web analytics
دراسات وأبحاث

الدستور الأبويّ واليُتم الوطني: إشكالية العلاقة بين المرجعيّة الدستوريّة الأبويّة وأزمات الحُكُم في لبنان

د. عباس ابراهيم مزهر

(مؤسس نظريّة الأنتروستراتيجيا الدولية)

صدرت في مركز الدراسات والمعلومات في المجلس النيابي اللبناني

الحياة النيابية / المجلّد المائة وواحد/ عدد كانون الأول 2016

* المقدّمة

* المبحث الأول: المرجعيّة الأبويّة الدستوريّة وبُنية النظام اللبناني

– المطلب الأول: باتريارشيّة الدستور الأبويّ وإشكالية التنشئة الوطنية

– المطلب الثاني: دور الثقافة والدين في تثبيت النظام الأبويّ اللبناني

* المبحث الثاني: اليُتم الوطني ومأزمية الحُكُم في لبنان

– المطلب الأول: مُعضلة الوراثة السياسية

– المطلب الثاني: أزمة المشاركة السياسية والمواطنية

* الخاتمة

ألمقدمة

     إنّ مفهوم المرجعية الأبوية للشعب بمعناه الرمزي، له دلالات عظيمة القدْر، لا يمكن فهمها والإحاطة بأبعادها من دون اتّباع الأنتروبولوجيا القانونية، التي تكشف لنا المسار التاريخي لنشأة القانون والدستور بصيغتهِ البدائية الأولى لدى الجماعات الإنسانية. ومن المسّلم بهِ أن التاريخ البشري شهد جريمة مهولة، إنها واقعة قتل الأب الابتدائي الذي كان يمثّل المرجعية السلطوية العليا للقبيلة البشرية([1])، حيث إجتمع أفراد الرعيل البشري الأول وقتلوا أباهم الذي تنتابهم نحوه إزدواجية المشاعر: كره ناجم عن حقد وغيرة بسبب موقعه المرجعي الأعلى واستئثاره بإدارة وقيادة شؤون الرهط، وحب ناتج عن مشاعر الذنب بسبب الحاثة الدافعة إلى قتله وإزاحته لأخذ دوره عنوةً. وبالفعل اجتمع أبناء النفيل البشري الأول وتخلصوا من الأب، ممثل المرجعية السلطوية المطلقة واغتصبوا مكانته وزعامته. وبعدما اختلف الأبناء حول السلطة والقيادة – وقد أرّقتهم مشاعر الإثم وتبكيت الضمير بسبب الجريمة المفزعة – قرروا التماهي بالأب المقتول وتطبيق قانونه واحترام طوطمه([2]) الذي صار شعاراً لهم. فحرّموا الزواج من أخواتهم وأمهاتهم لأنهنّ نساء الطوطم الداخلي المتجانس، وذلك احتراماً لشريعة الأب المرجعي. ثم تكتّلوا بعد ذلك في متّحد جامع، يضمّ كلّ الذين يشتركون في الطوطم الواحد، بغية الدفاع عن طوطمهم وحمايته وصون أرض القبيلة ومقوماتها الحيوية.

في المشهد البدائي كان الرهط البشري يحكمه أب أعلى كبير الشأن، يمثّل قانون الرعيل الإنساني الأول ويقيم التنظيمات الاجتماعية ويفرض التقييدات والتحظيرات التحريمية: كمنع الأبناء من التزاوج مع الأخوات أو الأم وسائر النساء المحرّمات، كما يتولى الشؤون الإدارية للرهط عن طريق سلطته المطلقة. وفي لحظة وجودية حرجة وخطيرة اجتمع الأخوة المتآمرون بعد استيائهم من السلطة الأبوية المرجعية العليا، واندفعوا إلى ارتكاب جريمة شنيعة وبشعة بحق هذا الأب، وقتلوه غيلةً تحت تأثير: “جبرية سيكولوجية” متمثّلة برغبات وحاجات حيوية وغرائز نفسية، و “ضرورة ذهنية” تتمثّل بدينامية التفكير البدائي النازع إلى تنفيذ الفكرة الخيالية المتصوَّرة لفعل قتل الأب الرئيس، و”تجاوزية إجتماعية” تسعى إلى تغيير النظام السياسي والاجتماعي وواقع الأدوار داخل الرهط. لكن بعد ارتكاب هذه الجريمة وإسقاط نظام الأب، راودت الأبناء البدائيين مشاعر ذنب مؤرّقة وشعروا بندم شديد، واختلفوا فيما بينهم فدبّت الفوضى في صفوفهم وتهدّدت وحدتهم الوجودية بسبب الخلاف الذي كاد يصل إلى حدود تقتيل بعضهم البعض. لذلك تصالحوا وتماهوا بالأب الضحية، وتمثّلوا قوانينه وموانعه فيما يتعلق بالأخوات ونساء الرهط وطبيعة العلاقات الاجتماعية. لكن سرعان ما انتابتهم مشاعر الفقد والقلق بعد التغييب الاغتيالي للأب، وأحسوا بضائقة جماعية وحنين إلى المرجعية الأبوية، فاستعاضوا رمزياً عن الأب ببديله الطوطمي، أي بحيوان مقدس. وهذا الحيوان الذي صار طوطماً للقبيلة، كانت تتمّ التضحية به سنوياً وذبحه والتهامه أثناء طقس احتفالي انتهاكي قاسٍ. “ففي مناسبة احتفالية، تقتل العشيرة بمنتهى القسوة حيوانها الطوطمي وتأكله نيئاً – بدمه ولحمه وعظمه، ويرتدي أعضاء العشيرة من الملابس ما يجعلهم على شبه الطوطم الذي يحاكون الحركات والأصوات التي يصدرها، وكأنهم يبغون أن يظهروا للعيان وحدة هويتهم وإياه”([3]). كما تتوحّد الرابطة الأخوية بين الأبناء عبر طقس قتل هذا الحيوان الذي أصبح شعاراً (علماً) للقبيلة، وقد تطوّر هذا الشعار من طبيعة حيوانية إلى طبيعة نباتية أو أشكال مادية. ونحن نجد اليوم شعارات أعلام الدول نباتية (غصن زيتون، أرزة، ورقة شجر…) أو مادية (سيف، هلال، نجوم…)، ولا زالت بعض الشعارات الحيوانية حاضرة في أعلام الدول والشعوب والمنظمات والأحزاب: كالنسر والصقر ورأس الأسد…

لقد تطوّر النظام الأبوي البدائي مع تطوّر الحضارات، وحلّ محل شخص الأب الأعلى شخص القائد أو الرئيس، الذي يغدو بمثابة أب الشعب. ونابتْ مناب قانون الأب الابتدائي دساتير الدول، وتعمّقت المفاهيم القانونية بشكل حضاري ناجم عن تراكم الخبرات وتوسّع الثقافات وتطور الحياة البشرية. كل ذلك تمّ ضمن عمليات عقلية عُليا، جعلت من القانون والحُكُم والعلاقات الدولية علوماً قائمة بذاتها، حتى الأديان خضعت لهذا التطوّر العقلي والارتقاء الذهني، فالرب هو أب أعلى في المفاهيم الدينية الإنسانية، وبذلك يمثّل أعلى مرجعية أبوية ماورائية. “فالله هو أب موقّر معظّم”([4])، هنا تتّخذ الرمزية الأبوية بعداً كونياً بارتقائها إلى مستوى الإله. فالرب هو أب ميتافيزيقي سماوي لكلّ الوجود، والرئيس هو الأب الوضعي الأرضي للجماعة، وبذلك نجد مفهوم النظام الأبوي راسخ في القوانين والمفاهيم والعقائد وأنماط الحياة لدى البشر. هذا النظام الأبوي هو ما سنرصده في طبيعة النظام السياسي في لبنان، وندرس تأثيره في إشكاليات الحُكُم والأزمات التي يُعاني منها لبنان.

* المبحث الأول: المرجعيّة الأبويّة الدستوريّة وبُنية النظام اللبناني

     عندما كان الأب الابتدائي يحكُم الرهط البشري الأول، وضع سلسلة من الموانع والنواهي والعقاب بمثابة قوانين تسيّر شؤون رعيله. وحين انقلب عليه الأبناء وسيطروا على القبيلة اضطروا على العودة إلى قوانين الأب لكي يحلّوا الخلافات التي نشبت بينهم وكادت تؤدّي إلى معارك وقتال فيما بينهم، فتحوّل قانون الأب إلى أوّل دستور بشري شفهي غير مكتوب، بل كان له طابع تفاهمي يؤمّن لهم نوعاً من السلم القَبَلي والعيش المشترك وتقاسم الأدوار، وقد اختاروا شعار الأب الذي كان يقدّسه ويعتبره رمزاً لرهطهِ، وغالباً ما يكون الشعار الطوطمي نوعاً من النبات أو الشجر.

     في مقاربة سريعة بين بُنية النظام الأبوي للرهط الابتدائي وبين النظام السياسي في لبنان، نلاحظ تشابهاً إلى حدّ التطابق. فالنظام في لبنان قائم على فكرة أب الطائفة أو زعيمها أو رئيسها، وتمثّل الطوائف رمزياً فكرة صراع الأشقاء وتنافس الأخوة، الذين عندما اندلعت بينهم الصراعات وهدّدت وحدة الوطن، لجأوا إلى وضع وتطوير دستور له طابع تفاهمي يؤمن لهم نوعاً من السلم الأهلي والعيش المشترك. وبينما كان تفاهم الأشقّاء البدائيين الصيغة الطوطمية للدستور، كان تفاهم الأشقّاء اللبنانيين الصيغة الوطنية للدستور. أما لبنان فكان شعاره الوطني نوعاً من الشجر وهو الأرزة. وهذا ما ينطبق على مختلف دول العالم، مع فوارق نسبية تتعلق بثقافات الشعوب ومفاهيمها. لكنّ هذه المقاربة الشكلية حتى الآن لا تثبت بالدليل العلمي بُنية النظام الأبوي في لبنان، لذلك يجب الإنصراف الآن إلى رصد هذه البُنية في طبيعة ودينامية النظام السياسي اللبناني، لإثباتها بالدليل القطعي وإظهار علاقتها بالأزمات والمشكلات الوطنية.

– المطلب الأول: باتريارشيّة الدستور الأبوي وإشكالية التنشئة الوطنية

يشير هذا المفهوم الى المجتمع القائم على السلطة الأبوية، وتعود التسمية الى الأصل اليوناني، “حيث تتألف كلمة “باترياشي” من جزأين: “باتر” وتعني الأب، “آرشي” وتعني رئاسة، وبالتالي يصبح معناها “الأب الرئيس”([5]). ولذا فالأب في المجتمعات الباتريارشية هو الذي يرأس العائلة ويملك السلطة فيها.

إعتبرت “غيردا ليرنر” أن “هذا المعنى تقليدي ومحدود وضيّق لأنه مشتق من القانون اليوناني والروماني، حيث كان لرب الأسرة فيه سلطة قانونية وإقتصادية مطلقة على أعضاء أسرته من الإناث والذكور المعتمدين عليه”([6]). والمفهوم بهذا المعنى يشوّه الواقع التاريخي ذلك “أن الهيمنة الأبوية لأرباب الأسرة الذكور على أقربائهم أقدم من الأزمنة القديمة… ويمكن القول أنّ الهيمنة الذكرية في الأسرة في القرن التاسع عشر إتخذت أشكالاً جديدة ولم تنتهِ”. أما التعريف الواسع للنظام الأبوي بحسب رأيها فهو: “تجلَي ومأسسة الهيمنة الذكرية على النساء والأطفال في الأسرة وتوسيع الهيمنة الذكرية في المجتمع بعمومهِ، يتضمّن أن الرجال يتولون السلطة في جميع مؤسسات المجتمع المهمّة”([7]).

وفي تعريف آخر هو “المجتمع التقليدي الذي يتخذ طابعاً بالنسبة الى البُنى الإجتماعية الكلية: المجتمع والدولة والاقتصاد والثقافة، وكذلك الى البنيتين الجزئيتين العائلة والشخصية، التي تتخذ بمجموعها، طابعاً يتسم بأشكال نوعية من التخلف الإجتماعي والإقتصادي والثقافي”([8]).يبرز لنا هذا التعريف واحدة من سمات هذا المجتمع وهي التخلف حيث يعممُه “إبراهيم الحيدري” على مختلف البُنى، كما ويعتبر أنّ هذا المجتمع يتّسم بالركود وبالسيطرة الأبوية، حيث تقوم العلاقة بين الأب وأبنائه بشكل هرمي على حد قوله.

ومن خصائص النظام الأبوي أنّه يقوم على “إستبعاد المرأة” وإنّ “هذا المجتمع لا يعرف كيف يعرّف ذاته إلا بصيغة الذكورية وصفاتها”، وإن دور الأنثى فيه ليس “إلا تأكيد تفوّق الذكر وتثبيت هيمنته”([9]). إذاً، فإنّ كلا التعريفين يبرزان الخصائص المميزة للمجتمع الأبوي.

يُظهر لنا مفهوم الباتريارشيّة الدستورية شكلاً من أشكال التنظيم القانوني والإجتماعي، حيث يقوم هذا المجتمع وفق شكل هرمي تتوزع فيه المواقع والسلطات والأدوار بين المذاهب وتحت رعاية آباء الطوائف، الذين يتمركزون في رأس الهرم ويكفلون مصالح جماعاتهم التابعين لهم بنوعٍ من البُنوّة السياسية والاجتماعية. هذه الصورة النمطية التي أستخدمت فيها الأدوار الأبويّة لتبرير الأدوار الإجتماعية وتطورت من خلال توارثها حتى أصبحت منظومة فكرية مستمرّة إلى يومنا هذا في مجالات عديدة، منها: النسب، والتعصّب الجماعي، واللحمة الدينية، ورابطة الدم الأبوية، والتي تعود جذورها إلى العصبية الخلدونية.

وتلعب التنشئة الإجتماعية التي تتلقاها الأجيال دوراً هاماً في نقل هذا الموروث الفكري الذي يؤدي إلى تنميط المجتمع وفق صورة واحدة، تعتبر بمثابة النموذج المثالي حيث تبدّل بذلك دور عملية التنشئة الإجتماعية بالكامل. فبعد أن كانت تعتبر عملية يتحوّل الإنسان من خلالها من كائن بيولوجي إلى كائن إجتماعي أصبحت عملية تنتج أنماطاً متشابهه من الكائنات المبرمجة مسبقاً على أدوار حُدّدت لها وفق نظام يشبه الوصفات الطبية التي تلزم الفرد بما يقوم به. هذا التوافق يؤدي نوعاً ما إلى ما أسماه “دوركهايم” بالتضامن الآلي حيث يظهر لنا جلياً الضمير الجمعي الذي تعكسه القواعد القانونية في المجتمع. حيث يصبح الفرد مقيداً بما تتفق عليه الجماعة. هذه التنشئة التي تتوجه الى الأفراد بشكل مستقل تنعكس على المجتمع ككل وعندها يصبح نموذج الأسرة القائمة وفق النظام الأبوي نموذجاً معمماً على المجتمع بالكامل وتتحول السلطة فيه من سلطة الأب (الوالد) إلى سلطة الأب الرئيس (أب المواطنين) فتتكرر هذه الصورة جيلاً بعد جيل. وهذا ما نراه مكرّساً في الصيغة الأبوية للدستور اللبناني.

ففي مجتمعنا تُبينُ لنا الوراثة العائلية للسلطة والمنصب والمهنة وحتى الألقاب التأثير الكبير للمحرك الأبوي الذي ينعكس في ميادين الحياة المختلفة. هذه الأمثلة وغيرها تظهر لنا أهمية دراسة مظاهر البنية الأبوية ودور التنشئة الإجتماعية في تثبيتها في حياتنا الأسرية، السياسية والإجتماعية.

تعتبر هذه المظاهر أجزاءً من الصورة التقليدية للمجتمعات القديمة وتحديداً الصغيرة منها (قبائل – عشائر – عائلات)، التي كانت قائمة على فكرة وجود الرجل كبير السن المسيطر والذي يملك سلطة القرار عن كافة أبناء مجتمعه الصغير والذي لا مجال لمخالفته فهو يمثل “رأس الهرم في السلطه”([10]). وكانت سلطته الواسعه هذه تخوّله اعتبار جميع الأفراد أبناء له، مما يعزّز اللحمة داخل الجماعة ويزيد من تماسكها وعصبيتها. وأما من يحكم من بعده فهو طبعاً الوريث الذكر من ضمن عائلته وهنا تظهر العصبية القبلية القائمة على رابطة الدم الأبوية والتي لا زالت مستمرة حتى يومنا هذا في مجالات عديدة.

وإضافة الى هذه العلاقة الهرمية فإن ما يميّز المجتمعات الأبوية هو عنصر “الخضوع والطاعة” الذي يظهر على مستوى العائلة والعشيرة في القيم والتقاليد وفي وسائل التربية والتنشئه الإجتماعية التي تعمل على تشكيل نمط الثقافة والشخصية، من خلال ترسيخ القيم والعلاقات الإجتماعية التي يحتاج اليها المجتمع الابوي والشخصية «الباتريارشية»([11]). يأتي هذا الكلام في خانة التأكيد على أهمية هذا العنصر وضرورة وجوده ونقله جيلاً بعد جيل للحفاظ على البنية الأبوية. “فمبدأ الطاعة والخضوع هو الأساس للحفاظ على إستقرار الرعية”([12]).

أما “فيصل بن تركي” فإنّه “يعتبر أن لا جماعة إلا بالسمع والطاعة”([13])، للدلالة على أهمية طاعة الملك أو الحاكم أو الشيخ الذي يتولى منصب الرئاسة في هذه المجتمعات. وهنا يتضح لنا الدور الهام لمبدأ الطاعة في إستتباب الأمن ودوام السيطرة والسلطة حيث تستمد هذه الأخيرة جزءاً من فعاليتها من خلال الطاعة التي تعبر عن خضوع الناس للملك. أما عن الملك ونسبه يقول آبن مسكويه: “أنه يجب أن تكون نسبة الملك إلى رعيته نسبة أبوية، ونسبة رعيته إليه نسبة بنويّة، ونسبة الرعية بعضهم إلى بعض نسبة أخوية، حتى تكون السياسات محفوظة على شرائطها الصحيحة وذلك أن مراعاة الملك لرعيته هي مراعاة الأب لأولاده.” ([14]) هذا التحديد لنسب الملك يبينّ لنا أهمية الصلات الأبوية في العلاقة الهرمية التي تشكل العمود الأساسي في المجتمع الباتريارشي.

     يتميّز الدستور اللبناني بطابع أبوي واضح استناداً إلى العناصر التي ذكرناها، حيث كرّس في روحيّتهِ ومعنائيّتهِ العناصر الارتكازية للنظام الأبوي، من حيث تقسيم المراكز والأدوار بين الطوائف التي ترتبطُ بآبائها الروحيين والسياسيين ارتباطاً بنويّاً. كما إنّ أفراد كل طائفة يتميّزون بالطاعة والخضوع لآباء الطوائف أكثر من خضوعهم لمبادئ الدولة، فالولاء الأبوي الطائفي يفوق الولاء الوطني. صحيح أنّ الدستور اللبناني لم يعرض نصوصاً طائفية بشكل واضح، بل دعا إلى إلغاء الطائفية السياسية باعتبار لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه. لكنّه كرّس الصيغة الأبوية بشكل موارب ومتنكّر حيناً، وأحياناً بشكل أكثر وضوحاً، خاصة عندما أكّد على حقوق الطوائف وحصصها. بل أكثر من ذلك، فقد نجد أنّ “آباء الاستقلال، وأبرزهم كاظم الصلح ورياض الصلح وبشارة الخوري وصائب سلام…أدركوا ذلك في ميثاق 1943. إنّ عبارة (طمأنة) المسيحيين و(طمأنة) اللبنانيين على ألسنة رجال الاستقلال لم تكن مجرّد بلاغة كلامية، إنها ترِد بأشكال مختلفة في وثائق 1943”[15]. ودليلنا على أنّ روحية الدستور اللبناني أبوية باتريارشية هو أنّه يتعطّل كلما شعر أباء الطوائف بالغبن وكلما اختلفوا، ولا يمكن للدستور اللبناني أن يكون فاعلاً إلا اذا تماشى مع مفاهيم الأبوّة الوطنية التي تتبنّى الشعب اللبناني بمختلف أطيافه وطوائفه. وكذلك نرى دور المرأة هامشياً في الحياة السياسية اللبنانية، وذلك بسبب مفاعيل النظام الأبوي الذي يقدّم الرجل على المرأة في مختلف الميادين، وخاصة ميادين السياسة والاقتصاد. فآباء الطوائف والرؤوساء في لبنان هم رجال، حتى الجماعات في لبنان لا يمكنها أنْ تتقبل زعامة امرأة، وهذا من الأساسيات البنيوية للنظام الأبوي اللبناني.

– المطلب الثاني: دور الثقافة والدين في تثبيت النظام الأبوي اللبناني

تلعب الثقافة اللبنانية دوراً بارزاً في تكريس الطبيعة الأبوي للنظام السياسي والاجتماعي، ويعرّف “إدوارد تايلور” الثقافة على أنها “كل مركّب يشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليّات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع معيّن”([16]). يُعتبر هذا التعريف من أقدم تعريفات الثقافة، ومن بعدِه انتشر هذا المفهوم بشكلٍ لافت وبات معظم السوسيولوجيين والقانونيين يستخدمونه ويعطونه معاني ودلالاتٍ مختلفة.

     فالثقافة في نظر علماء الإجتماع “تعني جوانب الحياة الإنسانية التي يكتسبها الإنسان بالتعلم لا بالوراثة. ويشترك أعضاء المجتمع بعناصر الثقافة تلك التي تتيح لهم مجالات التعاون والتواصل. وتُمثل هذه العناصر السياق الذي يعيش فيه أفراد المجتمع. وتتألف ثقافة المجتمع من جوانب مُضمَرَة غير عيانية مثل: المعتقدات، والآراء، والقيم التي تشكل المضمون الجوهري للثقافة، ومن جوانب عيانيّة ملموسة مثل: الأشياء والرموز، أو التقانة التي تجسّد هذا المضمون”([17]). وبشكل عام، يكتسب الأفراد ثقافتهم من الأجيال التي تسبقهم عن طريق الإطلاع على تاريخهم وثقافتهم وتعلُّمها ثم التماثل بها، أو عن طريق التلقين حيث يلقّن أبناء الجيل الأول معتقداتهم وعاداتهم وثقافتهم إلى أبناء الجيل الثاني، وتندرج هذه العملية في إطار عملية التنشئة الإجتماعية والثقافية بكل ما تتضمّنه من وسائل لنقل الثقافة بين الأجيال. وأحياناً لا تحتاج عملية إكتساب الثقافة إلى جيل سابق وجيل حالي بل تحتاج إلى جيلين في زمنٍ واحد ومكانين مختلفين، فتحصل عملية “التثاقف” أو تبادل الثقافات وبالتالي إكتساب عناصر جديدة لكل واحدة منها.

     يرى مالينوفسكي أن أحسن وصف لأية ثقافة يجب أن يقوم على “معرفة نظمها الإجتماعية وتحليل هذه النظم التي تتألف فيها هذه الثقافة، ويمكن تحديدها بتسعة نظم هي النظم: الأسرية – التربوية – الدينية – الأخلاقية – الجمالية – اللغوية – الإقتصادية – القانونية والسياسية. هذه الأنظمة، تتداخل، تترابط وتتفاعل فيما بينها ولا يمكننا فهم أي نظام إجتماعي إلا من خلال ترابطه مع بقية النظم”([18]).

     ويمثل الدين ثقافة كاملة لشعب أو أمة أو حضارة، ليس في كونه مجموعة نصوص وتعاليم وقيم فحسب، بل بما هو “كيان مجسّد إجتماعياً، ومبلور بالممارسة في أنماط وتقاليد وأفعال، أي من حيث صيرورته، نظاماً من الممارسات فضلاً عن كونه نظاماً من التصوّرات”([19]). ويمكننا أن نعتبر أن الدين يشكل جزءاً من الثقافة العامة التي تشتمل على الثقافات الفرعية والخاصة كلّها مثل الثقافة الإقتصادية والسياسية.. وكل واحدة من هؤلاء تحتوي على مجموعة مبادئ وأفكار مقبولة إجتماعياً يعتقد الأفراد بها ويقومون في نفس الوقت بسلوكاتٍ تتأقلم معها. وفي الدين تظهر هذه المعادلة بشكل واضح حيث يمكننا التمييز بين الناحية العملية والناحية القائمة على الإعتقاد والتصور والإيمان. فالأولى تتجلى في مظاهر التعبُّد وفي الممارسات والطقوس الدينية التي يقوم بها الأفراد كالصلاة والصوم والحج… لأنها واجبات ولأنها وسيلة يمكنهم التعبير من خلالها عن إيمانهم وإعتقادهم الذي يمثل بدوره الناحية الثانية أي الروحانية غير العملية وغير الظاهرة، “والتي يفترض بها أن تلعب دور الموجّه بالنسبة إلى أعمال الفرد في الإطار الإجتماعي والإنساني”([20]). في دراستنا للثقافة الدينية لا يمكننا فصل هاتين الناحيتين، لأن الإيمان بالدين يفرض على المؤمن مجموعة طقوس تسمّى الواجبات منها ما هو يومي ومنها ما هو سنوي وعليه أن يؤديها كتطبيق عملي لكي يثبت إيمانه وولاءهُ الديني، فالإيمان بدون ممارسة الواجبات لا يكفي ولا يعتبر صادقاً وحقيقياً. وفي الحالتين، فالهدف واحد وهو زيادة الإيمان والولاء الديني عند الناس ثم دعمهُ لكي تشتد اللّحمة بينهم، بالإضافة إلى أن الإيمان مرتبط بفكرة الخضوع للرب الذي يملك سلطة على جميع البشر، والذي هو الأب الأعلى والمطلق لهذا الخلق. وبالتالي فإن معادلة (الإيمان – الخضوع – السلطة) تظهر لنا إرتباطاً وثيقاً بين الدين والسلطة والنتيجة تكون الخضوع. وعملاً بهذا المبدأ تلجأ الكثير من السلطات غير الدينية إلى إستثمار الدين كحليف لها، فيدعمها ويزيد من تأثيرها ومن عمرها على إعتبار أنّ “إستمرار السلطة يقتضي بناءها على الدين، بل أكثر من ذلك، فالسلطة المنفصلة عن الدين، حتى لو كتب لها أن تستمر، تظل غير شرعية ومؤقتة”([21]). وعلى الرغم من بروز النزعة العلمانية والمناداة بفصل الدين عن الدولة وعلمنة الأنظمة الحاكمة إلا أن التحالفات التي حصلت وتحصل دائماً بين الحكّام (السياسيين) ورجال الدين في مختلف البلدان تبيّن وجهةَ النظر هذه، ومع أنّ رجال الدين في كثير من الأحيان يلجؤون إلى المناداة بالحياديّة لكن الواقع لطالما أثبت أن الدين والسلطة يتحركان باتجاه واحد، وهذا يدعم بدوره تلك الأخيرة لأن الدين كان وما زال موضوعاً في خانة المسلّمات التي لا يجب مناقشتها أو حتى البحث فيها، ويعطي عند تحالفه مع السلطة هذه الصفة لها فتجتمع عندها السلطة السياسية مع السلطة الدينية ويزداد تأثيرهما معاً. وهذا ما يحصل في لبنان، حيث يختلط فيه الولاء الديني بالولاء للسلطة الحاكمة وبالولاء العائلي الأوّلي الموجود أساساً والذي لطالما دعا الدين إليه عن طريق “حضِّه على تمجيد الأسرة وطاعة الوالدين”. فالإسلام مثلاً “حاول من ناحية إستبدال الولاء القبلي بالولاء الديني، ولكنه من ناحية أخرى أكّد على أهمية الأسرة كنواة للمجتمع وحضّ على الطاعة وإكرام الأهل”([22]). وبذلك فقد كان تدعيماً للنظام الأبوي، شأنه في ذلك شأن الشرائع السماوية الأخرى، التي وضعت العائلة في مرتبة مقدسة ورتّبت أفرادها بطريقة هرمية تقليدية قوامها السلطة الأبوية.

     وبموجب هذه السلطة الممنوحة للأب بشكل خاص والتي يُقابلها طاعة وخضوع واحترام من قبل باقي أفراد الأسرة، أي الأم والأبناء، إستطاع الآباء فرض هيمنتهم في نطاق أسرهم، ثم إتسعت الدائرة لتشمل البنية الإجتماعية ككل وذلك في ظلّ انتشار الثقافة الأبوية المعتمدة على النزعة السلطوية وعلى وجود رئيس ومرؤوس، وبالتالي انتقل هذا المفهوم إلى النظام السياسي في لبنان. هذه الصورة التقليدية توارثتها الأجيال لقرون، فبات نظامنا الإجتماعي والسياسي بالكامل أبوياً وفق ما رآه الكثير من الباحثين السوسيولوجيين والقانونيين في دراساتهم حول المجتمعات العربية، ولا سيما لبنان الذي يغلب على نظامه السياسي والاجتماعي نسق العائلة الروحية، التي تمتازُ بالثقافة الدينية. فالثقافة والدين في لبنان ساهما في ترسيخ النظام الأبوي في مختلف المؤسسات اللبنانية، حيث باتَ من العسير أنْ تتمّ أية عملية سياسية في لبنان بمعزل عن اعتبارات النظام الأبوي، وكذلك تخضع النُّظمة الاجتماعية بكل ديناميتها وعلاقاتها التبادلية في لبنان لهذا النظام.

* المبحث الثاني: اليُتم الوطني والموقف المأزمي في لبنان

     إنّ لبنان يقوم على نظام سياسي اجتماعي أبويّ، ويحدّدُ مساراته دستورٌ أبويّ النشأة والتكوين، ويحكمُهُ آباء الطوائف اللبنانية، لذلك عندما تحدث أيّة مشكلة في آليات هذا النظام بين آباء الوطن يتعطّل الدستور الأبويّ والمؤسسات القائمة عليه، وبالتالي تنشأ في لبنان حالة من اليُتم الوطني بسبب غياب أو اضطراب الأساس الأبويّ للنظام اللبناني. هذا ما يفسّر لجوء اللبنانيين إلى الخارج لحلّ ملفّاتهم العالقة، في خطوة بنويّة تحرّكهم لاشعوريّاً للبحث عن مفهوم أبويّ أشمل يتبنّى حالاتهم في ظلّ الفراغ الجمعي أو اليُتم الوطني الذي يعانون منه، بانتظار ملئ هذا الفراغ وتعويض اليُتم بمرجعية سياسية توافقية. ذلك هو المشهد المتكرّر في لبنان إزاء كلّ إشكال وطني أو استحقاق مصيري، وهذا المسار النفسي الاجتماعي يلقي بظلاله على كل عملية سياسية وآلية قانونية ونُظمة دستورية. و يستمدّ هذا المسار وجوده وثباته في الثقافة الوطنية اللبنانية من نشأة الدولة اللبنانية وباكورة وضع دستورها. لا بل من قبل هذه المرحلة أيضاً، إذْ يمتدّ أصل المشكلة إلى العهد العثماني الذي كرّس نظاماً وراثياً أبوياً، ثم عهد الانتداب الفرنسي الذي كرّس الطابع الأبوي للنظام السياسي اللبناني، وصولاً إلى عهد آباء الاستقلال واستمراراً إلى اليوم.

– المطلب الأول: مُعضلة الوراثة السياسية

     ترتبطُ معضلة الوراثة السياسية ارتباطاً وثيقاً بمفهوم النظام الأبوي، وتعود الجذور التاريخية لظاهرة الوراثة السياسية في لبنان إلى العهد العثماني، حيث كان الأتراك ينتدبون عائلات معيّنة وتمنحها سلطة محصورة في مساحات جغرافية محدّدة وفق التركيبة الديموغرافية والمناطقية. ومع إعلان دولة لبنان الكبير على يد الجنرال “غورو”، المندوب السامي الفرنسي، آنذاك تكرّست الوراثة السياسية في النظام السياسي اللبناني منذ العام 1920، ولا زال مستمراً حتى اليوم. وقد بدأت هذه الظاهرة في لبنان عندما أخذت العائلات الإقطاعية تدير البلاد، بتسهيل من الاستعمار العثماني وفيما بعد من الانتداب الفرنسي. وبذلك غدت الوراثة السياسية ركناً رئيسياً من النظام اللبناني، وقد ظهرت فيما بعد عائلات جديدة في هذه المعادلة التوريثية وفرضت نفسها على الساحة السياسية اللبنانية، وذلك بفعل ظروف اجتماعية وطائفية ورعاية خارجية.

     إرتبط مفهوم الوراثة السياسية في لبنان بطبيعة نشأته، أي أنّ هذه المُعضلة مستدخلة في بُنية وتكوين النظام السياسي اللبناني بمختلف مراحله. فمن المعروف “أنّ بدايات لبنان، بما هو كيان سياسي، تعود إلى إمارة جبل لبنان التي تكوّنت في نهاية القرن السادس عشر، وتمتّعت بقدرٍ من الاستقلال الذاتي داخل السلطنة العثمانية. وتاريخ الإمارة هو بالدرجة الأولى تاريخ انضواء جبل لبنان كلّه تحت سلطتها وتوسّعها نحو المناطق المجاورة في فلسطين والداخل السوري”[23]. ونتيجة هذه الإمارة تشكّلت في لبنان خصائص ديموغرافية، كان لها تأثير كبير على نظام الحكم فيه، حيث أصبح المسيحيون فيها أكثرية سكانية وازنة، مما فتح المجال لتدخّل القوى الأوروبية في شؤون الإمارة اللبنانية (1528-1842).

     ساد في إمارة جبل لبنان النظام الإقطاعي، حيث كان زعماء العشائر أو العائلات يحصّلون الضرائب من الناس. وقد كانت الأسر الإقطاعية “تتميّز بالاستقلال الذاتي في إدارة شؤون إقطاعاتها ما دامت توفّر للباب العالي في اسطنبول العدد المعيّن من القروش الذهبية، وتزوّد السلطنة بالمقاتلين عند اللزوم وتحافظ عموماً على الأمن في مناطقها”[24]. وبذلك تكرّس في إمارة جبل لبنان نظام العائلات المقاطعجية[25]، التي كانت تدور فيما بينها نزاعات على الاستملاك والسلطة. كما ظهر في إمارة جبل لبنان نظام المِلَل الذي يقوم بتصنيف رعايا السلطنة على أساس ديني، حيث اعتبر الملسمين السنّة جماعة عليا، بينما المسيحيون واليهود جماعة دنيا، محرومون من الوظائف الإدارية والخدمة العسكرية، ويقتصر عملهم على الفلاحة والحِرَف والمِهَن الحرّة، كما كانت المذاهب الشيعية غير معترف بها رسمياً في السلطنة، في حين كانت الجماعة الدرزية تتركّز في الأعمال القتالية للجيش العثماني. وقد أدّى هذا التفاوت الاجتماعي فيما بعد إلى ظهور نزاعات سياسية وبالتالي طائفية، الأمر الذي أدى فيما بعد إلى أعمال عنف وتمرّد – خاصة من الكنيسة المارونية – انتهت بانهيار نظام المقاطعجية وحلول نظام القائمقاميتين، الذي اقتضى بتقسيم جبل لبنان بين المسيحيين والدروز، وفق اقتراح المستشار النمساوي “ميترنيخ” للتوفيق بين البريطانيين والعثمانيين من جهة وبين الفرنسيين من جهة أخرى.

     وبذلك تشكّلت البذور الأولى لمفهوم النظام الأبوي الطائفي في جبل لبنان، الذي أدّى في بعد إلى حرب أهلية بين الدروز المقاطعجية وبين المسيحيين، كان أبرزها “حوادث الستين”، التي بدأت في آب 1859 في منطقة مختلطة تُسمّى “بيت مري”. وقد امتدّ الصراع الطائفي بين الدروز والمسيحيين إلى سوريا بضرواة وشراسة، حيث قامت مجموعات مسلمة بتحريض عثماني على مهاجمة المناطق المسيحية في دمشق مرتكبةً المجازر البشعة، ما فتح المجال واسعاً لتدخّلات القوى الأوروبية، خاصة بريطانيا وفرنسا لتحقيق مطامعهما الاستعمارية. فقامت فرنسا بدعم المسيحيين ممّا حدا بهم إلى تحقيق نصر سياسي رغم هزيمتهم العسكرية أمام الدروز، وبذلك استطاعوا أن ينتزعوا حُكماً ذاتياً داخل السلطنة العثمانية وفق نظام المتصرّفية، حيث جاء هذا النظام للتوفيق بين مطالب المسيحيين بإمارة مستقلة وسعي الدروز المقاطعجية إلى إخضاع جبل لبنان للسلطنة العثمانية كاملاً. وكانت هذه المتصرّفية تحت رعاية فرنسا وبريطانيا وبروسيا والنمسا وروسيا وإيطاليا، وقد أعاد نظام المتصرّفية دمج قائم مقاميتيّ جبل لبنان في متصرّفية واحدة، يكون المتصرّف فيها عثماني مسيحي.

     ومع ضعف السطلنة العثمانية والاضطرابات الاقتصادية والسياسية إبّان الحرب العالمية الأولى، بدأت في لبنان الحركات التحرّرية والجمعيات السرية، ما حدا بالسلطنة العثمانية إلى القمع والإعدامات، ثم فرض نظام “سفر برلك” للتجنيد الإجباري. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عانى اللبنانيون الويلات من مجاعات وأمراض، تركت آثاراً اجتماعية واقتصادية خطيرة على اللبنانيين. وعند هزيمة دول المحور في الحرب، وتصدّع الإمبراطورية العثمانية، دخل الفرنسيون والبريطانيون إلى المنطقة العربية، فارضين نظام التجزئة الكولونيالية للمشرق العربي، حيث كان لبنان جزءاً منها. وبالفعل تمّ اقتطاع أراضٍ من سوريا وضمّها إلى لبنان في ظلّ الانتداب الفرنسي، الذي أعلن بلسان الجنرال “غورو” عن ولادة دولة لبنان الكبير، الذي خضع للمفوضية السامية الفرنسية، وبذلك تمّ تكشيل لبنان ككيان دولتي مستقلّ. وهكذا نلاحظ كيف بدأ يتبلور النسق الأبوي والطائفي عند اللبنانيين، وكيف شرع التدخّل الخارجي بالتغلغل بينهم، مما أسّس لنظام أبوي طائفي. وقد تكرّس النظام الأبوي الطائفي بصيغة دستورية بعد استقلال لبنان وجلاء الجيوش الفرنسية، وأفرز حرباً أهلية طويلة بين اللبنانيين، ثمّ تعمّق النظام الأبوي الطائفي التّبعي في اتفاق الطائف، ولا يزال مستمرّاً حتى اليوم.

     كان التوريث السياسي في لبنان يتمّ سابقاً بعد وفاة الرجل السياسي أو الزعيم العائلي أو الطائفي، فيخلفهُ ابنهُ أو أحد أقاربه المباشرين. وفيما بعد ظهر التوريث السياسي بصورة جديدة، وهي الوراثة السياسية أثناء حياة الزعيم. وهذا ما نقل النظام السياسي اللبناني من الإقطاع الاقتصادي إلى الإقطاع السياسي، وبالتالي ترسّخ المفهوم الأبوي الطائفي في لبنان لأنّ الوراثة السياسية اعتمدت على الحسابات العائلية والطائفية، وهذا ما أسّس لتشكيل أرضية مهزوزة لكلّ عناصر وأنساق الدولة اللبنانية، وعلى رأسها الدستور الذي يتعطّل وتكفّ مفاعيله بمجرّد ظهور خلاف بين آباء الطوائف المتوراثين سياسياً ودينياً.

     يرى “غسان تويني” في كتاباته عن الأزمات السياسية فب لبنان “أنّ المشكلة اللبنانية قد تخطّت كلّ سجال دستوري وكل عمل سياسي، وكأنّ اللبناني بحاجة دائمة إلى بابٍ عالٍ”[26]، في إشارة إلى العجز الوطني والتبعية. وهذا ما أدى إلى فقدان النضج السياسي والرشد الدستوري، وجعل لبنان عاجزاً عن حلّ مآزمه الوجودية والوطنية. كما كتب عضو المجلس الدستوري ورئيس الجمعية اللبنانية للعلوم السياسية الدكتور “أنطوان مسرّة”، في دراسة نشرتها جريدة النهار حول “التعبئة النزاعية”، أنّه: “عبثاً يدرس الباحثون والأخصائيون والمحلّلون الدستور اللبناني والسياسة في لبنان، طالما أنّ عمق الممارسات – لبنانياً وعربياً – تندرج في مجال اللاعقلانية”[27]. وعلى هذا نرى أنّ الوراثة السياسية في لبنان هي نمط من اللاعقلانية الوطنية.

     هذا ما أدّى إلى نشوء الزبائنية السياسية كنوع من السلوك النفعي الذي تطغى عليه البرغماتية والحسابات الذاتية والمحسوبيات والنزعات الشخصية أو الحزبية، وهي لا تقيم وزناً للقيم والأخلاقيات الوطنية والتناسب والتلاؤم، ولا تعطي قيمة للكفاءات والإمكانات، بل تتحرّك وفق معادلة المصالح والأموال والنفوذ والسيطرة والاحتكار. فالزبائنية السياسية المرتبطة بالنظام الأبوي السياسي في لبنان أدّت إلى ضرب مفهوم اللحمة الجماعية للشعب اللبناني، وكرّست حالة من مقاومة التغيير والتجديد والإصلاح وفقاً للحداثة السياسية. حتى الهوية في لبنان تتميّز بأنها تحمل اسم الفرد وصورته إضافة إلى اسم والدته وإسم والده كاملاً، وهو الذي سوف يرث من خلاله إسم العائلة ورقم السجل والديانة، التي يرثها الفرد تلقائياً منذ الولادة عن الأب. وبالتالي فإن القانون اللبناني في مجال الأحوال الشخصيّة مازال محافظاً على بنيته التقليدية، وكأن الحداثة لم تخترقها أو “كأنها أهم معقل من معاقل النظام الأبويّ، أو كأنها الضمان الوحيد لعدم إضمحلال الأدوار الجذريّة التقليديّة نهائياً. وهكذا نلاحظ مدى عمق تجذّر النزعة الأبوية في النظام السياسي اللبناني.

– المطلب الثاني: أزمة المشاركة السياسية والمواطنية

بديهياً أنْ تُنتج طبيعة النظام الأبوي في لبنان مشكلات في المشاركة السياسية، إذْ لا يمكن أن نفصل البُنى الإجتماعية والثقافية والإقتصادية للمجتمع عن بنيته السياسية، فهو يقوم على مزيج من الترابط والتنافر والإنسجام بين هذه البنى, وأيّ حدثٍ في أي واحدةٍ منها سوف يُرخي بتبعاته على الأخرى. فإذا كانت البُنى الثلاثة قائمة وفق أُسس أبوية ما زالت متجذرة حتى يومنا هذا، فكيف ستكون البنية السياسية للمجتمع الذي نعيش فيه؟ خاصةً وأنّ دستورنا ينص على أن جمهورية لبنان تقوم على الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير واحترام الآخر.

ونحن في صدد الحديث عن السياسة في لبنان وأنظمتها، لا بدّ لنا من العودة إلى التاريخ الذي أسّس لما نحن عليه اليوم. فمنذ نشأة دولة لبنان وحصولها على إستقلالها وقيام الدستور، تم تقسيم السلطات فيه إلى ثلاث سلطات رئيسية: تنفيذية و تشريعية وقضائية، تمّ توزيعها على الطوائف وأعطيت للموارنة حصّة رئاسة الجمهورية, وبالتالي فإن دستورنا كرّس الإنقسام الديني وعزّز مسألة الإنتماءات الأولية، حيث صارت فكرة المواطنة والمواطنية مرتبطة بالإنتماء الديني لكل فرد, وعادت بذلك “علاقة القرابة والدم والتسلسل الهرمي الأبوي” إلى الواجهة، وباتت “تستأثر بالسلطة السياسية”([28]) وبالتالي باتت علاقات القربى العائلية والإنتماء الديني (الطائفي والمذهبي) من أهم مظاهر الحياة والنظام السياسي في لبنان.

وبالرغم من أن لبنان منذ استقلاله مر ّبمراحل ومتغيرات عديدة حيث شارك الجيش اللبناني في حرب 1948 ضد القوات الإسرائيلية في عملية تهجيرهم للفلسطينيين، إضافة إلى تأثره بمختلف الأزمات السياسية عربياً وإقليمياً، كذلك فقد مرّ لبنان بأقسى أنواع الحروب وهي الحرب الأهلية عام 1975 التي قادها آباء الطوائف والأحزاب اللبنانية والتي إنتهت في اتفاق الطائف عام 1989. لكن الوجود الإسرائيلي في لبنان بقي أكبر الهموم السياسية حتى تحرير عام 2000 فصارت إسرائيل عدواً خارج الحدود. ولكن بالرغم من ذلك فقد عادت وشنّت حرباً علينا في تموز 2006 نالت فيها هزيمة كبرى… هذه الأحداث كلّها تركت آثاراً على التركيبة السياسية اللبنانية وزادت من قوة الروابط الأولية على حساب الروابط الوطنية ونعني بذلك “المواطنية” التي لا تميز بين لبناني وآخر. وهذا ما يفتح أمامنا المجال واسعاً للحديث عن إشكالية المشاركة السياسية في لبنان.

تشير المشاركة السياسية في “أوسع معانيها إلى حق المواطن في أن يؤدي دوراً معيناً في عملية صنع القرارات السياسية، وفي أضيق معانيها تعني حق ذلك المواطن في أن يراقب هذه القرارات بالتقويم والضبط عقب صدورها من جانب الحاكم”([29]). وتشتمل هذه المشاركة من وجهة نظر بعض الباحثين على المناقشات والأحاديث التي ترتبط بالسياسة والنظام السياسي القائم، أي أنها ليست محصورة في عمليتي الترشح والإنتخاب لأي منصب سياسي أو حزبي بل تتعداها إلى كافة المواقف التي قد يدلي فيها الفرد موقفاً سياسياً أو يشارك في إجتماع أو ندوة, إضافة إلى حق التظاهر الذي يعتبر أحد أوجه المشاركة السياسية. ولا تأتي مشاركة الأفراد في الشؤون السياسية من عبث أو بدون أسباب بل على العكس تتأثر مشاركتهم بعوامل مختلفة. ويمكننا أن نحدد أهم الدوافع التي تؤثر في المشاركة السياسية بما يلي:”إحساس الفرد بالولاء والإنتماء لوطنه” فتأتي مشاركته “كتعبير عن المسؤولية الوطنية”. و”المناخ السياسي السائد” الذي يؤمّن حرية الأفراد في التعبير فيحفزهم على المشاركة. و”الخصائص الإجتماعية كالمكانة الإجتماعية والإقتصادية والدين والسن… وغيرها لها دور في التأثير على الأفراد ودفعهم للمشاركة”. إضافة إلى تأثير “الأحزاب السياسية على الأفراد المشتركين في عضويتها من ناحية مشاركتهم في الحياة السياسية”([30]).

أما في لبنان فتلعب عوامل إضافية دوراً كبيراً في هذا الموضوع. فروابط الفرد الأولية تمثل بالنسبة له سلطة لا مجال للخروج من إطارها وتتمثل هذه الروابط برابطة الدم أي العلاقة العائلية وخاصة الأبوية، ثم الرابط الديني (طائفي – مذهبي)، ثمّ الرابط المناطقي، حيث تلعب الجغرافيا دوراً بارزاً في التنظيم السياسي اللبناني، ثمّ العصبية المناطقية التي تشكّل واحدة من مميزات مجتمعنا ولها تأثير كبير في السياسة.

إنّ النظام الأبوي السياسي في لبنان كبّل جيلاً بكامله وجعلهُ عاجزاً عن الخروج من بوتقتهِ الضيقة، فزادت العصبية الدينية والعائلية حتى صار الفرد ممزوجاً بهاتين العصبيتين ويستمدّ قوّته وأفكاره من هذه المرجعية التي هددت مبدأ المواطنية والولاء لدولة قومية واحدة، فلا يمكن أن تتعايش هاتان الأخيرتان مع فكرة الإنتماء إلى مجموعات قبلية صغيرة ومع الولاء لسلطة أبوية ضيّقة الأفق والنطاق، فالأولى لا يمكن أن تنمو أو تسود إلا على أنقاض الثانية. فكيف يمكن أن يجمع الفرد أو حتى النظام السياسي الواحد ولاءين متناقضين؟ تمثّل هذه الإشكالية عائقاً كبيراً أمام النظام السياسي في لبنان حيث ما زال “المقدّس يشكل أحد أبعاد الحقل السياسي”([31]) حتى يومنا هذا، إضافة إلى سيطرة بعض العائلات على المراكز السياسية أي مراكز السلطة فيه، وبالتالي فالعائلة والطائفة لهما دور أساسي في التركيبة السياسية اللبنانية. وبما أن لبنان بلد الطوائف حيث يجمع على أرضه تسعة عشر طائفةً ومذهباً بينهم الكثير من الفروقات، وفي ظل غياب ثقافة تقبّل الآخر نتج عن ذلك “النظام الأبوي الطائفي” نسبة للطائفية المتجذرة فيه، ما دفع الكثير من المثقفين اللبنانيين إلى اعتبار أنّ “النظام العلماني هو البديل للنظام الطائفي”([32]) في محاولة منهم لإيجاد حلٍّ للأزمة، ولكن ما يحصل في الواقع بدلاً من ذلك هو العكس حيث يتم اللجوء في كل مناسباتنا السياسية إلى حملات التعبئة والتجييش لإعادة إحياء هذه العصبيات على حساب إضعاف منطق الدولة والمواطنية. فالعنصر الأبوي والديني ثابتٌ وقويٌ وهو يغلب كلّ العناصر التي قد تدفع فرداً ما للمشاركة السياسية، فسلطة العائلة على الفرد ما زالت حيّة وفاعلة، وهي في حرم السلطات ويخضع الفرد لها باعتبارها هي “السند” في الأزمات، ولا يمكن أن يتخطّاها أو أن يضعها في مرتبة ثانوية. “فالعائلة هي الركيزة الأساسية للمجتمع، إنها من دون منازع أقوى الجماعات المرجعية للفرد”([33]).

وقد اكتسبت هذه القوة من سلطتها على الأفراد فهي تحتويهم منذ ولادتهم وتمارس عليهم تنشئة إجتماعية من إختيارها وترسم لهم مستقبلهم وتضع لهم حدوداً وآفاقاً فتمنعهم من تخطيها، وبالتالي فهي تهيمن عليهم منذ صغرهم، ولذا نراهم يتعلّقون بالولاء العائلي القائم أساساً على هرمية السلطة. وفي هذا النظام تصبح العائلة هي من تمثل الفرد، وإنتماؤه لها يحدد وضعه في المجتمع، لأن “العائلة القوية تعين أفرادها على مواجهة صعوبات الحياة في المجتمع وتحميهم من القوى المركزية وتجد لهم الوظائف والمراكز المهمة”([34]).

وتُعتبر طائفة الفرد العائلة الكبيرة في مجتمعنا، ويبيّن لنا هذا المفهوم أن النظرة إلى الآخر المختلف دينياً هي نظرة “لغريب” أي شخص “غير مألوف”، ويصعب على أصحاب التفكير التقليدي تقبّل فكرة وجوده في مركز السلطة عليهم، ولذا فهم يسرعون في أي محفل سياسي يحتاج لمشاركتهم إلى دعم أبناء العائلة وأبناء الطائفة والأب السياسي أو الزعيم. إذاً فإن الأفراد يلجؤون إلى أحضان عائلتهم لأنهم يعرفون بأنها سوف تحميهم، “فالعائلة كوسيط بين الأفراد والمجتمع يمكن أن تلعب عدة أدوار مهمة منها أن دور الفرد ونفوذه ومكانته وتوفّر المجالات أمامه ومناعته في المجتمع، ترتبط بدور العائلة ونفوذها ومكانتها وتوفُّر المجالات أمامها ومناعتها”([35]). من هنا فالفرد يربط توجّهاته بتوجهات العائلة ككلّ، والتي أصلاً تتحدّد حسب رأي الأفراد الأكبر سناً في العائلة والأكثر قدرة على فرض سلطتهم على باقي أفرادها (الأب – الشيخ – الجد)، وبالتالي يصبح موقف الفرد مطابقاً لموقف العائلة في معظم المسائل، وهذا ما يعزز “الولاء الشخصي والتبعية اللذين يتربى الفرد عليهما في إطار العائلة”([36]) ضمن عملية التنشئة الاجتماعية التي تستخدم فيها اللغة الأبوية، فتعظّم الروابط العائلية وتعطيها دلالات كثيرة فتؤثر بالفرد ويقتنع بسلطتها عليه.

بالإضافة إلى ذلك يجري توظيف العلاقات الأسرية في إطار ما سمّي بـ “الواسطة” وهذا التقليد يتولّد عن نظام الولاء، فالواسطة تضمن حماية الفرد والمجتمع ومصالحهما المادية، بما في ذلك الفرد الأدنى مرتبة في المجتمع، كما تعزز شعوره بالهوية وإنخراطه في المجتمع. ويحمل الفرد هذا التقليد من العائلة إلى المجتمع بكامله فيحتمي بعائلته في كل مناسبة وعند حاجته لأي خدمة أو طلب يلجأ إلى عائلته طمعاً بمساندتها له. ولذا يؤيّد أفراد العائلة الواحدة آراء بعضهم ويساندون بعضهم سياسياً للوصول إلى السلطة، فإنّ وصول أحد أفراد العائلة لمنصب رفيع سياسياً أو حزبياً يضمن للعائلة بكاملها نافذة أو واسطة لتحقيق مطالبها لاحقاً.

     هذا النوع من التنشئة الإجتماعية اللامواطنية المعتمدة في مجتمعنا أسلوب تقليدي أبوي يعتمد على مركزية السلطة وهرمية المراتب في المجتمع والأسرة، حيث يتم إستغلال كل فرصة لإظهار “الطابع الأبوي للتدبير”([37]) الذي يشتمل على كافة أمور الحياة إجتماعياً، إقتصادياً وثقافياً ويؤدي إلى ما يشبه “القولبة” “خصوصاً لجهة الهيمنة والسلطة والتبعية والتميز القائم على الجنس”([38])…. وهذا الطابع النافي للمواطنية ينعكس على السياسة كباقي الميادين فتأخذ أشكالاً مختلفة. ويسمّي البعض هذا النوع من التعبئة “بالتنشئة السياسية”، وهي “العملية التي يتمّ من خلالها نقل القيم والمعتقدات السياسية، كما يمكن تعريفها بأنها عملية تزويد الأفراد بالقيم والمبادئ والمعايير والإتجاهات والآراء السياسية سواء بطريقة مكتسبة كالتعليم والتلقين، أو بطريقة مفروضة كغرس وزرع القيم والإتجاهات والممارسات الجديدة التي تحتّمها ظروف المجتمع وواقعه وسياسته”([39]). وتعتمد هذه التعبئة على مؤسسات التنشئة الاجتماعية ذاتها بالإضافة إلى الأحزاب التي تلعب دوراً هاماً في هذا المجال. وبما أن العائلة هي أول مؤسسة إجتماعية يلتقيها الفرد فهي التي تترك بالتالي أثراً كبيراً عليه وتلعب دوراً أساسياً في خياراته. وفي المجال السياسي بالتحديد غالباً ما يتعرّف الفرد على الخيارات المطروحة من قبل أسرته إن كانوا مؤيدين لخط معين، فيتكون عنده إنطباع أولي يشكّل لاحقاً قاعدة للثقافة السياسية التي ستتكوّن لديه. وليس المقصود من خلال ذلك تدريس الطفل مادة الحقوق والسياسة وتعريفه بجميع التفاصيل، إنما تعريفه بالأنظمة والشخصيات والأحزاب السياسية بشكل عام أو كما يحصل غالباً تعريف الطفل على منظومة فكرية محددة (حزب – تيار – تنظيم…).

* الخاتمة

يتمّ توصيف كل مجتمع على أنّه “تآلف معقّد يشمل بين مقوّماته الأساسيّة الوطن، وكذلك البيئة والسكّان والتنظيم الإجتماعي والمؤسسات والبُنى، متفاعلة فيما بينها ومع المجتمعات الأخرى عبر التاريخ”([40]). لذلك فإنّ عملية فهم وتحليل تركيبة المجتمع اللبناني ليست بالشيء السهل والبسيط، بل على العكس إنها عملية دقيقة وصعبة تتطلب تفكيك المجتمع المدروس إلى أجزاء صغيرة لكي نتمكّن من البحث في كل جزء على حده. هذه الأجزاء تسمى في علم الإجتماع القانوني والسياسي “البُنى السياسية”، حيث أن “البنية” هي “الوحدة الأساسيّة للمجتمع التي تسمح بدراسة خصائص ومميزات العلاقات القائمة بين أفراده”([41])، والتي تمكّننا من تحديد نوع أو نمط النظام السائد في كل مجتمع.

إنّ تفكيك هذه العناصر والمقومات أمرٌ نظري ولا يمكن أن يحصل على أرض الواقع حيث أن علاقة التجاذب والتنافر بين هذه المكونات مجتمعة هي التي تشكّل الرابط الخفي الذي يؤدّي إلى نشوء المجتمع الكامل والمتكامل بوجود جميع عناصره. لذلك قمنا بتوصيف وتحديد النظام السياسي اللبناني عارضين مفاهيم وأسس النمط الأبويّ الذي يحكمُهُ، والمترسّخ في عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية، حيث تشكّل العائلة المصنع الرئيسي للنظام السياسي والاجتماعي الأبويّ في لبنان. وبما أن العائلة هي نواة المجتمع وأحد أهم أركانه وهي أولى وسائط التنشئة الإجتماعيّة التي يتلقاها الفرد، فقد كان لها تأثيراً كبيراً في تحديد نوع المجتمع (أبوي/باتريارشي) وفي تحقيق التغيّر في نمط العلاقات الإجتماعيّة السائدة فيه، بالإضافة إلى ثقافته ونظامه السياسي من خلال التأثير على الأفراد عبر عملية التربية أو التنشئة الإجتماعيّة، حيث أن لها التأثير الاكبر على الفرد، فكل فرد هو جزء من عائلة، والعائلة جزء من المجتمع، والمجتمع هو قوام الوطن.

تلعب الثقافة السائدة في المجتمع دوراً هاماً في تحديد مجالات الضبط الإجتماعي الذي يمثّل “أساس التنظيم والبناء الإجتماعي المتماسك، حيث يعتبر المنظّم والمرجع والمحدّد لسلوك الفرد”([42]). وبالتالي فإن الثقافة السائدة في المجتمع ترسم صورة عامّة ومكبّرة عن ثقافة كل فرد، وتضعهُ أمام خيارين: الأوّل هو السير مع التيار الاجتماعي، أي العمل وفق النظم والأطر المسموح بها والتي تحقق رضى المجتمع عن الفرد المتماشي مع “الوعي الجمعي”، والثقافة السائدة بحيث يصبح جزءاً من المجتمع، يمارس الأدوار التي منحت له ويتوقع من الآخرين الردّ بالمثل حسب المعايير السائدة. وهكذا دواليك فالخطّة ثابتة نسبياً وإمكانيّة إحداث تغيير إجتماعي أو ثقافي ضئيلة جداً في المجتمع اللبناني. لذلك ينبغي على رجال الحُكُم في لبنان اتباع نظام الحداثة السياسية، الذي من شأنهِ التخفيف من النزعات التقليدية الجامدة للنظام السياسي الأبويّ، المتغلغل في طبيعة ونسيج المجتمع الوطني اللبناني.

المراجع والمصادر

1- الأمين، عدنان. وفاعور، محمد. (1998). الطلاب الجامعييون في لبنان وإتجاهاتهم: إرث الإنقسامات. بيروت: الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية.

2- بركات، حليم وآخرون(…). (1993). المرأة ودورها في حركة الوحدة العربية، (بحوث ومناقشات). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ط3.

3- بركات، حليم. (1998). المجتمع العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ط6.

4- بركات، حليم. (1998). المجتمع العربي المعاصر. ط6. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

5- تويني، غسّان. (26 / آب / 2008). جريدة النهار. العدد 67.

6- الحيدري، إبراهيم. (2003). النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب. بيروت: دار الساقي.

7- الخالد، غسان. (2001). شباب الريف الجامعي. طرابلس: مكتبة السائح.

الخالد، غسان. (2012). البدوقراطية. بيروت: منتدى المعارف.

8- شرابي،هشام. (2000). النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي. ط4. بيروت: دار نلسن.

9- طرابلسي، فواز. (2011). تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى اتفاق الطائف. بيروت: دار الريس للكتب والنشر. ط3.

10- عبد الغني، عماد. (2008). سوسيولوجيا الثقافة والمفاهيم والاشكاليات من الحداثة الى العولمة. ط2. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

11- عبد اللطيف، كمال. (2011). في الاستبداد: بحث في التراث الاسلامي. بيروت: منتدى المعارف.

12- غدنز، أنتوني. (2005). علم الإجتماع. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

13- فرويد، سيجموند. (1997). الطوطم والحرام. ترجمة جورج طرابيشي. بيروت: دار الطليعة. ط5.

14- فرويد، سيجموند. مستقل وهم (1998). تر. جورج طرابيشي. بيروت: دار الطليعة. ط4.

15- ليرنر، غيردا. (2013). نشأة النظام الأبوي. ترجمة أسامة إسبر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

16- مسرّة، أنطوان. (2008). التعبئة النزاعية. جريدة النهار. العدد 76.

17- معتوق، فردريك. (2014). سوسيولوجيا الحضارة الكنعانية – الفينيقية. بيروت: منتدى المعارف.

18- منصور، عبد المجيد. (1987). دور الأسرة كأداة للضبط الإجتماعي. الرياضي: المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب.

19- موهوب، الطاهر علي. (2010). التنشئة الاجتماعية وعلاقتها بالمشاركة السياسية. دسوق: دار العلم و الإيمان.

20- نصّار، ناصيف. (1981). نحو مجتمع جديد، مقدمة أساسية في نقد المجتمع الطائفي. ط4. بيروت: دار الطليعة.

21- www.wikipedia.org/wiki . تاريخ 20/3/2015.


(1) إنّ واقعة انقلاب الأبناء على نظام الأب الأعلى للرعيل البشري الأول مثبتة تاريخياً، لا سيما في أبحاث “سميث” و”فرينزي” و”إتكنسون” و “فرويد” و”مالينوفسكي” وغيرهم، حيث تشكّل هذه الواقعة أول انقلاب سياسي بشري وأول قانون يتمّ وضعه بين الأبناء المنقلبين على حُكُم الأب الأعلى للقبيلة البشرية الابتدائية.

(2) الطوطم: هو المتّحد الجامع لأفراد الجماعة الأولية، بما يضمّ من مفاهيم الانتماء والقانون والدين والعصبية والشعارات الخاصة بالنوع البشري لمنظومة الرعيل البشري البدائي، والتي لا زالت سائدة اليوم بشكل رمزي لدى الشعوب والدول.

([3]) فرويد، سيجموند. (1997). الطوطم والحرام. ترجمة جورج طرابيشي. بيروت: دار الطليعة. ط5. ص 183.

([4]) فرويد، سيجموند. مستقل وهم (1998). تر. جورج طرابيشي. بيروت: دار الطليعة. ط4. ص 31.

([5])www.wikipedia.org/wiki . تاريخ 20/3/2015.

([6]) ليرنر، غيردا. (2013). نشأة النظام الأبوي. ترجمة أسامة إسبر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص 449 – 450.

([7]) المرجع السابق. ص 450.

([8]) الحيدري، إبراهيم. (2003). النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب. بيروت: دار الساقي. ص 310.

([9]) شرابي،هشام. (2000). النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي. ط4. بيروت: دار نلسن. ص 26 – 27.

([10]) الخالد، غسان. (2012). البدوقراطية. بيروت: منتدى المعارف. ص91.

([11]) النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب. مرجع سابق. ص 310.

([12]) عبد اللطيف، كمال. (2011). في الاستبداد: بحث في التراث الاسلامي. بيروت: منتدى المعارف. ص 217-218.

([13]) البدوقراطية. مرجع سابق. ص 90.

([14])في الاستبداد: بحث في التراث الاسلامي. مرجع سابق. ص219

(15) مسرّة، أنطوان. (2008). التعبئة النزاعية. جريدة النهار. العدد 76.

([16]) عبد الغني، عماد. (2008). سوسيولوجيا الثقافة والمفاهيم والاشكاليات من الحداثة الى العولمة. ط2. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص 31.

([17]) غدنز، أنتوني. (2005). علم الإجتماع. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص 82.

([18]) سوسيولوجيا الثقافة والمفاهيم والاشكاليات من الحداثة الى العولمة. مرجع سابق. ص 91.

([19]) المرجع نفسه. ص 138.

([20]) المرجع نفسه. ص 138.

([21]) في الاستبداد: بحث في التراث الاسلامي. مرجع سابق. ص 279.

([22]) بركات، حليم. (1998). المجتمع العربي المعاصر. ط6. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص 171.

(23) طرابلسي، فواز. (2011). تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى اتفاق الطائف. بيروت: دار الريس للكتب والنشر. ط3. ص9.

(24) المرجع نفسه. ص10.

(25) تسمية عامية دارجة في جبل لبنان لوصف الإقطاعيين.

(26) تويني، غسّان. (26 / آب / 2008). جريدة النهار. العدد 67.

(27) التعبئة النزاعية. مرجع سابق. العدد67.

([28]) بركات، حليم وآخرون(…). (1993). المرأة ودورها في حركة الوحدة العربية، (بحوث ومناقشات). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ط3. ص 75.

([29]) موهوب، الطاهر علي. (2010). التنشئة الاجتماعية وعلاقتها بالمشاركة السياسية. دسوق: دار العلم و الإيمان. ص97.

([30]) المرجع نفسه. ص 107-108.

([31]) البدوقراطية. مرجع سابق. ص 8.

([32]) نصّار، ناصيف. (1981). نحو مجتمع جديد، مقدمة أساسية في نقد المجتمع الطائفي. ط4. بيروت: دار الطليعة. ص181.

([33]) الأمين، عدنان. وفاعور، محمد. (1998). الطلاب الجامعييون في لبنان وإتجاهاتهم: إرث الإنقسامات. بيروت: الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية. ص 223.

([34]): بركات، حليم. (1998). المجتمع العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ط6. ص 223.

([35]) المرجع نفسه. ص 222.

([36]) النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي. مرجع سابق. ص 95.

([37]) في الاستبداد: بحث في التراث الإسلامي. مرجع سابق. ص 255.

([38]) الخالد، غسان. (2001). شباب الريف الجامعي. طرابلس: مكتبة السائح. ص 20.

([39]) التنشئة الاجتماعية وعلاقتها بالمشاركة السياسية. مرجع سابق. ص 69-70.

([40]) المجتمع العربي المعاصر. مرجع سابق. ص 13.

([41]) معتوق، فردريك. (2014). سوسيولوجيا الحضارة الكنعانية – الفينيقية. بيروت: منتدى المعارف. ص 38.

([42]) منصور، عبد المجيد. (1987). دور الأسرة كأداة للضبط الإجتماعي. الرياضي: المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب. ص 13.

مقالات ذات صلة

إغلاق