسك نسبي لمظاهر الحياة الاجتماعية. ” ( [8] ) تستدخل مجمل الهويات الفردية أو التحتية وبالتالي فإنها ليست متناسقة واقعا، بقدر ما أن وحدة المصير هي التي تجعلها مستمسكا وجوديا، والتي تتأتى من إدراك العناصر المشتركة والتي تندرج في التأريخ المشترك. ( [9] ) لذلك سرعان ما تضمحل الهويات التحتية ( الفردية، الإثنية، الحزبية، الدينية … ) لفائدة العناصر التأريخية المشتركة والتجارب الإنسانية المتحدةـ وخصوصا في أزمنة الأزمات والحروب، حيث تنصهر الهويات التحتية ضمن الهوية الوطنية.
وطبعا إذا كانت الهويات التحتية متأتية من حواسم جغرافية وإثنية وربما اقتصادية وسياسية، إلا أن الهوية الصلبة أو العليا فإنها متأتية من الرؤية الكليانية للدولة الوطنية، والتي ترتفع عن سقف تدبير التوافقات السياسية، بمعنى أن الإرث التأريخي للدولة من جهة بعدها التأسيسي تظل هي الحاكمة على المستوى الهوياتي، ولا تتنزل إلى سقف التدبير السياسي الذي يطابق الواقع الخارجي، بمعنى أنه لا يتناسب الخلط بين القرارات السياسية التي تتخذ على ضوء التحديات الظرفية ورفعها إلى المستوى الكلياني، بل يجب أن تقع هذه القرارات نفسها تحت المصداق الهوياتي وليس العكس.
وطبعا بهكذا مسلكية ترتفع الهوية عن سقف التصارع والتضاد لأنها تأخذ خصوصيتها من مرتكز دولتي صرف، لا من جهة العرق أو الدين أو الاقتصاد.
لذلك نحن نتفق أيما اتفاق مع الباحث محمد سعدي عندما قال ” لم تعد الهوية كينونة جامدة وجوهرا خالصا بل خليطا من التمازجات، التداخلات والتفاعلات الثقافية المركبة، لذلك الهوية ليست فعلا نهائيا بل إنها حضور حي متجدد مفتوح على التعدد والاختلاف ومتفاعل مع الزمان والمكان والأنا والنحن ” ( [10] ) والمكون الدولتي بما هو مكون مرتفع عن مضائق التنشئة يمكنه أن يحمل هكذا خصيصة، تجعل الدولة تضمن مقتربا رؤيويا متحركا ومنسجما مع المشهدين الداخلي والخارجي بالشكل الذي يخدم مصالحها، دون وقوع أزمات داخلية في البين.
وهذا هو التحدي الأساسي لأية دولة وطنية قوية ومقتدرة بأن تصهر مجمل الهويات التحتية ( الهوية اللينة ) بشكل يجعلها تتوافق مع التصور الكلي كما يقول المفكر عبد الله العروي ” لا دولة حقيقية بدون أدلوجة دولوية … الأدلوجة هي ما يستوعبه المواطن ويترجمه بعد حين إلى ولاء، فيعطي بذلك ركيزة معنوية قوية للدولة ” ( [11] ) فلا بد لأي دولة تبحث عن الاقتدار أن تمتلك جهازا نظريا يحدد هويتها الفوقية ( الهوية الصلبة )، وطبعا هذا الجهاز النظري يتحرك بين مؤثرين أساسيين، الإرث التأريخي الحضاري الوطني بوصفه أحد أهم محددات الوعي الجمعي، والرؤية الغدية بوصفها إراءة كليانية للدولة ولمواطنيها فيما يتعلق بالمقدرة الدولتية في فرض تصورها ضمن سقف الولاء الوطني.
الممانعة كخيار أنطولوجي لبناء الهوية الصلبة:
ما نقصده بالكائن الممانع هو تلك التوليفة المعرفية الوجودية التي تأبى أن تتصدع على صخرة المراسيم العولمية، فهو ليس بإنسان بقدر ما هو حمولة إنسانية تتشخص على الأرض، إما في إنسان متكامل الذات أو مؤسسة وإذا أحببت أن تقول بأننا نرمي إلى بحث ” الشخص المعنوي ” للممانعة بمعنى مقاربتنا للجهاز التدبيري على الأرض في إطار الدولة الوطنية.
فالكائن الممانع الذي نبحثه متقوم من تفصيلة ” الأنا الممانعة ” القائمة إلى جانب ” الأنا المتعايشة ” ليس بوصفهما منعزلتان عن بعضهما البعض بل بوصفهما قائمتان في نفس ” الأنا ” الكليانية، والتي سماها الفيلسوف مارتن بوبر ب ” أنا – أنت ” و ” أنا – هذا ” بوصف الأولى تهم سقف العلاقة الإنسانية والثانية سقف الإنجاز الحضاري ( [12] )، إلا أننا أقمنا الأنا الممانعة مقام الأنا – هذا لأن هذه الأخيرة لا تهتم لنوعية الإبداع بقدر ما تظل محايدة أمام كل المطبوعات العقلية، ونحن رائيين إلى مضامين الإنجاز لا إلى صورته.
فعندما نتحدث عن ال ” أنا الممانعة ” بوصفها خصيصة تؤثث الأنا الإنسانية، فإنه بالضرورة نكون منتبهين لثلاث خصائص تتصف بها: الأولى، أنها وإن كانت متمحضة في الواقع الخارجي إلا أنها معارضة لسيره، الثانية، أنها متوثبة لا تقرأ الواقع بانفعال كلي بل هي أقرب إلى التشكك في جدواه التعايشي، الثالثة، أنها حاكمة على باقي تفاصيل الأنا لأن من يملك أجهزة المناعة كثيرا ما يتحكم في سير القرار الأنوي عند الإنسان.
فمجمل المستويات المؤثثة للأنا الإنسانية تظل متمحضة فيها بالضرورة، لوقوعها في البين، بمعنى أنها منفعلة مبنائيا لا واقعا.
فخصوصية الأنا الكلية بما هي جوهر الذات العارفة أنها تنطبع بالصور الحسية وتتعقلها منشئة تحولا داخل نفس الذات، لهذا أيقنا بأنها مقيدة أي أنها خاضعة لانطباعات الممكنات الخارجية سواء كان هذا الإنطباع والتعقل حضوريا أو كسبيا. وهذه حقيقة غير مدفوعة لأصالة ما يتم معاينته خارجا.
إلا أنه وإن كان صحيحا أنها تعمل على تشخيص الإنسان من خلال مجموع الإنطباعات والتعقلات التي تقع لها بالمعايشة والتعقل، فإنه يظل أكيدا أيضا بأنها تظل في جميع الأحوال مشتركا وجوديا كينونيا في الإنسان.
بقي الآن علينا أن نبحث مواطن قيام هذا الجوهر الجسماني بما هو مشخص معياري صرف، هنا تجدر الإشارة إلى أن هذه ال ” أنا ” تحتاج إلى مكون خاص يحكم فتتجوهر به تجوهرا معياريا، فتكف على أن تكون انطباعية بالمطلق. فهو تقييد وجودي أعمق لوجود عميق، الذي هو بالضرورة مطلق ممازج تابع غير متبوع فيكون عين جوهر الإنسان ” الأنا ” وجودا معياريا متصرفا في شأنيته.
ذلك أن ال ” أنا ” ليست وجودا عاريا عن المعرفة بقدر ما هي وعاء المعرفة الحضورية، غير أن تلبسات الصور الذهنية والنفسية عليها وتأثرها به تؤدي بها إلى وقوع تعينات مغايرة لعين مكونها الوجودي الملابس لها والمتلبس بها، هذا الوجود اللطيف يجعل من ” الأنا ” منسجمة مع أنويتها عندما تتحقق المطابقة، وإلا تسرطنت إلى وجود مغاير لكينونتها فتصير ” أنانية ” بدل ” أنوية “.
إذا ما قامت الذهنية الممانعة إلى الواقع تستقرئه وتستبطنه فإنها وبغير وعي تقع تحت المباني الاستدلالية الأساسية من قراءة لموازين القوى، ولخطط الغير وكيفية المواجهة، لكنها من حيث لا تدري تتذرع بالأدوات الوجودية الخارجية لمواجهة هكذا تمدد.
صحيح أن المنطلق الممانع يظل حاضرا في هكذا قراءة ومع هكذا مواجهة، لكنها لن تخرج من الذرائعية حكما، لتقدم رجلا وتؤخر أخرى.
أما الأنا الممانعة فإنها تحمل كمالات التعامل مع الواقع الخارجي بذهنية طهرانية لا تعرف ذرائعية على مستوى التفكير وإن تحركت بها على مستوى الواقع، لأن الذرائعية المبنائية إذا ما خالطت العقل الإيماني تحمل إليه التوجس والتشكك في اتخاذ القرارات، وتجعل مكون ” الشكية ” يتصرف فيه بالممازجة والمخالطة، ومن هنا يتجلى لنا خطر الاستكانة للأنا الكلية المنفعلة واقعا بالخارج، بخلاف الأنا الممانعة التي تشتغل كطابور خامس لدى الروح ضمن عملية التجوهر الإنساني.
فخاصية التوثب تجعل المراجعة قائمة دائما وأبدا لمدماكية الروح لا للوجود الخارجي، وخصوصا أن الشكية الواقعية حاضرة بالأصالة فيها، بخلاف الأنا الكلية حتى لو كانت إيمانية تراجع الواقع دائما وأبدا وتنفعل بحراكه وتمظهراته.
كثيرا هم الفلاسفة الذين تعاملوا مع مسألة الإنهمام بالذات على أنها عين الوجود البشري، بها تتسامى الذات الإنسانية معرفيا وعلى ضوئها تتحرك في التاريخ ليس سيروريا فحسب بل وصيروريا أيضا.
إذ نجد الفيلسوف سقراط الكبير قدم نفسه بين يدي القضاة خلال محاكمته الشهيرة بأنه ” معلم الإنهمام بالذات “، طبعا الإنهمام بالذات الذي رام إليه الفيلسوف سقراط ليس ذلك البعد السقطي الأناني، بل عنى الجنبة المتعالية داخل الذات التي تبحث عن الكمال، لذلك يكون الإنهمام عنده هاجسا سماويا يرمي من خلاله تحقيق التكامل في الذات، ما دام أن ” الله قد نصبه بصورة خاصة ليحث الأثينيين على التنكب عن الخمول وطلب الملذات أو المكاسب ” ( [13] )، فحركة الروح – كما يراها أفلاطون – الارتجاعية نحو الذات هي حركة رامية لل ” أعلى ” حيث المكون الإلهي والجواهر( [14] ) وليس يعنينا في هذا الباب تحقيقه لغرضه من عدمه، بل أقصى ما نريده هو أن هذا البعد الإيجابي هو المقصود بالإنهمام بالذات فلسفيا على الأقل في المنظور الأفلاطوني.
وهو نفس ما نحى إليه الفيلسوف ميشيل فوكو عندما تطرق لموضوعة الإنهمام بالذات والبعد الهيرمنيوطيقي لها في بحر محاضراته التي ألقاها في المعهد الفرنسي خالصا إلى أن الإنهمام بالذات الأثيني لا يعدو أن يكون بحثا عن الكمال بمقياس الوجود الخارجي وما له من آثار على الوجود الذهني.
فالممانعة هي دينامية داخلية تكفل للكائن الدولتي أن يرسم معالم هويته الصلبة دون تأثر مطلق بالإكراهات الواقعية، بقدر ما يبني تصوراته على الكمالات بمقصدها المعياري التي يقوم بتصريفها كمعرفة تكوينية في المجتمع، وذات إمرة لا تهتز في أفق الانضباط الاجتماعي.
العنوان الثاني: تدبير المتوحد في أفق تجاوز أزمة العيش المشترك:
يمنح الفيلسوف ابن باجة للعقل الدور الأساسي والأكمل في المعرفة بوصفه أعلى مقامات الإدراك التي يمكن أن يتحوزها الإنسان، ولذلك هو حرص حرصا شديدا على منحها مقام التفرد في تحقيق اليقين الموضوعي، والتي ما أن تخالط أحدا إلا صار متفردا في مجتمع الجهل الذي يتحرك في مقام الحواس وحدها.
ففلسفته المنبنية على ” تدبير المتوحد ” هي عملية هجرة داخلية يمارسها الفيلسوف المتعقل داخل المدينة الجاهلة، ليعود إليها بآليات تصريف عقلية تتوافق مع هاجس رفعها إلى مستوى ما من التحضر حيث يتم نقض النفس البهيمية عند الإنسان والبحث عن ربط الاتصال بالعقل، فالتوحد هو الارتفاع النفسي أو سموها عن الموجودات الخارجية في المدينة الجاهلة إلى مقام التعقل المحض، بمعنى أن تدبير المتوحد يدور مع العقل وحده لا مع غيره من الحواس والوسائط المعرفية الأخرى.
والتدبير لا يبنى على تصرف واحد بل على تصرفات متوالية لأنها تتقوم ” علىترتيبأفعال نحوغايةمقصودة. فلذلكلا يطلقونهعلىمنفعلفعلاواحدًايقصدبهغايةما،فإنمناعتقدفي ذلكالفعلأنهواحدلم يطلقعليهالتدبير،ومامناعتقدفيهأنهكثيروأخذهمنحيثهوذوترتيبسميذلكالترتيبتدبيرًا،ولذلكيطلقونعلىالإلهأنهمدبرالعالم .”( [15] ) والذي قد يكون بالقوة أو بالفعل.
وما دام المتوحد – النابت – كائن متصل مع العقل الفعال فإنه يعيش حالة هجرة باطنية داخل المدينة الغير الفاضلة، فتكون سعادته منفردة وإن تكثر المتوحدون ” ولماكانتالمدنغيرالفاضلةعلىاختلافهامدنشقوةوظلم،كانالمتوحدأوالنابتفيها –إنأمكنوجوده – هوالفردالوحيدالذييمكنأنيكونسعيدًا. وعلىالإجمالفإنالسعداءإنأمكن وجودهمفيالمدنغيرالفاضلةأوالناقصة” فإنماتكونلهمسعادةالمفرد،وصوابالتدبيرإنما يكونتدبيرالمفردوسواءكانالمفردواحدًاأوأكثرمنواحد،مالميجتمععلىرأيهمأمةأو مدينة. وهؤلاءهمالذينيعنونهمالصوفيةبقولهمالغرباء،لأنهموإنكانوافيأوطانهموبين أترابهموجيرانهم،غرباءفيآرائهمقدسافروابأفكارهمإلىمراتبأخرىهيلهمكالأوطان ” ( [16] )
فتدبير المتوحد عند ابن باجة تنطلق من مقدمتين أساسيتين: أولها أننا نوجد في مجتمع غير فاضل مدخول بأزمات أخلاقية وفكرية تقف عائقا أساسيا نحو الكمال، وثانيها أن المتوحد هو كائن وصل مقام الاتصال بالعقل الفعال ليعيش سعادته ولو متفردا بعيدا عن إكراهات الواقع.
ونحن سوف نقتبس هذا التصور الذي طرحه الفيلسوف ابن باجة لتوضيح مقصدنا منه.
ذلك أننا لن نهتم بالفرد وبقدرته على التواصل مع المقصد العقلاني الصرف، بقدر ما سوف نهتم بالكائن الدولتي لما يتحوزه هذا الأخير من كمالات تكوينية تجعله يرتفع عن انسداد الجسمانيات والروحيات بوصفه متخلصا منهما بطبيعته، فهو ” شخص معنوي ” لا تتحكم فيه الغرائز فيظل كائنا عقلانيا يسمح له بضبط العلاقة بشكل أكمل مع ” حومة العقل ” وبناء توحده ولو وفق تحديدات الفيلسوف.
لكن المعول عليه ليس فقط وصول الكائن الدولتي إلى هذا المقام، بل لأن تدبيره بالضرورة يكون تدبيرا شموليا له أثر فعلي على الفضاء العمومي للمدينة الغير الفاضلة، ويكون هو الأقدر على إحداث التغييرات الجذرية داخل المجتمع.
فقط يجب رفع مكون الكائن الدولتي عن سقف الأشخاص والأفراد، لذلك تكون الدولة كلما ابتعدت عن ” التشخصن ” إلى مقام ” المأسسة ” تكون أكمل بوصفها حاملة لضوابط عقلية عليا غير مدخولة بالمنافع والمطامح الشخصية التي قد تسكن عقلية المتحكم.
وهذا المقصد ليس طوباويا واقعا إذ يكفي التخلص من عقبة ” السلطوية ” و ” التمسك بالقرار الفردي ” لفائدة ” المصلحة الوطنية ” حتى يجد المواطن نفسه أمام كائن دولتي مرتفع عن انسداد الرغبات الفردية لفائدة الرغبة الوطنية والمصلحة الوطنية.
مما يدفعنا إلى بحث مقام الأصالة للمجتمع المؤدي إلى القول بالأصالة للدولة الوطنية.
من أصالة المجتمع إلى أصالة الدولة الوطنية:
عمد الشيخ المطهري إلى بحث إشكالية المجتمع هل هو موجود أصيل أم موجود اعتباري لا حقيقة خارجية له، فأبان بأن مجمل النظريات التي اهتمت بهذا التساؤل لم تخرج عن أربع احتمالات. ” المجتمع ليس إلا مجموعة من الأفراد. فلولا الأفراد لم يتحقق المجتمع. ولا بد من التحقيق عن كيفية هذا التركيب والعلاقة بين الفرد والمجتمع لإجابة عن السؤال. وبهذا الصدد يمكن ابراز عدة نظريات:
أ – أن تركيب المجتمع من الأفراد تركيب اعتباري وليس واقعيا. فالمركب الواقعي إنما يتحقق إذا كانت هناك مجموعة من الأمور تؤثر كل منها في الآخر وتتأثر كل منها من الآخر، ويتولد من هذا التأثير والتأثر والتفاعل حادث جديد له مميزاته وخصائصه كما نجد ذلك في التركيبات الكيماوية…
وهذه الميزة ليست في تركيب المجتمع من الأفراد، لا يندمجون مع بعض في كل هو المجتمع، إذن فالمجتمع ليس له وجود أصيل عيني حقيقي، بل وجوده اعتباري وانتزاعي، فالأصيل هنا هو الفرد. وحياة الإنسان في المجتمع وإن كانت حياة اجتماعية إلا أن الأفراد لا يشكلون مع بعض مركبا حقيقيا بعنوان المجتمع.
ب – أن المجتمع وإن لم يكن مركبا حقيقيا على غرار المركبات الطبيعية إلا أنه مركب صناعي وهو أيضا من قبيل المركبات الحقيقية… فالأجزاء لا تفقد هويتها ولكن لا تستقل في التأثير فهي مترابطة بوجه خاص وآثارها أيضا مترابطة، إلا أن ما يبرز من أثر المجموع ليس هو بعينه مجموع آثار الأجزاء كلا على حدة.
ج – أن المجتمع مركب حقيقي من نوع المركبات الطبيعية إلا أنه يتركب من النفسيات والأفكار والعواطف والميول والإرادات دون الأجسام والظواهر فهو تركيب من الثقافات كما أن العناصر، والأجزاء تستمر في وجودها ولكن بصورة جديدة وماهية حادثة، كذلك أفراد الإنسان يدخلون في نطاق المجتمع وكل منهم يحمل مواهبه الطرية وثروته المكتسبة من الطبيعة، ثم يندمجون مع بعض بنفوسهم ونفسياتهم وتتحقق نفس جديدة يعبر عنها بالروح الجماعية، فهذا التركيب تركيب طبيعي أيضا ولكنه لا يشبه شيئا من التركيبات الطبيعية الأخرى المادية بالتفاعل مع بعض تمهد الطريق لحدوث ظاهرة جديدة، وبالعبارة الفلسفية أجزاء المادة بالفعل والإنفعال والكسر والانكسار، فيما بينها تستعد لقبول صورة جديدة ويحدث المركب الجديد
د – أن تركيب المجتمع تركيب حقيقي فوق التركيبات الطبيعية فإن الأجزاء في المركب الطبيعي لها ذوات وآثار حقيقية قبل التركيب، وإنما تمهد الطريق لتحقق ظاهرة جديدة بالتفاعل والتأثير والتأثر فيما بينها. ولكن الإنسان قبل الإندراج في سلك المجتمع ليست له هوية إنسانية، بل هو استعداد محض له قابلية التلبس بالروح الجماعية. ( [17] )
وبعد عرضه لهذه النظريات الأربع نجد الشيخ يميل إلى تبني النظرية الثالثة القائلة بأصالة الفرد وأصالة المجتمع على السواء، مصرحا ” والآيات القرآنية الكريمة تؤيد النظرية الثالثة، ولقد سبق منا القول بأن القرآن لم يذكر هذه المسائل في إطار البحث العلمي أو الفلسفي وإنما يذكرها بوجه آخر، والذي يستنبط من الدراسة القرآنية للمسائل الإجتماعية هو تأييد النظرية الثالثة. فالقرآن يرى للأمم ( المجتمعات ) مصيرا مشتركا، وصحيفة أعمال مشتركة، ويرى للأمة إدراكا وشعورا وعملا وإطاعة وعصيانا. ومن الواضح أن الأمة لو لم تكن موجودة بوجود عيني حقيقي لم يصح افتراض المصير والفهم والشعور والطاعة والعصيان لها. وهذا يدل على القرآن يؤيد وجود نوع من الحياة للمجتمع هي الحياة الاجتماعية، فالحياة الاجتماعية ليست مجرد تمثيل واستعارة بل هي حقيقة واقعية، كما أن الموت الاجتماعي حقيقة بدوره أيضا “. ( [18] ) محتجا بمجموعة من الآيات القرآنية الكريمة كالآية 34 من سورة الأعراف ( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) والآية الكريمة 28 من سورة الجاثية ( كل أمة تدعى إلى كتابها ).
فالروح الجماعية هي التي تشكل اللحمة العقلية للقول بالأصالة للمجتمع، وطبعا بهكذا تصور نكون أمام مقتضى عقلي جديد يؤدي بالضرورة إلى القول بالأصالة للدولة بوصفها هي ماكينة تدبير هذه الروح الجماعية.
لذلك هي ترتفع حكما عن الهويات التحتية التي تحكم إما بعض الأفراد أو تكتلا من الأفراد، فهي تتسع إلى الجميع تحت عنوان المواطنة.
وما دامت هي غير متمحضة في الإرادة الإنسانية فإنها تكون محكومة بمدار العقل لأنها منفتحة على كل التمثلات الاجتماعية غير متقيدة بها.
فتأتي أصالتها بالضرورة من جهة أخذها بمجال الروح الجماعية وضبطها.
ليقوم الكائن الدولتي كموجود متشخص مرتفع عن الإنسان الطبيعي فإن كان الملا صدرا استند ” على تشخص الإنسان، وعبر عن اعتقاده بأن مرجع الضمير ” أنا ” يعد أساس التشخص. ويرى أن الإنسان حينما يدرك ذاته، فلا يقوم هناك احتمال الاشتراك فيها. ويعد إدراك ” الذات ” هذا عين الذات المشخصة. “. ( [19] ) فإن الكائن الدولتي عندما يحدد الروح الجماعية الذي يشتغل على ضبطها فإنه يرتفع إلى مقام التشخص الذي يميزه عن غيره من الكائنات الدولتية.
لأنه يظل الروح الجماعية المتمثلة في الإيديولوجيا الدولتية، لا متحقق في آليات تدبير الفضاء العمومي والتي قد تتقاطع مع غيرها من المؤسسات المقارنة.
فما نقصده بالكائن الدولتي هو عين الموجود الآن وهنا الهايدغري ” DASEIN ” فالأنا هنا بوصفها ظاهرة وجودية متعينة زمانا ومكانا.. الأنا، هي الموجود هنا DA-SEIN. الوجود المتعين بوصفه متشخصا ومتميزا كما نعبر نحن .. هايدغر يعلن التمييز بين الوجود والموجود .. بين المطلق، وبين هذه الأنا المتعينة ” ف DASEIN يتحدد بالضرورة في المكان ” بمعنى الحقل المتعلق بحقيقة الكائن، ثم التفكر فيه من خلال هذا التصور.
فمضمن كلمة DASEIN كما هي مبسوطة في كتاب الكائن والزمان هي الآتية: روح ال DASEIN تتأسس في وجوده ” ( [20] ). وإذا فإن نقاط الإتفاق هي أن الأنا تشكل ثمرة للوجود التعيني، والفيلسوف هايدغر اهتم بها لما له من تأثر بالظاهراتية الهوسرلية وإن كان قد تجاوزها على مستوى التعالي والحيثية الوجودية. لكننا نحن نرى الأنا بما هي وجود متعين قادرة على الخلوص إلى أصل الوجود إذا ما تخلصت من ” الآن ” و ” الهنا ” فبحثنا في SEIN ( الكائن أو الموجود ) بدون DA ( هنا )، ومرتكزنا هو أننا لا نؤمن بجدوائية الفلسفة الظاهرية بالمطلق لأنها حاكمة على صاحبها بالزمن التشخصي لذا هي تهتم بالموجودات مطلق الموجودات ولا تلقي بالا للوجود بما هو هو.
هذا بالإضافة إلى أننا نبحث عن التمعير في الكينونة بخلاف الفيلسوف هايدغر الذي لا يراها إلا في رحم الزمان دون تزامنية من قبل الكائن ” الكائن والزمان يتحددان بشكل تقابلي، ولكن بطريقة تجعل الكائن لا يتحدد بوصفه زمنيا ولا الزمن بوصفه كائنا.” ( [21] )
اتفاقنا مع الفيلسوف الكبير هايدغر متأتي في مقام التعين أو التشخص ولو في الآنية لكن مرحليا لأننا نرمي أبعد من ذلك مما يجعلنا نمر من الآنية إلى اللا آنية.
بمعنى أن الكائن الدولتي وإن كان يعرف تصريفات مرتهنة للزمان والمكان إلا أنها متمعيرة مرتفعة عن إكراهاتهما، ويمكن أن نقول بأن الكائن الدولتي معياري مثالي التصور، برغماتي التصريف والحركة.
وطبعا الكائن الدولتي ليس فاعلا في المجتمع بقدر ما هو منفعل للهوية الصلبة لهذا المجتمع، والتي يجب أن تبنى له فلسفة كاملة متكاملة تهندسه، وتساعده على الرؤية السليمة لمحتوى المجتمع بما هو هو.
الفلسفة الغدية كمعامل إراءة:
وما نقصده من الرؤية الغدية هو عين ما طرحه الفيلسوف محمد عزيز الحبابي بتحويرات استراتيجية، لأننا نعلم يقينا بأن تأسيس أي هوية صلبة يظل مهددا بالتدخل الأجنبي وخصوصا أن جميع الحضارات الأخرى تتحسس من ” التغير ” و ” التحولات ” تنتفض فزعا من حالة بداياتها والتي سماها الفيلسوف محمد عزيز الحبابي EN-TRAIN-DE، لذلك تقف في وجه كل المتحولات التي يمكن أن تهدد هيمنتها، وتعرقل مجهودات باقي الدول في التقدم والاستقلال بقرارها، لأنها ترى التسامح مع هكذا تحولات على أنها إقرار بالهزيمة والنكوص.
ثمة هيراركية تحكم العقل الحضاري الغربي لا تتحرك مبانيه الفكرية الاستراتيجية على أساس الندية والحراك الأفقي، بل تراه حقيقة عمودية تستلزم الريادة للبعض والتابعية للباقي، لذلك يظل مفهوم ” المنتظم الدولي ” مجرد إيتوبيا يتم تسريبها لإقناع الكائنات الدولتية بأوضاعها القائمة وقبولها تحت عنوان ” الأمن والاستقرار الدوليين “.
فكل سعي للاقتدار الوطني قد يفسر على أنه مساس بالاستقرار العالمي، هي أدوار وزعت من فوق وعلى من يوجد تحت أن يقبلها.
وهذه رؤية واقعية فجة لا تتناسب مع الإمكانيات الحيوية الموجودة لدى الدول الوطنية في العالم العربي لتلعب دورا أساسيا في المنطقة. مما يجعلنا ننظر إلى ” الغد ” بكثير من المسؤولية وبكثير من الأمل الواقعي ذاته.
طرح الفيلسوف محمد عزيز الحبابي فلسفة غدية تنبني على علقة إنسانية مع التقنية بوصفها مشروعا لا نهائيا ومفتوحا دائما وأبدا لبناء مستقبل إنساني أفضل تجمع البشرية جمعاء حوله. ( [22] )
فالغدية كما يعرفها الفيلسوف هي ” الدراسة العلمية للغد انطلاقا من الإحصائيات، والاستشرافات.. الحاضرة أو المتوقعة، إنها في قبال المستقبل، مرادفة ل ” التأريخ ” كتخصص يدرس الماضي … إلا أن هدف الغدية يتجاوز الاستشراف لأنها ذات توجه فلسفي وإيتيقي، موضوعها مزدوج: الإنسان كما هو في وضع التأثر والتفاعل الحاضرين، والإنسان المهتم إلى ما يجب فعله. الغدية طرح له هدفين استخراج الخبايا الواقعية لفلسفة من أجل الغد، وفلسفة الغد ” ( [23])
طبعا لن نهتم كثيرا بالمضامين التي أعطاها الفيلسوف الحبابي على أهميتها، لأنها لا تتوافق لا مع الظرفية التأريخية التي نعيشها، ولا مع الهدف من بحثنا، لكننا نود أن نركز على حيوية هكذا مشروع في البناء الدولتي لأنها كفاعل حقيقي في المشهد السياسي الوطني تظل الأقدر على تمرير هذه التصورات وإيجاد أرضية قبول بين مجموع المواطنين.
المهم أن الدولة الوطنية لا يمكن لها أن تبني تدبيرها للفضاء العمومي كما لو أنها تقانة محض ( الدولة الآلة )، بل تحتاج إلى فلسفة تأصيلية تنطلق من الإكراهات الواقعية بغرض تجاوزها في المستقبل والبناء لفلسفة تواصلية من أجل غد تشاركي، ويلزمها تقديم بناء فكري عالي الوضوح، حتى يمتثل لها المواطن في ذهنيته، وتكون له رؤية متناسقة مع المجهود الذي تقوم به الدولة.
فوقوع تماهي بين سقف المواطنة وسقف الدولة هو رأس المسألة، لأنها تقدم مستوى عالي الأهمية لأية مقدمة اقتدارية في الوجود الدولي، لا يمكن لأية دولة أن تتحرك باقتدار سواء في محيطها أو عالميا، إن لم يكن المواطن إلى جانبها يتعقب مسيرها حذو القذة بالقذة.
لسنا رائيين إلى الديموقراطية ولا إلى رفع منسوب الوعي عند المواطن ولا إلى حقوق الإنسان، لأنها مفاهيم على أهميتها لا تشكل إلا فضاءا للحراك السياسي، ولا تقدم حمولة فكرية للكائن الدولتي وبالتالي لا تحقق المقصود.
فالبنية الفكرية التي نقصدها ترتفع عن ” أدوات ” التعايش في البلد، ولا تلقي لها بالا حتى، بل هي مبنائية تشتغل على رسم معالم الهوية الدولتية، والتي يتم تصريفها ضمن هذه الأدوات، بمعنى أن ما نود طرحه يظل محمولا أنطولوجيا للدولة، يتغير جزئيا لكنه لا يهتز مبنائيا أبدا، أما الديموقراطية وحقوق الإنسان فتظل أدوات تصريف هذه البنية الفكرية.
طبعا لن ندخل في بحث البنية الفكرية أو التصور الفلسفي الغدي الذي نقترحه على الدولة الوطنية، فهكذا مجهود يظل مرتهنا بخصوصيات كل دولة على حدة، لأن أقصى ما نود طرحه هو حيوية هكذا مشروع وطني في أفق العيش المشترك.
خــاتــمـــــة:
حاولنا أن ننظر بنوع من العمق إلى معامل الأزمة التي تقف في وجه ” العيش المشترك “، كما حاولنا أن نبين مواطن الأهمية الكفيلة برسم بناء أخلاقي سياسي يقهر ” الأنا التحتية ” لفائدة ” الأنا الدولتية “، قد نكون أصبنا الهدف كما قد نكون أخطأناه، لكن فقط المدارسة النقدية هي التي تسمح بالإبانة عن كل ذلك.
عبد العالي العبدوني
– داريوش شايغان:أوهام الهوية ترجمة محمد علي مقلد، منشورات دار الساقي في إطار بحوث اجتماعية عدد 18 الطبعة الأولى سنة 1993 الصفحة 71
ـ حسن رشيق: دينامية الهويات الجماعية بالمغرب، سلسلة الدروس الافتتاحية الدرس الثالث وعشرون، جامعة ابن زهر كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، سنة 2008، الصفحة 6.
ـ إيمان أحمد رجب: الهوية أم المصلحة ـ ما الذي يتحكم في علاقات الدول الخارجية، الملحق اتجاهات نظرية في تحليل السياسة الدولية لمجلة السياسة الدولية عدد أكتوبر 2011 الرقم 182، الصفحة 16.
ـ إيمان أحمد رجب: ن.م ن.ص.
– Alexander Wendt : social theory of international politics, Cambridge studies international relation, Cambridge university press 1999. He said “ I shall discuss four kinds of identity: 1 personal or corporate, 2 type, 3 role, and 4 collective. This list is not axhaustive, nor do I pretend that my definitions are definitive” p 224.
– Alexander Wendt: op cit « people are distinct entities in virtue of biology, but without consciousness and memory – a sense of « i » – they are not agents,maybe not even« human ». this is still more true of states, which do not even have “bodies” if theirmembers have no joint narrative of themselves as a corporate actor, and to that extent corporate identity presupposes individuals with a collective identity, the state is a “group self” capable of group-level cognition. These ideas of self have an “auto-genetic” quality, and as such personal and corporate identities are constitutionally exogenous to otherness. » p 225.
-Hassan Rachik : Identité dure et identité molle, Revista CIDOB d’Afers Internacionals, núm. 73-74, p : 191.
ـ أليكس موتشييلي: الهوية تر الدكتور علي وطفة، عن دار الوسيم للخدمات الطباعية سنة 1993، الصفحة 38.
ـ أليكس موتشييلي: ن.م الصفحة 80.
ـ محمد سعدي: مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية 2008، الصفحة 310.
ـ عبد الله العروي: مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة سنة 1993، الصفحة 146 و 147.
– Martin Buber : I and Thou, tranaslated by Ronald Gregor Smith,
– ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية، منشورات دار العلم للملايين الطبعة الأولى 1991 الصفحة 71.
– Michel Foucault : l’herméneutique du sujet , in Dits et Ecrits tome II . Éditions Gallimard 2001. p 1175.
ـ ابن باجة: تدبير المتوحد، دار النشر سراس النشر سنة 2009، الصفحة 11.
ـ يوسف سلامة: دراسة لمفهوم المتوحد عند ابن باجة، مجلة التراث العربي الصفحة 67,
– الشيخ مرتضى مطهري: المجتمع والتاريخ من الصفحة 24 إلى الصفحة 27 بتصرف.
– الشيخ مرتضى مطهري: م.س الصفحتان 29 و 30.
ـ غلام حسين إبراهيم ديناني: حركة الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي الجزء الثاني، دار الهادي الطبعة الأولى 2001 الصفحة 357.
– HEIDEGGER : Qu’est-ce que la métaphysique, traduit par Henry Corbin. P :33 in Questions I et II, tel Gallimard 1968
– HEIDEGGER : temps et être in Questions III et IV. Tel Gallimard 1976, P : 196.
– Mohamed Aziz Lahbabi : Le Monde De Demain, Le Tiers-Monde Accuse ; Dar Al Kitab, 1980. P :21.
– Mohamed Aziz Lahbabi : Op.Cit, pp 25 et 26.