دراسات وأبحاث
الولايات المتحدة الأمريكية بومة مينيرفا تنعي نفسها
بعد تفكك جمهوريات الإتحاد السوفياتي تولد تصور أمريكي حساس وخطير في نفس الآن على أن الجديد العالمي لا يمكن إلا أن يمر من داخل تيمة ” التفكيك ” بوصفها الآلية الضرورية لتأقلم العالم مع حقيقة ” القوة الأمريكية ” وهيمنتها عليه، للقطع مع الكتلة الجيوسياسية التي كانت مائلة إلى جانب القطب الماركسي.
وطبعا عملية التفكيك هذه كانت تحتاج إلى استناد نظري يساعدها في تخليق عملية الهدم وإعادة البناء، فتولدت نظريات نهاية التأريخ بمقصودية تمامه مع الديموقراطية الليبرالية، والسوق الحر الحاكم في مفاصل الاجتماع السياسي، والذين أديا أو كانا نتيجة للحديث عن سقوط الدولة – الأمة، وتضعضع مفهوم السيادة الوطنية، وعدم جدوى الاقتصاد الحكومتي أو المؤسساتي على حد سواء، إلى أن انتهت الدورة المعرفية السياسية إلى سقف الحوكمة العالمية، بما هي رزمة تصورات تدبيرية يضعها العالم الأول، وما على البقية إلا الخضوع لها.
فصار العالم يعيش لحظة عجيبة غريبة أدت إلى عكس ما أرادته الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أنه بدلا من العولمة الفعالة والميل للأحادية القطبية تسارعت السلوكات الدولتية إلى بناء إقليميات سياسية واقتصادية على حد سواء، إلى درجة صار المراقبين حيارى في توصيف الوضع العالمي بين عالم متعدد الأقطاب أو عالم بدون قطبية، بمعنى أن المحصلة الأساس أن المطمح الأمريكي انهار بين قدميها.
كما لو أنها بومة مينرفا التي أتت صائحة بنهاية مرحلة وولادة أخرى، لكنها واقعا أتت تنعي نفسها في المرحلة الجديدة.
وهذا مرجوعه لشرط ذاتي تكويني في الموجود الأمريكي ( الفصل الأول ) وشرط موضوعي تكويني في الموجود العالمي ( الفصل الثاني )
الفصل الأول: الوجود الأمريكي وجود اعتباري إلى العماء راغب:
واقعا عندما يتمعن المرء شأنية الولايات المتحدة الأمريكية يكتشف بأنه رغم وجود تناقضات تصورية تتمخض فيها، إلا أن ثمة نسبة توافقية بين مجمل التصورات المتناقضة في التفاصيل، هي البعد التكويني في نشأة الدولة كما لو أنها ” روح أمريكا ” المتحركة في مسام مجمل التصورات، مما يرفعها إلى الطابع التكويني فيها والتي تشكل مرتكزا وجوديا لكل التصورات التدبيرية ( المبحث الأول )، إلا أنها وللزوم الانضباط إلى دينامية حراك تتوافق مع السقف العولمي تحتاج إلى أبنية معرفية مساعدة لتمرير روحها إلى العالم أجمع ( المبحث الثاني ).
المبحث الأول: المبنى التكويني في الموجود الأمريكي:
إن العقلية الأمريكية الحالية الآن وهنا مرتهنة إلى رؤية ” السامري الشهم ” وقصة هذه التسمية راجعة إلى مقالة كتبها الصحافي الأمريكي هنري لوس خلال الأربعينات من القرن المنصرم مستحثا الأمريكيين على ” السعي لإظهار صورة لأمريكا تقدمه كقوة عالمية ، وهي صورة حقيقية وصادقة … أمريكا كمركز دينامي لمجالات متسعة دوما من المبادرات والمشاريع. أمريكا كمركز تدريبي للعاملين المهرة من أجل صالح البشرية، أمريكا ” السامري الشهم ” أمريكا المؤمنة من جديد بأن الرب يبارك لك حين تعطي ولا تأخذ شيئا بالمقابل، أمريكا ك ” محطة توليد ” لمثل الحرية والعدالة ” ( [1] ) فهذا التصور ليس وليد الخمسين سنة الأخيرة، بل شملت حتى عقلية الأباء المؤسسين للولايات المتحدة، ذلك الهجاس لامتلاك إمبراطورية من نوع آخر، فمعضلة عقلية الإمبراطورية أنها لا ترى تنوعا إلا في إطار الاستتباع.
وطبعا هكذا تصور يتداخل مع مفهوم المصلحة الوطنية للدولة كما نوه إلى ذلك المفكر أليكسندر ونت، التي حددها في أربع: البقاء المادي، والاستقلالية، والرفاه الاقتصادي، والاعتداد بالنفس الجماعي، بعد أن أضاف الركن الرابع لتحديد المصلحة القومية ومتبنيا في نفس الآن ثلاثية الفقيهين جورج وكيوهان. ( [2] )
فالمدرسة البنائية تتأتى أهميتها في أنها لم تكتف كتوجه فقهي بمتابعة الوقائع الخارجية للدول والمنظمات الفوق دولية لوضع نظريات كالواقعية والواقعية الجديدة، بقدر ما رأت في الحراك الدولي ثقافة اجتماعية يتناسب التعاطي معها معرفيا، ورفعها إلى بنى فكرية عميقة تسمح بوضع نظريات أصلب.
وإذا ما اكتفينا ببحث صيغة الإعتداد بالنفس كمكون للمصلحة القومية للدولة نجد الفقيه ونت يعرفها ” بحاجة الجماعة للإحساس بالرضى عن نفسها، إن من جهة الإحترام أو من جهة المكانة، فالإعتداد بالنفس حاجة بشرية أساسية على مستوى الأفراد كما على مستوى الجماعات.” ( [3] )
وهذا المرتفع القيمي – أي الاعتداد بالنفس – هو مقوم بنيوي يضمن الكرامة وعزة النفس، دونما خنوع لعملية الاستقواء بما هو حتم لأنه أول ما يتهاتر أمام تعملق الدور الأمريكي بوصفه امبراطورية.
فإذا ما اهتز عنصر وركن الإعتداد بالنفس الدولتي فإنه يؤدي إلى ضياع معالم الدولة القوية، لتتحول إلى دولة ضعيفة فاقدة للمشروعية الداخلية، مما يدفع بمصادر القرار إلى التعامل بشكل عنفي وفي إطار انعدام الديموقراطية في مواجهة الاحتجاجات، وربما حتى مشاريع انقسام قد ترتفع في وجه هكذا دول.
فما يصرح به الفقيه هولستي فيما أسماه ” معضلة الدولة الضعيفة ” أن ” الدولة الضعيفة مقحمة في حلقة مفرغة، فهي لا تملك الإمكانيات لخلق المشروعية بضمان الأمن وخدمات أخرى، وأنها في محاولة امتلاك القوة، تتبنى سلوكات افتراسية واختلاسية بين القطاعات الإجتماعية، فكل ما تحاول كسبه من القوة يؤدي إلى دوام ضعفها ” ( [4] )
لذلك يظل من الخطأ القاتل اعتماد الأركان الثلاثة والتركيز عليها، دونما الركن الرابع لأنه سيؤدي حتما إلى عدم الاستقرار، واهتزاز صورة النظام السياسي في مواجهة شعبه، فضلا عن انفتاحه كما الطريق السيار أمام التدخلات الخارجية في الشؤون السيادية.
وعليه فإن دائرة الفكر الاستراتيجي الغربي تتأسس بالأصالة على سحب معامل الاعتداد بالنفس، لأنه بغياب هكذا معامل تتناسب التبعية وحراك الهامش.
من هنا يمكن أن نفهم مشروع ” القوة الناعمة ” الذي طرحه جوزيف ناي بأنه نزع الحصانة القيمية والفكرية عن العالم لتتيسر عملية ” أمركة العالم ” فهكذا مشروع لا يقوم إلا بنزع الاعتداد بالنفس عن الآخر الاستراتيجي.
فيكون الجهد الأمريكي يقترب من العقل القروسطي الذي طالما سعى كانط إلى محاربته من أجل خلق اتحاد عالمي عادل، لأن جزئية ” التقسيم ” و “العدوان المستمر ” فكرا وممارسة هي أحد أهم نواقض المشروع الكانطي ذاته، والتي لا تقع إلا ضمن خانة ” العمل المشين “.
لأنه لا يكون رائيا إلى السلم العالمي بقدر ما يكون رائيا إلى التمدد الإمبراطوري، يحمل في بطنه امتثال العالم للتصور الأحادي بدلا من ” فعل التواصل ” الدولي الناظر لتوافقات وتوازنات دولية تشتغل على المشروع السلمي، وخصوصا أن المجهود الحربي للولايات المتحدة الأمريكية يقف في عرض هذا المشروع بطبيعته.
المهم أن الولايات المتحدة كونت تصورا خاصا عن نفسها يجعلها تشكل ” استثناءا ” من القاعدة الدولية لتعيد النظر في مجمل البنى الفكرية العالمية لتطوعها وفق معتقد على أنها ” الأرض الموعودة ” تحمي المضطهدين في العالم أجمع، وطبعا هكذا استثنائية في الوجود يؤدي لا محالة إلى التفرد في اتخاذ القرار بوصف ” الفردانية ” من المكونات الفلسفية الضامنة للاستثناء دون إغفال رغبتها المهجوسة ب ” نشر الخير ” GLOBAL MILIORISM في العالم وفق تصوراتها المتأصلة على هذه القواعد الثلاث: الاستثنائية – التفردية – التدخلية. ( [5] )
لهذا لم يكن مستغربا أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية سيادية في الداخل تدخلية في الخارج، ( [6] ) دون أن تحترم باقي السيادات، بمعنى أن منطق التدخلية غير قائم بتاتا على الأقل ممارسة في مجالها السياسي السيادي، لتعود فتنقلب على الخارج بالمنطق التدخلي دون كبير اهتمام للمبنى الفكري السياسي السيادي.
وما حملها لحلم ” السلم الأمريكي ” إلا استلهام للنموذج البريطاني والذي استلهم نفس الشعار من الإمبراطورية الرومانية، مع فارق أساسي أن الأخيرتين رفعا شعار ” السلم ” في حدود إمبراطوريتهما، بخلاف الولايات المتحدة الأمريكية التي تريد فرضها على مجمل دول العالم، إلا أنه في جميع الأحوال يظل الشعار كاذبا وزائفا لأن ” الإمبراطوريات عبر التأريخ قلما توقفت عن القيام بعمليات عسكرية على أراضيها، كما أنها كانت بلا ريب تقوم بذلك على حدودها طيلة الوقت. ” ( [7] )، لذلك يرى روبرت كوبر بأن السلام الأمريكي هو ” سلام عسكري أكثر منه سلام إمبريالي سلام تحالفات وقواعد بدلا من وكلاء قناصل وحكام. ” ( [8] ) مما يجعل من ملاحظة المؤرخ هوبزباوم دقيقة إلى أقصى الحدود، لكن في حين أن كوبر يدافع عن الطرح الإمبراطوري بوصفه الضمانة الأساسية لاستقرار العالم، لأن كتابه كان مرافعة كاملة بهذا الخصوص، فإنه أغفل واقعة أن البعد التوسعي العسكري هو إحدى أهم مصاديق عدم الاستقرار في العالم، وطبعا هكذا حقيقة لا يمكن لأحد أن يتغاضى عنها، خصوصا أمام نشوء قوى دولية كبرى جديدة، بمعنى أن المنطق الإمبراطوري الأمريكي يكون جلابا لأزمات أمنية وسياسية في المشهد العالمي بخلاف الأنموذج الإمبراطوري الكلاسيكي، إلا أننا وحتى لا نذهب بعيدا في هذا الموضوع لأنه لا يتوافق مع الدراسات المكدسة واقعا فإننا سنمر إلى مسوغ وجود هذا الهجاس الأمريكي.
طبعا ما كان لهذا الهجاس الإمبراطوري أن يتولد فعليا في الذهنية السياسية الأمريكية إلا لتحقق أربع متحولات كبرى مهدت للأكثر قوة في أن يكبر حلمها.
أولى المتحولات هو تسارع العولمة بشكل غير مسبوق ابتداءا من ستينات القرن المنصرم، والمتحول الثاني هو اهتزاز ميزان توازن القوى الدولي على إثر الحرب العالمية الثانية والتي هدمت قوى كثيرة كانت لتقف في وجه المشروع الأمريكي، والمتحول الثالث اهتزاز أفهوم الدولة / الأمة لعجزها عن حل المشاكل الفوق دولتية مما أدى إلى تضعضع إسمنت السيادة الوطنية، أما المتحول الرابع والأخير فكان النكبات الإنسانية العالمية، والتي يسموها المحللون بالمشاكل العالمية تحتاج إلى حلول عالمية، كل هذا جعل المطمح الأمريكي يرتفع إلى حلم الإمبراطورية والتي يسعى جاهدا لإقامتها على الأرض. ( [9] )
وهذا راجع إلى بنائها الفكري السياسي منذ الآباء الأوائل التي طبعت منشورات ” الفيدراليين ” حيث إنها قطعت مع مفهوم السيادة الوطنية الحديثة التي انتشرت في أوروبا لتعود إلى مقتضى السيادي ” الأصلي ” والتي ترجع إلى منطق لا حدود بوصفها سيادة تتجاوز الجغرافيات الوطنية التقليدية لأنها فضاءات مفتوحة، فضلا على أنها تحاول إجراء توافقي لتدبير الاختلافات داخل الجغرافيا الوطنية الأمريكية، قاهرة لغيرها من التصورات خارج الجغرافيا الوطنية لأن ” الحرية صارت سائدة، والسيادة حددت بوصفها ديموقراطية على نحو جذري داخل سيرورة توسع مفتوح ومستمر. ” ( [10] )
بمعنى أن السيادة الوطنية لا تنشأ من بناء فكري فلسفي سياسي تطابقي مع التصور العام بقدر ما تتولد في رحم معتقد حمل مصير العالم، بوصف الولايات المتحدة الأمريكية هي الأمل الأخير للبشرية جمعاء. وربما هذه الخلفية والتي انتشرت في مجمل الكتابات الدستورية الأمريكية هي التي مهدت لتبنيها فلسفتي النفعية والبراغماتية ( [11] ) مما ولد نوعا من الثنائية الخطيرة وهي أن الأمريكيين سياديين في الداخل تدخليين في الخارج.
ما دام الفضاء الجواني الأمريكي غير قابل للتوسعة والفتح فإنه تكون متطابقة إلى حد كبير مع مجمل التدبيرات السيادية العالمية، لكن بمجرد الخروج من الحدود الدولية الأمريكية تنفتح الفضاءات لتصير أوراش استراتيجية للعقلية الأمريكية، وما دامت الحدود عند الأمريكيين مجرد عتبات وعقبات يتناسب تجاوزها، تصير باقي السيادات مجرد عتبات وعقبات يجب نقضها.
وطبعا تعود هذه الخصلة بالأساس إلى ما أسماه هايدغر بخصلة تدمير البدء الأوروبي، ذلك أن الفيلسوف فتحي المسكيني يطرح تصور هايدغر عن الولايات المتحدة الأمريكية قائلا: ” يقول هيدغر ” نحن نعلم اليوم، أن العالم الأنغلوسكسوني للأمركة قد قرر تدمير ( vernichten) أوروبا، وذلك يعني تدمير الوطن، وذلك يعني تدمير البدء الخاص بالعنصر الغربي (den anfang des abendlandischen). إن البدئي (anfangliches) لا يقبل أن يقضى عليه، إن دخول أمريكا في هذه الحرب الكوكبية ليس دخولا في التأريخ، بل هو بعد الفعل الأمريكي الأخير للاتأريخية الأمريكية وتخريبها لذاتها. وذلك أن هذا الفعل هو رفض لما هو بدئي وقرار من أجل ما لا بدء له (das anfanglose). ” ( [12] ) فهايدغر لم يقرأ في السلوك التدميري الذي مارسته الولايات المتحدة الأمريكية في أوربا إلا هدم لذاتها لأنها تريد القضاء على البدء، ويمكن أن نحور النقاش إلى ثقافة ” قتل الأب ” التي اعتبرها فرايزر أصل بداية الحضارات، وهو نفس ما نحى إليه سيغموند فرويد عندما اعتبر أكبر طابو تمر به البشرية هو عملية ” قتل الأب ” وأكله.
المهم أن الأستاذ المسكيني يخرج بخلاصة وهي أن ” هيدغر يضع حدا للصورة ” الحديثة ” لأمريكا في المخيال الأوربي ويرسم صورتها ضد – الأوروبية anti-européenne وضد – الحديثة anti-moderne. إن أمريكا التي ” أوربت ” العالم الجديد قد انقلبت فجأة إلى خطر حاسم على الوجود الماهوي لأوروبا، وذلك يعني على ” الوطن ” الأصلي للغرب. ” ( [13] ) فالولايات المتحدة الأمريكية تحولت إلى موجود ميتافيزيقي نقض حق الجغرافيا بإبادته للهنود الحمر، ونقض حق الولادة/ الوطن بتدميره لأوربا، بوصفها عين البدء، ف ” الأمركة (amerikanismus) ليست صفة جغرافية هنا بل هي ” قرار” ميتافيزيقي إزاء الموجود يتخذ من ” التقنية ” بما هي ” قشتال ” ( الإطار ) – أي بما هي تدبير حسابي يستفز الموجود ويوضعه قصد تسخيره واستعماله بلا حدود، – نمط تأويله لمعنى وجودنا في العالم. ولذلك لا تعني ” اللاتأريخية ” في ماهية أمريكا مجرد فقدانها لتأريخ طويل مثل العالم القديم، بل اللاتأريخية هنا مكانية: إنها تتعلق بالعنصر ” البدئي ” الذي يؤدي في السؤال عن معنى وجودنا في العالم دور مفهوم ” الوطن “. إن لا- تأريخية أمريكا تعني لا- بدئية ولا-وطنية العالم الذي تقيمه بدلا عن الذي تريد تدميره. ” ( [14] ) فالجهد الأمريكي عند هايدغر ينصب بالأساس على تخريب الذات البدئية بما هي وطن، ورسم سؤال الوجود في العالم بميتافيزيقا حديثة.
لكن الأجدر الذهاب أبعد من ذلك، لأن الإطار الأوروبي قد تواصل في مراحل تأريخية مع الإطار الفكري الإسلامي والآسيوي، مما يمكن أن نفهم معه بأن الجهد الأمريكي هو نقض للبدء الإنساني برمته.
المبحث الثاني: المسلكية الوجودية الأمريكية في العالم:
يتم تعريف القوة بأنها القدرة على فعل شيء ومنع الآخر من تحوز نفس القدرة، فهي تحمل جنبتان إحداهما إيجابية وهي القدرة على فعل شيء تحت الإكراه أو الإقناع أو الجاذبية، والثانية سلبية بوصفها تنبني على سلب نفس القدرة عن الغير.
تصاريف القوة بهذا المنطق هي أعلى مصاديق الأنانية الوجودية، لكنها حقيقة كما جميع السلبيات العامرة في هذا الوجود الفقري. لهذا لا يستغرب المرء من معاينة حجم الصفاقة التي تملأ كتابات جميع منظري القوة وتركيزهم على علو بلدانهم، منهج التدافع الحضاري يرمي إلى قصم ظهر الخصم من أجل قامة أكثر انتصابا للبلد الذي يحمل جنسيته، هي من مفارقات التعايش الدولي حيث لا يستقيم هكذا تعايش إلا بكسر أنف باقي البلدان – طبعا بشكل مجازي نتحدث – لذا لا نعتقد بجدية ما يتم الحديث عنه من سلم عالمي والتعايش الدولي المشترك وغيرها من الاجهزة المعرفية التي ترفع كصيغ للدعاية، بجانبها مفاهيم إرهابية كالتدخل الدولي الإنساني والقتل المستهدف والحوكمة العالمية تمشي جنبا إلى جنب.
يعرف جوزيف ناي القوة بأنها “امتلاك كميات كثيرة نسبيا من عناصر كالسكان، والإقليم الجغرافي، والموارد الطبيعية، والقوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، والاستقرار السياسي ” ( [15] ) تتكامل جميعا لتكفل القدرة على فرض التصور ومنع الآخر من الاقتدار عليك فهي عملية ثنائية لا تقوم إذا انتفت إحدى جانبيها، إلا أنه يعيب على الطرح الصلد للقوة بأنه لا يهتم كثيرا إلى باقي مصاديق القوة والتي أسماها ب ” القوة الناعمة ” التي تتقوم على معامل الجاذبية الحضارية وإرادة الغير في التقمص، والتي تظل الأقل كلفة في جميع الأحوال من استعمالات القوة العسكرية.
طبعا ناي لا يلغي المقدرة العسكرية من المعادلة بقدر ما يريد تطعيمها بالجانب الجذاب فيما أسماه القيم الأمريكية والأخلاق الأمريكية والثقافة الأمريكية. إلا أنه وأمام الانسدادات التطبيقية الكثيرة التي وقفت أمام ناظريه لأنه تيقن بأن العالم يكره الولايات المتحدة الأمريكية ويكره سياستها حتى من قبل من يحسبون على الأصدقاء، طوع نظريته إلى سقف ثاني أسماه ب ” القوة الذكية ” التي تجمع بين القوة الصلدة والقوة الناعمة ضمن الحراك الاستراتيجي والسياسي للولايات المتحدة الأمريكية.
لذا حركيته هي ذات وجهة توسعية بجميع المصاديق حتى بالسلاح، ولا تنظر إلى العالم إلا بوصفه حقلا خصبة لمزروعاته، فعندما ننظر بشيء من العمق إلى تصور جوزيف ناي بخصوص القوة الناعمة لا نجدها إلا استكمالا للمشروع الفوكويامي، حيث يصير العالم حامل لقيمة أمريكية صرف.
فجوزيف ناي ينطلق من مقدمة أساسية أو لنقل عقيدة أساسية وهي ” لعل أمريكا أقوى من أي دولة أخرى منذ الإمبراطورية الرومانية، ولكن أمريكا مثل روما ليست قوة لا تقهر، ولا هي عديمة التعرض للعطب والانكشاف، فروما لم تخضع لنشوء إمبراطورية أخرى، ولكنها تداعت أمام موجة من هجمات البرابرة، والإرهابيون المستخدمون للتقنيات الحديثة العليا هم البرابرة الجدد. ” ( [16] ) فناي يرى المطابقة في القوة بين الإمبراطورية الرومانية والولايات المتحدة الأمريكية، وهكذا تشبيه ليس ملتصقا بعنوان القوة كما قد يتبادر إلى الذهن بل هو نفسيا أبعد، لأن المطابقة تهم حيثية ” الإمبراطورية ” بالأساس. و ” البربرية ” في الأعداء وهو تصنيف قيمي يرتكز عليه ناي للدفاع عن جهاز القوة الناعمة التي يراها الأكثر نفعا لأنها تقلل من تكاليف الإكراه أو مصاريف الإغراء عن طريق الإغواء.
فالقوة الناعمة ترتكز على ثلاثة موارد هي ” ثقافته ( في الأماكن التي تكون فيها جذابة للآخرين )، وقيمه السياسية ( عندما يطبقها بإخلاص في الداخل والخارج )، وسياساته الخارجية ( عندما يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية أخلاقية ). ” ( [17] ) وطبعا ناي يرى في الولايات المتحدة الأمريكية كل مقومات الدولة القادرة على إغواء العالم، والغريب في الأمر أنه بهكذا كلام يكون قد منح مصداقية أكبر ومن الداخل الأمريكي على أن الولايات المتحدة الأمريكية هي ” الشيطان الأكبر ” فسياسة الإغواء واحدة والغائية واحدة وهي حرف المسار الحضاري التنوعي لفائدة شيء إسمه ” الأمركة “.
وهنا بالذات نرى بأنه كنسق فكري يبحث عن حتميات تسد حلقة فكره من البناء القيمي إلى البناء الحركي إلى البناء الوظيفي، تتكدس كلها تحت مسمى ” الإمبراطورية “، والملاحظ على جوزيف ناي أنه لا يهتم بمباني ( الثقافة ) أو ( السياسة الخارجية ) أو ( القيم السياسية ) من حيث هي حاملة للكرامة والتعددية وغيرها من الأبعاد التعايشية في مجتمع متغير ومتعدد، بل لا يرى أهميتها إلا في مصداق تطبيقها بالحذافير، وطبعا هو يحاول الهرب من مشروع التبرير لمباني هذه الزوايا الثلاث، لأن الثقافة الأمريكية نفسها تعرف معضلة اعتداد عقلي، ولا زالت واقعة في مخاض لا يتوقف نهائيا، كما أن القيم السياسية التي يشير إليها لم تعرف نهائيا توحدا فكريا ولا السياسة الخارجية أبان عن مضمونها، فالجنبة الوظيفية كانت هي المعتملة في تصوره لا الجنبة المبنائية.
وطبعا أخذه لهذا المنحى يهدف بالأساس للسماح بتصوره بالاشتغال على جميع المستويات ويتفاعل مع التنويع السياسي داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
فمصاديق القوة الناعمة كما دافع عنها جوزيف ناي في بحثه المعنون ب ” قوة الولايات المتحدة الأمريكية وإستراتيجيتها بعد العراق ” حيث فسر أفهوم ” القوة الناعمة ” بأنه قدرة أمة معينة على التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة وذلك استنادا إلى جاذبية منظومة قيمها ومؤسساتها بدلا من القوة والإكراه.([18] )
بعد أن استعرضنا وجهة نظره لا بأس من التنويه إلى كيفية تصريف هذه القوة وفق ناي ذلك أنه وفي لحظات كثيرة أشار إلى لعبة ” البوكر ” حيث صرح بأنه يمكن للدولة أن يكون لها كل مفاصل القوة لكنها قد تخسر مصرحا ” الإمساك بالأوراق الرابحة في لعبة البوكر الدولية، فإذا أظهرت أوراقا قوية، فإن من المحتمل أن يطوي الآخرون ما بأيديهم من أوراق. وبالطبع فإنك إذا أسأت اللعب بأوراقك، أو وقعت ضحية الغش والخداع، تخسر رغم قوتك، أو تفشل على الأقل في الحصول على النتيجة التي تريدها.” ( [19] ) والتي كررها في أكثر من موضع وخصوصا في تقدمة بحثه حول مخاطر ” التعفن الذاتي ” للجبهة الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية ( [20] ) في يد واحدة ” من مقدرة عسكرية، وقيم حضارية، وقدرة اقتصادية عالمية لكنها تخادع الخصم لتحصل على أكبر الأرباح الممكنة ” فلعبة البوكر لا تنبني على قوة الأوراق الممسوكة في اليد بل أيضا على عنصر المخادعة وإفهام الخصم بأنه يمكن أن يفوز ليضع مبالغ مالية طائلة على الطاولة، عندها يتم إظهار الأوراق كلها للفوز.
إذا تصريف القوة حسب جوزيف ناي هي قائمة على امتلاك أوراق رابحة وتدبير للكذب والمخاتلة بشكل يضمن الربح، وإذا ما حاولنا تشخيص هذه الحالة أكثر، صارت السياسة الدولية عند الولايات المتحدة يجب أن تقوم على أساس إظهار خلاف الحقائق للوصول إلى النتائج المرجوة.
وهذه الحيثية تظل مهمة، لأنها ستفسر لنا الكثير بخصوص الاستراتيجيا الناعمة التي بدأت تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية في تدبير الفضاء العمومي العالمي.
وطبعا هذا التصور القووي لا يمكن أن يجد لنفسه مرتكزا إلا بتوسط إرجاع رؤية العالم إلى المرحلة القروسطية، ذلك أن الباحث باراغ خانا يرى أن العالم أجمع بدأ يعرف نفس خصوصيات العصور الوسطى، من قبل اضمحلال مؤسسة الدولة – الأمة حيث أن الأزمات المالية إذا مست دولة كالولايات المتحدة الأمريكية تنعكس بالسلب على مجموعة من الدول في العالم، أو أنك عندما تنظر إلى جمهورية الصين فإنك تنظر إليها على أنها أكثر من دولة. ( [21] )
أو أنك عندما تنظر إلى أفغانستان فإنك لا تنظر إليها كدولة، وقد دافع عن هذا التصور في سلسلة مقالات لا تعدو أن تكون تكرارا لمجموعة ملاحظات يبديها هنا وهناك، لكن المحصلة هي أن العالم لم يعد قرية صغيرة، بل عاد عالما قروسطيا، حيث ثمة صراع على السلطة وتفكيك للإمارات الضعيفة، في ظل العولمة حيث المشروع أكبر من دولة واحدة، بل أكبر من أن يهتم بدولة واحدة. ( [22] )
فالمنظومة الفكرية التي يدافع عنها باراغ خانا أن الشرعة الدولية وغيرها من الموازين الدولية لم تعد ذات قيمة تذكر، كما أن العصور الوسطى لم تكن منضبطة لهكذا تصور، وأن سياسة التقسيم الجغرافي لمجموعة من الدول خدمة لمصالح العولمة هي سائرة وغير متوقفة بتاتا، ففي مقالة له حديثة جعل من التقسيم شيئا من الجميل فعله Breaking Up Is Good to Do، حيث جعل من تقسيم السودان مجرد خطوة في اتجاه تقسيم العالم الأجمع، وطبعا ليس من المستغرب أن يركز على منطقة الشرق الأوسط، جاعلا منها قدرا لا يرد. ( [23] )
ليس الغرض هو الغوص في مجمل أفكار هذا الباحث، بل فقط التنويه إلى مسألة حساسة جدا، وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى نفسها كإمبراطورية وباقي العالم رعاياها، ولهذا هي لا ترى نفسها ملزمة بأية شرعية دولية، وهو ما تم التثبت منه خلال إعلان الحرب على العراق دون الرجوع إلى مجلس الأمن، بل نجد بأن الإدارة الأمريكية ذهبت أبعد من ذلك عندما أعلنت بأنها غير معنية بالأمم المتحدة إذا ما رأت مصلحتها في التدخل العسكري في أي قطاع ترابي في العالم، في إطار ما أسمته بالحرب الإستباقية.
فالحرب الاستباقية قد لا تكون مؤسسة على مخاطر العدوان، بل يكفي أن ترتكز على ” عدوانية النظام السياسي ” لدولة أخرى، ولأنها خارج ليس فقط عن التابعية للولايات المتحدة الأمريكية بل عدوة لها ولقيمها. يكون حربها ليس مبررا وحسب بل وعادلا، ومن داخل هذا الجهاز المعرفي وغيره من الدراسات الصادرة عن المحافظين الجدد تم سوغ ” الحرب على الإرهاب ” الذي لا يهم الجهات المقاتلة وحسب، بل أيضا الدول الداعمة لها، واضعة إياها في إطار ” محور الشر ” الذي يجب محاربته بالنار للحفاظ على قيم ” محور الخير ” هذا التلبيس في المفاهيم الغرض منه رفع النقاش من السقف القانوني – والذي لا يخدم مطامح الولايات المتحدة الأمريكية – إلى السقف القيمي الديني والذي توفق الأستاذ محمود حيدر في تسميته ب ” لاهوت الغلبة ” ( [24] ) لأن مضامين الفكر تمتح من المنظومة الفكرية البروتستانتية النصية التي تقترب كثيرا من العهد القديم أكثر من توفيق البحث في العهد الجديد، لتتقاطع قراءتها الختامية للتأريخ مع المنظور اليهودي التوراتي إلى حد بعيد.
فالأزمة ترتفع إلى إعادة طرح السقف القانوني التدخلي خارج المباني الوضعانية، لأنها واقعا تقف عائقا، إلى تمرير فكر قانوني مزيج يسمح بتسريب مباني القانون الطبيعي في إطارها.
وهذا الجهد المعرفي المتناسل في السياسة الدولية، جاء ثمرة تصور دافع عنه الباحث كينيشي أوهماي في كتابه ” نهاية الأمة الدولة وانبعاث الجهوية الاقتصادية ” حيث خلص إلى أن التشابك الاقتصادي العالمي أخذ يتجاوز حد السيادة الدولتية حيث أنه كفاعل بدأ يفقد آلية التحكم والسيطرة في حركة البضائع والأموال، وبدأت هذه الأخيرة هي التي تتحكم في حركتها الذاتية وتتخذ القرارات المناسبة غفلا عن الإرادة الوطنية.
بل أن المصلحة الوطنية والسيادة الوطنية أضحيا أكبر عائق اقتصادي يمكن أن تواجهه ثقافة السوق الحر، حيث مجمل الكتاب جاء استدلالا على هذه القاعدة، إذ يقول بأننا سنسعى إلى ” إثبات لماذا أن الأمة الدولة بمعناها الكلاسيكي أضحت غير طبيعية، ومستحيلة في نفس الآن، أمام الاقتصاد العولمي، ولماذا الدول الجهوية واقعا هي الأكثر كفاءة، والأكثر فعالية في هذا المجال “، ( [25] ) وعاد ليؤكد نفس المقتضى في كتابه ” المرحلة الآتية للعولمة ” بأن وضع تفسيرا أكثر دقة لمقصده من الدولة الجهوية، حيث جعلها الدول التي تركز على جهويات موسعة داخلها، سامحة بهامش تعاقدي دولي يتجاوز المركزية الإدارية والسياسية في نفس الآن، مركزا على اليابان والهند والصين كنماذج جديدة، وناجحة كفاعلين أساسيين في حركة الاقتصاد العالمي، كما أضحت تتقوم من خلال قواعد السوق الحر. ( [26] )
وطبعا هكذا جهد استتبع آراءا متضاربة بين المتمسكة بهامش فعالية للسيادة الوطنية، وبين القائلة بالزوال الكلي للسيادة الدولتية، من جهة لمن الأولوية في التعاطي هل هي للدولة بوصفها فاعل دولي مركزي سواء في ظل المدرسة الواقعية أو الواقعية الجديدة أو حتى البنائية، أو الأولوية إلى إيديولوجية السوق الحر كما تتبناها المدرسة الليبرالية والليبرالية الجديدة، ويسعى كل تيار إلى الاستدلال على صحة موقفه التنظيري والتشخيصي لدائرة الفعالية لمن تعود، يقول الباحث المغربي سعيد الصديقي ” إن ظاهرة العولمة أخضعت هذا المفهوم ( السيادة ) وغيره من المفاهيم الرئيسية في علم السياسة للمراجعة وإعادة التعريف، فأصبحنا نعاصر موجة من الكتابات التي تشكك في المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية القائم على نموذج الدولة التي تراقب بشكل مستقل شكل ومضمون سياستها العامة، وتعتبره إما مفهوما مهجورا، أو أنه ينتمي إلى تقليد مذهبي في طريق الفناء، وإما متجاوز نظريا وغير نافع عمليا، لأن الرهانات الدولية الجديدة والمشكلات غير المسبوقة والحدود الاقتصادية والجمركية التي رسمتها تحولات العولمة لا تتوافق مع الحدود السياسية التي يقوم عليها المفهوم التقليدي للسيادة. ” ( [27] ) مما يفرض عليها إعادة النظر في أولوياتها الحديثة في ظل هذه المتغيرات حتى تحافظ على مكانتها كفاعل محلي ودولي.
وهو سؤال محوري وتحدي أساسي، يستلزم معه إعادة النظر في كل المداميك الدولتية من جهة ناظميتها للشأن الوطني، وتدبيريتها للشأن الدولي، بالتركيز على مديات السلطة وأفق التأقلم مع الأوضاع العالمية، باستدخال رؤى قانونية جديدة تغوص في عمق فلسفة الدولة – الأمة، وتناقش أشراط بقائها ولو بعد اضمحلال المرحلة الويستفالية فعليا.
طبعا ما نريد التنويه إليه الآن هو أنه في الاستراتيجيات العالمية لم يعد ينتبه للأمم المتحدة على أساس أنها رمز الشرعية، بل فقط ينظر إليها على أساس أنها أداة تخدم غرضا مرحليا وإلا فإنه يتم تجاوزها بكل سهولة.
فالمضيق النظري هو أن العقل الاستراتيجي الأمريكي أضحى أحادي البعد لحل المشاكل التي يراها تقف في وجهه، وهي إعادة ترسيم خارطة جديدة للعالم، عن طريق التقسيم، فيكون مقتربا من العقل القروسطي الذي طالما سعى كانط إلى محاربته من أجل خلق اتحاد عالمي عادل، لأن جزئية ” التقسيم ” و “العدوان المستمر ” فكرا وممارسة هي أحد أهم نواقض المشروع الكانطي ذاته، والتي لا تقع إلا ضمن خانة ” العمل المشين “.
وطبعا كل هذا المجهود أدى إلى تولد تصورات نقيضة للمشروع الأمريكي وضعتها على محك الاضمحلال كقوة عظمى ( بالقوة ) في انتظار ال ( بالفعل ).
الفصل الثاني: الإقليمية الجديدة تعيد رسم معالم العالم:
عندما يدرس المرء الوضع الدولي سيعاين بأن ” توازن القوى ” قد اختل بشكل كبير، حيث تشذرت القوى بين مجموعة من الدول والأقطاب في العالم، مما يهدد الاستقرار الدولي في الصميم، لذلك أضحى من المناسب البحث عن معامل دولي جديد يمكن أن يساعد في الاستقرار، وتقوم ” الإقليمية ” كأحد المفاتيح الجيو استراتيجية الأساسية التي يمكن أن تقف في وجه عدم الاستقرار العالمي، لأنها تساعد في تقوية عضد مجموعة من الدول للوصول إلى توافق فوق دولتي يكفل لها تدبير مشاكلها بشكل سلمي، وتقوم في نفس الآن على أساس الندية في مواجهة غيرها من الدول أو الإقليميات الأخرى.
هذا الحد من الدور يظل متفقا عليه في العقل الدولي، إلا أننا لن نركز على الإقليمية الدولية، بمعنى أننا لن نهتم بالسقف الدولي لهذا التماسك الإقليمي، بقدر ما سوف نبحث الإقليمية بين التمثلات الممانعة في المنطقة والمتفرقة على مجموعة من الدول، فنحن سنشتغل على مقاربة ” الإقليمية الممانعة ” كآلية معرفية مساعدة ليس فقط في حصر التمدد القووي للولايات المتحدة الأمريكية والدول الداعمة لها، بل أيضا بوصفها مسألة حيوية للاقتدار على المشروع الاستكباري بدون تشخيص بالضرورة، هو مجهود فكري يحتاج كثيرا من العمق في الطرح لأن التأصيل لبناء إقليمية ممانعة يظل مشروعا أمامه الكثير من العراقيل المعرفية والواقعية، إلا أننا في هذا الفصل سنكتفي ببحث الموضوع معرفيا على أن نرجئ السقف العملاني إلى القسم الثالث من الكتاب.
سوف نعكف على بحث موضوع الإقليمية بشكل معياري ( المبحث الأول ) قبل الانتقال إلى بحث الأفق الإفراسي بوصفه مفتاحا جيواقتصاديا قد يدفن الكثير من الأزمات الإقليمية والمناطقية على حد سواء ( المبحث الثاني )
المبحث الأول: مديات الإقليمية معرفيا:
رغم أن المشهد الدولي عرف الكثير من الإقليميات والتكتلات الدولية في طول القرن المنصرم ولا زال قائما إلى تأريخه، إلا أنه لم يعرف تطابقا فقهيا في التعريف، مما حذا ببعض الباحثين إلى ضرورة تجاوز وضع تعريف محدد وحصري للإقليمية ” لكي لا يؤدي ذلك إلى قصر مجال تطبيقه على دائرة ضيقة من التجمعات والتكتلات الدولية دون غيرها. ووفقا لهذا الرأي فإنه يدخل ضمن التنظيمات الإقليمية جميع أنواع التكتلات التي تقوم على مبدأ التجاور الجغرافي أو الثقافي والحضاري، أو الاقتصادي، أو حتى العسكري.” ( [28] ) في حين مال الفريق الثاني إلى لزوم ذلك حتى لا يقع خلط بينها وبين غيرها من المؤسسات الأخرى المؤثثة للتعاون الدولي.
إلا أن الحد المتيقن في التعريف هو أنه ركز على مجموعة مقومات للقول بوجود إقليمية، مع اختلاف بين سقف ” التركيز ” وسقف ” التخفيف ” في هذه المقومات التي تتأسس على البعد الجغرافي الموحد، والبعد الثقافي الحضاري، وتطابق السياسات، فكل هذه المقومات عرفت أخذا وردا من جهة محوريتها وحصرية حاكميتها في توصيف الإقليمية، وبين التخفيف من تأثيرها للقول بوجود الإقليمية من عدمها. ( [29] )
إلا أنها ولوقوعها في طول الخط العولمي تلقت هذه المؤسسة الكثير من الضربات والهجمات، بوصفها إحدى أسباب عدم الاستقرار الدولي، رغم أن ميثاق الأمم المتحدة يقبل بوجود التكتلات الإقليمية وفاقا للمادة 52 ( [30] )، ومع ذلك ولو في ظل هذه الهجمات التي تناسلت والتي تلقتها فكرة الإقليمية إلا أنها لم تتوقف عن الصمود والممانعة في مواجهة المد العولمي، وخصوصا أمام عدم تحقق المساواة الاقتصادية والاجتماعية مما يؤدي بالدول إلى الاحتماء بهذا الميكانيزم الأساسي، لتدبير خيراتها بشكل يكفل مصلحتها القومية.
لذلك لم يكن مستغربا أن تظهر ” الإقليمية الجديدة ” كعنوان مبتكر يولد في رحم الزخم العولمي نفسه، إلا أنها تظل ذات جنبة اقتصادية ومالية بالضرورة، فهي ” سلسلة من الخطوات الإجرائية والسياسات التي تتبناها دول تجمعها عوامل مشتركة على المستوى الإقليمي، تعمل على إيجاد نوع من التعاون المشترك لتقوية نفوذها من خلال هذا التكتل، لضمان كيانها الذاتي تحسبا من نفوذ وسيطرة التكتلات الإقليمية الأخرى، أو في مواجهة الفاعلين الدوليين خارج نطاق الإقليم ” ( [31] )
فالتوافقات السياسية الموحدة على أساس جغرافي أو ما يسميه الباحث باراغ خانا ب ” السوق الجيوسياسية “، ووحدة الأزمة السياسية تدلي لا محالة إلى بناء إقليمية وفق إجراءات متعددة ومساطر جزئية، تساعدها كتكتل على مواجهة السياسات الدولية الأخرى، وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي تحولت إلى حفرة سوداء تجذب البضائع والأموال دون أن تقدم للخارج خدمات مساوية ( [32] )، مما أدى إلى اتساع رقعة الغنى والفقر بين القوة العظمى Superpower ودول الجنوب، حتى صار الضيم والظلم من صفات النظام العالمي الذي تولد بعد الحرب العالمية الثانية، وازداد تجذرا بعد سقوط جدار برلين تحت مظلة ” النظام العالمي الجديد “.
وأمام هكذا صدامات مصلحية في ظل غياب التوازن في القوى، عاينت الدول الضعيفة نسبيا بأنها لا يمكن أن تحافظ على مصلحتها القومية إلا في إطار تكتلات وأحلاف تقف في وجه مطامع الدول الأخرى، فالإقليمية ارتفعت إلى درجة المقصد الحيوي لمجموعة من الدول أمام سياسة الإركاع التي تمارسها الدول الكبرى لفائدتها الشخصية.
وهو جهد سياسي يظل مبررا في عالم لا يتقوم إلا على واحدية القوة بكل تلويناتها، فمن لا يقوم وحده اقتدارا يلزمه تكتيف جهوده مع دول أخرى تعاني من نفس الوضعية لتأتي القوة بالكثرة ووحدة التصور.
لذلك يرى الدارسون بأن نشأة النظام الدولي الإقليمي إما يقوم على أساس لا إرادي أو على أساس إرادي، حيث إن البعد اللاإرادي في النشأة يأتي من جهة تكاتف الأسباب الموضوعية التي تؤثث ” إطار من التفاعلات النمطية والمكثفة المشتركة بين وحدات النظام، الأمر الذي يجعل التغيير في جزء منه يؤثر على بقية الأجزاء، مما يؤدي أو يحمل ضمنا اعترافا داخليا وخارجيا بهذا النظام كنمط مميز ” ( [33] ) فقيام الإقليمية على هذا المستوى تأتي بدون اتفاق مسبق بين الدول الداخلة بها، بقدر ما جاءت كثمرة لاستجماع شروطها ووحدة التحدي الذي تمر به، بخلاف البعد الإرادي حيث المقصد يكون قائما خلال مرحلة التأسيس، ذلك أن إنشاء ” منظمات إقليمية هو تعبير عن واقع مادي وحضاري، وعن روابط جغرافية وثقافية، وعن مصالح مشتركة ” ( [34] )
وللإقليمية فوائد أساسية لا يمكن تجاهلها وأدوار لا يمكن إنكارها فهي تعطي الشرعية الإقليمية لمواقف وسياسات معينة في الإطار الدولي أو الإطار الإقليمي، كما تمنح إمكانية إبراز الشخصية المميزة والدور الهام على المستوى الدولي للهوية التي تمثلها المنظمة ( [35] ) لأنها انضواء مجموعة من الدول حتى لو كانت ضعيفة تحت إطار المنظمة الإقليمية، يساعدها في رسم معالم هوية كلية تقف في وجه صدام الهويات التي تحكم المشهد الدولي.
فأهمية المنظمات الإقليمية تأكدت خصوصا بعد صدور بيان عن مجلس الأمن بتأريخ 31 يناير 1992 الذي دعا إلى الأخذ بالاعتبار دورها بما يتفق مع الفصل السابع من الميثاق لمساعدة مجلس الأمن في أعماله، وبالذات في المناطق التي يصعب وصول الأمم المتحدة إليها. ( [36] )
لذلك نجد بأن الإقليميات تناسلت كما الفطر في ظل التحدي العولمي الذي سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرضه، وأتت بنتائج عكسية كما في حالة منظمة شانغهاي ودول البريكس التي بدأت تتأطر بشكل أقرب إلى التكامل الإقليمي رغم البعد الجغرافي، ومنسجمة مع الأفق العولمي لكن برؤية ضدية نقضية لمشروع الأمركة.
المبحث الثاني: المنطقة الإفراسية إلى جانب الأوراسية تقلب المعادلة:
الخارطة السياسية للعالم تحمل أكثر من حكاية وأكثر من قصة، ولو وضعنا مجمل الخرائط العالمية منذ عصر النهضة الأوروبية إلى تأريخه، سوف نعاين بأن تناسلا لكائنات دولتية قد حدث، وتقطيع لأوصال ” المصلحة العليا ” قد تجلى، مما دفع إلى إعادة تأسيس عقد سياسي دولي منبني على التفاهم البيني والتوافقات لرأب صدع هذا التفتت.
هذه حقيقة تقف بين يدي القارئ كما لو أنها حتم وجودي أو قدر سياسي نتيجة حركة التقدم والرقي الحضاري الذي عرفته الإنسانية، ويبدو أن مشروع استيلاد الدول لا زال يعيش مخاضا إلى تأريخه، لتداخل رؤى استراتيجية قد تصل حد التناقض، ورغبة في تسييل حركة الثروات الطبيعية بأشراط تتوافق مع رغبة القوى الكبرى.
فالجغرافيا لم تكن مستندا شرعيا وحسب لتدبير الفضاء العمومي الدولتي، بل هي أكثر من ذلك إنها مرتكز استراتيجي أساسي لا يشق له غبار، يمكن الاستفادة منها كثيرا لمن عرف كيف يضبط لعبة تدبير القوة في المنطقة وفي العالم على حد سواء.
ورغم أهمية الأجهزة السياسية التي تتحكم في قرارات تدبير هذه الجغرافيا كل في دائرة سيادته الوطنية، إلا أنه لهذه الأخيرة الأصالة الوجودية التي تجعلها ترتفع عن ” الكائنات الدولتية ” التي تعتمرها.
فعودة الجغرافيا بقوة إلى حلبة المدارسة السياسية الدولية وتدبير الصراعات الإقليمية، بعد أن كانت متحيزة في الثقافة الحربية والعسكرية، لم يكن إلا من جهة أنها الثابت الأساسي إلى جانب التأريخ، والتي يمكنها أن تساعد في قراءة الأوضاع بشكل أليق، وأكثر فعالية من غيرها من المدارسات السياسية التي تتشابك داخل الحقول السياسية المحلية.
صحيح أن دراسة الحقول السياسية والتجاذبات فيما بينها، لها أهمية لا تخفى، إلا أن ذلك سرعان ما يرميها إلى الوراء في مقام بحث التحديات الإقليمية والعالمية، إذ أنه لو كان هناك سعي لإسقاط جهاز الدولة – الأمة، فبالأحرى هناك سعي مضاعف لتهميش المشاهد السياسية المحلية، واعتبارها عنصرا عاضدا لا محوريا في الترسيمات الجيواستراتيجية.
إلى أن صارت مستدخلة في الثقافة والاقتصاد والسياسة وكل المجالات المتعلقة بكشف أسواق جديدة بالمعنى الضيق للكلمة، أو الأسواق الاستراتيجية بالمعنى الموسع للكلمة، وبالتالي بدأ التعاطي مع الجغرافيا ومحوريتها يتعاظم على غيرها من الدراسات المؤسسية والتي تغترف من الإرث الويستفالي، لتبحث عن فعالية أكبر في ظل تولد نظام عالمي جديد، يعيد النظر في كل الأثقال السياسية التي وضعتها المرحلة الاستعمارية، يقول روبير دافيد كابلان ” العولمة بحد ذاتها استبطنت مجموعة من الهيجانات الإقليمية، والمرتكزة على وعي ديني أو قومي راكزة في إطار خاص ” ( [37] )
ومن هنا حساسية المنطقة العربية، ذلك أن الاختلاف الإثني والطائفي لا يتم تدبيره ضمن الخيار العقلاني الأمثل، بقدر ما يرفع كشعارات تساعد على نشر القلاقل والأزمات، أكثر من أن يكون بناءا، واستجلاب منافع شخصية قد يدفع بالكثيرين إلى الاقتداء وركوب الموجة حتى يحافظوا على هامش من الربح الاستراتيجي، والتي تشكل جميعها أرضية خصبة للتوغل الإرهابي، فهم كتنظيمات لا يستطيعون العمل إلا في ظل فوضى سيادية، تسمح بهامش كبير من المناورة والولوج بأعداد كبيرة للسيطرة على جغرافيات قد لا تكون ذات أهمية ابتداءا، لكنها تسمح بتشكيل روافع استراتيجية قتالية لهم للمضي قدما.
وحيث إنه صار معلوما للجميع محورية الشرق الأوسط في توزيع الثروات العالمية ولو بدون مساواة، ذلك أنها كانت دائما مرصدا استراتيجيا للقوى العالمية الكبرى أو للدول ذات الدور الإقليمي المحلي، من أجل السيطرة عليها وتصريف مصالحها الوطنية في قلب هذه الجغرافيا التي تضم أكثر من دولة، مما حولها إلى مرجل سياسي دائم السخونة ودائم الاحتقان.
وواقعا لا يمكن لمنطقة الشرق الأوسط أن تكون إلا كذلك، فعندما تتحول رقعة جغرافية إلى مطمع عالمي، فإنها بالضرورة تتضرر من تداخل الاستراتيجيات العالمية، وارتسام الولاءات السياسية النقيضة في قلبها، ما سنسعى إليه في هذه الورقة المختصرة هو أن نتجاوز الإطار الكولونيالي لقراءة هذه الرقعة الجغرافية ومحاولة توسيع التصور بشكل يخدمها إلى جانب دول كثيرة تتقاطع معها جغرافيا، وإخراجها من ربقة ” المطمع العالمي ” إلى فضاء ” المطمح الكوني “، عن طريق تحويلها إلى رافعة استراتيجية واقتصادية ولادة ثروات في ظل الاستقرار السياسي والاستراتيجي، بما يجعل كل المتدخلين الدوليين يتراجعون خطوات، بوصفها سوقا استراتيجية ذاتية الحركة، ذاتية التولد الحضاري. وربما مع الوقت الثقل القووي يعود إلى الشرق مجددا من تحت هذه العباءة.
إلا أننا ابتداءا نود التأكيد على أن المنطقة ” الإفراسية ” التي نود الدفاع عنها هي تمتد من أقصى آسيا شرقا إلى أقصى شمال إفريقيا غربا، لأنها منطقة متصلة ومطلة على مجمل الممرات المائية الكبرى لحركة الاقتصاد العالمي.
ثمة إطباق عالمي على أن الحركة الاقتصادية العالمية متوقفة على سرعة حركة النفط والغاز والتي تسيطر عليه هذه المنطقة بمعدل مرتفع جدا، والتي تتطابق مع قوتها العالمية لكنها تظل في مقام ” القوة ” الفلسفية ولم تنتقل إلى مرحلة ب ” الفعل ” الاستراتيجية، وهنا يقع أكبر انسداد استراتيجي لكثرة الفاعلين بهذه المنطقة، ذلك أن حالة التصادم البينية، تجعل الاستقواء الذاتي يصرف بين يدي سماسرة الصراع الدولي، بشكل يؤدي إلى قضم ذاتي للمقدرات فقط من أجل فرض النفس بين جغرافية مشذرة سياسيا واقتصاديا.
وهذا ما نلاحظه عيانا بين محور المقاومة ومحور الاعتدال، بالإضافة إلى دول ارتأت ” النأي بالنفس ” حتى تحافظ على أسلوب معيشي يكفل لها تدبير أزماتها الخاصة بعيدا عن القضايا الكبرى. وفي ظل هذا التصادم البيني الفاوستي، تحافظ القوى الكبرى على مراكز الريادة الاستراتيجية.
دعونا نقلب التصور ونتجاوز المضائق الاستراتيجية التي ترسم يوما بيوم، ولندرس الوضع الجيواستراتيجي لهذه المنطقة بشكل متمعير، غفلا عن الانسدادات المصلحية التناقضية، ونركز على أهمية ” القوة العلائقية ” التي تتصلب أمام مجمل التحديات الاستراتيجية المتصورة، المتأصلة على ثلاث مقتضيات الأولى جيوسياسية والثانية جيواقتصادية والثالثة جيوثقافية، ( [38] )مهجوسة بالجوار والتضامن والشراكة، يسمح لها بتمرير مصالحها الوطنية في انسيابية تامة، دون كثير استفزاز وفي انعدام للعراقيل إلى أقصى حد ممكن، أو تخفيض منسوب العرقلة إلى أدنى مستوياتها، وهذه المكونات هي نفس ما يمكن أن تتشكل عليه أية إقليمية مقتدرة،
إلا أن المنطقة الإفراسية يمكنها ابتداءا أن تعتمد مرحليا المقابل الفعلي للإقليمية الجديدة دون البحث عن خلق مؤسسات لهذا الغرض، ما دامت الاحتقانات السياسية لا زالت مرتفعة ولم تبرد بعد، لأنها أولا لا تستجلب انضباطا لمؤسسات قد تتناقض والمصلحة الوطنية، كما أنها تكفل لها حرية الحركة من أجل رفع اقتصادي وسياسي مثالي. ( [39] ) ومن جهة ثانية أنها تشتغل على رسم أرضية توافقية في العمق، ليس بإدامة التعاون الإقليمي وحسب، بل أنها تضع على الأرض متحولات اقتصادية ومالية ضخمة، تدفع حتى بالدول الغير المنضبطة والرافعة لشعار الاحتقان، تخمد أمام علو ” المصلحة الاقتصادية ” لتتراجع خطوات إلى الوراء في مشروعها العدائي الذي تشتغل عليه، لأن الرفاه الاقتصادي له جاذبة تتجاوز كل المضائق الإيديولوجية والإثنية والدينية على حد سواء.
فالأسس الثلاثة من أجل فاعلية أكبر في العالم الحديث تتقوم على ثلاث: 1 – اعتماد الحكامة المبنية على الكفاءات MERITOCRACY للقطع مع الأنسجة الاجتماعية ذات البنية الزبونية، 2 – والسلم الأهلي لأنه الفضاء الحيوي الذي يؤدي إلى بناء الأمة كما الدولة في إطار مفتوح ومتعافي من الأزمات المتخندقة في المصلحيات الضيقة، والتي ترتئي الحراك في المستنقعات الأزموية للحفاظ على مصالحها، وخلق احتقان اجتماعي في الغالب ليس في كبير لإزاحة الأنظار على الموضع الأساسي والحيوي للخروج من الأزمات، حتى صارت تأبيد الأزمات خبزا يوميا لهكذا عقليات، 3 – الصراحة بوصفها مقوم أخلاقي عالي الجودة لتدبير المشاكل والأزمات على حد سواء، دون الحفاظ على ذلك الغموض السلبي من سلوكيات اجتماعية هدامة، فلا استقرار يتأصل خارج معامل الصراحة الأخلاقية، وإلا فإن الدولة بدلا من أن تشتغل على بناء نفسها تقضي عمرها في تدبير الأزمات التي تولد أخرى حتى يضيع الشوط التأريخي في صدامات بينية، في الوقت الذي تتقدم فيه دول أخرى خطوات كبيرة إلى الأمام. ( [40] )
فالدولة – الأمة التي لا تحمل وعيا اقتصاديا تدبيريا لثرواتها الطبيعية بالبحث عن الأسواق العالمية الأكثر كفاءة، والتي لا تهتم إلى التمكن من دور إقليمي، فإنها حتما ستكون ضحية قراصنة السوق العالمي، ومطامح دول الجوار، خصوصا أن ثقافة الواقعية عادت بقوة في ظل منظومة الإمبراطورية الأمريكية التي بدأت تتسيد على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كان دورها ينحصر تدريجيا أمام ما أسماه المفكر الاستراتيجي باراغ خانا بظهور ” العالم الثاني ” وصعود مقدرة دول البريكس إلى جانب ارتفاع مطامح مجموعة من الدول الكبرى لقيادة العالم جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية.
فكل هذه المتحولات التي بدأت تكسو المشهد العالمي ارتكزت على معطيين أساسيين: التنمية الاقتصادية، وتصاعد الدور الإقليمي.
وخصوصية هذين البعدين – بغض النظر عن الدخول في التفاصيل – أنها لا تكفل الرفاه والتحكم في المحيط الخارجي بالشكل الذي يحمي المصلحة الوطنية فقط، بل أنها يمكن أن تتحقق وفق منطق المصافقة، لأن النشاط التجاري وفرض ” الدور” في المنطقة لا يستلزم الخوض في الصراعات، بقدر ما يرتكز على ذهنية استراتيجية اقتصادية عميقة وطموح يتم تدبيره بضمان توزيع للمنتوجات الوطنية في العالم الذي يظل بطبيعته منفتحا.
بتوسط قراءة دقيقة لحاجيات الدول في العالم، والتخلص من منطق القطبية الواحدة التي بدأت تندثر واقعا، فكلما سعت الدولة إلى فتح بصرها على مجمل دول العالم، إلا وتكتشف بأن ثمة أسواق اقتصادية جديدة يمكنها من تصدير منتجاتها بنتائج اقتصادية أكثر نفعا وأبعد أثرا، مما يحول الثروات الطبيعية إلى مرتكز استراتيجي أساسي يساعد في دعم المقصد الدولتي في بناء ذاته.
فضلا على أن منطق المصافقة يفتح بابا جديدا في الفعل التواصلي، ذلك أنها لا تظل مدخولة بالإيديولوجية الحاكمة للدولة، بقدر ما ترتهن إلى سقف التوافق العولمي مما يفتح الباب واسعا لمكنة تمرير الفاعلية الدولتية دون وقوف انسدادات أساسية أمامها، بوصفها معامل مناورة لإيجاد تراضي ما في العملية الإنمائية إن إقليميا أو دوليا.
فالعالم أضحى فضاءا أكثر انفتاحا من ذي قبل، ويسمح بحرية حركة معرفية واقتصادية وانسانية لم يشهد لها التأريخ سابقة، وهذه فرصة ذهبية لكي تضطلع دول المنطقة بدورها البناء في الفعل التشاركي العالمي، إن استجمعت أشراط ما سبق طرحه في متن هذا البحث.
ذلك أنه عندما نعود إلى الدول التي تدخل في رحم هذه الجغرافيا الكبروية نكتشف بأنها جميعها أعضاء في أوفاق اقتصادية ومالية وتجارية متكثرة، تستدخل باقي الدول الأعضاء الخارج الترسيمة الجغرافية.
وهي فرصة مناسبة للاستفادة من شبكة التعالقات الاقتصادية الأكثر اتساعا، تجعلها رافعة اقتصادية ذاتية مرتكزة على روافع اقتصادية أكثر اتساعا، يسمح لها بتولد عولمة اقتصادية جديدة تنضم إلى مقام التأثير الأكثر فعالية في المشهد العالمي.
فثمة استدخال لاتفاقية ” آسيان ” ولاتفاقية ” شنغهاي ” بوصفهما أقوى الاتفاقيات الاقتصادية التي تنفتح باقتدار على هامش التنافس العالمي، من الناحية الشرقية العالمية، كما أنها تفتح المنطقة الأوراسية ومجموعة البريكس شمالا وغربا وجنوبا، فضلا على الأوفاق الاقتصادية الأكثر شمولية.
مما يجعلها كإقليمية جديدة تستطيع أن تستدخل كل المزايا الاقتصادية بتعقلن ذاتي أكثر، يسمح لهذه الدول بإعادة ارتكاز جديد في المشهد العالمي، دون أن ننسى العمق العربي نحو شمال إفريقيا بوصفه الممر الإلزامي في البحر الأبيض المتوسط.
أعتقد بأن التفكير بعمق وبجدية كبيرة والاشتغال على هذا المشروع، لن يعيد طريق الحرير إلى العالم، بل يعيد هيلمان المنطقة الإفراسية برمتها.
خــاتـمـــة:
حاولنا في هذه الورقة أن نجري حركتين معرفيتين في نفس الآن، مقاربة التغول الأمريكي أنطولوجيا ومساءلة سياسته في العمق دون كثير احتكاك بالشواهد لأن ثبوتية وضعه تعفي من كثرة الاستدلالات، وفي نفس الآن حاولنا أن نجد كوة جيوسياسية وجيواقتصادية حتى نكون أقرب إلى المبنى العملاني في المطارحة، من الجانب الذي يؤرقنا ويهمنا أكثر من غيره وهو الربط الإفراسي الذي نراه تحديا معقولا، وممكن التطبيق في نفس الآن، فقط يلزمنا جلسة صفاء ذهني تواصلي بدلا من الشعارات التي أكلت من جسمنا السياسي أكثر مما أطعمته.
عبد العالي العبدوني
باحث من المغرب
– نيل فيرجيسون: الصنم ـ صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية ترجمة معين محمد الإمام الصفحة 109 عن دار العبيكان سنة 1427 للهجرة.
-Alexander Wendt : op cit « george and Keohane identify three national interests – physical survival, autonomy, and economic well-being – which they describe informally as “life, liberty, and property”. I will add a fourth, “collective self-esteem” p 235.
– Alexander Wendt : op cit « collective self-esteem refers to a group’s need to feel good about itself, for respect or status. Self-esteem is a basic human need of individuals, and one of the things that individuals seek in group membership.”
– Jean-jacques Roche :Théories des relations internationales, clefs politiques, 5 éditions Montchrestien.2004, p 110.
– Pierre Hassner : Etats Unis : l’empire De La Force ou La Force de l’empire ?, Cahiers De chaillot, numero 54, Septembre 2002, Institut d’études de sécurité, p : 14.
– Pierre Hassner : op.cit p : 47.
– إيريك هوبزباوم: العولمة والديموقراطية والإرهاب، تر: أكرم حمدان و نزهت طيب، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ومركز الجزيرة للدراسات، الطبعة الأولى 2009، الصفحة 47.
ـ روبرت كوبر: تحطم الأمم ـ النظام والفوضى في القرن الحادي وعشرين، تر: زهير السمهوري، دار العبيكان، سنة 2005، الصفحة 299. كما يمكن مراجعة كتابات روبرت كاغان والذي يعتبر من أشرس المدافعين عن فكرة الإمبراطورية وضرورتها في الوضع الدولي الراهن.
– إيريك هوبزباوم: م.س الصفحتان 44 و 45.
ـ محمود حيدر : لاهوت الغلبة الصفحة 205.
ـ لمزيد من التوسع بخصوص تفاصيل الفكر السيادي الأمريكي لا بأس من مراجعة كتاب الإمبراطورية لمايكل هارت وأنطونيو نيغري خصوصا الفصل المعنون بشبكة القوة السيادة الأمريكية وميلاد الإمبراطورية الجديدة من الصفحة 160 وما يليها.
Antonio Negri and Michael Hardt : Empire, Harverd University Press, London, England, 2000.
ـ فتحي المسكيني: الفيلسوف والإمبراطورية في تنوير الإنسان الأخير. طبعة المركز الثقافي العربي سنة 2005 الطبعة الأولى الصفحتان 82 و 83.
ـ فتحي المسكيني: ن.م الصفحتان 83 و 84.
ـ فتحي المسكيني: ن.م الصفحة 84. الملاحظ بأن الفيلسوف المسكيني عمد إلى تعريب أفهوم gestell ب ” قشتال ” إلا أننا فضلنا البعد العربي للأفهوم وهي ” الإطار “.
ـ جوزيف س ناي ( الإبن ): مفارقة القوة الأمريكية ـ لماذا لا تستطيع القوة العظمى الوحيدة في العالم اليوم أن تنفرد في ممارسة قوتها ؟ ترجمة محمد توفيق البجيرمي، مكتبة العبيكان، سنة 2003، الصفحة 31 و 32.
ـ جوزيف س ناي: القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ترجمة محمد توفيق البجيرمي، الطبعة الأولى سنة 2007 دار العبيكان الصفحة 13.
ـ جوزيف س ناي: م.س الصفحة 32.
– Joseph S. Nye : u.s power and strategy after Iraq, foreign affairs, 1 July 2003.
ـ جوزيف س ناي: ن.م الصفحة 32.
ـ جوزيف س ناي: ن.م الصفحة 204 وما يليها.
– Parag khanna : Neo-Medieval Times , in good politics review december 2008. “The nation-state has just about passed away in terms of exclusivity. Now, when people talk about countries and international relations, they have to acknowledge that what they’re talking about is, at best, a particular slice of what’s going on in the world, and is not at all representative of the entirety of what’s happening. But there are some exceptions. When you look at China, you don’t exactly say that it is disappearing as a state. When you look at the financial crisis, all of a sudden, the United States is more of a state than ever. It has decided to take over practically the entire financial-services industry.”
– parag khanna : op.cit. “The key principle is overlap. Many people think that because a company isn’t a country, it falls beneath some jurisdiction. But more and more companies fall into all jurisdictions and under none at the same time, because all they do is regulatory arbitrage. They just move around wherever is best for them. Why did Halliburton go to Dubai? Changing this would never work because globalization is more powerful than any one country. Globalization creates perpetual, universal opportunities for nonstate actors to exploit. And governments can’t control globalization. No one can.”
– parag khanna ; breaking up is good to do, foreign policy, January 13, 2011. “This growing cartographic stress is not just America’s challenge. All the world’s influential powers and diplomats should seize a new moral high ground by agreeing to prudently apply in such cases Woodrow Wilson’s support for self-determination of peoples. This would be a marked improvement over today’s ad hoc system of backing disreputable allies, assembling unworkable coalitions, or simply hoping for tidy dissolutions. Reasserting the principle of self-determination would allow for the sort of true statesmanship lacking on today’s global stage.”
ـ محمود حيدر: لاهوت الغلبة طبعة دار الفارابي.
– Kenichi Ohmae : End of Nation State, the rise of regional economies, Harper Collins Publishers, 1996, p, 5.
– Kenichi Ohmae : The Next Global Stage, Challenges and Opportunities in Our Borderless World, Wharton school publishing, 2005, chapter four.
– سعيد الصديقي: هل تستطيع الدولة الوطنية أن تقاوم تحديات العولمة ؟ ضمن عمل جماعي تحت عنوان العولمة والنظام الدولي الجديد ، صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية سنة 2010، الصفحة 119.
ـ سليمان عبد الله حربي: مفهوم النظام الدولي الإقليمي – الأصول الفكرية للمفهوم ومستويات تحليله وعلاقته بالنظام الدولي، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية الصادرة عن جامعة الكويت، الرسالة 338 الحولية 32، شتنبر 2011، الصفحة 23.
ـ سليمان عبد الله حربي: ن.م لمزيد من التوسع يرجع للبحث وخصوصا من الصفحة 24 إلى غاية 29.
ـ عدنان السيد حسين: نظرية العلاقات الدولية، منشورات مجد طبعة 2010، الصفحة 154.
ـ سليمان عبد الله حربي: ن.م الصفحة 29 و 30.
– Emmanuel Todd : Après L’empire – Essai Sur La Décomposition Du Système Américain, Gallimard Folio Actuel, 2004, P : 175.
ـ سليمان عبد الله حربي: ن.م الصفحة 66.
[34] ـ عدنان السيد حسين: ن.م الصفحة 155.
ـ ناصيف يوسف حتي: النظرية في العلاقات الدولية، دار الكتاب العربي، سنة 1985، لمراجعة باقي الأدوار والأهداف يراجع الكتاب وخصوصا من الصفحة 262 إلى 264.
ـ عدنان السيد حسين: ن.م الصفحة 157.
– Robert d Kaplan : la revanche de la géographie – ce que les cartes nous disent sur les conflits a venir, éditions du Toucan, 2014, « La mondialisation elle-même a engendre de nombreuses résurgences régionalistes, souvent fondées sur une conscience religieuse ou ethnique ancrée dans un cadre spécifique », p 79.
ـ يرجى الرجوع إلى دراسة الأستاذ رشيد الحضيكي وخصوصا من الصفحة 298 إلى 302، ضمن بحث
Rachid El Houdaigui : La politique étrangère de Mohamed 6 ou la renaissance d’une « puissance relationelle » in Une décennie de réformes au Maroc (1999 – 2009), Centre D’études Internationales, edition Karthala, 2010.
ـ نحن بصدد إنهاء دراسة مطولة عن الأفق الإقليمي الجديد للمملكة المغربية آثرنا نشره منفردا لما يحمله من تفاصيل قانونية دولية لا تتوافق مع متن هذا البحث، سنعمد في المستقبل القريب إن شاء الله إلى نشره مستقلا.
– استقينا هذه المبادئ الكلية من كتاب كيشور محبوباني المشار إليه أعلاه، وخصوصا من الدراسة المعنونة ب asia’s lost mellennium من الصفحة 42 إلى 45.