دراسات وأبحاث
المنطقة الإفراسية
منصة جيواقتصادية مفتاح – أو الإقليمية الجديدة المفتاح
الخارطة السياسية للعالم تحمل أكثر من حكاية وأكثر من قصة، ولو وضعنا مجمل الخرائط العالمية منذ عصر النهضة الأوروبية إلى تأريخه، سوف نعاين بأن تناسلا لكائنات دولتية قد حدث، وتقطيع لأوصال ” المصلحة العليا ” قد تجلى، مما دفع إلى إعادة تأسيس عقد سياسي دولي منبني على التفاهم البيني والتوافقات لرأب صدع هذا التفتت.
هذه حقيقة تقف بين يدي القارئ كما لو أنها حتم وجودي أو قدر سياسي نتيجة حركة التقدم والرقي الحضاري الذي عرفته الإنسانية، ويبدو أن مشروع استيلاد الدول لا زال يعيش مخاضا إلى تأريخه، لتداخل رؤى استراتيجية قد تصل حد التناقض، ورغبة في تسييل حركة الثروات الطبيعية بأشراط تتوافق مع رغبة القوى الكبرى.
فالجغرافيا لم تكن مستندا شرعيا وحسب لتدبير الفضاء العمومي الدولتي، بل هي أكثر من ذلك إنها مرتكز استراتيجي أساسي لا يشق له غبار، يمكن الاستفادة منها كثيرا لمن عرف كيف يضبط لعبة تدبير القوة في المنطقة وفي العالم على حد سواء.
ورغم أهمية الأجهزة السياسية التي تتحكم في قرارات تدبير هذه الجغرافيا كل في دائرة سيادته الوطنية، إلا أنه لهذه الأخيرة الأصالة الوجودية التي تجعلها ترتفع عن ” الكائنات الدولتية ” التي تعتمرها.
فعودة الجغرافيا بقوة إلى حلبة المدارسة السياسية الدولية وتدبير الصراعات الإقليمية، بعد أن كانت متحيزة في الثقافة الحربية والعسكرية، لم يكن إلا من جهة أنها الثابت الأساسي إلى جانب التأريخ، والتي يمكنها أن تساعد في قراءة الأوضاع بشكل أليق، وأكثر فعالية من غيرها من المدارسات السياسية التي تتشابك داخل الحقول السياسية المحلية.
صحيح أن دراسة الحقول السياسية والتجاذبات فيما بينها، لها أهمية لا تخفى، إلا أن ذلك سرعان ما يرميها إلى الوراء في مقام بحث التحديات الإقليمية والعالمية، إذ أنه لو كان هناك سعي لإسقاط جهاز الدولة – الأمة، فبالأحرى هناك سعي مضاعف لتهميش المشاهد السياسية المحلية، واعتبارها عنصرا عاضدا لا محوريا في الترسيمات الجيواستراتيجية.
إلى أن صارت مستدخلة في الثقافة والاقتصاد والسياسة وكل المجالات المتعلقة بكشف أسواق جديدة بالمعنى الضيق للكلمة، أو الأسواق الاستراتيجية بالمعنى الموسع للكلمة، وبالتالي بدأ التعاطي مع الجغرافيا ومحوريتها يتعاظم على غيرها من الدراسات المؤسسية والتي تغترف من الإرث الويستفالي، لتبحث عن فعالية أكبر في ظل تولد نظام عالمي جديد، يعيد النظر في كل الأثقال السياسية التي وضعتها المرحلة الاستعمارية، يقول روبير دافيد كابلان ” العولمة بحد ذاتها استبطنت مجموعة من الهيجانات الإقليمية، والمرتكزة على وعي ديني أو قومي راكزة في إطار خاص ” ( [1] )
ومن هنا حساسية المنطقة العربية، ذلك أن الاختلاف الإثني والطائفي لا يتم تدبيره ضمن الخيار العقلاني الأمثل، بقدر ما يرفع كشعارات تساعد على نشر القلاقل والأزمات، أكثر من أن يكون بناءا، واستجلاب منافع شخصية قد يدفع بالكثيرين إلى الاقتداء وركوب الموجة حتى يحافظوا على هامش من الربح الاستراتيجي، والتي تشكل جميعها أرضية خصبة للتوغل الإرهابي، فهم كتنظيمات لا يستطيعون العمل إلا في ظل فوضى سيادية، تسمح بهامش كبير من المناورة والولوج بأعداد كبيرة للسيطرة على جغرافيات قد لا تكون ذات أهمية ابتداءا، لكنها تسمح بتشكيل روافع استراتيجية قتالية لهم للمضي قدما.
وحيث إنه صار معلوما للجميع محورية الشرق الأوسط في توزيع الثروات العالمية ولو بدون مساواة، ذلك أنها كانت دائما مرصدا استراتيجيا للقوى العالمية الكبرى أو للدول ذات الدور الإقليمي المحلي، من أجل السيطرة عليها وتصريف مصالحها الوطنية في قلب هذه الجغرافيا التي تضم أكثر من دولة، مما حولها إلى مرجل سياسي دائم السخونة ودائم الاحتقان.
وواقعا لا يمكن لمنطقة الشرق الأوسط أن تكون إلا كذلك، فعندما تتحول رقعة جغرافية إلى مطمع عالمي، فإنها بالضرورة تتضرر من تداخل الاستراتيجيات العالمية، وارتسام الولاءات السياسية النقيضة في قلبها، ما سنسعى إليه في هذه الورقة المختصرة هو أن نتجاوز الإطار الكولونيالي لقراءة هذه الرقعة الجغرافية ومحاولة توسيع التصور بشكل يخدمها إلى جانب دول كثيرة تتقاطع معها جغرافيا، وإخراجها من ربقة ” المطمع العالمي ” إلى فضاء ” المطمح الكوني “، عن طريق تحويلها إلى رافعة استراتيجية واقتصادية ولادة ثروات في ظل الاستقرار السياسي والاستراتيجي، بما يجعل كل المتدخلين الدوليين يتراجعون خطوات، بوصفها سوقا استراتيجية ذاتية الحركة، ذاتية التولد الحضاري. وربما مع الوقت الثقل القووي يعود إلى الشرق مجددا من تحت هذه العباءة.
إلا أننا ابتداءا نود التأكيد على أن المنطقة ” الإفراسية ” التي نود الدفاع عنها يحدها شرقا شمالا وشرقا جنوبا كل من أفغانستان وباكستان والهند وسريلانكا وجزر المالديف، ويحدها شمالا إيران والعراق وسوريا، ويحدها جنوبا كل من سلطنة عمان واليمن، ويحدها غربا شمالا وجنوبا كل من مصر والسودان وإثيوبيا ودجيبوتي وأريتيريا والصومال، على أننا نضع فلسطين المحتلة تحت الفاعلية العملانية لا الربط الرسمي، والذي سنرجئ الحديث في ورقة مستقلة. ( [2] )
ثمة إطباق عالمي على أن الحركة الاقتصادية العالمية متوقفة على سرعة حركة النفط والغاز والتي تسيطر عليه هذه المنطقة بمعدل مرتفع جدا، والتي تتطابق مع قوتها العالمية لكنها تظل في مقام ” القوة ” الفلسفية ولم تنتقل إلى مرحلة ب ” الفعل ” الاستراتيجية، وهنا يقع أكبر انسداد استراتيجي لكثرة الفاعلين بهذه المنطقة، ذلك أن حالة التصادم البينية، تجعل الاستقواء الذاتي يصرف بين يدي سماسرة الصراع الدولي، بشكل يؤدي إلى قضم ذاتي للمقدرات فقط من أجل فرض النفس بين جغرافية مشذرة سياسيا واقتصاديا.
وهذا ما نلاحظه عيانا بين محور المقاومة ومحور الاعتدال، بالإضافة إلى دول ارتأت ” النأي بالنفس ” حتى تحافظ على أسلوب معيشي يكفل لها تدبير أزماتها الخاصة بعيدا عن القضايا الكبرى. وفي ظل هذا التصادم البيني الفاوستي، تحافظ القوى الكبرى على مراكز الريادة الاستراتيجية.
دعونا نقلب التصور ونتجاوز المضائق الاستراتيجية التي ترسم يوما بيوم، ولندرس الوضع الجيواستراتيجي لهذه المنطقة بشكل متمعير، غفلا عن الانسدادات المصلحية التناقضية، ونركز على أهمية ” القوة العلائقية ” التي تتصلب أمام مجمل التحديات الاستراتيجية المتصورة، المتأصلة على ثلاث مقتضيات الأولى جيوسياسية والثانية جيواقتصادية والثالثة جيوثقافية، ( [3] ) مهجوسة بالجوار والتضامن والشراكة، يسمح لها بتمرير مصالحها الوطنية في انسيابية تامة، دون كثير استفزاز وفي انعدام للعراقيل إلى أقصى حد ممكن، أو تخفيض منسوب العرقلة إلى أدنى مستوياتها.
وهذه المكونات هي نفس ما يمكن أن تتشكل عليه أية إقليمية مقتدرة، صحيح أن المشهد الدولي عرف الكثير من الإقليميات والتكتلات الدولية في طول القرن المنصرم ولا زال قائما إلى تأريخه، إلا أنه لم يعرف تطابقا فقهيا في التعريف، مما حذا ببعض الباحثين إلى ضرورة تجاوز وضع تعريف محدد وحصري للإقليمية ” لكي لا يؤدي ذلك إلى قصر مجال تطبيقه على دائرة ضيقة من التجمعات والتكتلات الدولية دون غيرها. ووفقا لهذا الرأي فإنه يدخل ضمن التنظيمات الإقليمية جميع أنواع التكتلات التي تقوم على مبدأ التجاور الجغرافي أو الثقافي والحضاري، أو الاقتصادي، أو حتى العسكري.” ( [4] ) في حين مال الفريق الثاني إلى لزوم ذلك حتى لا يقع خلط بينها وبين غيرها من المؤسسات الأخرى المؤثثة للتعاون الدولي.
إلا أن الحد المتيقن في التعريف هو أنه ركز على مجموعة مقومات للقول بوجود إقليمية، مع اختلاف بين سقف ” التركيز ” وسقف ” التخفيف ” في هذه المقومات التي تتأسس على البعد الجغرافي الموحد، والبعد الثقافي الحضاري، وتطابق السياسات، فكل هذه المقومات عرفت أخذا وردا من جهة محوريتها وحصرية حاكميتها في توصيف الإقليمية، وبين التخفيف من تأثيرها للقول بوجود الإقليمية من عدمها. ( [5] )
إلا أنها ولوقوعها في طول الخط العولمي تلقت هذه المؤسسة الكثير من الضربات والهجمات، بوصفها إحدى أسباب عدم الاستقرار الدولي، رغم أن ميثاق الأمم المتحدة يقبل بوجود التكتلات الإقليمية وفاقا للمادة 52 ( [6] )، ومع ذلك ولو في ظل هذه الهجمات التي تناسلت والتي تلقتها فكرة الإقليمية إلا أنها لم تتوقف عن الصمود والممانعة في مواجهة المد العولمي، وخصوصا أمام عدم تحقق المساواة الاقتصادية والاجتماعية مما يؤدي بالدول إلى الاحتماء بهذا الميكانيزم الأساسي، لتدبير خيراتها بشكل يكفل مصلحتها القومية.
لذلك لم يكن مستغربا أن تظهر ” الإقليمية الجديدة ” كعنوان مبتكر يولد في رحم الزخم العولمي نفسه، إلا أنها تظل ذات جنبة اقتصادية ومالية بالضرورة، فهي ” سلسلة من الخطوات الإجرائية والسياسات التي تتبناها دول تجمعها عوامل مشتركة على المستوى الإقليمي، تعمل على إيجاد نوع من التعاون المشترك لتقوية نفوذها من خلال هذا التكتل، لضمان كيانها الذاتي تحسبا من نفوذ وسيطرة التكتلات الإقليمية الأخرى، أو في مواجهة الفاعلين الدوليين خارج نطاق الإقليم ” ( [7] )
فالتوافقات السياسية الموحدة على أساس جغرافي أو ما يسميه الباحث باراغ خانا ب ” السوق الجيوسياسية “، ووحدة الأزمة السياسية تؤدي لا محالة إلى بناء إقليمية وفق إجراءات متعددة ومساطر جزئية، تساعدها كتكتل على مواجهة السياسات الدولية الأخرى، وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي تحولت إلى ثقب أسود تجذب البضائع والأموال دون أن تقدم للخارج خدمات مساوية ( [8] )، مما أدى إلى اتساع رقعة الغنى والفقر بين القوة العظمى Superpower ودول الجنوب، حتى صار الضيم والظلم من صفات النظام العالمي الذي تولد بعد الحرب العالمية الثانية، وازداد تجذرا بعد سقوط جدار برلين تحت مظلة ” النظام العالمي الجديد “.
وأمام هكذا صدامات مصلحية في ظل غياب التوازن في القوى، عاينت الدول الضعيفة نسبيا بأنها لا يمكن أن تحافظ على مصلحتها القومية إلا في إطار تكتلات وأحلاف تقف في وجه مطامع الدول الأخرى، فالإقليمية ارتفعت إلى درجة المقصد الحيوي لمجموعة من الدول أمام سياسة الإركاع التي تمارسها الدول الكبرى لفائدتها الشخصية.
وهو جهد سياسي يظل مبررا في عالم لا يتقوم إلا على واحدية القوة بكل تلويناتها، فمن لا يقوم وحده اقتدارا يلزمه تكتيف جهوده مع دول أخرى تعاني من نفس الوضعية لتأتي القوة بالكثرة ووحدة التصور.
لذلك يرى الدارسون بأن نشأة النظام الدولي الإقليمي إما يقوم على أساس لا إرادي أو على أساس إرادي، حيث إن البعد اللاإرادي في النشأة يأتي من جهة تكاتف الأسباب الموضوعية التي تؤثث ” إطار من التفاعلات النمطية والمكثفة المشتركة بين وحدات النظام، الأمر الذي يجعل التغيير في جزء منه يؤثر على بقية الأجزاء، مما يؤدي أو يحمل ضمنا اعترافا داخليا وخارجيا بهذا النظام كنمط مميز ” ( [9] ) فقيام الإقليمية على هذا المستوى تأتي بدون اتفاق مسبق بين الدول الداخلة بها، بقدر ما جاءت كثمرة لاستجماع شروطها ووحدة التحدي الذي تمر به، بخلاف البعد الإرادي حيث المقصد يكون قائما خلال مرحلة التأسيس، ذلك أن إنشاء ” منظمات إقليمية هو تعبير عن واقع مادي وحضاري، وعن روابط جغرافية وثقافية، وعن مصالح مشتركة ” ( [10] )
وللإقليمية فوائد أساسية لا يمكن تجاهلها وأدوار لا يمكن إنكارها فهي تعطي الشرعية الإقليمية لمواقف وسياسات معينة في الإطار الدولي أو الإطار الإقليمي، كما تمنح إمكانية إبراز الشخصية المميزة والدور الهام على المستوى الدولي للهوية التي تمثلها المنظمة ( [11] ) لأنها انضواء مجموعة من الدول حتى لو كانت ضعيفة تحت إطار المنظمة الإقليمية، يساعدها في رسم معالم هوية كلية تقف في وجه صدام الهويات التي تحكم المشهد الدولي.
فأهمية المنظمات الإقليمية تأكدت خصوصا بعد صدور بيان عن مجلس الأمن بتأريخ 31 يناير 1992 الذي دعا إلى الأخذ بالاعتبار دورها بما يتفق مع الفصل السابع من الميثاق لمساعدة مجلس الأمن في أعماله، وبالذات في المناطق التي يصعب وصول الأمم المتحدة إليها. ( [12] )
إلا أن المنطقة الإفراسية يمكنها ابتداءا أن تعتمد مرحليا المقابل الفعلي للإقليمية الجديدة دون البحث عن خلق مؤسسات لهذا الغرض، ما دامت الاحتقانات السياسية لا زالت مرتفعة ولم تبرد بعد، لأنها أولا لا تستجلب انضباطا لمؤسسات قد تتناقض والمصلحة الوطنية، كما أنها تكفل لها حرية الحركة من أجل رفع اقتصادي وسياسي مثالي. ( [13] ) ومن جهة ثانية أنها تشتغل على رسم أرضية توافقية في العمق، ليس بإدامة التعاون الإقليمي وحسب، بل أنها تضع على الأرض متحولات اقتصادية ومالية ضخمة، تدفع حتى بالدول الغير المنضبطة والرافعة لشعار الاحتقان، تخمد أمام علو ” المصلحة الاقتصادية ” لتتراجع خطوات إلى الوراء في مشروعها العدائي الذي تشتغل عليه، لأن الرفاه الاقتصادي له جاذبة تتجاوز كل المضائق الإيديولوجية والإثنية والدينية على حد سواء.
فالأسس الثلاثة من أجل فاعلية أكبر في العالم الحديث تتقوم على ثلاث: 1 – اعتماد الحكامة المبنية على الكفاءات للقطع مع الأنسجة الاجتماعية ذات البنية الزبونية أو ما يتوافق على تسميته MERITOCRACY، 2 – والسلم الأهلي لأنه الفضاء الحيوي الذي يؤدي إلى بناء الأمة كما الدولة في إطار مفتوح ومتعافي من الأزمات المتخندقة في المصلحيات الضيقة، والتي ترتئي الحراك في المستنقعات الأزموية للحفاظ على مصالحها، وخلق احتقان اجتماعي في الغالب ليس في كبير لإزاحة الأنظار على الموضع الأساسي والحيوي للخروج من الأزمات، حتى صارت تأبيد الأزمات خبزا يوميا لهكذا عقليات، 3 – الصراحة بوصفها مقوم أخلاقي عالي الجودة لتدبير المشاكل والأزمات على حد سواء، دون الحفاظ على ذلك الغموض السلبي من سلوكيات اجتماعية هدامة، فلا استقرار يتأصل خارج معامل الصراحة الأخلاقية، وإلا فإن الدولة بدلا من أن تشتغل على بناء نفسها تقضي عمرها في تدبير الأزمات التي تولد أخرى حتى يضيع الشوط التأريخي في صدامات بينية، في الوقت الذي تتقدم فيه دول أخرى خطوات كبيرة إلى الأمام. ( [14] )
فالسيادة الوطنية التي يتم تعريفها على أنها قدرة الدولة الوطنية على تدبير سياستها باقتدار سواء على المستوى الوطني أو الدولي في إطار من الحرية والاستقلال، فالوجه الداخلي للسيادة ” تفيد فيه سيادة الدولة الداخلية تحديدها لنظامها بنفسها وسيطرتها على مواردها وسكانها، وعدم وجود سلطة أسمى من سلطتها، واحتكارها لسلطة الإكراه وللقوة المسلحة دون سائر المجموعات المتواجدة على إقليمهامن عائلات وأحاب ونقابات. ” والوجه الخارجي ” تعني فيه سيادة الدولة الخارجية عدم خضوعها لسلطة خارجية تحد من استقلالها ( بالاستعمار أو الانتداب أو الحماية أو الوصاية ) وإبرامها لمعاهدات متكافئة برضاها ” ( [15] )
صحيح أن ثمة ضوابط قانونية دولية تؤدي واقعا إلى تقييد السيادة الوطنية لكن ثمة توجه فلسفي قانوني يريد أن يسقط هذه السيادة لفائدة مبدأ حق التدخل ولو في أكثر أشكاله عنفا، على الخصوص بعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، والذي سمح بظهور انتفاخ إيديولوجي ليبرالي على المشهد العالمي، والسعي إلى إعادة توضيب معالم كل البنى القانونية الدولية، تسمح بتسييل المجهود العولمي، والتي قد لا تتطابق مع تكثر السيادات الدولتية، قد تضحي مناسبة تأريخية لإعادة النظر في مقوم تسييل السيادة الوطنية بما يحقق نجاحات إقليمية باهرة.
وهذا الجهد المعرفي المتناسل في السياسة الدولية، جاء ثمرة تصور دافع عنه الباحث كينيشي أوهماي في كتابه ” نهاية الأمة الدولة وانبعاث الجهوية الاقتصادية ” حيث خلص إلى أن التشابك الاقتصادي العالمي أخذ يتجاوز حد السيادة الدولتية حيث أنه كفاعل بدأ يفقد آلية التحكم والسيطرة في حركة البضائع والأموال، وبدأت هذه الأخيرة هي التي تتحكم في حركتها الذاتية وتتخذ القرارات المناسبة غفلا عن الإرادة الوطنية.
بل أن المصلحة الوطنية والسيادة الوطنية أضحيا أكبر عائق اقتصادي يمكن أن تواجهه ثقافة السوق الحر، حيث مجمل الكتاب جاء استدلالا على هذه القاعدة، إذ يقول بأننا سنسعى إلى ” إثبات لماذا أن الأمة الدولة بمعناها الكلاسيكي أضحت غير طبيعية، ومستحيلة في نفس الآن، أمام الاقتصاد العولمي، ولماذا الدول الجهوية واقعا هي الأكثر كفاءة، والأكثر فعالية في هذا المجال “، ( [16] ) وعاد ليؤكد نفس المقتضى في كتابه ” المرحلة الآتية للعولمة ” بأن وضع تفسيرا أكثر دقة لمقصده من الدولة الجهوية، حيث جعلها الدول التي تركز على جهويات موسعة داخلها، سامحة بهامش تعاقدي دولي يتجاوز المركزية الإدارية والسياسية في نفس الآن، مركزا على اليابان والهند والصين كنماذج جديدة، وناجحة كفاعلين أساسيين في حركة الاقتصاد العالمي، كما أضحت تتقوم من خلال قواعد السوق الحر. ( [17] )
وطبعا هكذا جهد استتبع آراءا متضاربة بين المتمسكة بهامش فعالية للسيادة الوطنية، وبين القائلة بالزوال الكلي للسيادة الدولتية، من جهة لمن الأولوية في التعاطي هل هي للدولة بوصفها فاعل دولي مركزي سواء في ظل المدرسة الواقعية أو الواقعية الجديدة أو حتى البنائية، أو الأولوية إلى إيديولوجية السوق الحر كما تتبناها المدرسة الليبرالية والليبرالية الجديدة، ويسعى كل تيار إلى الاستدلال على صحة موقفه التنظيري والتشخيصي لدائرة الفعالية لمن تعود، يقول الباحث المغربي سعيد الصديقي ” إن ظاهرة العولمة أخضعت هذا المفهوم ( السيادة ) وغيره من المفاهيم الرئيسية في علم السياسة للمراجعة وإعادة التعريف، فأصبحنا نعاصر موجة من الكتابات التي تشكك في المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية القائم على نموذج الدولة التي تراقب بشكل مستقل شكل ومضمون سياستها العامة، وتعتبره إما مفهوما مهجورا، أو أنه ينتمي إلى تقليد مذهبي في طريق الفناء، وإما متجاوز نظريا وغير نافع عمليا، لأن الرهانات الدولية الجديدة والمشكلات غير المسبوقة والحدود الاقتصادية والجمركية التي رسمتها تحولات العولمة لا تتوافق مع الحدود السياسية التي يقوم عليها المفهوم التقليدي للسيادة. ” ( [18] ) مما يفرض عليها إعادة النظر في أولوياتها الحديثة في ظل هذه المتغيرات حتى تحافظ على مكانتها كفاعل محلي ودولي.
وهو سؤال محوري وتحدي أساسي، يستلزم معه إعادة النظر في كل المداميك الدولتية من جهة ناظميتها للشأن الوطني، وتدبيريتها للشأن الدولي، بالتركيز على مديات السلطة وأفق التأقلم مع الأوضاع العالمية، باستدخال رؤى قانونية جديدة تغوص في عمق فلسفة الدولة – الأمة، وتناقش أشراط بقائها ولو بعد اضمحلال المرحلة الويستفالية فعليا.
ويبدو أن المفهوم السياسي القائم على الجهويات الاقتصادية إحدى أهم المفاصل السياسية والنظرية التي يمكن أن تفتح ورشا إقليما موسعا، لمدارسة مديات حيوية يمكن أن تولد، بشرط أن نخرج من خانة التوصيف والقراءة الداعمة، ونهتم أكثر بالتأصيل النظري بوصفها مبنى فكري تدبيري مستحدث له آثار وطنية ودولية في نفس الآن، واستقراء مفاعيل هكذا جهاز سياسي عندما يتوسع على الأفق السيادي المغربي، فالموضوع يستحق وله آثار فعلية على كل البنية الدولتية.
طبعا نحن لسنا من الذين يعتمدون الوجهة المتطرفة القائلة بزوال الدولة الوطنية وتهالك السيادة الوطنية، بل تصورنا يذهب خلاف ذلك، إلا أننا آثرنا التأكيد على أن ثمة توجه لا يتوقف عن التوسع ينظر إلى العالم من خلال ثقافة السوق الحر، وقد يحتوي مؤسسات دولية بالكامل، ويجب البناء على أسوأ السيناريوهات لتركيز تصور اقتداري يؤدي إلى تحصين السيادة الوطنية وفق أقصى المقادير الممكنة في ظل المتحولات العالمية، بالقيام بمراجعات في العمق لمباني ” المصلحة الوطنية العليا ” و ” مديات السلطة ” وغيرها من المفاهيم التأسيسية للجغرافيا.
فالدولة – الأمة التي لا تحمل وعيا اقتصاديا تدبيريا لثرواتها الطبيعية بالبحث عن الأسواق العالمية الأكثر كفاءة، والتي لا تهتم إلى التمكن من دور إقليمي، فإنها حتما ستكون ضحية قراصنة السوق العالمي، ومطامح دول الجوار، خصوصا أن ثقافة الواقعية عادت بقوة في ظل منظومة الإمبراطورية الأمريكية التي بدأت تتسيد على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كان دورها ينحصر تدريجيا أمام ما أسماه المفكر الاستراتيجي باراغ خانا بظهور ” العالم الثاني ” وصعود مقدرة دول البريكس إلى جانب ارتفاع مطامح مجموعة من الدول الكبرى لقيادة العالم جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية.
فكل هذه المتحولات التي بدأت تكسو المشهد العالمي ارتكزت على معطيين أساسيين: التنمية الاقتصادية، وتصاعد الدور الإقليمي.
وخصوصية هذين البعدين – بغض النظر عن الدخول في التفاصيل – أنها لا تكفل الرفاه والتحكم في المحيط الخارجي بالشكل الذي يحمي المصلحة الوطنية فقط، بل أنها يمكن أن تتحقق وفق منطق المصافقة، لأن النشاط التجاري وفرض ” الدور” في المنطقة لا يستلزم الخوض في الصراعات، بقدر ما يرتكز على ذهنية استراتيجية اقتصادية عميقة وطموح يتم تدبيره بضمان توزيع للمنتوجات الوطنية في العالم الذي يظل بطبيعته منفتحا.
بتوسط قراءة دقيقة لحاجيات الدول في العالم، والتخلص من منطق القطبية الواحدة التي بدأت تندثر واقعا، فكلما سعت الدولة إلى فتح بصرها على مجمل دول العالم، إلا وتكتشف بأن ثمة أسواق اقتصادية جديدة يمكنها من تصدير منتجاتها بنتائج اقتصادية أكثر نفعا وأبعد أثرا، مما يحول الثروات الطبيعية إلى مرتكز استراتيجي أساسي يساعد في دعم المقصد الدولتي في بناء ذاته.
فضلا على أن منطق المصافقة يفتح بابا جديدا في الفعل التواصلي، ذلك أنها لا تظل مدخولة بالإيديولوجية الحاكمة للدولة، بقدر ما ترتهن إلى سقف التوافق العولمي مما يفتح الباب واسعا لمكنة تمرير الفاعلية الدولتية دون وقوف انسدادات أساسية أمامها، بوصفها معامل مناورة لإيجاد تراضي ما في العملية الإنمائية إن إقليميا أو دوليا.
فالعالم أضحى فضاءا أكثر انفتاحا من ذي قبل، ويسمح بحرية حركة معرفية واقتصادية وانسانية لم يشهد لها التأريخ سابقة، وهذه فرصة ذهبية لكي تضطلع دول المنطقة بدورها البناء في الفعل التشاركي العالمي، إن استجمعت أشراط ما سبق طرحه في متن هذا البحث.
ذلك أنه عندما نعود إلى الدول التي تدخل في رحم هذه الجغرافيا الكبروية نكتشف بأنها جميعها أعضاء في أوفاق اقتصادية ومالية وتجارية متكثرة، تستدخل باقي الدول الأعضاء الخارج الترسيمة الجغرافية.
وهي فرصة مناسبة للاستفادة من شبكة التعالقات الاقتصادية الأكثر اتساعا، تجعلها رافعة اقتصادية ذاتية مرتكزة على روافع اقتصادية أكثر اتساعا، يسمح لها بتولد عولمة اقتصادية جديدة تنضم إلى مقام التأثير الأكثر فعالية في المشهد العالمي.
فثمة استدخال لاتفاقية ” آسيان ” ولاتفاقية ” شنغهاي ” بوصفهما أقوى الاتفاقيات الاقتصادية التي تنفتح باقتدار على هامش التنافس العالمي، من الناحية الشرقية العالمية، كما أنها تفتح المنطقة الأوراسية ومجموعة البريكس شمالا وغربا وجنوبا، فضلا على الأوفاق الاقتصادية الأكثر شمولية.
مما يجعلها كإقليمية جديدة تستطيع أن تستدخل كل المزايا الاقتصادية بتعقلن ذاتي أكثر، يسمح لهذه الدول بإعادة ارتكاز جديد في المشهد العالمي، دون أن ننسى العمق العربي نحو شمال إفريقيا بوصفه الممر الإلزامي في البحر الأبيض المتوسط.
أعتقد بأن التفكير بعمق وبجدية كبيرة والاشتغال على هذا المشروع، لن يعيد طريق الحرير إلى العالم، بل يعيد هيلمان العالم الإسلامي برمته، هذه الورقة المبدئية والتي ستستتبعها دراسة أوسع استدلالا وتعاطيا مع مجمل العراقيل الممكنة، هي دعوة إلى كل الباحثين والمفكرين للاشتغال على هذا الورش الكبير.
عبد العالي العبدوني
[1] – Robert d Kaplan : la revanche de la géographie – ce que les cartes nous disent sur les conflits a venir, éditions du Toucan, 2014, « La mondialisation elle-même a engendre de nombreuses résurgences régionalistes, souvent fondées sur une conscience religieuse ou ethnique ancrée dans un cadre spécifique », p 79.
[2] – واقعا سبق للمؤرخين أن تحدثوا عن المنطقة الإفراسية، لكن وسعوا من مداها لتشمل الصين شرقا إلى المغرب غربا، حيث تكررت في كتابات هودجسون، لكن آثرنا لأسباب عملانية مراجعة مداها، لأن الثقل الجيواقتصادي حتى يكون أكثر فاعلية يحتاج إلى تضييق ابتداءا حتى يسهل اتساعه نهاية، وبهذا وجب التنويه.
[3] ـ يرجى الرجوع إلى دراسة الأستاذ رشيد الحضيكي وخصوصا من الصفحة 298 إلى 302، ضمن بحث
Rachid El Houdaigui : La politique étrangère de Mohamed 6 ou la renaissance d’une « puissance relationelle » in Une décennie de réformes au Maroc (1999 – 2009), Centre D’études Internationales, edition Karthala, 2010.
[4] ـ سليمان عبد الله حربي: مفهوم النظام الدولي الإقليمي – الأصول الفكرية للمفهوم ومستويات تحليله وعلاقته بالنظام الدولي، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية الصادرة عن جامعة الكويت، الرسالة 338 الحولية 32، شتنبر 2011، الصفحة 23.
[5] ـ سليمان عبد الله حربي: ن.م لمزيد من التوسع يرجع للبحث وخصوصا من الصفحة 24 إلى غاية 29.
[6] ـ عدنان السيد حسين: نظرية العلاقات الدولية، منشورات مجد طبعة 2010، الصفحة 154.
[7] ـ سليمان عبد الله حربي: ن.م الصفحة 29 و 30.
[8] – Emmanuel Todd : Après L’empire – Essai Sur La Décomposition Du Système Américain, Gallimard Folio Actuel, 2004, P : 175.
[9] ـ سليمان عبد الله حربي: ن.م الصفحة 66.
[10] ـ عدنان السيد حسين: ن.م الصفحة 155.
[11] ـ ناصيف يوسف حتي: النظرية في العلاقات الدولية، دار الكتاب العربي، سنة 1985، لمراجعة باقي الأدوار والأهداف يراجع الكتاب وخصوصا من الصفحة 262 إلى 264.
[12] ـ عدنان السيد حسين: ن.م الصفحة 157.
[13] ـ نحن بصدد إنهاء دراسة مطولة عن الأفق الإقليمي الجديد للمملكة المغربية آثرنا نشره منفردا لما يحمله من تفاصيل قانونية دولية لا تتوافق مع متن هذا البحث، سنعمد في المستقبل القريب إن شاء الله إلى نشره مستقلا.
[14] – استقينا هذه المبادئ الكلية من كتاب كيشور محبوباني المشار إليه أعلاه، وخصوصا من الدراسة المعنونة ب asia’s lost mellennium من الصفحة 42 إلى 45.
[15] ـ محمد معتصم: مختصر النظرية العامة للقانون الدستوري والمؤسسات السياسية، منشورات إيزيس، الطبعة الأولى سنة 1992، الصفحة 34.
[16] – Kenichi Ohmae : End of Nation State, the rise of regional economies, Harper Collins Publishers, 1996, p, 5.
[17] – Kenichi Ohmae : The Next Global Stage, Challenges and Opportunities in Our Borderless World, Wharton school publishing, 2005, chapter four.
[18] – سعيد الصديقي: هل تستطيع الدولة الوطنية أن تقاوم تحديات العولمة ؟ ضمن عمل جماعي تحت عنوان العولمة والنظام الدولي الجديد ، صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية سنة 2010، الصفحة 119.