web analytics
دراسات وأبحاث

لبنان من دستور الدولة إلى دستورانية الوطن

“الحلّ الدستوراني للأزمة الوطنية اللبنانية في المُقترب المنظومي الوطني، بناءً على عنصرين رئيسيّين: ميلاك الدستور ومثاله، وهما أساس الدستورانية الوطنية في لبنان”

د. عباس مزهر

أ. عبد العالي العبدوني

صدرت بصيغتها الأولى في مركز الدراسات والمعلومات في المجلس النيابي اللبناني

الحياة النيابية / المجلّد الثالث والتسعون / عدد كانون الأول 2014

ألفهرس

ألموضوع                                                   ألصفحة

ألمقدّمة

ألإطار المفاهيمي للدستورانية

ماهيّة الدستورانية

المفارقة بين دستور الدولة ودستورانية الوطن

ألدستورانية التراحمية والروحية السياسية في لبنان

ألدستورانية الوطنية وسيادة الدولة اللبنانية

ألدستورانية والرسالة الوطنية

المراجع والمصادر

ألمقدمة
     من المعلوم أنّ محورية الدستور بدأت كفكرة قبل أن تصبح جسماً تشريعياً أساسياً في تحديد الحياة السياسية وإدارة الحكم للدولة، لذلك سنولي اهتمامنا للمبنى المعرفي أكثر من اهتمامنا للجانب القانوني للدستور، وفق ما تقتضيه دراسة “الفكرة الدستورية أي الدستورانية” في لبنان. فالتركيز على البناء المعارفي للدستور يضعنا أمام تصوّر نظري شامل ومتكامل، يعمد إلى تسقيف الدستورانية من الوجهة العلمية والعملية، حماية لها من الاضطرابات والانحرافات المتمأسسة التي تحدث وحدثت يقيناً في بنية المجتمع اللبناني، بسبب طبيعته التعدّدية البالغة الحساسية تجاه الظروف والأحداث المحيقة بلبنان داخلياً وخارجياً.

     فمن الواجب أن نقف جميعاً على أصل الدستورانية كفكرة ضامنة لإحياء الروح الوطنية، وإلا ستتحوّل الدولة إلى مجموعة مؤسسات طائفية ذات طابع بيروقراطي، تنقلب فيها إدارة الحكم إلى جمع من الإجراءات الفاقدة للمعنى الوطني. مما يؤدّي إلى خواء معنوي في الدولة، ويضع الوطن كلّه أمام أخطر المنزلقات الحضارية التي تتسبّب بضياع القيم وانهيار الأمم. لذلك يجب التركيز على الدستورانية، لأنّها الملَكة الثابتة في التنظير الدستوري والسياج العملاني للتفكير الدستوري. فهي الثابت الذي لا يتغيّر، وهي العقال الأبيستمي لكل مراجعة دستورية مطروحة للنقاش، دون أن نتوقّف حتماً عند الموروث الغربي في هكذا تعريف. فالدستورانية مسألة وطنية بحت، ترتبط بقيم الوطن واتجاهاته وبنيته وأعرافه وقوانينه وعناصره الضمنيّة والظاهرة. من هنا يجب أنْ نبحث الدستورانية برؤية وطنية لبنانية محض، ونطرح سقفها المعرفي بما يتوافق وينسجم مع أصالة الوطن اللبناني.

     في تقديمي للسقف المعرفي لفكرة الدستورانية الوطنية، سأنطلق من من كلام “غسّان تويني” في جريدة النهار ، حيث اعتبر: “أنّ المشكلة اللبنانية قد تخطّت كلّ سجال دستوري وكل عمل سياسي، وكأنّ اللبناني بحاجة دائمة إلى بابٍ عالٍ”[1]، في إشارة منه إلى العجز الوطني والتبعية. من هنا فإنّ الدستورانية الوطنية التي أنادي بها هي حالة من النضج والرشد الدستوري، التي تجعل لبنان هو المبادر لحل مآزمه الوجودية والوطنية.

     كما كتب عضو المجلس الدستوري ورئيس الجمعية اللبنانية للعلوم السياسية الدكتور “أنطوان مسرّة”، في دراسة نشرتها جريدة النهار حول “التعبئة النزاعية”، أنّه: “عبثاً يدرس الباحثون والأخصائيون والمحلّلون الدستور اللبناني والسياسة في لبنان، طالما أنّ عمق الممارسات – لبنانياً وعربياً – تندرج في مجال اللاعقلانية”[2]. وعلى هذا أقول إنّ الدستورانية الوطنية هي عقلانية الدولة وعقلنة الدستور.

     كما أنّ فكر “ميشال شيحا” نفسه قد تعرّض للنقد اللاذع من قبل مثقّفين دستوريين وباحثين قانونيين، مما اضطر مؤسسة “ميشال شيحا” أن تتعاون مع باحثين تقدّميين لنزع التصوّر السلبي عن فكر “شيحا”. وكذلك نرى الدستور اللبناني إزاء بعض المآزم الوطنية الجوهرية: كالفراغ الرئاسي، وشلل المؤسسات الدستورية، مصاباً بحالة من الصدّ والعطالة وعدم الفاعلية أسمّيها حالة “الكفّ الدستوري”. لذلك فإنّ حلّ الأزمة الوطنية يكمنُ في طرح “دستورانية الوطن”.

الإطار المفاهيمي للدستورانية

     عموماً يُنظر إلى الدستورانية على أنّها “الإطار السياسي الكفيل بتحصين حرّيات المحكومين، وتقييد سلطة الحاكمين”[3]، كما أجمع الباحثون الدستوريون والأكاديميون على أنّ الدستورانية هي “الآلية السياسية والحقوقية التي تكفل مسار إدارة الحكم في الدولة، بما يتوافق مع ضمان حقوق الشعب وتحقيق واجبات السلطة”[4]. فالدستورانية هي الأساس النظري لمفهوم الدستور في اللحظة الليبرالية الكلاسيكية، التي انطلقت من أفكار عصر الأنوار مروراً بالأسس الفلسفية القاطعة في العصر الإكليريكي. لكنّها بدأت تعرف تحوّلات فكرية كبرى في زمن العولمة، حيث الحديث عن إعطاء دستورانية بين الدول. بمعنى أن ثمّة تصور قانوني كبير يرمي إلى الشمولية، يتحرك في تمام مسام القانون بما فيه القانون الدستوري، ينظر إلى الغرب بما هو حامل رسالة إنسانية يريد لنفسه أن يجعل الكون على صورته.

     صحيح أن الباحثين الكبار – وخصوصاً الأوربيين منهم – يؤكدون على الإختلاف، لكنهم في نفس الآن يقطعون مع الوجود السياسي للدولة الأمة. وبدأوا ينظرون إلى حقيقة تصوّرية عندهم، وهي أن الفكرة الصالحة حاكمة ولها أصالة التطبيق على الجميع. إلا أن المشكلة هي من يشخّص الفكرة الصالحة وخصوصاً في خضم التوجهات الفلسفية الكبرى المتناقضة بين النفعية والتبريرية والبراغماتية وغيرها. فالصعوبات المفاهيمية والمعرفية لا تتوقف عن التولّد  لأنّ حلم تحقيق التواصل بين الدول صعب، بخلاف ما يقع في المجال الوطني. لكن رغبة العولمة تظلّ ناظرة إلى السيطرة ولو على حساب خصوصيات الدول، بعنوان وحدة العقل القانوني. وربما تصل إلى إمبراطورية القانون، ما دامت هناك أفكار إنسانية مشتركة تسمح بأخذها كقاعدة نظرية من تسامح ومحاربة الشمولية وعدم المساءلة.

     وفي ذلك يقول “رينو دو هوس” حول الدستورانية العالمية:

“Cette forme de « constitutionnalisation internationale » représente à bien des égards le prolongement du constitutionnalisme que nous connaissons au niveau national. Certes, la portée de ces règles supérieures varie : au niveau international, on s’efforce de réglementer tant les relations entre États que les rapports entre gouvernants et gouvernés. Et l’on sait que l’effectivité des normes internationales est loin d’atteindre celle des règles nationales. Ces différences ne doivent toutefois pas occulter la communauté de pensée que l’on trouve à la base de ces deux formes de constitutionnalisme. Dans un cas comme dans l’autre, l’objectif est le même : combattre l’absolutisme et l’arbitraire en soumettant les actes des gouvernants à l’empire du droit”. (rule of law, Rechstaat)[5].

     لكن الأبحاث الفكرية القانونية والفلسفية المشتغلة على مبدئي التسامح ومحاربة الشمولية، لم توضح بعد وجهة نظرها بشكل جلي. ففي اللحظة التي نجد فيها الفيلسوف الأمريكي “مايكل والزر” يتحدث عن التسامح كقيمة عليا تحفظ للكائن البشري الكرامة وروح الحياة، نجده في كتابه “الحرب العادلة” ينقلب على هذا التصور لفائدة براغماتية فجّة لا تكاد تخفى في أخلاقية الحرب الإستباقية، والحمل على الإرهاب.

     إنّ ادعاء أفكار عامة لا يخدم تصوراً ولا يلغي اختلافاً، فالمنظور الجديد للدستورانية العالمية يريد أن يجعل من التراتبية السياسية المتحققة داخل الدولة الأمة هي نفسها الواقعة بين الدول. وطبعاً الدستورانية العالمية ستكون ثمرة تشعّب معرفي وفكري ليبرالي متجاوزة للخصوصيات الأممية، والفكرة الأساسية للدستورانية تكون قد انقلبت على عقبيها، فبدلاً من غلّ يد الحاكمين وإعطاء حقوق للمحكومين، تنقلب إلى بسط يد الدول العظمى ( الحاكمة عالمياً ) وغلّ يد الدول المستضعفة ( المحكومة عالمياً ).

   فالمأزق في الفكر الوطني والعربي أنه لا ينظر إلى المصاديق الواقعية الخارجية، لبحث التعريفات الفقهية والقانونية المقارنة، بل نجده يعكف على تمحيصها في الكتب الغربية، دون أن يلقي بالاً إلى عمق دورها في المجال المحلي وتحقق الإرتهان الإبستيمولوجي للمتغيرات الفقهية المقارنة. إلى أن وصل الدور إلى الحديث عن ما بعد الدستورانية بوصفها اللحظة التجاوزية لمقام الغموض في المناطق البيضاء التي لم يعمل على بحثها الدستور، وإطلاق يد القضاء في البت دون ارتكاز نصي بقدر ما هو جهد استقرائي، يعطي الغلبة للتيارات الفكرية القانونية المستحكمة في المشهد الفكري. وفي هذا المضمار يقول “لورنس لسيغ”:

     “Post-constitutional means just this: Constitutionalism is that practice of a constitutional culture where limits on the authority of actors with power are enforced in the name of constitutional principle. In the United States, this enforcement is by a court, and here a court’s willingness, or eagerness, to act as a constitutional check turns in large part upon the extent to which the court can appear merely to be executing the constitution’s command. Clarity, simplicity, and directness in a constitution translate into vigor. Constitutionalism in this sense requires a certain sort of vigor. Post-constitutionalism has lost this. When constitutional commands don’t appear clear, or when they rest transparently upon contested, heated, nonlegal debate, courts are more reluctant. They are reluctant to resolve disputes in these contested domains, because resolution of matters of contest seems within the domain of the democratic branches. The effect of the contest then is to shift questions from constitutional control to political control, from constitutionalism to democracy”[6]

     فالوجهات العصرية تنحو إلى إعادة النظر في إرث عصر الأنوار والفكر الثوري الأمريكي، نحو استحكام أكبر في ظل ما يعرفه العالم من متغيرات متسارعة رامية إلى خلق موجود سياسي فوق الدولة الأمة، يجعل من باقي الدول الأمم في نفس المركز القانوني للرعايا داخل الدولة الأمة.إنّها هرمية تسلطية تتولد فقهياً قبل أن تنقلب إلى حقائق على ضوء مجهودات غرف التفكير(THE THINK (THANKS، لذا يكون من الضروري جداً إعادة النظر في التعاريف المقارنة على ضوء الخصوصيات، وخصوصاً أن فكرة ضبط الحاكمين وإعطاء المحكومين سلطات – وإن كانت هدفاً سامياً – إلا أن التفاصيل تختلف من جغرافيا سياسية إلى أخرى، فلماذا يجب التمسك بمعيار ليبرالي وجعله حاكماً معرفياً؟

     وعليه يظلّ تعريفنا هو الأسلم لإحاطته بالمعنى دون توجيه للمضمون، ليس فقط لأنه يريد لنفسه أن يكون جدار صدّ في مواجهة الغلبة الإيديولوجية، بل لأنه يتحرك معرفياً وفق الأفق الأنسني بالمعنى المعياري للأفق، أي ذلك التحرك الحافظ للخصوصيات وفق بعد حضاري أوسع من الإيديولجيات المستحكمة والمرتهنة لمنطق الغلبة، وكفالة الأنوية العليا. ولأنّه يسعى إلى فهم المشكلات والأزمات اللبنانية الداخلية وحلّها وفق منحى أخلاقي قيمي. ولهذا فإن فكرة الدستور (الدستورانية) يجب أن ينظر إليها وفق تصوّر محلي وأساس معرفي مشترك، لا ترقيع مفاهيم وفق مصاديق دولية لا مدخلية لها، لا بالبعد المحلي ولا بالبعد المعرفي المشترك. لذا سوف نوضّح الآن ماهية الدستورانية الوطنية في لبنان.

ماهية الدستورانية الوطنية

     أقصدُ بالدستورانية الوطنية تجليات الوعي الفكراني والأخلاقي لدستور الدولة، إنّها عملية اصطفاء مفاهيمية ومعارفية وقيمية للدستور. فدستورانية الوطن هي إقتدارية دستور الدولة، وهي آلية تقييمية وتقويمية للدستور بما ينسجم ويتماهى مع الثوابت الوطنية. إنّها آلية معرفية مثالية للوطن، أي بمثابة عرفان وطني يتعالى عن المنزلقات السياسية والطائفية وعن النقاط الإشكالية في الدستور اللبناني.

     تقوم فكرة الدستورانية الوطنية على أساسين مفاهيميين كُبرَيين، هما: ميلاك الدستور ومثاله.

     بالنسبة إلى ميلاك الدستورconstitutionnel intellect أي الدستورانية الفكرية هي الملّكة الثابتة للتفكير الدستوري، أي الحمولة المعرفية والعقائدية الوطنية، أي السياج التنظيري للدستور. فالدستور هو فكرة عُليا قبل أن يتحوّل إلى تجسيد تشريعي في تشخيص المشهد السياسي وشكل وإدارة الحكم في البلد. هذه الملَكة هي التي تعطي الدستور طابعاً أبستمولوجياً معارفياً ليرتقي إلى مستوى الدستورانية الفكرية. لذلك ينبغي إخراج الدستور من نصه الجامد إلى الحيّز التفاعلي، وذلك يتم عبر العودة إلى الفكرة الدستورية وليس فقط الانحصار في تجسيدها النصّي. ومن هذه الجنبة تفترض الدستورانية الوطنية الالتفات إلى أصالة الفكرة الدستورية. وبذلك نقوم بإعادة هيكلة البناء المعارفي الأكمل والأشمل للدستور اللبناني، عبر التركيز على أبعاده المفاهيمية وليس الوضعية. فالنص الدستوري وجود تعييني مبنائي، أما الدستورانية فهي وجود مفاهيمي معنائي.

     أما مثال الدستور idéal constitutionnel أي الدستورانية القيمية، فأقصد بها الاتجاه الأخلاقي للدستور اللبناني، الذي ينسجم مع القيم والاتجاهات الخُلقية، وينبغي أن نستشفّه من الوجود الروحي للمفاهيم السماوية المشتركة عند مختلف الطوائف اللبنانية. ذلك أن الحراك الوطني ينبغي أن يكون حراكاً توافقياً توحّدياً، وليس حراكاً تدافعياً خلافياً، لذا يجب التحلّي بالأخلاق الوطنية في التعامل مع جميع القضايا الداخلية. فالأزمة في لبنان ليست أزمة إدارة حكُم بل هي أزمة أخلاق حكُم، من هنا يجب تفعيل الدستورانية الوطنية بجوانبها القيمية الأخلاقية، التي تضمن للبنان نظام وطني قيمي.

المفارقة بين دستور الدولة ودستورانية الوطن

     أنطلق في هذا الموضوع من السؤال الأنطولوجي الوطني التالي: كيف سنبني الدولة إنْ لم نبنِ الوطن؟ وكيف سنتفق على مفهوم الدولة ونحن مختلفون على مفهوم الوطن؟

   لذلك يجب العمل على تفعيل دستورانية الوطن، فلا يحمي دستور الدولة إلا دستورانية الوطن، التي ستتيح أمامنا إرساء الأسس الإرتكازية الوطنية لبناء الدولة. ولا بدّ هنا من التمييز بين الدستور والدستورانية وفق وجهة ومضمون دراستنا. فالدستور هو أرقى النظم الإنسانية في تنظيم شؤون الحياة، وفق منهج علائقي تبادلي داخل الدولة، يعكس طبيعتها الإجتماعية والسياسية والثقافية، ويحفظ أهدافها ومصالحها، لذلك تركزّ سلطة الدولة على تنظيم إدارة الحكم وعلاقاتها بالشعب بناءً على قواعد دستورية. أمّا الدستورانية هنا فهي مرآة الدستور والانعكاس البليغ للضمير الوطني والقيم الجماعية للشعب، إنّها أنسنة دستورية وطنية لمقوّمات وعناصر الدولة. فإذا كان الدستور جسم القانون، فإنّ الدستورانية هي روحه. وإذا كان الدستور علم وفكر ونظام، فإنّ الدستورانية ثقافة وأنسنة وحضارة.

       إنكبّ الفقه الدستوري على تحديد مفهومين معنويّين أساسيّين للدستور، وذلك حسب توجّه الفقهاء الدستوريين. فمنهم من ركّز على المعنى السياسي للدستور، ومنهم من اتجه إلى المعنى القانوني. لكنّ الدستورانية تقوم على معنى هام وأصيل وواسع هو المعنى الإنساني القيمي للدستور، الذي يشكّل بناءً معارفيّاً شاملاً تنضوي فيه كل المعاني الإنسانية والأخلاقية والوطنية، والمعنيان السياسي والقانوني للدستور. فالدستور من الناحية السياسية كما توافق عليه معظم الفقهاء هو “مجموعة القواعد التي تنظم مزاولة السلطة السياسية في الدولة، فتنظم شكل الدولة الخارجية والسلطة المختلفة فيها ووظيفة كل منها و العلاقات بينها. وهو مجموعة القواعد التي تنظم علاقة الدولة بالفرد من الناحية السياسية، أي التي تحدد التنظيم السياسي في دولة ما.  كما أنّه مجموعة من القواعد الأساسية التي تبيّن الطريقة التي تمارس بها السلطة السياسية من قبل القابضين عليها”[7]. ومن الناحية القانونية ذهب فقهاء ك“محسن خليل” و“ماجد الحلو” وغيرهما إلى أنّ الدستور يتجلّى في        ” مجموعة القوانين التي تنظم قواعد الحكم ، وتوزع السلطات وتبين اختصاص كل منها وتضع الضمانات الأساسية لحقوق الأفراد، وفي مجموعة القواعد القانونية التي تحدّد نظام الحكم في الدولة وتبيّن السلطات العامة بها من حيث تكوينها واختصاصاتها و العلاقات التي تربطها ببعضها وبالأفراد”[8]. وبناء على التعريفين الآنفَين: السياسي والقانوني للدستور، يمكنني تعريف الدستورانية في لبنان على أنها النسق السياسي والقانوني للدستور في بنية إنسانية قيمية أخلاقية فكرانية وعيانية غائية توافقية وطنية.

     لا يمكن لأحد أنْ ينكر أنّ الدولة أقدم من الدستور في الوجود من الناحية الزمنية، أي أنّ الدولة تسبق الدستور في الوجود مجرّد أن تتوفّر لها الظروف الأساسية: كوجود جماعة من الناس لها أهداف وقيم ومفاهيم مشتركة، فتشكّل منظومة الشعب الذي ترتقي أعرافه إلى مستوى القوانين قبل أنْ يتمّ تأطيرها وتنسيقها في قالب دستوري، وهذا أمرٌ متعارف عليه. لكنّ الدستورانية التي ننادي بها، هي أسبق في الوجود من الدستور ومن الدولة أيضاً. فالدستورانية من حيث مفهومها الإنساني تواجدت بوجود الإنسان على الأرض، إنّها روح العرف الإنساني أو فكرته الباطنة، أي بنيته النسقية الضمنية. فالدستورانية قاعدة ضمنية لظاهرة القانون، وهي ترتبط بالفطرة الإنسانية الهادفة إلى إدراك الوجود وتنظيم العلاقات الإنسانية على أساس قيمي أخلاقي، يضع سدوداً في وجه المركّبات العدوانية والغرائز. فالدستورانية الأخلاقية العظيمة لم تنشأ فقط عن مجموعة القيم الإنسانية المتمثّلة بالخير، بل نشأت أيضاً عن توازن الشرّ التبادلي، الذي أدّى إلى التسامي بالرغبات والغرائز. ولإثبات وجهة نظري هذه أستشهد بقول الفيلسوف النمساوي “سيجموند فرويد”، حيث اعتبر في تعليقه على الوقائع التاريخية أنّ الحضارة وليدة نكران الغرائز، الذي أدّى إلى ظهور نواهٍ وصدود في وجه الانتهاكات والاعتداءات البشرية التبادلية منذ القدم. فقال: “هل تتصوّرون جميع تلك النواهي وقد رُفعتْ؟ في هذه الحال سيكون في وسعكم أن تستولوا على كلّ امرأة تروق لكم، أو أنْ تقتلوا منافسكم، أو أنْ تختلسوا من الآخر ما شئتم من أملاكه من دون أنْ تأخذوا موافقته…لكنّ الصعوبة الأولى لا تلبث في الحقيقة أنْ تتكشّف بسرعة، فللشخص الآخر نفس ما لديّ من رغائب، ولن يعاملني بمراعاة أكبر من تلك التي أعامله بها”[9]. إذن فالتسامي في الأعراف البشرية الابتدائية حصل نتيجة عاملين رئيسيّين هما: فطرة الخير وتوازن الشرّ. وهذا التسامي بالأعراف شكّل الملامح الأوّلية لروحيّة الدستورانية، وذلك قبل نشوء الدول ووضع الدساتير بفترة زمنية طويلة.

     ومع تطوّر الفكر البشري عبر مسار تاريخي تراكمي وصلت الأعراف الإنسانية الابتدائية إلى وضعيّتها الحالية في القوانين والدساتير المعاصرة، لكنّ الدستورانية – التي لها أسبقية الأصالة على كل المفاهيم الوضعية الحالية – لا تزال حاضرة بشكل بنيوي معنوي مفاهيمي ومعرفي بل وإنساني في الدستور، لكنّها تحتاج إلى عمليّة تشخيص أخلاقية دقيقة لاستنباطها من النصوص الدستورية، كونها ذات طابع روحني قيمي يشكّل الخلفية الأخلاقية للنص الدستوري. وهنا لا بدّ من التنويه إلى أنّ الدستورانية مصطلح أراه ملازماً وجوباً لمفردة الوطن (دستورانية الوطن)، أمّا لفظ دستور فهو تابع بالضرورة لكلمة دولة (دستور الدولة). وما بين الدستور والدستورانية تلازم معنوي، بين تجسيد النص وروحنة معناه، مما يمنحه صفة التحرّك القانوني، ويضفي على الدستور حركة إنسانية وليس فقط حركة القوة والتطبيق. وبينما نجد الدستور نص تشييئي (chosification) فإنّ الدستورانية هي إحيائية الدستور (animation).

ألدستورانية التراحمية والروحية السياسية في لبنان

     إذن، الدستورانية الوطنية هي إحيائية دستور الدولة، إنها شخصنة وروحنة النص التشييئي. ذلك أنّ السمة النصيّة التشيؤيّة للدستور والتعامل الجامد معه أنتجا في لبنان ظاهرات متشيّئة، جعلت من الدولة مبنىً مادياً، يسعى الأفرقاء إلى اقتسامه وحجز المراكز والمناصب فيه وفق الحصص الطائفية. ورغم أنّ هذا حق مشروع لكل طائفة في لبنان، إلّا أنّ التعامل الشيئي المادي الصرف مع الموضوع قد أدى إلى نوع من الفظاظة والسلوك الزبائني في الوطن، لذلك فإن الدستورانية تخفّف من الآلية التشييئية للدولة وتمنحها طابعاً إنسانياً أخلاقياً, وبذلك فإن الدستورانية هي وجدانية الدستور وروحيّته. مما يكفل ما أسمّيه “الرحمة الوطنية”، فكلّنا مسؤولون أمام الله والوطن والشعب اللبناني للحفاظ على “صلة الرحم الوطنية” في لبنان، وهذا ما تتيحه لنا الدستورانية.

     وفي مناقشتنا لمفهوم “الارتحام الوطني”، ننطلق من قول “الأب يوحنّا بولس الثاني” الذي اعتبر أنّ “لبنان أكثر من وطن، إنّه رسالة”، وكذلك من قول “الإمام موسى الصدر” حيث قال : “لبنان يجب أن يكون طائفة واحدة، هي طائفة الله وطائفة الإنسانية”. نستشفّ من هذين القولين روحية الدستورانية الوطنية في لبنان، التي يحكمها البُعد الأخلاقي الوجداني المستمدّ من روحيّات وأخلاقيات شعبه التعدّدي. وبما إنّ لبنان تطغى على شعبه صفة العائلات الروحية، فقد وصفنا الرابطة العلائقية بين مكوّنات الدولة اللبنانية بأنها “صلة الرحم الوطنية”. هذا المفهوم يجعل الطوائف اللبنانية عائلة وطنية واحدة، تحكمها صلات “القربى الوطنية” الضامنة للعيش المشترك في إطار دستوراني وطني. وعلى هذا الأساس تكون الدستورانية التراحمية الوطنية في لبنان نظمة إرشادية أخلاقية تفرزها البنية القيمية للطوائف اللبنانية، وتغذيها السمة الروحية لطبيعة الشعب اللبناني.

     فالدستور وحده لا يمكنه تحقيق هذه الغاية – لا حالياً ولا في المستقبل – دون الإرادة الوطنية، تلك الإرادة نجد فاعليّتها مكفولة في عملانية الدستورانية. ذلك أنّ “التعديلات والنصوص القانونية التي يمكن لها أنْ تكتمل في المستقبل، لا تفي بالغرض المطلوب إذا لم تكن إرادة العيش المشترك موجودة بين فئاته. وإرادة العيش المشترك هذه يمكن تكريسها وتقويتها عبر تقوية المؤسسات، سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية، لتؤدّي دورها الصحيح في عملية إنصهار المجتمع”[10]. إذن، في ظلّ عجز النصوص الدستورية عن حل الأزمات الوطنية في لبنان، تأتي الدستورانية لتكفل الحلّ، كون كل حلّ لأية مشكلة وطنية – مهما صعُبت أو بسُطت- يبقى مناطاً بالإرادة الوطنية، التي لا يمكن أن يحتويها ولا أن يطلقها ويفعّلها نص دستوري، بل تحرّكها الدينامية الروحية للدستورانية الوطنية. “فنظام الحكم في مطلق دولة، لا تحدّده قواعده القانونية، ولا أصوله الدستورية وحدها، بل تلعب إعتبارات كثيرة في مجال استمراره واستقراره، منها الأشخاص القيّمون على الحكم فيه، ومنها واقعية السياسة المعتمدة، ومنها تجاوب الشعب مع حكّامه”[11]. وهذه الإعتبارات الأخيرة الخارجة عن نطاق الاحتواء الدستوري، تحقّقها وتكرّسها الدستورانية الوطنية. فإذا كان الدستور عقداً إجتماعياً وسياسياً تحكمه المواثيق والقوانين، فإنّ الدستورانية عهد وطني إنساني تحكمه “كلمة شرف” وثوابت أخلاقية. ولا يمكن لأي عقد أن يستبين ويتطبّق من دون عهد، وبينما يكون العقد بنيوياً نسقياً مؤسساتياً فإنّ العهد يكون معنوياً علائقياً قيمياً. وتقوم بين العقد الدستوري والعهد الدستوراني آصرة إعتمادية ترابطية تبادلية، تشكّل المسار الضامن للحكم السليم ووحدة الرأي والعيش المشترك في لبنان.

     إنّ العقد الدستوري والعهد الدستوراني يجب أن تشفعهما “الروحية السياسية”، وفي ذلك سوف أستشهد بمجهود الفيلسوف الفرنسي “ميشال فوكو”، حيث كان يقوم بدراسة مقارنة بين فلسفة الثورة الفرنسية ونتائجها وفلسفة الثورة الإسلامية في إيران ونتائجها، وكذلك المقارنة بين الدستور الفرنسي والدستور الإسلامي الإيراني، فخلُص إلى القول في منشوره بمجلّة المراقب الجديد LE NOUVEL OPSERVATEURبتاريخ 16/تشرين الأول/1987: “ثمة معنى يبحث عنه هؤلاء الرجال الذين يسكنون هناك إلى درجة التضحية بأرواحهم. هذا الشيء الذي نسينا حتى إمكانية تكرّره عندنا منذ عصر النهضة أو الأزمات الكبرى التي عرفتها المسيحية، ألا وهي: الروحية السياسية. أعرف أن الفرنسيين سيضحكون من هذا الكلام، ولكن أعرف أيضاً بأنهم مخطئون”[12]. إذن، لقد نادى الفيلسوف الفرنسي “فوكو” بإدخال الروحية السياسية إلى السلطة الفرنسية، التي شغلت الكثير من أبحاثه وكتاباته. ولكن الأولى بنا في لبنان أن نسعى إلى تكريس الروحية السياسية في التعامل الوطني وإدارة الحكم وشؤون السلطة، ذلك أنّ المجتمع اللبناني أحوج من المجتمع الفرنسي إلى الروحية السياسية التي توحّد كافة الشرائح اللبنانية وتؤنسن المجتمع الوطني وتمثلن العمل السياسي.

     هذه الروحية السياسية لا يحتويها ولا يحقّقها الدستور الوضعي، بل تصدر عن الدستورانية الوطنية القيمية الواجب تفعيلها في لبنان. ويمكننا منهجتها وبرمجتها بيسرٍ وسهولة، عبر استمدادها من قيم الطوائف الروحية في لبنان، ومن خلال الاتجاهات والأخلاقيات المشتركة بين مختلف المذاهب اللبنانية. وهي التي تضمن لممارسة العملية السياسية أن تمضي في مسارات توافقية سليمة، بعيداً عن التضارب السياسي والخلافات الوطنية وأزمات الإدارة والحكم. ذلك أنّ العمل السياسي في لبنان، المجرّد من الروحية السياسية، قد أنتج مرحلة من الميول الغرائزية الهدامة والنزعات الطائفية التفريقية بين اللبنانيين. فآليات العمل السياسي تنعكس مباشرة على المزاج الوطني والرأي العام، لذلك يجب أن تكون آليات إيجابية تترك عند المواطنين انطباعات جيّدة، ولا ينبغي لها أن تكون آليات سياسية سلبية تؤدّي إلى الشحن المذهبي والمآزم الوطنية. من هنا فإنّ الروحية السياسية في لبنان يجب أن تسكن جسد الدولة اللبنانية، لكي تتحرّك بحيوية وطنية وفق منهج الحق والعدالة والخير الوطني، لتحقيق الرسالة الوطنية التامّة.

ألدستورانية الوطنية وسيادة الدولة اللبنانية

     تشكّل السيادة أهم المقوّمات الدستورية للدولة المستقلّة القادرة، “فالسيادة مفهوم قانوني سياسي له علاقة مباشرة بوجود الدولة وممارسة دورها وصلاحياتها وعلاقاتها بمواطنيها وبغيرها من الدول، فهي أحد أهم الخصائص الرئيسية للدولة، وهي الشرط الأساسي لاعتبار الكيان السياسي دولة، فلا دولة بدون سيادة، ولا سيادة بدون استقلال…والسيادة هي بسط سلطة الدولة على كامل إقليمها الجغرافي”[13]. لكنّ السيادة الوطنية التي أتحدّث عنها – في هذا المضمار – ليست السيادة على الأرض فحسب، بل هي امتلاك القرار الوطني والحفاظ على الوحدة الشعبوية والاستقرار الداخلي، والأهم الطاعة الوطنية. “فكما أنّ الشعب هو مصدر السلطات، كذلك هو المصدر الوحيد لسيادة الدولة”[14]. لذلك تشكّل الطاعة الوطنية البعد الأبرز والأهم لسيادة الدولة، لا بل هو أساس كل أشكال سيادتها.

     في نظرة سريعة إلى السيادة الجغرافية اللبنانية نجدها غير مكتملة، خاصة بعد تأكيد لبنانية مزارع شبعا، وكذلك في ظل وجود العصابات التكفيرية المسلحة في عرسال وعلى الجزء الشمالي الشرقي من الحدود اللبنانية مع سوريا، أضف إلى ذلك اللاجئين الفلسطينيين الذين يشكّلون أزمة وجودية للسيادة اللبنانية، فضلاً عن تدفّق النازحين السوريين الذين باتوا يتوزعون بأعداد هائلة على مختلف المناطق اللبنانية. أما السيادة السياسية فإنّها شبه مشلولة بسبب ارتهان قرارت العديد من القوى السياسية إلى الخارج، فهل يمكن أن يكون تعطيل المؤسسات الدستورية في لبنان عملاً من فعل الدولة اللبنانية أم عملاً عليها؟ وهل الفراغ الرئاسي في الفترة الأخيرة هو من نتاج إرادة الدولة اللبنانية أم من نتاج إرادات مفروضة عليها؟ لا نريد الاستفاضة بهاتين النقطتين كي لا نحيد عن موضوعنا، ولكن من المعلوم حتماً وحقاً أن السيادتين الجغرافية والسياسية في لبنان يشوبهما الكثير من الإشكاليات والنقصان والعجز. فما يهمّنا الآن هو السيادة المختصّة بالشعب، أي الطاعة الجماعية الوطنية لسلطة ومقام الدولة، والتي تشكّل المنشأ السليم والمبدأ الأساسي لسيادة الدولة، حيث يقيض لها أن تنطلق منها إلى تحقيق السيادات الكاملة والشاملة. فسلطة الدولة متوزّعة بشكل متوازٍ على طرفي العلاقة: الحاكمين والمحكومين.

     ولكي تتحقّق الطاعة الوطنية يلزمها شرطان أساسيان: وحدة الصف من قِبل الشعب والعدل الوطني من قِبل الدولة. وفي الإطار النظمي العلائقي التبادلي بين وحدة الشعب وعدل الدولة يُختصر كلّ أشكال أنساق إدارة الحكم بين الساسة والمسوسين. لكنّ وحدة صفّ الشعب اللبناني تعاني اليوم من انقسام طائفي يعطّل آلية الطاعة الوطنية، وكذلك فإنّ الإنقسام السياسي بين الأفرقاء الحاكمين قد أدّى إلى ضرب مبدأ العدل الوطني. فوحدة الشعب وعدل الدولة هما عاملان متأثّران ومتداخلان ومترابطان، ويشكّلان معاً النسق الرئيسي الذي تنبني عليه أساسيات السيادة الوطنية. وبما إنّ الطاعة الوطنية للدولة قد أصيبت بخلل نتيجة الأحداث الأخيرة، فقد حلّت محلّها الطاعة الطوائفية، حيث نجد كل طائفة تطيع زعماءها الذين يمثّلونها في الدولة دون تحقيق الطاعة الوطنية تجاه مؤسساتها، فنراها تتحرّك إلى الشارع أو تعتصم أو تتظاهر حتى ضدّ أفرقاء سياسيين هم أساساً من مكوّنات الدولة.

     إذن، أية سيادة وأية طاعة وأية عدالة وطنية سوف تتحقّق، عندما نجد فريقاً أساسياً من الدولة اللبنانية يحرّك طائفته أو جماعاته ضدّ فرقاء آخرين أساسيين في الدولة؟ فالدولة اللبنانية “تعاني منذ استقلالها إشكالية سياسية تتعلق بسيادتها…وهذا الأمر له علاقة بطبيعة النظام اللبناني والتركيبة الدينية الطوائفية والتعددية لسكّانه. وبالرغم من توافق مواطنيه على دستور موحد للبلاد، إلا أنّ نظام الحكم الطائفي فيه لا يخضع لنص الدستور فقط، بل هو يخضع لدستور آخر غير مكتوب، له قوة الدستور، ويتعلّق بميثاق العيش المشترك، والذي يتمّ على أساسه تقاسم السلطات والوظائف العامة الرئيسية فيه”[15]. هذا الكلام يقودنا من جديد إلى الحديث عن الدستورانية الوطنية، التي تكفل سيادة الوطن وطاعة الشعب ووحدته وبالتالي تحقيق العدل الوطني. فالدستورانية هي بمثابة ميثاق أفهومي نظري وعملي غير مكتوب ولا منصوص، ولكنّه يحتوي كل أسس المبادئ الوطنية السليمة والخيّرة.

     فالدستور اللبناني في تركيبته قد كرّس الصيغة الطائفية وإنْ كان عن حسن نيّة، وأصبح قاصراً عن استيعاب وحلّ مشكلات البلد، ذلك أنّ الأزمة الحقيقية للدستور اللبناني هو عدم تفعيل الدستورانية القيمية الوطنية. فعندما نرى أن الدستور اللبناني قد تعرّض لما أسمّيه “الاستلاب المصالحي” الذي يرى الوطن شيئاً جامداً خاضعاً للمكتسبات والنزعة البرغماتية النفعية، وحينما نجد أن الدستور والدولة يتعرضان لما أسمّيه “الإختزال المذهبي” الذي يختزل لبنان من جغرافيا وتاريخ وطنيّين جامعَين إلى ديموغرافيا وتراث طائفيّين تفريقيّين، عندئذٍ ينبغي علينا تفعيل دستورانية الوطن. فالأزمة في لبنان ليست أزمة دولة بل أزمة وطن، وليست أزمة إدارة حكم بل أزمة رسالة وطنية.

ألدستورانية والرسالة الوطنية

     ما يميّز إدارة الحكم في المجتمعات الإنسانية هو أنّها مشفوعة برسالة وطنية، فهي التي تكفل تحقيق المشروع الإجتماعي والسياسي للدولة. ولكي تتبلور هذه الرسالة لا بدّ من توفّر قرينة الحق الوطني الذي يضمنه القانون، باعتبار أنّ قانون الدولة هو حكم الحق. “فالقانون بمعناه العام (Le Droit) هو مجموعة من القواعد الملزمة التي تنظّم سلوك وعلاقات الأشخاص في مجتمع تقوم فيه سلطة تفرض تلك القواعد، التي يجب أنْ تكفل المصالح المشروعة للأفراد وأن تحقق الخير العام في المجتمع”[16]. وقد رأى “فرنسوا تيرريه” أنّ القانون حق رعوي للناس، حيث قال:
   “Le Droit, c’est un ensemble de règles de conduite, qui, dans une société donnée et plus ou moins organisée, régissent des rapports entre les hommes. Les “droits”, ce sont les prérogatives que le “Droit”- ou Droit   objectif – reconnaît à un individu ou à un groupe d’individus”[17]                                              

        إذن، الرسالة الوطنية مكفولة بحكم الحق، الذي يصدر كنتيجة حتمية لتطبيق القانون بشكل سليم داخل الدولة. وهذه الرسالة الحقّة موجودة في أدبيات ومبادئ الطوائف اللبنانية، فالفلسفة الإنسانية في الدين المسيحي تؤكّد على ضرورة التسامح والسلام، حيث شكّلت أفهوماً نموذجياً حضارياً للحق والمحبة والتعايش والمسامحة والسلم على امتداد تاريخ المسيحية. كما إنّ الدين الإسلامي رساليّ في تطبيقاته الإنسانية، حيث نادى بالصلاح والإصلاح الدائمين والسماحة والخير، وقد نصّ هذا الحق في الشريعة بتنفيذاتها القانونية. “فمبدأ سيادة القانون يبدو شبيهاً لمبدأ سيادة الشريعة في الإسلام، عندما كانت المجتمعات الإسلامية خاضعة لأحكامها من جميع نواحي حياتها، حيث كان لا يُعتبر صالحاً كلّ عمل يقون به الفرد، أكان الحكّام أو الرعية، إلا إذا كان موافقاً لأحكام الشريعة”[18]. والعمل الصالح هنا، هو شرط لحكم القانون بما هو حق شامل ومتكامل، حيث الخضوع للشريعة هو خضوع لله والقانون. وفي نفس السياق نستطيع بجزم أن نضع قول رئيس المحكمة العليا “لورد كوك” في “نيوزيلاندا”، عندما اقتبس “براكتون” في إعلان 1610 من وحي المبادئ المسيحية: “إنّ الملك نفسه يجب أنْ لا يكون خاضعاً لإنسان، ولكنْ أنْ يكون خاضعاً لله والقانون، لأنّ القانون يجعله ملكاً”. وهكذا نلاحظ بوضوح أنّ القانون، بإطاره الوضعي ومفاهيميه الروحية، هو حكم الحقّ بما يمثّل هذا الحق من رسالة إنسانية بله وطنية أيضاً بالنسبة إلى الشعوب والمواطنين.

     من هنا نربط حكم القانون – بما هو حكم الحق – بالدستورانية الحقانية، فقد أثبت الفقيه الدستوري “دايسي” أنّ أحكام الدستور ليست مصدر القانون. “وهو يعتقد أنّ كل فرد في المجتمع له من الحقوق والحرّيات ما يمكّنه من فعل ما يشاء، وقد آمن بأنّ القانون العام حمى الأفراد إلى مدى أبعد من الدستور المكتوب، وهذا نتيجة حقوق الأفراد التي تشكّل مصدر القانون”[19]. وبما إنّ أحكام الدستور ليست هي أساس إحقاق الحق الوطني، فإنّ الدستورانية الوطنية باتجاهها الحقاني هي التي تكرّس حكم الحق عبر القانون. ولكن لماذا نركّز في هذا الموضوع على وجوب أن يكون حكم القانون هو حكم الحق؟ في الواقع، حكم القانون ليس حقانياً دائماً. حيث رأى رئيس مجلس شورى الدولة اللبنانية “غالب غانم” أنّ: “مفهوم حكم القانون لا يهتم بمدى تطابق القوانين بحدّ ذاتها مع الحق أو العدالة، بل هو يشير ببساطة إلى كيفية تعامل النظام القائم مع القانون. ومن نتائج ذلك أنّ دولة لا تعرف الديموقراطية، أو أخرى لا تحترم حقوق الإنسان، يمكن أنْ تقوم على مبدأ القانون. وهذه الحالة تنطبق على عدّة دكتاتوريات حديثة”[20]. إذن، حكم القانون ليس دائماً هو حكم الحق، خاصة في الأنظمة السابقة الذكر. وهذا ما أصاب حكم القانون في لبنان، حيث أعاقته الذهنية الطائفية المستشرية من أنْ يكون حكم حق. وقد تحدّث الدكتور “عبد الرؤوف سنّو” في كتابه “لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف” عن الإعضال الطائفي الذي يقف حائلاً في وجه إرساء نظام حقاني، فدرس في الفصل الأول مفاهيم الدولة الحديثة والديموقراطية التوافقية والعيش المشترك والطائفية المذهبية، “ووجد أنّ أياً منها لم يتحقق باستثناء بقاء الطائفية السياسية والمجتمعية على علاتهما.وأثبت أن الطائفية السياسية هي وليدة الطائفية المجتمعية التي لم تعق، حتى منتصف القرن 19، قيام تحالفات سياسية بين القوى الحزبية اللبنانية من مختلف الطوائف، مع حفاظ كل طائفة على دينها ويقينها وعلى خصوصيتها.وقد تحولت «الطائفية المجتمعية»، منذ نشوء الكيان اللبناني في العام 1920، إلى ثقافة رفض «الآخر»، والتي تعززت منذ اندلاع حرب لبنان في العام 1975 وما استجد بعد «اتفاق الطائف» من هواجس حول بنوده وتنفيذ وتباعد قام على نظرية: الغالب والمغلوب”[21]. وهكذا نلاحظ أنّ حكم القانون في لبنان قد غاب عن حكم الحق الوطني أمام حكم حق الطوائف، مما أدّى إلى ضرب مفهوم الرسالة الوطنية.

     إنّ الرسالة الوطنية هي أساس استمرار الدولة، وهي بنيانها الإنساني والقيمي، وهي محتواها المعارفي والحضاري. فالتاريخ يشهد في دورته بأفول دول عظيمة قامت على رسالة حقة، ولكنْ ما فتئت أن تخلّت عنها لوقوع الغلبة لها، لتبدأ بالتآكل من الداخل إلى حين انهيارها الحتمي. فالدولة الفاقدة للرسالة الوطنية محكومٌ عليها بالإنهيار، ذلك بسبب الفراغ القيمي الذي يجعلها جوفاء، مجرّدة من المعنوية الوطنية والروح السياسية والمعرفة الحضارية والبُعدية الإنسانية. ولكن لا نستطيع وصف لبنان بأنّه دولة فاقدة للرسالة الوطنية، غير أنّ هذه الرسالة اليوم مضطربة ومشوّهة وتعاني من إشكالات عديدة. لذلك نحتاج في لبنان إلى تفعيل الدستورانية الوطنية، التي تضعنا أمام ثابتين أساسيّين للرسالة الوطنية: ثابت ماهوي وثابت أداتي. الثابت الماهوي يتمثل بالمفاهيم النظرية المعرفية لأخلاقيات الحكم، والاتجاهات القيمية والإنسانية للطوائف، والقناعة الوطنية بضرورة العيش المشترك في ظل السلم الأهلي الدائم. أمّا الثابت الأداتي فيتجلّى بالطابع العملي التطبيقي للمفاهيم الوطنية، حيث ترتقي الوجبات والسلوكيات عند المواطنين والمسؤولين إلى مستوى “التكليف الوطني” في كل عمل أو فعل داخل الدولة اللبنانية. ونختم بقول الدكتور “سنّو”: “لن يرسخ أي حل للأزمة في لبنان، ولن يتحقّق أي استقرار أمني أو سياسي، ولن ينعم هذا البلد بأي سلم أهلي أو استقلال حقيقي أو ازدهار إقتصادي، ما لم يحدّد اللبنانيون خيارهم الوطني، وما لم يجدو بأنفسهم حلولاً لمشاكلهم…وقبل كل هذا وذاك، ما لم يتصالحوا مع وطنهم”[22]. وهذا بالضبط ما تقتضيه الرسالة الوطنية الضامنة لحكم القانون بالحق الإنساني.

ألمراجع والمصادر

1- أتركين، محمد.(2007). الدستور والدستورانية: من دساتير فصل السلطات إلى دساتير صك الحقوق. دار النجاح: الدار البيضاء.

2- تويني، غسّان. (26/آب/2008). جريدة النهار. العدد 67.

3- جواد ظريف، محمد. (2011). القانون الدستوري. مدخل إلى دراسة النظرية العامة والأنظمة السياسية. مجلة علم الإجتماع السياسي: المغرب.

4- حسان، أحمد. (2014). مفهوم السيادة والدولة الفاشلة. دراسة النموذج اللبناني. جريدة الأنباء: بيروت. عدد 3/أيلول/2014.

5- حسين، خليل. (2010). الدستور ونظام الحكم في لبنان. الموقع الرسمي للدكتور خليل حسين: مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني سابقاً. دراسات دستورية. 6/9/2010.

6- ربّاط، إدمون. (1986). الوسيط في القانون الدستوري. الجزء الأول. الدولة وأنظمتها. بيروت.

7- زيد، عامر. (2008). قراءات في مفهوم الدستور. دراسات وأبحاث قانونية. الحوار المتمدّن. العدد 2316.

8- الزين، عمر. (2014). دراسة لكتاب الدكتور عبد الرؤوف سنّو: لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف. جريدة اللواء. عدد 8/تموز/2014.

9- سنّو، عبد الرؤوف. (2012). لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف. منشورات المهعد الألماني للأبحاث الشرقية: بيروت.

10- غانم، غالب. (2011). حكم القانون. UNDP: بيروت.

11- فرحات، ألبير. (1987). مدخل إلى العلوم القانونية. بيروت.

12- فرويد، سيجموند. (1996). قلق في الحضارة. ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة: بيروت. ط4.

13- مسرة، أنطوان. (2008). التعبئة النزاعية. جريدة النهار: بيروت. العدد67.

14- Dehousse, Renaud. (2001). Naissance d’un constitutionnalisme transnational. Pouvoirs 96.                                                                        

                          

15- Lessig, Lawrence. (2013). POST CONSTITUTIONALISM. Michigan Law Review. Vol.94.                                                                                                                      

16- Eribon, Didier. (1989). Michel Foucault (1926 – 1984). Ed Flammarion.                

                                            

17- Terré, François. (2000).Introduction générale au droit. Dalloz. nº3. p. 3.            

                                                                              


تويني، غسّان. (26/آب/2008). جريدة النهار. العدد 67.

مسرة، أنطوان. (2008). التعبئة النزاعية. جريدة النهار: بيروت. العدد67.

جواد ظريف، محمد. (2011). القانون الدستوري. مدخل إلى دراسة النظرية العامة والأنظمة السياسية. مجلة علم الإجتماع السياسي: المغرب. ص 19.

أتركين، محمد.(2007). الدستور والدستورانية: من دساتير فصل السلطات إلى دساتير صك الحقوق. دار النجاح: الدار البيضاء. ص 135.

Dehousse, Renaud. (2001). Naissance d’un constitutionnalisme transnational. Pouvoirs 96.

Lessig, Lawrence. (2013). POST CONSTITUTIONALISM. Michigan Law Review. Vol.94.

زيد، عامر. (2008). قراءات في مفهوم الدستور. دراسات وأبحاث قانونية. الحوار المتمدّن. العدد 2316.

المرجع السابق. العدد نفسه.

فرويد، سيجموند. (1996). قلق في الحضارة. ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة: بيروت. ط4. ص15.

حسين، خليل. (2010). الدستور ونظام الحكم في لبنان. الموقع الرسمي للدكتور خليل حسين: مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني سابقاً. دراسات دستورية. 6/9/2010.

المرجع السابق. العدد نفسه.

Eribon, Didier. (1989). Michel Foucault (1926 – 1984). Ed Flammarion. P302.

حسان، أحمد. (2014). مفهوم السيادة والدولة الفاشلة. دراسة النموذج اللبناني. جريدة الأنباء: بيروت. عدد 3/أيلول/2014.

المرجع السابق. العدد نفسه.

المرجع السابق. العدد نفسه.

فرحات، ألبير. (1987). مدخل إلى العلوم القانونية. بيروت. ص19.

Terré, François. (2000). Inroduction générale au droit. Dalloz. nº3. p. 3.

ربّاط، إدمون. (1986). الوسيط في القانون الدستوري. الجزء الأول. الدولة وأنظمتها. بيروت. ص188- 189.

غانم، غالب. (2011). حكم القانون. UNDP: بيروت. ص16.

المرجع السابق. ص16.

الزين، عمر. (2014). دراسة لكتاب الدكتور عبد الرؤوف سنّو: لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف. جريدة اللواء. عدد 8/تموز/2014.

سنّو، عبد الرؤوف. (2012). لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف. منشورات المهعد الألماني للأبحاث الشرقية: بيروت. ص697.

مقالات ذات صلة

إغلاق