web analytics
دراسات وأبحاث

مجتمع المقاومة وآليات تحصينه

كثيرا ما طرحت على نفسي سؤالا ما هو ” مجتمع المقاومة ” ؟ هل هو مجتمع حقيقي يتماهى مع باقي المجتمعات المفتوحة ؟ أم هو أقرب إلى مجتمع ” مجرد ” متمعير في الذهن دون مصداق خارجي ؟ هل هو متحيز في جغرافيا معينة ؟ أم متمرد على قانون التربة متماهي مع قانون الفكرة ؟ هل هو ذلك الامتداد الاجتماعي الذي تترعرع فيه المقاومة ؟ أم مجرد ترفع لفظي لاحتواء الأفكار المضادة للمقاومة والموجودة على الأرض فعلا ؟ هي أسئلة كثيرة تتناسل مولدة إخوتها دون كبير جواب يغلقها، أو حتى يقطع الطريق أمامها.

وتنزلا في مقام البحث سنحاول تجاوز سقف الإعضال التشخيصي لبحثه كما لو أنه موجود اجتماعي أصيل، له نفس مفاتيح باقي المجتمعات، لنخصص ( المبحث الأول ) لمناقشة موائز هذا المجتمع بشكل متمعير، قبل أن ندخل إلى تفاصيل آليات تحصينه ضمن ( المبحث الثاني ) من هذا الفصل.

المبحث الأول: ماهية مجتمع المقاومة ومدياته:

عمد الشيخ المطهري إلى بحث إشكالية المجتمع هل هو موجود أصيل أم موجود اعتباري لا حقيقة خارجية له، فأبان بأن مجمل النظريات التي اهتمت بهذا التساؤل لم تخرج عن أربع احتمالات. ” المجتمع ليس إلا مجموعة من الأفراد. فلولا الأفراد لم يتحقق المجتمع. ولا بد من التحقيق عن كيفية هذا التركيب والعلاقة بين الفرد والمجتمع لإجابة عن السؤال. وبهذا الصدد يمكن ابراز عدة نظريات:

أ – أن تركيب المجتمع من الأفراد تركيب اعتباري وليس واقعيا. فالمركب الواقعي إنما يتحقق إذا كانت هناك مجموعة من الأمور تؤثر كل منها في الآخر وتتأثر كل منها من الآخر، ويتولد من هذا التأثير والتأثر والتفاعل حادث جديد له مميزاته وخصائصه كما نجد ذلك في التركيبات الكيماوية…

وهذه الميزة ليست في تركيب المجتمع من الأفراد، لا يندمجون مع بعض في كل هو المجتمع، إذن فالمجتمع ليس له وجود أصيل عيني حقيقي، بل وجوده اعتباري وانتزاعي، فالأصيل هنا هو الفرد. وحياة الإنسان في المجتمع وإن كانت حياة اجتماعية إلا أن الأفراد لا يشكلون مع بعض مركبا حقيقيا بعنوان المجتمع.

ب – أن المجتمع وإن لم يكن مركبا حقيقيا على غرار المركبات الطبيعية إلا أنه مركب صناعي وهو أيضا من قبيل المركبات الحقيقية… فالأجزاء لا تفقد هويتها ولكن لا تستقل في التأثير فهي مترابطة بوجه خاص وآثارها أيضا مترابطة، إلا أن ما يبرز من أثر المجموع ليس هو بعينه مجموع آثار الأجزاء كلا على حدة.

ج – أن المجتمع مركب حقيقي من نوع المركبات الطبيعية إلا أنه يتركب من النفسيات والأفكار والعواطف والميول والإرادات دون الأجسام والظواهر فهو تركيب من الثقافات كما أن العناصر، والأجزاء تستمر في وجودها ولكن بصورة جديدة وماهية حادثة، كذلك أفراد الإنسان يدخلون في نطاق المجتمع وكل منهم يحمل مواهبه الطرية وثروته المكتسبة من الطبيعة، ثم يندمجون مع بعض بنفوسهم ونفسياتهم وتتحقق نفس جديدة يعبر عنها بالروح الجماعية، فهذا التركيب تركيب طبيعي أيضا ولكنه لا يشبه شيئا من التركيبات الطبيعية الأخرى المادية بالتفاعل مع بعض تمهد الطريق لحدوث ظاهرة جديدة، وبالعبارة الفلسفية أجزاء المادة بالفعل والإنفعال والكسر والانكسار، فيما بينها تستعد لقبول صورة جديدة ويحدث المركب الجديد

د – أن تركيب المجتمع تركيب حقيقي فوق التركيبات الطبيعية فإن الأجزاء في المركب الطبيعي لها ذوات وآثار حقيقية قبل التركيب، وإنما تمهد الطريق لتحقق ظاهرة جديدة بالتفاعل والتأثير والتأثر فيما بينها. ولكن الإنسان قبل الإندراج في سلك المجتمع ليست له هوية إنسانية، بل هو استعداد محض له قابلية التلبس بالروح الجماعية. ( [1] )

وبعد عرضه لهذه النظريات الأربع نجد الشيخ يميل إلى تبني النظرية الثالثة القائلة بأصالة الفرد وأصالة المجتمع على السواء، مصرحا ” والآيات القرآنية الكريمة تؤيد النظرية الثالثة، ولقد سبق منا القول بأن القرآن لم يذكر هذه المسائل في إطار البحث العلمي أو الفلسفي وإنما يذكرها بوجه آخر، والذي يستنبط من الدراسة القرآنية للمسائل الإجتماعية هو تأييد النظرية الثالثة. فالقرآن يرى للأمم ( المجتمعات ) مصيرا مشتركا، وصحيفة أعمال مشتركة، ويرى للأمة إدراكا وشعورا وعملا وإطاعة وعصيانا. ومن الواضح أن الأمة لو لم تكن موجودة بوجود عيني حقيقي لم يصح افتراض المصير والفهم والشعور والطاعة والعصيان لها. وهذا يدل على القرآن يؤيد وجود نوع من الحياة للمجتمع هي الحياة الاجتماعية، فالحياة الاجتماعية ليست مجرد تمثيل واستعارة بل هي حقيقة واقعية، كما أن الموت الاجتماعي حقيقة بدوره أيضا “. ( [2] ) محتجا بمجموعة من الآيات القرآنية الكريمة كالآية 34 من سورة الأعراف ( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) والآية الكريمة 28 من سورة الجاثية ( كل أمة تدعى إلى كتابها ).

فالروح الجماعية هي التي تشكل اللحمة العقلية للقول بالأصالة للمجتمع، وطبعا بهكذا تصور نكون أمام مقتضى عقلي جديد يؤدي بالضرورة إلى القول بالأصالة للجهاز العلوي الذي يقوم بتدبير هذه الروح الجماعية.

وما دامت هي غير متمحضة في الإرادة الإنسانية بوصفها جهازا تنظيميا فإنها تكون محكومة بمدار العقل لأنها منفتحة على كل التمثلات الاجتماعية غير متقيدة بها.

فتأتي أصالتها بالضرورة من جهة أخذها بمجال الروح الجماعية وضبطها.

ليقوم الكائن التنظيمي كموجود متشخص مرتفع عن الإنسان الطبيعي وكذا المجتمع على حد سواء، يقول الملا صدرا بخصوص التشخص على أنه عندما ” عبر ( الإنسان ) عن اعتقاده بأن مرجع الضمير ” أنا ” يعد أساس التشخص. ويرى أن الإنسان حينما يدرك ذاته، فلا يقوم هناك احتمال الاشتراك فيها. ويعد إدراك ” الذات ” هذا عين الذات المشخصة. “. ( [3] ) فإن الكائن التنظيمي عندما يحدد الروح الجماعية التي يشتغل على ضبطها فإنه يرتفع إلى مقام التشخص الذي يميزه عن غيره من الكائنات التنظيمية.

لأنه يظل الروح الجماعية المتمثلة في الإيديولوجية الضابطة للمشهد الاجتماعي، لا متحقق في آليات تدبير الفضاء العمومي والتي قد تتقاطع مع غيرها من المؤسسات المقارنة.

إن مجتمع المقاومة التابع لحزب الله يستجمع حقيقتين قائمتي الذات، لكن تعيش تضايفا وجوديا، وتراتبية في الأولويات.

فهو مجتمع جزئي من جهة سقف الاجتماع الدولتي العريض يحمل نفس المؤثرات والتأثرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الدولتية، وهو من جهة أخرى مجتمع متكامل الذات في سقف ميزته ” المقاومة ” والتي تتحرك أيضا ضمن مؤثرات اجتماعية واقتصادية وسياسية بصفتها تلك، والتي ترتكز على بنية فكرية مقاومة قد تتقاطع أو تتناقض مع باقي المكونات الاجتماعية الدولتية.

مما يجعل منه مركب اجتماعي مضاف إلى تركيب اجتماعي أساسي الذي يتشكل منه المجتمع اللبناني.

وهو من حيث هذه الخصيصة يضيف مطالب اجتماعية جديدة تنضاف إلى غيرها من المطالب الاجتماعية المشتركة، ويحمل انتظارات تتقاطع في جانب مع المجتمع الكبروي وأخرى تتمايز عنها بالضرورة، لوقوع المائز في البين.

يقول سماحة الشيخ نعيم قاسم بهذا الصدد ” إن المقاومة بالنسبة لنا، هي رؤية اجتماعية بكل أبعادها، فهي مقاومة عسكرية، وثقافية، وسياسية، وإعلامية، هي مقاومة الشعب والمجاهدين. هي مقاومة الحاكم والأمة، ومقاومة الضمير الحر في أي موقع كان، ولذلك كنا ندعو دائما لبناء مجتمع المقاومة ولم نقبل يوما بمجموعة المقاومة، لأن مجتمع المقاومة يحمل الاستمرارية. ” ( [4] )

فحزب الله سعى إلى خلق مجتمع المقاومة مستفيدا من تجارب السابقين والمرتبط بخط الأنبياء والمرسلين، ليتحول إلى موجود اجتماعي ” مستمر ” يمانع على جميع المستويات الإنسانية، مجتمع مركب أصيل له نفس أصالة المجتمع الكبروي.

ولهذا فله مداخل مطلبية أساسية ومداخل مطلبية فرعية تحتاج إلى مخرجات تتوافق مع السقف المطلبي، ذلك أن صناعة سياسة ناجحة ولو وفق السقف المنظومي تستلزم تطابقا بين مدخلات المجتمعات السياسية ومخرجات القرارات السياسية التي يجب أن تتوافق معها لكي تحافظ على منسوب الرضا العام والمقبولية الاجتماعية بوصفها هي الحاضنة الاجتماعية للمقاومة.

والصعوبة المحورية التي يمكن أن يمر بها صناع القرار السياسي وصناع القرار الحقوقي، هي معضلة التحكم في المدخلات وتدوير المطالب الاجتماعية بشكل يسمح بالاستمرارية ليس فقط للمجتمع المقاوم بل أيضا للتمثلات المقاومة التي تشكل عنوانا كبرويا له.

وبما أن المجتمع المقاوم هو مركب أصيل في قلب مركب أصيل آخر هو المجتمع الكبروي، فإنه يكون أمام صناع القرار السياسي وصناع القرار الحقوقي التنظيميان، تحديا أساسيا في ضبط التراتبيات المدخلية للوصول إلى التحكم في التراتبيات المخرجية، دون أن يقع مساس بدائرة ” المواطنة ” حتى لا يؤدي الأمر إلى نشوء كانتونات سياسية في قلب المجتمع الكبروي، ولا أن يتم المساس بدائرة ” العضوية ” في قلب مجتمع المقاومة.

مما يجعل من شبكة تعالقاته مع المحيط الاجتماعي الدولتي والدولي، تتسع وتتعقد إلى درجات عليا، قد لا تتطابق مع غيره من المجتمعات، وهذا مرجوعه لاعتبارين أساسيين، أنه مجتمع تفصيلي واع بذاته، كما أنه مجتمع تفصيلي واع بمحيطه التكثري.

فعندما تم العمل على بناء وعي اجتماعي بحجم المخاطر التي تحدق بالمجتمع وبشبكة علاقاته، وخصوصا في ظرفية احتلال صهيوني للأراضي اللبنانية، تم التركيز على مفصلين أساسيين، المفصل الأول هوياتي ديناميكي بطبيعته، والمفصل الثاني رفع منسوب المتابعة لحركة المحيط الداخلي والخارجي على حد سواء.

فمن حيث التأكيد على البنية الفكرية الحركية للمذهب الإمامي الإثنى عشري في إطار مدرسة ولاية الفقيه المطلقة، تم تمرير مجموعة من البنى الفكرية العقائدية ودينامية حركيتها في أرض الواقع.

حيث لم يعد مسموحا تأصيل الاعتقاد والاكتفاء بالسقف الإيماني بعيدا عن الفعل الإيجابي في الواقع الخارجي، بل أنه بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، ودخول المنظومة الفكرية العقائدية حيز النفاذ إلى الفضاء العمومي بمختلف تفاصيله، تأثيرا وتأثرا، جعلت من أنموذج حضاري إمامي يتجسد على الأرض مجددا ليشكل ” بوصلة ” فكرانية تتحرك أمام تعقيدات الواقع الخارجي.

وبالفعل التقطت المقاومة الإسلامية اللبنانية هذا الأنموذج وسعت إلى تفعيله وفق مقاييس لبنانية تتواءم مع الطابع التعددي للدولة، مهندسة المشهد المحلي بالتمثل الصغروي للتجربة الإسلامية الإيرانية.

مما فتح كوة تعالقية جديدة مع المحيط الدولي في فترة مبكرة، ترعرعت مع أنموذج حزب الله في لبنان، نقل الحاضنة الطبيعية للمقاومة إلى سقف تداولي في الوعي يستدخل كل المعطيات الآتية من المحيط الكبروي، وطبعا أمام تعقد شبكة التعالق تعقدت المخرجات الاجتماعية لتولد إطارا مفاهيميا خاصا تم توصيفه ب ” مجتمع المقاومة “.

إذا هكذا مجتمع لم يولد من حجم تشكلاته العضوية والفكرانية وحسب، بقدر ما تولد من حجم التحديات المحيطة به وآلية التصدي لهكذا تحديات، مما رفع منسوب الوعي الاجتماعي إلى أقصاه.

لتضحي ثمة تداولية خاصة في الفعل الاجتماعي ترتسم على الأرض، تسمح بحركة انسيابية خاصة ليس مرجوعها إلى تراتبيات اجتماعية ولا إلى تقطيع شرائحي، بقدر ما صارت الحركة مرتهنة إلى معامل القرب أو البعد من الوعي الكلياني المقاوم، وفي هكذا مجتمع يصير التوضيب الآلي ممتنعا، لأنه يتوافق في خصائصه العليا مع دينامية المجتمعات الصناعية الموسومة بالانفتاح.

حيث إن الخطاب السياسي الفوقي يجب أن يتماهى مع أصل البنية السلوكية الاجتماعية، دونما جنبة إكراه أو انسداد يقول سماحة الشيخ نعيم قاسم ” هذا الأداء في الخطاب السياسي يعمم موقف الحزب، ويثقف جمهوره بمبرراته وأبعاده، ويحقق المصداقية العملية التي تظهر تباعا من خلال التطورات. فالمناصرون فضلا عن الأعداء يصدقون ما تقوله قيادة حزب الله لأنها عودت الناس على الصدق في الخطاب. “. ( [5] )

فمعامل الاقتناع والتواصل السليم مع مجتمع المقاومة هما القاعدتان الآليتان المعتمدتان سواءا في بنائه أو في سيرورته، مما يجعله يتوافق مع الدائرة المفتوحة للمجتمع، حيث يغيب الإكراه ومنطق التعليمات الدوغمائية التي تتوصف بها المجتمعات المغلقة.

ومن هنا حساسية الموضوع، ذلك أن مجتمع المقاومة بوصفه مجتمعا جزئيا مفتوحا داخل مجتمع كلي دولتي مفتوح، يعرف تركيبا في الانفتاح، تؤدي بنا إلى توصيفه بأنه مجتمع ” سوبر مفتوح ” يتحرك بمنطق قراري موحد شكلا لكن مختلف مضمونيا في قلب فضائه الدولتي، إلا أن منطق بناء القرار الاجتماعي أو لنقل الفعل الاجتماعي الذي يتحرك على الأرض يظل واحدا، غفلا عن تداخل التصورات المعية والضدية في بعض التفاصيل الاجتماعية، والتي يمكن أن تؤثر سلبا على الحاضنة الطبيعية للمقاومة.

ومن هنا تنفتح إمكانية اختراقه من داخل الدائرة الموسعة إلى قلب الدائرة الضيقة، فمجتمع المقاومة بما هو تشكل اجتماعي مائز يحافظ على انسجامه الداخلي دون أن يبحث عن توسيع التأثير الاجتماعي في غيره من التمثلات الاجتماعية الدولتية، فيتحول إلى مجتمع مغلق معياريا على هذا المستوى، لكن المجتمع الدولتي الموسع لا يستطيع أن يتحرك إلا باستبطان كل التمثلات الاجتماعية الدولتية ليتحول إلى مجتمع مفتوح معياريا على هذا المستوى.

فالإعضال الأساسي أن مجتمع المقاومة مجتمع مفتوح داخليا مفتوح على محيطه أيضا، لكن إغلاقه يهم دائرة ” الوعي المقاوم ” وحدها، دون غيرها من أبواب ” الوعي الاقتصادي ” أو ” الوعي السياسي ” أو ” الوعي الاجتماعي ” التي تظل عبارة عن بوابات مفتوحة دائما.

مما يؤدي إلى تيسر تأثير المجتمع الدولتي في قلب المجتمع المقاوم، دون أن يعمد هذا الأخير إلى الانفتاح الهوياتي الداخلي على أصل المجتمع الدولتي، فأقصى ما يحرص عليه هو الحفاظ على نبرة حوار اجتماعي هادئ. ( لاحظ الرسم أدناه )

مجتمع دولتي مفتوح ( مؤثر )

الفعل السياسي – الفعل الاقتصادي – الفعل الاجتماعي

مجتمع المقاومة مفتوح ( متأثر خارجيا مؤثر داخليا )

الوعي المقاوم ( مائز كلياني ) – باقي الأفعال متداخلة مع المربع الكبروي تتداخل فيما بينها على مستوى المربع الصغروي ترسم حديات التمازج بشكل نسبي

فمجتمع المقاومة يضطر إلى بناء حركة تعالقية محسوبة على أساس الخيار العقلاني الذاتي الفردي، ويناضل من أجل أن يوقف حركة التأثير السلبي على أصل مجتمعه، لكن هذه العملية السياسية قد تعاني من مطبات توافقية كثيرة، قد لا تقدم خدمة على المدى البعيد لمعامل ” التحصين ” المرجو أو الفعال.

فالمستدخلات الاجتماعية الكبروية تظل متحركة بانسيابية، قد يقف البناء السلوكي المقاوم أمامها على المستوى التشخصي لكن أبدا لن يعرقل مسيرتها الاجتماعية، وهي بطبيعتها تتحرك خارج سياج القرارات السياسية أو التدبيرات الكبرى للمجتمع الصغروي، مما يجعلها يمكن أن تمارس عملية ” كي الوعي ” بشكل هادئ ومضطرد في نفس الآن، يحدث تغيرات جوهرية في المدى البعيد.

طبعا هذه المستدخلات ليست قانونا كونيا يتعذر مواجهته إلا بمعاجز، بقدر ما هي ثمار تشكلات اجتماعية مختلفة تتحرك في بيئاتها الخاصة، وترسم معالم أولويات تجد لنفسها قنوات رسمية تقوم بتطويعها إلى أن تتحول إلى ثقافة اجتماعية كبروية، تبحث عن الهيمنة في قلب الهويات التحتية المختلفة عنها.

ومن هنا يقوم أمام الجهاز التنظيمي المقاوم تحدي أساسي، ألا وهو تحويل الهوية المقاومة إلى ثقافة استراتيجية، تتأصل على تليين المائز وتصليب المشترك. ليتيسر له التحول من مجتمع مقاوم صغروي ذي تفصيلة انغلاقية على مستوى الوعي المقاوم، إلى مجتمع دولتي ذي تفصيلة انغلاقية على نفس المستوى.

تلعب الثقافة الاستراتيجية دور العماد الإيديولوجي لكل تصور حراكي في أشياء العالم يراد له موطئ قدم في المشاريع العالمية غفلا على أن يتعلق الأمر بدولة أو منظمة، فوضع ثقافة استراتيجية مسألة محورية لا يستهان بها نهائيا.

وانطلاقا من هذه المقدمة التي لا تحتاج إلى إثبات لأن محصلتها الثبوتية عالية التعقلن وأقوى من أي استدلال خارجي، سنعمل على مطارحة فكرية من أجل ثقافة استراتيجية مقاومة تتحرك في رحم الجغرافيا المعادية دون استناد إلى البعد القيمي أو الديني وحتى، بل ما سنسعى إليه هو جهد عقلاني أنتربولوجي إلى أقصى الحدود، وبهكذا مجهود يتيسر خلق فاعلية تواصلية أقوى، لأن مدارها سقف تأنسني لا يستدخل الدين إلا بالقدر التشاركي الأعلى دون اندكاكية مذهبية تضيق دائرة القبول والتعاطف.

الوجه الأصح للإحاطة بمعنائية الثقافة الاستراتيجية هو أنها ” المجموع الكلي للأفكار والاستجابات العاطفية المشروطة، وأنماط السلوك المعتاد التي اكتسبها أعضاء المجتمع الاستراتيجي القومي عبر التعليم أو التقليد ويشتركون بها جميعا فيما يتصل بالاستراتيجية. في ميدان الاستراتيجية السلوك المعتاد هو غالبا سلوك حس إدراكي ” ( [6] ) فمن خلال هذا التعريف وإن كان يحمل نقائص، إلا أنه إجرائيا يظل هاما من جهة التركيز على: 1 ـ المجموع الكلي للأفكار و 2 ـ الاستجابات العاطفية المشروطة و 3 ـ أنماط السلوك المعتاد ( الحس الإدراكي ).

فالمجموع الكلي للأفكار هو ذلك الوعاء النظري الذي يملأ بالتصورات الاستراتيجية من جهة الإحاطة لمجمل جوانب ” الثقافة ” ومن جهة ” الجانب الاستراتيجي ” من مقاربة أمنية وعسكرية وسياسية، وهي بهذا تعتبر ” محددة الملامح تسلك سلوكا معينا كشركة مهيمنة مالكة لعدد من الثقافات الثانوية العسكرية وأخرى ذات صلة “. ( [7] )

وحيث إن الثقافة هي من المفاهيم الغير المحددة المعالم فإنها تتسع لكل ” الأفكار والطقوس والسلوكات الاجتماعية ” المحددة لجانب اجتماعي ما.

والاستجابات العاطفية المشروطة هي تلك الآثار النفسية التي تحدث للمرء نتيجة وقوفه أمام الوقائعيات الكبرى، وكيفية انفعاله في وجودها، والآمال التي يبنيها على ضوء هذه الوقائع والأفكار التي ترسم معالم مستقبله الاستراتيجي.

أما أنماط السلوك المعتاد فتهم الجانب التعقلي الجمعي لما يجري في المحيط الإقليمي والعالمي على السواء.

وإذا ما ركزنا على هذا الجانب دون مزيد من التوسع في المضامين فإننا نرى بأن الثقافة الاستراتيجية للمقاومة تظل مسألة محورية، ويجب أن تستجيب لثلاث المكونات وبشكل متوازي.

فالاقتراب من النسيج الاجتماعي يستلزم تحويل ” المقاومة ” إلى سلوك حياة لا إلى وجود تعيني في مواجهة الكيان الصهيوني وحسب، بل توسيع دائرته لتشمل كل الموجودات العدائية.

هذا من الجهة الأولى أما من الجهة الثانية أن حزب الله يتحرك على ثلاث مستويات بدون استدخال تكاملي، فعلى أساس وضعه الجغرافي العربي يتواصل مع الخط القومي وعلى أساس هويته الإسلامية يتواصل مع الخط الإسلامي، وعلى أساس لبنانيته يتحرك تحت سقف المواطنة، وكل الخطوط تظل منقوصة بنيويا.

لأن الخط القومي يعرف اختلافات إيديولوجية من ماركسية إلى ليبرالية إلى اشتراكية وحجم الفعل التواصلي مهما تعالى بين حزب الله وهذه التمثلات فإنه لن يصل إلى مستوى الاستدماج الاستراتيجي الكامل، بل سيظل دائما ضحية توافقات سياسية.

أما على مستوى الخط الإسلامي فنظرا لهوية حزب الله الإمامية الإثنى عشرية ستظل محدودة بشكل كبير، نظرا للأزمات التأريخية التي عرفتها الفرق الإسلامية مما يجعل من التقاطع لا يتجاوز سنخية التقاطع مع التيار القومي، والأكيد أنه للتضييق على دائرة تأثير حزب الله اللبناني يتم جعل الطائفية مفصلا هوياتيا في استقراء الأولويات.

أما على مستوى المواطنة فالحزب يضطر إلى تنزيل سقف تصوراته لتتوافق ولو مرحليا مع غيره من التمثلات السياسية للحفاظ على جو تعايشي مناسب. ( [8] )

وطبعا المجهود على أهميته يظل ناقصا جدا لأن التقطيع الترابي للعلاقة لن يساعد في تدوير فكر الممانعة والمقاومة في أوسع دائرة ممكنة، وتظل هوية حزب الله المبنائية والتي لا تقبل مراجعة – عن حق – عائقا مبنائيا في رفع مستوى المقاومة والممانعة إلى السقف الوجودي الضروري.

فالمقاومة بما هي وجود فكراني وفيزيقي في نفس الآن تظل مدخولة بمجمل التجليات الوجودية المعادية، بمعنى أن الأرضية الاستعدائية ليست بجغرافية مكان بقدر ما هي جغرافية فكر، ولا يتناسب الاستمرار في الوجود المقاوم بدون لعبة تنظيرية تشتغل على أدوات أنطولوجية عالية الجودة تضمن لها ليس فقط تعضيد وجودها وحسب، بل وإثارة تغيرات فكرية في الوجودات الأخرى.

وهذه الأدوات الأنطولوجية لا تتجاوز مبنيين أساسيين إذا تهاتر أحدهما تداعى الثاني ولو إلى حين، في أفق خلق عملية ” اعتراف ” أساسي، وهذه الأدوات التي نرى لزومها لتصريف الفكر المقاوم في مجمل الجغرافيات، هي أولا آلية الوعي المثالي، والثانية هي الاقتدار النظري في القضايا الكبرى. وكل هذه الآليات تمهّد الطريق لصراع الاعتراف كما يتحدد فلسفياً.

كما أنها تساعد في رسم منظومة فكرية موحدة خارج المائز الإيديولوجي، وهذا عين ما أسميناه ب ” تليين ” المائز، وتصليب المشترك العقلاني. ( [9] )

فدائرة التأثير تخرج من داخل المجتمع الجزئي لتتحرك بفاعلية في داخل المجتمع الكلي، لتساعد في هندسة الفعل الاقتصادي والفعل السياسي والفعل الاجتماعي داخله بالذات، حتى نكون أمام حركة جدلية ولسنا أمام حركة اتجاه واحد من الخارج إلى الداخل وحسب.

طبعا النضال بمجمل أشكاله يمكن أن يساعد في هذه الاستراتيجية لكنه لن يكون هو مضمونها، بقدر ما يكون حاملا لثقافة استراتيجية جديدة تتوافق مع أرضية الحراك التي يناضل داخلها، والأهم من ذلك تتوافق مع خطوات تحصين المجتمع الجزئي من سيولة التأثيرات.

المبحث الثاني: آليات التحصين على أساس المدخلات والمخرجات الاجتماعية

سوف نعمل ابتداءا على الاستفادة من أفكار المفكر الأمريكي دايفيد إيستون، على أن نلتزم بإجراء مناورة سيبرنتية لتقويم بعض التصورات وتنقيح ما يتواءم فعله في مفروض البحث.

استفاد المفكر إيستون من أبحاث الاقتصادي فاسيلي ليونتييف الذي عمل على رسم قانون النظام الاقتصادي وكيف يتفاعل مع محيطه، بأن أكد على مدخلات ومخرجات يعمل النظام على ضبطها وتصويبها وإخراجها في ثوب قرارات اقتصادية تتواءم مع المحيط الذي يشتغل فيه هذا النظام، فعمد الفقيه إيستون على تطبيق نفس التصور على ” النظام السياسي ” موضحا بأنه كآلية منظومة تكون عرضة لمدخلات ومخرجات.

فالمدخلات لا تخرج عن اثنتين إما مطالب اجتماعية وسياسية تهدف إلى إلزام المسؤولين السياسيين للقيام بها، أو دعم للنظام السياسي أو الفاعلين السياسيين به.

وخطورة المطالب أنها تكون في الغالب متناقضة لأنها ثمرة صراع اجتماعي واقتصادي بين الطبقات الاجتماعية أو الشرائح المهندسة للنظام السياسي، مما يؤدي في الغالب إلى إثقال كاهل النظام السياسي بها volume stress، مما يؤدي بالضرورة إلى ضبطها وتقليصها إلى الحجم الذي يتوافق مع قدرة النظام السياسي. ( [10] )

وقد حدد الفقيه إيستون ثلاثة مسلكيات لضبط كمية المطالب: أولها، وظيفية التعبير عن المطالب حيث يعمد النظام السياسي إلى رسم مسلكيات عرض المطالب وفق دوائر محددة. ثانيها، ضبط هذه المطالب حيث قسم آلية الضبط إلى آلية بنيوية وآلية ثقافية، وفي إطار الآلية البنيوية يعتمد النظام السياسي أبواب صغيرة تقوم بفرز المطالب يحرسها كائن تنظيمي مختص gatekeepers  كما الأحزاب السياسية والبرلمانات والنقابات وجماعات الضغط، التي تعمد إلى تمرير المطالب الأكثر إلحاحا والتخلي عن غيرها التي يمكن إرجاء النظر فيها لاحقا، وإن كان النظام السياسي قد يعمد إلى استباق المطالب الشعبية وعرض مطالب بينية ومن داخل النسق الحكمي سواء لإرضاء القاعدة الشعبية أو كسب أصوات ودعم مضاعف من قبله يسميه إيستون ” withinputs ” أي المدخلات الجوانية. أما الآلية الثقافية فتتأصل على القيم والأخلاقيات الاجتماعية والتي تعمد بدورها إلى الحد من المدخلات سواء من حيث مضمونها بوصفها مطالب لا أخلاقية أو غير عقلانية، أو من حيث شكلياتها بوصفها تنبذ العنف المادي أو الرمزي فتكون المطالب يجب أن تتوافق مع أخلاقيات في العرض قبل بحث مضمونها.

ثالثها، التقليص من المطالب والتي بتوسطها يتم لملمتها ووضعها ضمن قنوات موحدة، فإذا تشابهت الكثير من المطالب توضع تحت كتلة مطلبية موحدة، لكي يسهل عملية تدبيرها.

أما المدخل الثاني والذي يتمثل في الدعم فإنه ينقسم إلى ثلاث إما دعم للمجموعاتية السياسية أو دعم للنظام السياسي برمته أو دعم للفاعلين السياسيين به.

وطبعا تترتب على المدخلات مخرجات أساسية للنظام السياسي في شكل قرارات ذات إلزامية بوصفها قواعد قانونية، أو تصرفات سياسية استجابة للمطالب. ( [11] )

إلا أنه وفي جميع الأحوال يكون النظام السياسي محتاجا إلى شبكة تواصلية موسعة ومنوعة، حتى يسهل عليه تمرير المدخلات والتحكم بها وإلا فإنه سيتحول إلى كائن غير شرعي بوصفه عاجز عن تدبير المطالب الاجتماعية والسياسية.

دعونا نكتفي بهذا القدر لنعود إلى صلب الموضوع، عندما نعي بأن أي مجتمع  يتقدم بمطالب ويمنح دعما، وأن ميكانيزمات تدبيره ومخرجات النظام يجب أن تتوافق إلى حد ما مع سقف المدخلات، فإننا في المقام التشخيصي نكتشف بأن مجتمع المقاومة يحمل صفة تركيبية فهو من جهة مجتمع جزئي ضمن مجتمع كلي له نفس المطالب الكلية، ومن جهة مجتمع متميز له مطالبه الخاصة بوصفه حاملا لهذه الميزة، مما يؤدي بالنتيجة إلى تحمل الإطار التنظيمي المقاوم لشحنتين مطلبيتين دفعة واحدة، يتناسب أن يتوفر على مخارج لها حتى يحافظ على منسوب ” الدعم ” بوصفه أحد مكونات المدخلات.

إلا أن الإطار التنظيمي بوصفه صاحب آلية تدبير في مجتمع المقاومة من جهة مائزها، ليس إلا مكونا سياسيا ضمن الإطار الدولتي فيما يتعلق بسقفه الاجتماعي الموسع، مما يؤدي إلى خلق فتنة إثقال الكاهل على المستوى المطلبي.

وما نقصده بفتنة إثقال الكاهل هو أنه لسنا أمام تزاحم المطالب والذي يظل طبيعيا، بل نقصد الخلط في المطالب الموجهة إلى الإطار التنظيمي بين المعموم المطلبي المائز والمعموم المطلبي المشترك ( [12] )، فيقف التنظيم أمام أزمة في تدبيرها داخليا، مما يؤدي إلى مخرجات غير متوافقة مع هذا الخلط تعاني من أزموية التولد، تؤدي لاحقا إلى تضعضع المدخل الأساسي الثاني ألا وهو الدعم.

فالإطار التنظيمي الذي يجب عليه أن يتماهى مع مجتمع المقاومة يحتاج إلى أطر تدبيرية مغلقة ذات ميكانيزمات مستقلة عن بعضها البعض ( [13] ) تلعب دور الحصر والتقليص وخلق القنوات الطبيعية للمطالب الاجتماعية، ليتحول الشق التشاركي في الإطار التنظيمي إحدى قنوات تمرير المعموم المطلبي المشترك إلى قلب النظام السياسي الذي عليه أن يخرج بقرارات وتصرفات سياسية، وفي شقه البنيوي إلى آلية ضابطة هي التي تخرج بالقرارات والتصرفات المتوائمة مع المعموم المطلبي المائز.

على أن يتحول الشق التشاركي في الإطار التنظيمي بوصفه مستوعبا لدينامية الأثر والمؤثر إلى حارس أساسي the essential gatekeeper  هو من يقوم بفرز المعموم المطلبي المشترك وهو من يرسم قنوات مرور المعموم المطلبي المائز، لكي يتسنى للإطار التنظيمي تصريفها وفق الطرق المثلى، والكل في إطار ضمان استمرارية المنظومة المقاومة جوانيا.

مميزات المعموم المطلبي المشترك والمائز:

واقعا يصعب رسم خط فاصل بين المعموم المطلبي المشترك، والمعموم المطلبي المائز، لأن الطلبات حتى لو تنزلت إلى الحد الإنساني البسيط هي تكون حاملة لتفصيلة مائزة، ما دامت المقاومة جاءت عنوانا للعدالة الاجتماعية، وتجاوز الظلم والحيف.

لكن هذه الصعوبة هي متأتية من جهة ملاك الطلبات لا من جهة موضوعها، وإلا فإنه إن اعتمدنا ” موضوع ” الطلبات فإنه يتيسر تحديد وفق أي معموم تندرج، فالطلبات المرتهنة للسياسات العمومية الدولتية تدخل ضمن المعموم المطلبي المشترك، وتلك المرتبطة بالسقف المقاوم تظل معموما مطلبيا مائزا، وهذا التحديد يظل أوليا لأن السياسات العمومية قد تنقلب إلى معامل فرملة للإطار التنظيمي المقاوم، مما يجعل حتى المعموم المطلبي المشترك في بعض الأحيان ذي أثر مائز، ويقع تحت التصنيف الثاني بالتبعية أو وفق قاعدة الارتداد.

مما يجعل من المعمومات المطلبية تنقسم واقعا إلى معموم مطلبي مشترك ومعموم مطلبي مائز ومعموم مطلبي مائز ثانوي، اعتمادا على قاعدة ” درجة الأثر ” على الخط المقاوم غفلا عن ارتباط المعمومات المطلبية بالسياسة الدولتية من عدمها.

ومن هنا تتحقق معضلة أساسية وهي كيفية ضبط المدخلات وتوضيبها وفق خصائصها، مع الحفاظ على مدخلة ” الدعم ” مرتفعة ومستمرة.

هناك مسلكيتان أساسيتان تسمحان بهكذا عملية، أولاها ما أسماها الفقيه إيستون بالمدخلات الجوانية، أي أن الإطار التنظيمي يعمد إلى استيعاب المقصد الحيوي لبعض المطالب الاجتماعية فيبادر إلى طرحها وخوضها تلقائيا، قبل صيرورتها مطلبا اجتماعيا، لأنها تساعد في رفع منسوب الدعم واستمراريته، كما أنها تساعد في تأسيس وعي حركي تدبيري يتوافق مع المجال الاجتماعي الذي تتحرك فيه.

لكن ما نريده في مفروض البحث، هو أن الإطار التنظيمي يمكنه أن يحيز هذه الآلية في سقف المعموم المطلبي المائز الثانوي، من جهة أنها موضوعا تقع تحت سقف المعموم المطلبي المشترك ومن جهة أثرها فإنها مرتبطة بخط المقاومة وبالتالي المعموم المطلبي المائز، إلا أنه ولاختلاف في منظومات الوعي قد لا يستطيع المواطن العادي استيعاب تعقد أصل المطلب وأثره على المقاومة في نفس الآن، وقد لا يكتشف هكذا رابطة، في حين أن الإطار التنظيمي هو الأقدر على تركيب هكذا قراءة. وبالتالي يظل مهما بالنسبة إليه أن يسابق إلى رسمها كمطالب حيوية يبادر إلى حلحلتها قبل صيرورتها مطلبا اجتماعيا، لأنها تساعده في استباق شبهة احتقان اجتماعي مستقبلي وفي نفس الآن يحافظ على منسوب الدعم قائما ومرتفعا في نفس الآن، لأن العضو الاجتماعي سيكتشف بأن الإطار التنظيمي يحس به ويحس برغباته ويفقه مكنوناته، مما يجعل من التمثيلية مندكة بين طرفي العلاقة على أساس اليقين الموضوعي.

أما المسلكية الثانية وهي الأعمق أثرا فتتأتى في رسم حديات التعايش داخل مجتمع المقاومة، بين إطار المواطنة وإطار العضوية، على أساس اختلاف واقع حتما في آلية الحراك في كليهما.

فإطار المواطنة خلال الألفية الثالثة تحول إلى فضاء اجتماعي مفتوح، وتنازعي، لا يقلق من ” بسيكولوجيا ” التعولم بقدر ما يراها من كمالات الوجود الإنساني التمدني، مما يؤدي بالتبع إلى توسع شبكة ” المطالب الاجتماعية ” إلى ما فوق حد الكائن الدولتي، وهو من أخلاقيات الفضاء العمومي التي تهدد كل تمثيلية سياسية لا تتوافق مع هكذا سقف.

بخلاف سقف العضوية الاجتماعية حيث يرتهن الفرد إلى شبكة القيم والثقافة الاجتماعية الراكزة في جغرافيته، ومنها يرسم مطالبه عالما بحدودها ودائرة فعاليتها واقعا، فلا يكون منتجا لإثقال الكاهل المطلبي، لأن تضامنه يكون آليا.

فإميل دوركهايم في مقام بحثه آليات الترابط الاجتماعي بين المجتمع ما قبل الصناعي والصناعي خلص إلى أنه في المجتمع الصناعي يظل العمل الجماعي حصيلة ظروف الشخص المتردية، وهذه ناتجة أيضا عن البون الشاسع بين مستوى التمايز الإجتماعي ومستوى الوعي أو الوجدان العام أو الضمير الجمعي ويرى أن العمل الجماعي هو جواب مباشر نسبيا للتنظيم أو التفكك الإجتماعي في جميع المجتمعات، ( [14] ) بمعنى أن العمل الجماعي يعرف وجودا سواء في الوضع الروتيني أو في الوضع الغير الروتيني، لكن المنبنى النفسي يظل حاضرا بقوة حيث يرى المستضعف بأنه خارج دائرة الإهتمام، بل أن الرؤية العامة مؤسسة على تهميشه بالأولى.

فإن تحرك في الوضع الروتيني فإنه يلعب دورا توطيديا لحركة الأفراد داخل المجال الإجتماعي ويحافظ على القيم العليا المتفق عليها، أما في الوضع الغير الروتيني أي عند اختلال العدل الإجتماعي يختل أيضا تقسيم العمل الذي يشكل أساس التضامن بين النظائر، ويضعف الوجدان والشعور الجمعي، ولا يوجد في المقابل ضمير جمعي جديد، فتظهر حينئذ ما يسميه هو الأنومية اللامعيارية، ويظهر مثل هذا الوضع بصورة خاصة في الظروف الإنتقالية، قبل أن يتشكل وعي جديد مبني على وحدة المصير والتضامن المتبادل ( التضامن العضوي )، بعد زوال الوعي التقليدي المبني على التضامن الآلي. وهكذا فإن الأشكال الغير العادية للعمل الجماعي هي حاصل سخط الأفراد وسعيهم وراء المصالح الآنية، الناتجة عن تلاشي تقسيم العمل الاجتماعي. ( [15] )

ففي ظل العولمة التي ” تقود تدريجيا إلى تعميق الترابط العضوي على حساب الترابط الآلي، وإلا كيف يمكن لنا أن نفسر تواري التباين اللغوي والمذهبي والقومي في أوروبا بشكل واضح رغم العمق التأريخ له لصالح ترابط عضوي يتطور تدريجيا عبر آليات الإتحاد  الأوروبي، ” ( [16] ) يظل التخوف قائما ويحتاج إلى تعاطي جدي مع المتحولات الاجتماعية اللبنانية ما دامت القاعدة العميقة للعولمة هي أنها تنحو نحو تقليص الدور الآلي في المجتمعات ونحو مزيد من العضوية ” بناء على ما سبق فإن فرضيتنا في هذه الدراسة هي:  هي كلما تزايدت الروابط العضوية بين الدول والمجتمعات العربية مع الدول والمجتمعات غير العربية كلما تراخت الروابط الآلية بين العرب ليفتح ذلك مجالا أوسع للتفكك والذوبان في أنساق غير عربية. “. ( [17] )

فعندما اعتمد الباحث وليد عبد الحي مقياس كيرني أو مقياس كوف لدراسة درجة العولمة في بعض الدول، اكتشف بأن لبنان رفقة عشرة دول عربية تقع ضمن الدول ” متوسطة العولمة ” ( [18] ) وجنبة العولمة السياسية هي الأكثر تأثيرا عن غيرها من العولمات الاقتصادية والاجتماعية التي تظل ضعيفة مبدئيا، إلا أن لبنان رغم ذلك وفق مقياس كيرني تحتل الترتيب 32 دوليا فيما يتعلق بالعولمة الاجتماعية، مع لحاظ أن الأساس المعتمد وفق هذا المقياس فيما يتعلق بالعولمة الاجتماعية هو مؤشرات الاتصال الشخصي الذي يوزن بأربع نقاط موزعة على المؤشرات الفرعية التالية: الاتصال الهاتفي ( نقطتان )،  السفر إلى الخارج والسياحة الأجنبية ( نقطة )، وتحويلات العاملين في الخارج ( نقطة ).

ومؤشرات التيكنولوجيا ولها أربع نقاط موزعة على المؤشرات الفرعية التالية: عدد مستخدمي الأنترنت ( نقطتان )، حاضنات الأنترنت ( نقطة ) وخادمات الأنترنت ( نطقة واحدة ). ( [19] )

أما وفق مقياس كوف الذي يجعل للعولمة الاجتماعية مؤشرا يصل إلى 39% تنقسم إلى ثلاث فروع: الاتصال الشخصي وتدفق المعلومات والتقارب الثقافي، فإن لبنان تقع في الترتيب 41 عالميا، ( [20] ) متقدمة بذلك عن غيرها من الدول العربية.

وهذه المؤشرات رغم أنها تنبني على معطيات ربما لا تفيد كثيرا في فحص درجة التعولم في المجتمعات، إلا أنها تضعنا أمام حقيقة درجة الانفتاح على العالم وفق سهولة التنقل وحركة المعلومات من وإلى، والتي تحمل متغيرات أساسية للمجتمعات المعنية، وحيث إن العولمة كما أكد الباحث وعن حق بأنها تؤدي إلى تفتت المعامل الآلي في الحراك الاجتماعي لفائدة البعد العضوي كما حدده السوسيولوجي الفرنسي إميل دوركهايم، يجعلنا نعود إلى مجتمع المقاومة بكثير من التحديات التي يعيشها الآن وهنا.

ذلك أن مجتمع المقاومة بما هو مجتمع مركب مزيج بين السقفين، لأنه إن تنزلنا إلى فيزياء هذا المجتمع نكتشف تواجد كلتا الثقافتين جنبا إلى جنب، وتلملم الصفتين في نفس الآن، فإنه يقع على عاتق الإطار التنظيمي بناء وعي اجتماعي جديد مركب من نفس السنخية، موضحا بأنه على مستوى المواطنة هو إطار تمثيلي سياسي إلى جوار باقي التمثيليات السياسية المتواجدة، وعلى مستوى العضوية هو إطار تمثيلي حضاري قادر على تدبير المطالب الواقعة تحت سقفه دون رجوع إلى مؤثرات خارجية سياسية.

فخلق الوعي التحتي الاجتماعي هو الضمانة الأساسية والنهائية للمحافظة على دائرة الدعم واستمرارية فكرة المقاومة بوصفها لحمة حضارية تقف في وجه التمدد العولمي، لكن بخلفية عولمية لا تأصيل محلي وحسب، ما دامت هي طريق مفتوح في جميع الاتجاهات وليست حكرا على جهة دون أخرى.

آليات تحصين مجتمع المقاومة دولتيا:

عرفت المائة سنة الأخيرة تحولا أساسيا في ديناميات تكون المجتمعات وسيرورتها وكذا صيرورتها، بعد دخول التكنولوجيا على خط البناء الأساسي للحياة الاجتماعية، مما أدى إلى وقوع تفكك قد لا يتوافق مع الأطر التأريخية.

فأمام هذه المتغيرات لم يعد الضبط بما هو آلية قهرية فعالا، ولا أضحى من الممكن التحكم في تسييل المعلومات الموجبة دون غيرها السالبة، وهو انفتاح كلياني جعل المجتمع أي مجتمع يقف أمامه بمقتضى طاقاته الذاتية، وقدرة مناعته الخلاقة على حسن التدبر فيه وتدبيره في نفس الآن.

ووقع اختيارنا على العهد التكنوتروني – رغم أننا على مشارف عهد رقمي جديد – لاعتبارين، أولهما أن هذا العهد لا زال فعالا ومستمرا ولو في رحم العهد الرقمي الجديد، ثانيهما أنه مالك لناصية التدبير الواقعي فعليا، لأن العهد الرقمي يفتح مجالا تواصليا فعالا، لكنه لا يملك الكلمة على الأرض فعليا.

فالتسارع التكنولوجي أدى إلى ضرب كشط على مرحلة تأريخية كاملة، حيث جعل الترابط بين الأمم والمجتمعات يتم بسرعة فاقت كل التصورات، لتجعل ما يحدث في منطقة ما، تتابعه منطقة جغرافية تبعد عنه بآلاف الأميال دقيقة بدقيقة، مما أدى إلى إعادة هندسة سياسة الفعل والانفعال، في كل الشبكات الاجتماعية، وأضحينا أمام مفارقة غريبة وهي أنه في نفس اللحظة التوحدية عالميا من جهة متابعة الأحداث، أضحينا أمام مفارقة التشذر الذري في نفس هذا العالم.

يقول زبيغنيو بريجنسكي ” تكمن المفارقة في عصرنا الحالي أن البشرية أصبحت في وقت واحد أكثر توحدا وأكثر تجزؤا، وهذا هو التوجه الرئيس للتغيير المعاصر، الزمان والمكان أضحى مضغوطا إلى درجة أن السياسة العالمية تعبر عن ميل أساسي نحو الكبر، ووسائل متشابكة للتعاون، والقضاء على الولاءات المؤسساتية والإيديولوجية، في حين أن أصبحت الإنسانية أكثر تجزءا وحميمية مع موائزها ليصير التوتر البيني هو الغالب. ” ( [21] )، وهذه حقيقة لا تحتاج إلى كبير استدلال لأن معاينة الأوضاع العالمية يؤكد ارتفاع منسوب الهوية بمختلف تمفصلات وتجلياتها لتحديد ديناميات الحركات الاجتماعية.

وإذا ما جعلنا هذه الضابطة قائمة بيني وبين القارئ، فإننا نكون في مجتمع المقاومة أمام حالة هوياتية خاصة، تتوافق مع المد الهوياتي الذي غزا العالم، إلا أن خصيصتها متحيزة خارج الأطر العامة والمتعارف عليها من إثنية ودينية وحتى مذهبية، بل هي أقرب إلى تأصيل معرفي مضاد يقف على خط التناقض مع المد العولمي، تناطحه في سقف الوجود الإيديولوجي وحسب.

لكنها وكأي تمثل فيزيقي لإديولوجية، تستعين بأدوات عملانية لتصريف تصوراتها، سواء على حد القتال أو على حد التدبير السياسي للفضاء العمومي الذي توجد في إطاره.

وبما أن مفروض بحثنا هو تحصين مجتمع المقاومة، فإننا سنكتفي ببحث الجنبة الثانية من الموضوع، والمتعلقة بتدبير الفضاء العمومي ( أو المجال العام )، بشكل يجعل هكذا مجتمع محصن من الحراك العولمي الناقض له بالضرورة.

مجال واحد وثلاث طبقات:

سبق أن أوضحنا بأن مجتمع المقاومة هو مجتمع جزئي داخل مجتمع كلي دولتي، وهذا الأخير جزئي داخل مجتمع كلي عالمي، ولكل هذه المجتمعات حركة سيرها، وتعرف انسيابا في الانفعال بحسب دائرتها، وكذا بحسب قدرتها في الفعالية بخصوص ما يعلوها من طبقة اجتماعية كلية. ( [22] )

لذلك سوف نستعين بإطار مفاهيمي – ليس حاكما ولا مانعا لغيره من الأطر المفاهيمية – قائم على تدوير الهرم المعرفي، وفق المجالات التي يتناسب له التحرك بها.

إلا أننا ابتداءا نرى من المناسب البداية بتحديد الطبقات وكيفية التعامل لتحصين مجتمع المقاومة، والتي حددنا في ثلاث مرجوعها إلى مساحة كل مجتمع، على أن نكتفي في هذه الورقة بحث الطبقة الأولى وهي طبقة مجتمع المقاومة بوصفها مجتمع جزئي دولتي، وطبقة مجتمع الوطن بوصفه مجتمع كلي دولتي، ونرجئ بحث الطبقة الثالثة إلى ورقة مستقلة لما فيها من تداخلات وتعقيدات كثيرة.

الطبقة الأولى: مجتمع المقاومة بما هو هو:

في هرمية التدبير دائما ما يتم وضع القاعدة الشعبية ضمن قاعدة الهرم، على أن يعرف ذلك تطبقا في الأدوار لينتهي بنا الدور إلى رأس الهرم، حيث يقف التنظيم المقاوم بما هو تنظيم أساسي يعمد إلى السيطرة والتنفيذ لمرغوبات القاعدة الاجتماعية.

هذا هو الهرم الاجتماعي المتعارف عليه في المدارس الاجتماعية والسياسية بمختلف أشكالها.

إلا أنه في حالة مجتمع المقاومة، لا يمكن الحديث عن معامل سيطرة أو تنفيذ خارج دائرة ” القوة الاجتماعية القاعدية ” التي هي تحدد من يمثلها في الفضاء العمومي الخاص بها، مما يضطر التنظيم أن يتحرك كما الأحزاب السياسية، يحاول أن يقنع هذه القاعدة الاجتماعية بمحورية دوره

مقالات ذات صلة

إغلاق