دراسات وأبحاث
صناعة السياسة الخارجية
في زمن الردع الهجين:
تحول الإرهاب العابر للحدود إلى مكون ردعي هجين، يهدد المنطقة العربية بمجملها، لأنه ليس فقط يخترق الحدود، بل بوصفه مالكا لمشروع سياسي يقوم على أنقاض التمثلات الدولتية في المنطقة، مما يجعل من التحدي وجودي وفق أقصى صوره الممكن تصورها.
وعليه أضحى مراجعة مباني صناعة السياسة الخارجية، أمرا ضروريا يتوافق مع التهديد الهجين الفاقد للجنسية الذاتية والمتفلت من ربقة الترسيمات الدولية، وإعادة النظر فيها بشكل يسمح بمواجهة هذا الموجود التهديدي بطريقة أكثر سلامة وفعالية.
آليات صناعة القرار السياسي:
واقعا إذا ما أردنا مقاربة القرارات السياسية الكبرى وكيفية اتخاذها نجدها تنقسم إلى شطرين: قرار سياسي مغلق يتخذ رأسا من قبل أعلى جهة سياسية في هرم السلطة، دون مراجعة للفاعلين السياسيين، وقرار سياسي مفتوح يتخذ من قبل أعلى جهة سياسية في هرم السلطة مع تدخل للأطراف السياسية في العملية القرارية. ( [1] ) رغم أن الأستاذ رشيد الحضيكي أضاف تصنيفين لتركيزه على الواقع الخارجي، وهما القرار السياسي الشبه المفتوح حيث يسمح للفاعلين الغير الدولتيين بالقيام بمهام الخبرة والاستشارة والمشاركة في مؤتمرات وطنية وحتى الحصول على مناصب رسمية، وقرار سياسي منهار حيث أن النظام السياسي لا يعيش استقرارا سياسيا ولا يملك السلطة الكافية لاحتكار العنف المشروع، أو فرض تصوراته في السياسة الخارجية. ( [2] )
موضحا بأن نظام القرار الشبه المفتوح والذي ينخرط فيه المغرب وفق تصور الباحث إلى جانب الأردن ومصر يتقوم على ثلاث دوائر في صناعة القرار السياسي الخارجي، هناك وحدة القرار المركزية ( رئيس الدولة ومستشاريه )، وهناك وحدة القرار التابعة ( وهي جسم الحكومة والبرلمان )، ووحدة القرار المهمشة ( وتشمل الأحزاب السياسية والمقاولات، والمجتمع المدني ). ( [3] )
وحيث إن السياسة الخارجية هي من الشؤون السيادية لأية دولة، فإنها تكون محكومة باستراتيجيات منغلقة في التدبير والتوظيف في نفس الآن، إلا أنه ولتعقد حركة المجتمعات في العالم الحديث أضحى من المناسب أن تنبني السياسة الخارجية للدولة ـ الأمة من خلال ميكانيزم القرار السياسي المغلق ذي النكهة المفتوحة.
حيث إنه لا يكون للفاعلين الغير الدولتيين تأثير في الصناعة القرارية لكنهم يتحركون معه تحركا شبه كامل، بمعنى أنه في مقام رسم القرار في السياسة الخارجية يتم ذلك ضمن الرواسخ الدولتية التي تشكل السقف المتواطئ عليه اجتماعيا وبنيويا، بحيث يرى جميع الفاعلين الغير الدولتيين بأن القرار متوائم مع طروحاتهم، وهذا عين ما يسميه الباحث الحضيكي بالقرار السياسي الشبه المفتوح، لكنه في واقع الأمر يظل قرار مغلقا بالكامل، فقط أن الدولة تفتح الفضاء لطرح التصورات المتعارضة لتكوين تصور خاص بها وتستفيد من أسماء معينة، ولا يعني هذا إشراكا في صناعة القرار السياسي.
فيكون القرار واقعا من القرارات السياسية المغلقة لكنه ذي نكهة مفتوحة، كما لو أن جميع الأطراف الفاعلة شاركت في اتخاذ القرار.
ذلك أنه حتى في مقام تكثر الفاعلين في السياسة الخارجية إلا أنهم يتحركون ضمن رؤية موحدة، تفرض نفسها، ليست من جهة أنها قرار سياسي فوقي، بقدر ما تتحرك فيهم كما الدوكسا doxa الوطنية، حتى لو تحركوا في تفاصيل معينة من السياسة الخارجية الوطنية، سواء في الاقتصاد أو الحقوق الإنسانية أوفي السياسة المحلية، يكونون واقعا متطابقين مع الرؤية الدولتية.
وهذا ما سبق وأسميناه بالهوية الصلبة الكلية التي تدبر تنوع الهويات اللينة التحتية لفائدة استمرارها، وانضباط الجميع لها، من جهة أنها ” الحقيقة ” الوطنية المثلى.
ورغم أنه قد يتسرب التشكك عند الكثير من المراقبين، من جهة تنوع المشهد السياسي، وتداخل التصورات الفكرية في طول هذه التمثلات من أحزاب سياسية وفاعلين في المجتمع المدني، إلا أن هذا التشكك سريعا ما يرتفع، إذا ما علمنا بأنه هذا يظل من تبعات عدم ترسيم الهوية الدولتية بالشكل الذي يتناسب وتأصيله كما الثقافة الوطنية، بقدر ما كان هاجسها رسم معالم السلطة في أفقها الشكلاني وذات الأثر الموضوعي.
مما يجعل من حتمية ترسيم هوية دولتية يقف على قدميه، حتى لا تتجاذب الدولة كثرة التيارات الفكرية السياسية والاقتصادية تجعله أقرب إلى ” الدولة المقاولة ” التي تعطي لمحك السوق الفعالية التدبيرية للأزمات المحلية.
فمجهودنا النظري رائي إلى تجاوز ثنائية القرار السياسي المغلق والقرار السياسي المفتوح، لما يحمله من انسدادات تصورية قد تضر بفعالية الكائن الدولتي، وخصوصا أنه كجهاز معرفي سياسي يظل حديث، ويتعرض في نفس الآن إلى انتقادات نقضية قد تأتي على بنيته في ظل الحراك العولمي المضاعف، أو كما أسماه المفكر المهدي المنجرة ب ” عولمة العولمة “، فبين الانغلاق للقرار وانفتاحه دورات أزموية لا تخفى على كل متتبع للمشهد السياسي، في حين أن ما نطرحه ينهي هذه الثنائية باستدخال بنيوي مرجوعه إلى فعل تواصلي علوي يدخل كل مفاعيل المجتمع السياسي في باطنه، يحكمها بمنطقه الكبروي من جهة صلابته كهوية.
وبهذا الأسلوب الاستدخالي للعقل المحلي ضمن إطار العقل الكلي الجزئي ( نقصد به العقل الدولتي ) بخلاف العقل الكلي الشامل ( نقصد به منطق العالم في الحيز الزماني )، تكون الكلمة السيادية متداخلة بين الشعب والحاكم ضمن توافق عقلاني مجمع على فعاليته، وغير صادم في إجراءاته.
فأي موجود فكري كيفما استقام يظل متأزما من جهة وجود زوايا له، في الغالب تكون هي أصل معضلته، سواء التأصيلية أو الاستدلالية، لذلك نجد أن ثمة عبارة تتكرر على الأفواه السياسية والاستراتيجية وهي سياسة ” تدوير الزوايا ” بمعنى أن الاشتغال العقلاني يقوم على أساس إيجاد أرضية توافق بين المتخاصمين، إلا أننا لسنا منتبهين إلى هذه الخصيصة، لأنه حتى التوافق لا يخلو من زوايا سريعا ما تتحول إلى أزمة مستقبلية تحتاج إلى تدوير جديد، وهكذا دواليك، وطبعا مرجوع أن تضحي الأزمة مزمنة، هي حراكها على التفاصيل الواقعية والمصلحية لأطراف الخصومة، دون إنهاء لأصل الإعضال التصوري بين الأطراف.
وسقف التدوير الذي نتحدث عنه يتوافق مع أصل السؤال التأسيسي الجديد لدور الدولة في التأريخ الحديث، وهي تلك المسماة بسقف ” مقترب علاقات الدولة – المجتمع ” والتي جاءت كرد فعل مباشر على ” انغماس النموذج التنموي ونظرياته في التركيز على مدخلات النظام السياسي، وعدم إعطاء اهتمام مساو للمخرجات السياسية وتأثيرها على طبيعة العلاقة بين الدولة والجماعات، وذلك انطلاقا من الرؤية الليبرالية التي ترى أن الدولة حكم بين الجماعات ليس أكثر، لذلك كان اقتراب الدولة – المجتمع يعد بمثابة محاولة لتصحيح هذه الرؤية من خلال التعرض للكيفية التي تمارس بها الدولة – في بعض الأوقات – تأثيرا قويا على البنية الطبقية، وصراع الجماعات والمصالح، كما تتأثر بهم ” ( [4] ) فالإرادة الضبطية الاجتماعية المكفولة للدولة لا يجب أن تتحرك لزوما تحت القانون، بقدر ما يتناسب من أجل ضمان مخرجات سياسية سليمة تحويلها إلى ثقافة اجتماعية تجعل المجتمع والدولة يقفان على أرض توافقية وتصالحية، رغم معامل الإكراه المتواجد فعلا في طول الضبط الاجتماعي.
فالاقتراب من المعامل التواصلي الأتم مع المجتمع يجعل الدولة بما هي جهاز تدبيري عالي الجودة والفعالية، أكثر نجاعة وسائرة نحو تدوير قراراتها بتوافقات طولية حكما، وواقعا هذه الرؤية هي من أهم مستندات نظرية الهوية الدولتية الكلية.
إلا أن التوافق الذي تخلقه الدولة مع المجتمع، ليس قائما من جهة ” الحجتية ” و ” الإقناع ” بقدر ما هو قائم في وحدة التصور الكلي للدولة، بمعنى أن المجتمع يعيش الدولة بما هي رزمة فكرية متكاملة تتجسد فوقيا، لا أقل ولا أكثر.
خلال الخمس وعشرين السنة الأخيرة عادت بقوة مباني الفكر الواقعي إلى الواجهة العالمية، حتى بدأنا نقف على أنه ثمة شبه إجماع على أن كلمة السر في الصراع الدولي هو الصدام، اختلفوا فقط في لونه فمن ” صدام للحضارات ” ( المهدي المنجرة وصامويل هنتغتون ) إلى ” صدام الهجميات ” ( جلبير الأشقر ) إلى ” صدام العواطف ” ( دومينك مويسي ) ف ” صدام الهويات “، حيث لم يعد يجمع الدول في المشهد العالمي إلا الصراع من مداخل مختلفة.
ونحن لسنا في وارد بحث هذه الرؤى وتمحيص صدقيتها، لكن أتت مناسبة للتأكيد على أن للهويات تحديا أساسيا في تدبير الصراع الدولي، ولا تكاد تنسى في مقام السياسة الخارجية لأية دولة، لأنها تقع في طول مجمل التشخصات الصراعية فهي حاضرة بقوة في السقف الحضاري عند هنتغتون وفي الحس المعنوي للهوية بما هي عواطف اجتماعية، وفي التقلبات العنيفة في مقام الهمجيات، إذا الهوية هي الفيصل المعرفي في كل تلك الرؤى ومن هنا مظان أهميتها، فأس الإشكالية ليس في محوريتها بل في اعتمادها كنسق حضاري مغلق قاطع للتواصل مع غيره، لأنها بطبيعتها متحولة وتواصلية بالأساس. ( [5] )
ومن هنا يتناسب الدخول في صلب الموضوع منطلقين من محورية تدوير الهويات على المستوى الوطني في السياسة الخارجية ( عنوان فرعي أول )، قبل بحث تفصيلة الديبلوماسية العظمى من داخل المصلحة الوطنية، بوصفها تضحي هامشا للمناورة وتدوير للحديات العالمية. ( عنوان فرعي ثاني )
العنوان الفرعي الأول: تدوير الهويات في السياسة الخارجية:
إن الدولة الأمة في الشرق الأوسط كغيرها من الدول، تتكون من هويتين: هوية صلبة ( فوقية ) وهوية لينة ( تحتية ) تتحرك بهما معا، لكن بتراتبية تتوافق مع الأولويات.
ولن نعيد ما سبق وبسطناه أعلاه، لكن ما سوف نؤكد عليه في هذه التفصيلة هو أن الإيديولوجيات المتكثرة في المجتمع تظل بدورها هوية تحتية، ولا يمكن لإحداها أن ترتفع إلى مقام الصلابة إلا إذا أضحت مكونا أدلوجيا للدولة.
وعليه فإن الدولة التي تريد أن تمتلك سياسة خارجية قوية وثابتة لا بد أن ترتهن إلى هويتها الصلبة لا إلى تلك التمثلات الإيديولوجية المشكلة سواء في الأحزاب السياسية، أو الإثنيات أو الديانات، والتي لا يجب أن تتحرك إلا في المقام الموازي.
وكما يقول الباحث وليد عبد الناصر بأنه خلال الأزمات الكبرى تظل الهوية هي المحدد الوحيد ” في تعريف وتحديد المصالح الوطنية العليا للدولة، وصياغة سياساتها الخارجية بهدف تحقيق هذه المصالح، سواء كانت هذه الهوية مجمعا عليها، وناتجة عن عملية تفاعل وحوار ديمقراطي مفتوحة داخل المجتمع، وفيما بين قواه المختلفة الفاعلة اجتماعيا وسياسيا، أو تم فرضها، أو على الأقل فرض تفسير معين لها، بواسطة النخبة الحاكمة، أو القطاعات الغالبة منها، وسواء حدث ذلك قسرا أو طوعا عبر الترويج السياسي والتعبوي والتعليمي وغير ذلك. ” ( [6] )
وإذا ما ارتفعنا إلى مقام التنظيرات في مجال العلاقات الدولية، والتي بحثت دور الهوية في السياسة الخارجية فنجدها تتحدد في ثلاث اتجاهات وفق التقسيم الذي عرضته الباحثة إيمان أحمد رجب:
الإتجاه الأول: يرى فاعلية الهوية بشكل مباشر في السياسة الخارجية:
يرى ألكنسدر وندت أن هوية الدولة التشاركية لها دور مباشر في سلوكها الخارجي، والتي تتقاطع مع هويات الدول الأخرى، والتي تتحرك في خمس خطوات: تقوم الخطوة الأولى على الارتكاز على الهوية التشاركية، وتقوم الخطوة الثانية على تقدير الموقف على ضوء ما يمكن أن تتخذه الدولة الأخرى، وهو تصور فكري سلوكي، فتأتي الخطوة الثالثة تفسيرا لمعاني الإشارات، وفي الخطوة الرابعة تنتقل الدولة من التفسير إلى الحراك على ضوء ما تصورته، وفي مقام الخطوة الخامسة والأخيرة تقوم الدولة الأنا بالجواب على إشارة الدولة الأخرى.
” وقد ميز وندت بين العلاقة بين الهوية التشاركية والسياسة الخارجية للدولة، والعلاقة بين الهوية الاجتماعية والسياسية الخارجية ففي الوقت الذي تحدث فيه عن علاقة خطية مباشرة تؤثر بموجبها الهوية التشاركية في السياسة الخارجية للدول، دون أن تتأثر تلك الهوية بسلوك السياسة الخارجية، رأى أن الهويات الاجتماعية بأنواعها الثلاثة السابق الإشارة إليها، تربطها علاقة تفاعلية مع السياسة الخارجية، وهذه العلاقة تفترض تغير الهوية نتيجة السلوك الخارجي للفاعل. ” ( [7] )
الإتجاه الثاني: يرى فاعلية الهوية بشكل غير مباشر في السياسة الخارجية:
وهذا الإتجاه يمثله أندريه تسيكانكوف أن تأثير الهوية في السياسة الخارجية يقوم على متغيرين، الأول يتجلى في بنية المجتمع، من حيث قوة الاستقطاب وقوة الفاعلين الاجتماعيين، والثاني في بيئة عمليات بناء التحالف، وهي شبكة العلاقات التي تربط بين الدولة والجتمع،
فكلما تقوت بينة المجتمع وتشابكت عمليات التحالف تكون الهوية القومية قوية ” وقد حدد أنريه نمطين لتأثير الهوية في السلوك الخارجي، يتمثل النمط الأول في التأثير البناء أي تقود الهوية تفكير صانع القرار في الواقع، وتساعده على فهم الوضع السياسي، وتخلق مصالح الدولة وتعدها وتغيرها، ويتمثل النمط الثاني في التأثير التنظيمي أي تنظم الهوية سلوك الدولة وتوجهه. ” ( [8] )
الإتجاه الثالث: يرى فاعلية الهوية تأتي ثمرة المجهود الدولتي:
وقد تزعم هذا الاتجاه ديفيد شاندلر حيث يرى بأن السياسة الخارجية لدولة ما قد تستخدم للتأثير في الهوية وليس العكس. ( [9] )
واقعا التقسيم الأول والثاني متداخل بشكل كلي، وما تشطير الباحثة رجب إلا عسف تنظيري، لأن المدخلية المباشرة للهوية في السياسة الخارجية تقع حتى عند الباحث تسيجانكوف، فما يعتبره الباحث مدخلية للبنية المجتمعة وحالة التحالفات، هو عين ما يسميه الباحث ألكسندر وندت بالهوية الاجتماعية ودرجة تفاعلها مع السياسة الخارجية، بمعنى أنه على ضوء التفاعل تتحرك الهويات الاجتماعية من مقام التأثر إلى مقام التأثير في الهوية التشاركية للدولة، وبالتالي ليس ثمة فارق في البين.
وكما سيلاحظ القارئ الكريم بأننا في مقام بحث التصور الكلي للدولة والذي جعلناه هوية صلبة وفق التفاصيل التي حددناها في العنوان السابق، تتداخل بين الهوية التشاركية للدولة والهوية الاجتماعية. فارتفعنا عن الخصوصيات التأريخية والإثنية والأدلوجية التحتية إلى مقام معرفي كلي يستدخل ليس فقط نظيمة المغرب العميق بل أيضا الرؤية الغدية.
وطبعا تمرير الهوية الصلبة للدولة تحتاج في مقام ترسيم المعالم التصورية الكلية إلى إجراء تغيير جذري في العمل الجماعي، بمعنى تثبيت التصور الكلياني في قلب بنية المجتمع لبناء تحالفات بينية.
فقد عرف تشارلز تيلي العمل الجماعي بأنه ” تحرك الناس مع بعضهم البعض لمتابعة مصالحهم المشتركة ” ( [10] )، ويزيد أوبرشال في تعريفه بالتركيز على خصوصية إضافية وهي ” وتهديده للمجموعات القائمة، وقدرته على أن يتبدل إلى عامل تغيير اجتماعي “. ( [11] )
إذا المتفق عليه هو أن العمل الجماعي هو حركة اجتماعية تشاركية رامية إلى تحقيق مصالح مشتركة، ولا يراها أوبرشال إلا مقدمة اعتراضية للوضع القائم رامية إلى تحقيق التغيير الإجتماعي إذا استجمعت شروطها، وبالتالي هي ليست عملا إصلاحيا بقدر ما أنها حراك اجتماعي تغييري جذري ينقض المنبنيات الفكرية والحركية للتصور الإجتماعي السابق، هي عملية ولادة منبنية على تصور جديد حاملة لرؤية جذريا مختلفة عن التصور العام السابق، ورائية إلى أن التصور الجديد هو الأتم في المقام.
فأمام الدولة تحدي أنطولوجي أساسي بخلق هوية دولتية قائمة على براديغم البنية العميقة والرؤية الغدية بمسلكية تدبير المتوحد، لترسمها كبناء فكري إيديولوجي، وتنزلها إلى بنية المجتمع لتجعل الولاء يتطابق ليس مع السياسات المحلية والدولية وحسب، بل تتطابق مع التصور الكلياني للدولة، وهي الضمانة الوحيدة لفرض تحالفات الأكثر استقرارا سواء داخل النسيج الاجتماعي، أو في إطار ترسيم معالم السياسة الخارجية مما يؤدي إلى تطابق حيوي حتى في مقام الدبلوماسية الموازية ( بوصفها تصرفات الهويات التحتية ).
مما يدفعنا إلى توضيح مسألة هامة جدا وهي أن السياسة الخارجية يجب أن تظل بيد ” الهوية الصلبة ” في أعلى رأس هرم الحكم، غير قابلة للتدوير ولو على مستوى باقي الفاعلين من رئاسة الحكومة والبرلمان والأحزاب وباقي التمثلات للهويات اللينة.
فباقي الفاعلين وإن تحركوا في السياسة الخارجية فيجب أن يبقى مدار حراكهم في مقام التراتبية الدنيا، عن مقام السياسة الخارجية كما يحددها الكائن الدولتي، لأن المصلحة الوطنية لا تدور مع تغير الايديولوجيات التحتية، بل مع ثبات البناء الإيديولوجي الكلي للدولة.
وعليه كما قلنا نحن لا نركز فقط على محفوظية المجال لأعلى سلطة سياسية للدولة، بل نريد أن ترتسم الهوية المعرفية الكليانية الصلبة بطبيعتها، والتي تشكل لوحدها معامل رؤية للدولة ومعامل إراءة لمجمل تشكلات المجتمع السياسي.
ذلك أن الارتكاز على السقف التأريخي والثقافة الإسلامية وحدهما ليسا كافيين لضبط رؤية كليانية صلبة، تسمح للدولة بوضع خطط صائبة وصلبة ومستقرة للوصول إلى الهدف الأساسي لها.
فالارتكاز على دعامتي سياسة منفتحة غير منحازة، وربط علاقات ودية وسلمية مع جميع الدول ( [12] ) ليست أعلى من مقتضى أخلاقي يحترم مقاصد الفعل التواصلي الدولي، لكنه لا يمكن أن يحمي المصلحة الوطنية في عالم يقوم على الصدامات وفرض القوة بجميع تمثلاها من الصلدة إلى الناعمة إلى الذكية.
فالوضع الدولي الراهن الذي عرف تشظيا جديدا لموضوع القطبية، يضع الدولة العربية أمام تحدي أساسي، وهو كيف لها أن تدبر مصلحتها الوطنية في رقعة دولية تتقاسمها تكتلات استراتيجية متناقضة تجعل من باقي الدول ملعبا لتدبير أزماتها ولتلبية رغباتها، في أفق مخيف يجعل من الأمم المتحدة كمؤسسة دولية على هامش التأثير في هذه اللحظة اللجية.
واقعا ليس ثمة جواب يمكن تقديمه بهذا الخصوص لأن هكذا عملية تفترض إجراء قراءة مسحية لدوائر اشتغال كل من الصين وروسيا خصوصا في آسيا الوسطى، ومعاينة حجم الاحتقان الاقتصادي في المنطقة الأوراسية، ثم الالتفات إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستقراء حراكها الدولي سواء بتوافق مع الاتحاد الأوروبي، أو بتوافق مع بعض الدول المكونة له، والرجوع إلى حجم التحدي الإفريقي، والعربي، والإسلامي، وكل هذا دون تجاهل حجم التأثر والتأثير على حلف الشمال الأطلسي، الإمساك بجواب عن هذا السؤال الأساسي يحتاج إلى ورش وطني كبير.
وطبعا هدفنا ليس إعطاء جواب بهذا الخصوص بقدر أننا نضغط من أجل التركيز على بناء تصور كلياني للدولة، يساعدها في القبض على هكذا جواب وغيره من الأجوبة، فجميع الدول الكبرى تنطلق من نواة معرفية وطنية صلبة، هي التي تهندس مسيرها في المشهد الدولي، وليس العكس.
فالأولى هو رفع النقاش إلى مستوى الهوية الكليانية المأخوذ أنطولوجيا كما تم عرض تفاصيله أعلاه، والبناء عليه في السياسة الخارجية، والتخلي عن أخلاق التواصل التسطيحي لفائدة الفعل العقلاني مع الإبقاء على الأولى ضمن الجهد الدبلوماسي ليس إلا.
لأن العولمة، والتي في الغالب يتم التعاطي معها كما لو أنها فتح معرفي جديد، لا تحاول خلق شبكة أسواق عالمية موحدة، أو شبكة أخلاق عالمية موحدة، وإيجاد صيغة عالمية للحوكمة فقط، بل إنها في طول كل هذه العملية تشتغل على معامل إسقاط السيادة الوطنية للدولة – الأمة، تيسيرا لعملية اشتغالها.
فهي لا تقصد من تعدد الفاعلين الدوليين تجاورا مع مقصد الدولة – الأمة، بقدر ما أنها تسعى إلى تثبيت الفاعلين الدوليين من منظمات غير حكومية وشركات متعددة الجنسيات وقنوات فضائية… في مقابل إسقاط السيادة الوطنية ” فالغرض من الحوكمة العالمية هو إنشاء شبكة شاملة من المحافل العامة، التي تغطي المدن والدول القومية والأقاليم والنظام العالمي الأوسع، فمن الممكن تصور أنواع مختلفة من المشاركة السياسية في سلسلة متصلة من المحلية إلى العالمية ” ( [13] ) بحيث يرتفع مستوى التدخل الدولي إلى كل هذه المستويات غفلا عن القرار السياسي الوطني.
صحيح أن كثير من الدول العربية ربطت نفسها بالبيئة الخارجية الليبرالية لأن ثمة مصالح سياسية واقتصادية تقع في البين ( [14] )، لكن هذا تم في إطار تزعم المدرسة الواقعية والواقعية الجديدة لكيفية تدبير السياسة الدولية، والتي ترتكز بالأساس على الدولة – الأمة كفاعل رئيسي، لكن في ظل المتغيرات الفكرية الخطيرة والتي يتم تسريبها بتوسط مؤسسات المنتظم الدولي، فإن الدولة تكون أمام إعادة بناء علاقتها على أساس الحفاظ على السيادة الوطنية بشكل كلي، خصوصا في ظل تصاعد القوى الدولية المتنوعة.
العنوان الفرعي الثاني: هامش المناورة وتدوير الحديات العالمية:
عندما نعيد قراءة حركة القوى العالمية في المشهد الدولي نجدها تقف على حديات استراتيجية، لكن في أغلبها الأعم تتحرك ضمن الملعب الليبرالي، بوصفه أضحى المدخل الأساسي للحراك الدولي وأيضا للفعالية على حد سواء.
حيث تحول إلى مقتضى فرضي لا يمكن تجاوزه تحت سلسلة من الجدالات الفكرية السياسية، لكنه في نفس الآن يمكن من التحرك من داخله للحفاظ على المكون الذاتي، كما لو أنها أضحت من مفارقات النشأة التي عرفها.
فالخزانة الفكرية الليبرالية تولدت من رحم الاختلافات واستدخلتها كمكونات أساسية لها، مما جعلها أقرب إلى المنظومة الفكرية ذات التناقض الذاتي، وفي نفس الوقت صاحبة تولد ذاتي، نتيجة الحركة الجدلية التي تعرفها.
ونحن في هذا المقام نود التركيز على التجربة الصينية في مرحلة ” انفجارها ” الريادي في العالم، ذلك أنها كدولة ماركسية الإيديولوجية حافظت على هامش مناورة قوي جدا في المشهد العالمي، كانت مدينة لتصور مفكر استراتيجي حصيف كشينغ دياوبينغ الذي ابتكر جهازين معرفيين أصيلين، سمحا للجمهورية الصينية بأسلوب مداورة فعال لإعادة تموضع الصين في الخارطة العالمية، بشكل يتوافق مع مقامها في مجلس الأمن وفي مؤسسات منظمة الأمم المتحدة، وغيرها من المكونات المؤسسية الجديدة.
ففيما يتعلق بالسياسة العامة للبلد ومن جهة توكيده على ” عنصر الفعالية ” كمعلمة فكرية إيديولوجية، أزاح الستار عن تصور اقتصادي استراتيجي يراه سيسمح للجمهورية الصينية بالخروج من أزمتها الخانقة إلى أن تضحي ذات شأن في اقتصاديات العالم، بأن يتم التخلص من الثقل الإيديولوجي الماركسي في مقام السياسة الخارجية وبالدخول في الملعب الليبرالي من أوسع أبوابه حيث صرح ” ليس مهما لون القط أبيض أو أسود، فإن كان يمسك الفئران فهو قط جيد ” من جهة أنه إذا كانت الغاية هي الحفاظ على السمو الصيني ضمن أطروحته الماركسية، فيجب أن يتخلى عنها جزئيا في سقفه التداولي العالمي، حيث أضحت الليبرالية الاقتصادية الخارجية داعما للاقتصاد الماركسي الوطني.
كما أنه في إطار السعي إلى التحضير لاسترجاع هونغ كونغ و ماكاو وتايوان اللائي هن رأسماليات بالكامل ما دامت الأولى كانت تحت الانتداب البريطاني، والثانية تحت الانتداب البرتغالي، أما الثالثة فلا زالت محل نزاع بين الحكومتين، ابتكر جهازا معرفيا سنة 1978 لا زال فعالا إلى حدود الساعة وهو ” دولة واحدة ونظامين سياسيين إثنين ” حيث سمح للجمهورية الصينية بأن تتبنى منظومتين سياسيتين في نفس الآن الأولى ماركسية شعبية في أغلبية التراب الصيني، والثانية رأسمالية اقتصادية في جغرافية هونغ كونغ وماكاو ( [15] )، مما جعل الانتقال يمر في انسيابية طبيعية جدا، بل حتى أنه فتح أمام الصينيين المحبذين للمنظومة الرأسمالية الطريق بالانتقال إلى هذه الجغرافيات والتخفيف من حدة التوتر المعارض داخل الحقل السياسي الصيني.
وقد استخرج هذين الجهازين المعرفيين الفاعلين واقعا كما تشهد التجربة الصينية على ذلك، من خلال مبادئه السبع التي أعلن عنها وهي: أولا، راقب وحلل التطورات بكل هدوء، وثانيا، تعامل مع التحولات بكل أنة وبسرية تامة، وثالثا، تأمين الوضع الذاتي، ورابعا، إخفاء المقدرات الذاتية وتفادي بقع الضوء العالمية، وخامسا، عدم إثارة الانتباه، وسادسا، لا تضحي قياديا نهائيا، وسابعا، اجتهد في تحقيق الأهداف ( [16] )، وواقعا كل هذه المبادئ والخطوط الكبرى الثمانية والعشرون التي وضعها هذا السياسي المحنك مستخرجة من الإرث الفلسفي والحكمة المشرقية الأسيوية.
هناك من سيرى في هذه المناورات علامة من علامات الضعف الإيديولوجي الماركسي، وأنه إقرار ضمني بفشله، لكن الواقع هو أن قوة الماركسية الصينية هي في أنها تجيد قراءة التيارات العالمية، وتتعامل معها وفق المنطق الأسلم لتدبير الصراعات العالمية، إلى أن جعلها تتحول إلى قوة اقتصادية عالمية وثالث أقوى جيش في العالم بعد كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية.
طبعا أتينا بهذا الأنموذج للتأكيد على أن هامش المناورة واقعا يظل مفتوحا بين يدي كل دولة غفلا عن خلفياتها الفكرية السياسية والإيديولوجية، بل ويمكن أن يشكل المائز الإيديولوجي الداخلي رافعة اقتصادية تجعل الدولة المعنية تتفوق على أصل الدول الفاعلة تأريخيا في العالم الرأسمالي أنفسهم.
والدولة بما هي هي والتي تتحوز مرتكز تأريخي تجر معها تجربة قرون طويلة متصلة من الفعل الحضاري يمكنها، وهي المطلعة بشكل ممتاز على الحراك العالمي، أن تجري مناورات معرفية واستراتيجية تسمح لها بتموضع أساسي في هذه الرقعة.
ف ” القوة العلائقية ” التي تنشئها القوى الإقليمية الصاعدة على طول سنوات من العمل الدبلوماسي الدؤوب، مع أكثر من فاعل دولي، أضحى يسمح لها ب ” منصة انصات ” عالمية مهمة إلى حد كبير، يتناسب التعامل معها بمنطق جديد خارج الخدمة ” المؤسساتية ” الدبلوماسية لتفتح المجال لكل الفاعلين الوطنيين رسميين كانوا أو غير رسميين، للتحرك لخدمة المصلحة الوطنية ضمن الفعالية المرجوة، طبعا في إطار ضوابط الهوية الدولتية الصلبة، حتى لا تتشظى الالتزامات والواجبات الوطنية ضمن رقع اجتماعية معينة.
والتنويع من أقنية التواصل وتوسيعها في نفس الآن إلى حد يجعل الفعل التواصلي الوطني عالميا أكثر فاعلية، وأكثر إكراها للغير.
دائرة السياسة الخارجية الصارمة والإكراهية:
حيث إن بعض المكونات الدولتية في المنطقة تقبل بالوجود الإرهابي، بل تعتمده في تدبير صراعاتها الإقليمية، فإنه يكون من اللازم اعتماد سياسة خارجية كفيلة بعرقلة حرية الحركة لهذه المكونات، لأنها سوف تجر ” التهديد الوجودي ” من داخل حرم السيادة الدولتية، إلى داخل حرم الوجود الإقليمي.
فيكون لزاما على باقي المكونات الدولتية بناء سياسة خارجية تتراوح بين الصرامة والإكراه، لاحتواء السلوكات الدولتية الداعمة للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، لأنها وإن كانت آلية فعالة لتصفية الحسابات، إلا أنها مكون قتالي لا يتحيز في مكان، بقدر ما هو سائر إلى كل الأمكنة، وبالتالي يصير خطرها خارج ” عملية السيطرة “، وما شهده العالم العربي خلال الأربع السنوات الأخيرة لدليل على أنه مكون غير مسيطر عليه، وحائز لرؤية استراتيجية مستقلة، تأكل من مجمل السيادات السياسية العربية.
ومن هنا يجب تمرير السياسة الخارجية تحت حيثيتي الصرامة والإكراه في نفس الآن، وفق السقف التشخيصي الإقليمي باستدخال الرؤى الأمنية القومية والعسكرية على حد سواء، بوصفهما الأداتان الكفيلتان بترسيم وجه الخطر ووجه مواجهته.
وفي ظل الظرفية الراهنة يصير تحدي موجبة الالتحام حول الحرب على الإرهاب كدائرة تصورية كبرى، تحكم مجمل التفاصيل الحراكية الدولية، تحدي حضاري أساسي لأنها وفق الحد الأدنى الإقليمي تشكل ” متفقا ” عليه، ويمكن من خلالها ترسيم سياسات إقليمية فارضة نفسها خارج معضلة الرابح / الخاسر.
فعندما أعلنت إدارة جورج وولكر بوش عن استراتيجية ” الحرب على الإرهاب ” إنما فتحت كوة سياسية وحقوقية تسمح للولايات المتحدة الأمريكية باعتماد سياسة إكراهية على العالم أجمع، وتصفية حساباتها مع أنظمة سياسية بالكامل دون ارتهان إلى القانون الدولي، بمعنى أنها خلقت ” منظومة ” تتحرك بخط متوازي مع القانون الدولي تنتهكه دون أن تخاصمه بالمطلق، في إطار ميكانيزما من التلبيس، التي أنجبت ” الحرب الاستباقية ” و ” محور الشر ” و ” الدول الصعلوكة ” وهي كلها أجهزة معرفية تسهل السياسة العدوانية الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية، وواقعا الأمر لم يتغير بشكل أساسي مع إدارة باراك أوباما، مما يفيد على أنه تصور جديد، يتم الاشتغال على شرعنته تحت سقف ” الضرورة ” و ” نشر الديموقراطية الليبرالية ” عنوة.
وهو تصور لم يعد ممكنا تجاوزه لا داخل المنظومة الفكرية الاستكبارية، ولا داخل المنظومة الاستضعافية – للأسف الشديد – بوصفها متلقية للتخطيطات الكبرى، لذلك لم يكن مستغربا أن نجده تحول إلى مبحث من مباحث السؤال الفلسفي والحقوقي الكبير ألا هو الحرب العادلة والحرب الغير العادلة.
فراولز يرى حقانية أن لا تقبل الشعوب الليبرالية تلك الدول التي تخرج عن القانون والغير المنتظمة هرميا، مما يجعل من المعضلة ترتفع بالأساس إلى المقصدية الهوياتية للهجوم على الدول الأخرى، لأن المقترب القتالي المعياري لا يعطي هكذا حق، مما دفع بفيلسوفي ” الحرب العادلة ” يتجاوزان المنتظم العسكريتاري والتركيز على ” عدالة القضية ” لجبر معضلة الاعتداء على باقي الدول فقط لأنها لا تعتمد المنظومة الليبرالية كدائرة فكر وتدبير لها، وفي هذا المقام يطيب لنا أن نشير إلى تصور مايكل والزر بخصوص الحرب العادلة والحرب الغير العادلة، ذلك أنه في مقام رده للتوجه الواقعي الذي يرى بأنه في الحرب ” يسكت القانون ” ( [17] ) على أساس ما نراه لا إنسانيا ما هو إلى إنسانية تحت ضغط الظروف، وبالتالي ما يحدث في الحرب يظل مسوغا عقلانيا، استعان بقصة الحرب على ميلوس لرد استدلالات هذا التوجه، والقصة تهم حوارا مطولا تم بين جنرالات أثينيين مع مستشاري جزيرة ميلوس التابعة لأرض اسبارطا، وفي هذا الحوار المطول صرح الجنرالات بما يلي: ” إننا لا ندعي بأن إمبراطوريتنا مؤمنة بمجرد هزيمتنا للفرس، كما أننا لن نتركك لشأنك لكونك لم تؤذي الشعب الأثيني كما أننا لا نعتقد أن لشعب ميلوس الحق في أن يترك لشأنه. إن من يملك القوة له الحق في استعمالها. كما أن الضعيف عليه أن يقبل بشروط أصحاب القوة. إن حياد ميلوس يمكن أن يفسر بضعفنا وبعجزنا أمام أولئك الذي نبسط عليهم سيطرتنا. ” ( [18] ) فما يمكن الخروج به من هذا الكلام هو أن الحياد يفسر ضعفا بالنسبة للقوي وكذا لمن تم السيطرة عليهم، فعلى المحايد أن ينضم للقوي وإلا كان موضوع استعمال القوة من طرف أثينا، وهو ما حدث بالفعل لأن مستشاري ميلوس اعتقدوا بأن اسبارطا لن تتخلى عنهم ورفضوا الخضوع تحت الرعاية لأثينا، مما دفع بالأثينيين إلى محاصرة الجزيرة وقتل رجالها وسبي نسائها، المهم في القصة هو أن الفيلسوف والزر رأى بأن استدلالات الأثينيين غير قائمة عقلا، لأن مفهوم الضرورة الذي تم الاحتجاج به – وهو مفهوم في الثقافة اليونانية يحمل معنيين معنى الوجوب ومعنى عدم القدرة على التفادي – غير مقنعة تماما فكيف تم استنتاج بأن استمرار حياد ميلوس سيؤدي إلى زوال الإمبراطورية الأثينية، فضلا على أن هذا التصور يضعنا أمام مشكلة أخلاقية أساسية وهي ” هل من الضروري الحفاظ على الإمبراطورية من أصله، فثمة أثينيين غير مقتنعين بفكرة الإمبراطورية فضلا على أن الأكثرية تشك في ضرورة جعل الإمبراطورية نظام حكم وسيطرة موحد ( كما هو واضح من السياسة المتخذة في قبال جزيرة ميلوس )، ومن جهة ثانية أن الجنرالات لا يتوفرون على معطى يقيني بأنه في حالة عدم تدمير ميلوس ستسقط أثينا، فاستدلالهم يقوم على مفهوم الخطر والاحتمال ” ( [19] ) وبالتالي فإن التوجه الواقعي يظل فاقدا للمباني العقلانية سواء في مرحلة إعلان الحرب أو أثناء سريانها، وبهذا المنطق تكون الحرب غير عادلة من جهة الإعلان.
وحقيقة يصعب استصدار وجهة نظر والزر الفلسفية لأن الحالات التي يرى فيها مشروعية الحرب العادلة هي عين الحالات التي ركز عليها ميثاق الأمم المتحدة لأنه تبنى البراديغم القانوني بهذا الخصوص ( [20] ) مع فارق أن مجهوده ظل أخلاقيا في طول الحالات التي تم تعدادها، ودائما ما كان ضد استهداف المدنيين الغير المسلحين إلا أنه وبعد أحداث 11 شتنبر 2001 عاد وصرح بأن العمل الإرهابي يظل عملا سيئا ويمكن الخروج عن هذه القاعدة لاستهداف الإرهابيين، ( [21] ) ليقع بفلسفته في طول الاصطفاف النظري بين البنى الفكرية العالمية وتصنيف الموجودات الدولية بما هي موجودات عدائية، وإن سعى جاهدا لإخفاء هذه الخلفية.
ففي بحث مستقل أضيف كضميمة إلى كتابه الأساسي باللغة الفرنسية تحدث والزر على أن الاعتداء على العراق لم يكن حربا عادلة، لأن الحالة التي تحركت نحوها الولايات المتحدة الأمريكية وهي الحرب على دولة ذات نظام عدائي ومستعد لارتكاب الجرائم ( وفق التصور الرسمي الأمريكي )، غير معترف بها لا في فلسفة الحرب العادلة ولا في القانون الدولي، لذا يسعى إلى بحثها ضمن حق استعمال القوة jus ad vim فقد ” أضحى ضروريا ومستعجلا أن تكون لنا نظرية استعمال القوة العادلة والغير العادلة، وهذه النظرية وإن لم تكن الأكثر تسامحا أو ترخيصية، إلا أنها ستكون الأفضل من نظرية الحرب العادلة والغير العادلة، السؤال المستعجل بالنسبة لنا، هل الترخيص يصل إلى حد تغيير أنظمة سياسية والدمقرطة، لأن أصل النظرية مرتبطة كما سبق وأوضحنا بالوقاية، لأن الحرب الاستباقية غير مبررة لا في النظرية الكلاسيكية للحرب العادلة ولا في القانون الدولي، في حين أن استعمال القوة الاستباقية يمكن أن تكون مبررة في مواجهة نظام قاسي الذي أدين من أجل أعمال عدائية أو إجرامية، ويعطينا مبررا إلى أنه سيعيد الكرة ” ( [22] ) فوالزر ليس ضد مبدأ الحرب الاستباقية ولا بخلفياتها الفكرية، بقدر ما هو ضد تصنيفها كحرب عادلة، ليستعيض عن ذلك بمبدأ حق استعمال القوة jus ad vim ضد الكيانات العدائية، المشكلة عنده مشكلة تصنيف لا مشكلة مبدأ، كما لو أنه يسعى إلى تحرير نظرية قانونية جديدة تقع في طول الحرب العادلة، ما دام أنه فشل في اقتحام السور الفلسفي الذي رسم معالمها، فاختار إحدى الزواريب المفاهيمية لتجاوز هذا الانسداد القانوني والفلسفي، كما لو أن استعمال القوة من طرف دولة لا يسمى حربا.
وسوف يلاحظ القارئ الكريم بأن والزر وراولز يتقاطعان على هذا المستوى، لأن العالم الآخر هو بطبيعته خارج عن القانون outlaw يتناسب مهاجمته لوضعه تحت قوة الدولة القوية إن رضاءا وإلا فحربا.
وطبعا المقاطع الثلاثة من حالة الحرب العادلة كما هي مبسوطة في القانون الدولي لا تستقيم مع هكذا منطق، مما حذا بهما إلى التركيز على ” عدالة القضية ” في طولها وفي عرضها.
فالحرب الاستباقية قد لا تكون مؤسسة على مخاطر العدوان، بل يكفي أن ترتكز على ” عدوانية النظام السياسي ” لدولة أخرى، ولأنها خارج ليس فقط عن التابعية للولايات المتحدة الأمريكية بل عدوة لها ولقيمها. يكون حربها ليس مبررا وحسب بل وعادلا، ومن داخل هذا الجهاز المعرفي وغيره من الدراسات الصادرة عن المحافظين الجدد تم سوغ ” الحرب على الإرهاب ” الذي لا يهم الجهات المقاتلة وحسب، بل أيضا الدول الداعمة لها، واضعة إياها في إطار ” محور الشر ” الذي يجب محاربته بالنار للحفاظ على قيم ” محور الخير ” هذا التلبيس في المفاهيم الغرض منه رفع النقاش من السقف القانوني – والذي لا يخدم مطامح الولايات المتحدة الأمريكية – إلى السقف القيمي الديني والذي توفق الدكتور محمود حيدر في تسميته ب ” لاهوت الغلبة ” ( [23] ) لأن مضامين الفكر تمتح من المنظومة الفكرية البروتستانتية النصية التي تقترب كثيرا من العهد القديم أكثر من توفيق البحث في العهد الجديد، لتتقاطع قراءتها الختامية للتأريخ مع المنظور اليهودي التوراتي إلى حد بعيد.
فالحرب على الإرهاب تحول إلى جسر استقوائي خارج البناء القانوني، لكنه يدخل بناء الضروري، الذي يمكن أن تتوافق عليه دول كثيرة، كما الدول العضوة في حلف الشمال الأطلسي أو الدول الرديفة التي تعتمد الاستراتيجية المتبناة من قبله. ( [24] )
وطبعا استراتيجية الحرب على الإرهاب أدت إلى زعزعة أمن دول كثيرة في المنطقة من الشمال الإفريقي إلى الشرق الأوسط، بل حتى أنها تتجه قدما إلى آسيا الوسطى والمنطقة الأوراسية، وهو خطر حيوي داهم بقدر ما يهدد بالتفتت الجغرافي إلا أنه في نفس الآن يمكن أن يضحي لحمة وفاق في المنطقة من جهة مواجهته.
فهو إحدى الأسس الواقعية الأكثر إلحاحا التي يمكن أن تلملم التصورات المتناقضة في الجغرافيات المعنية، لكي تتجاوز مضائقها المصلحية الوطنية، لبناء إقليمية في إطار من التشارك والتكاتف لمواجهة هذا الخطر الهدام، وهي مناسبة تأريخية لن تتكرر.
لماذا مناسبة تأريخية لأن ” وحدة ” الإحساس بالخطر تؤدي إلى توحد في ” التصور ” لمواجهته، والتي كانت مغيبة كثيرا في قراءة المصالح الوطنية الدولتية، وترتيب الأولويات والتي تشتغل عليها الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها مفتاح حل الأزمات.
فيكون من اعتمادها كإحساس حيوي بضرورة تكاتف الجهود أنها تقلب الطاولة على أصل المرسوم الاستراتيجي الأمريكي نفسه، فما تم حمل هذا الشعار إلا من أجل التدخل العسكري في دول كثيرة سواء من جهة أنها محور الشر داعمة ل ” الإرهاب ” أو من جهة أنها لا تستطيع مجابهة التنظيمات الإرهابية المسلحة والممارسة لتقنية الحرب اللا تماثلية. وبدلا من أن تكون خطاطة تقسيمية للمنطقة تصير خطاطة وحدوية لها، تعيد رسم التراتبيات والأولويات على ضوئها، وهي لحمة إذا ما تحققت لن تنفصم قط، لأنها كاستراتيجية نقيضة تكون قد وضعت لنفسها أولويات أكثر اتزانا، من تلك التي رسمت في أيام السلم والأمن الجهوي.
إلا أن حركة الدولة – الأمة بطيئة جدا بطبيعتها فإنها تكون سامحة لحركة الإرهاب بالتحرك بسرعة أكبر في جغرافيات كثيرة، لخلق ظاهرة سياسية واستراتيجية مضطردة، ذلك أن ميكانيزما صناعة القرار السياسي الدولتي تتداخل فيه الكثير من الأجهزة، التي قد تعرقل حرية الحركة، وكذلك سرعتها مما يمهد لكثير من التوغل الإرهابي في الجغرافيات، غفلا عن تعقيد صناعة القرار ومدياته.
ولماذا لن تتكرر لأنه في غياب تصور كلي جامع بين الجغرافيات المعنية، فإن تدبير الحرب على الإرهاب سيكون غير منتج، بل قد يخلق جغرافيات صغرى ذات سيادة محلية تحت سلطة التنظيمات المقاتلة، مما يؤدي إلى تآكل ” السيادة الوطنية ” وتحولها إلى دولة ضعيفة على طريق التقسيم واقعا. ( [25] )
ومن هذه الجنبة أي اعتماد منظومة ” الحرب على الإرهاب ” سيكون لدول المنطقة ولتمثلاتها القتالية التحت دولتية، فرصة لخلق إقليمية ممانعة فعلية خارج ربقة المؤسسات الحقوقية، ورفع مستوى التنسيق إلى أعلى مدياته، والتي كان يعسر تحقيقها.
فيضحي حريا التنزل إلى الترسيمات التحتية في تدبير الصراع، بفتح الطريق أمام التمثلات القتالية الوطنية التي تجيد الحرب اللا تماثلية، لمواجهة هذا الخطر تحت شرط إقليمي كمقدمة لشرط عولمي، فالأرض هي التي تمكن من ضبط التوازنات خارج المداولات الديبلوماسية والارتهان لمؤسسات المنتظم الدولي، التي لا تنهي احتقانا إلا لتفتح آخر. ( [26] )
فمثلا لو أخذنا تجربة حزب الله في سوريا نجدها توجهت قدما إلى وضع لبنة أساسية إقليمية فعلية، ذلك أنها لأول مرة تقاتل بشكل ظاهر خارج الحدود اللبنانية، وبتنسيق استراتيجي مع الجيش السوري ( [27] )، لمواجهة الإرهاب في هذه الجغرافيا، مما يمهد إلى المضي قدما في تشبيك استراتيجي أكثر فاعلية في مجمل المنطقة، لأن نجاح التجربة واستباق عدوان جعل الروافع الاستراتيجية لمحور المقاومة تظل محفوظة، وإن تعرضت لإنهاك وامتحان كبيرين، إلا أنها خطت شيئا على الأرض، إسمه وحدة التصور ووحدة الحركة القتالية، والتي ستتكرر في أكثر من جغرافية.
فدائما التجربة الناجحة تنتقل كالمصل الحيوي إلى باقي التمثلات التي تعاني نفس الأزمة، لأنه حتى لو تنزلنا إلى العقل البراغماتي الدولي، فإن التجربة الفعلية تظل هي المحك للقول بسلامة الفرضية من عدمها، بل حتى أن فاعليتها على الأرض وجدوائيتها تظل هي مطلق الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها نهائيا.
التبصر الاستراتيجي الإقليمي يتحرك بين نفس المباني التصورية العولمية، مقوما لها وراكبا عليها وهو ليس بركوب مجاني كما يحدث لدى بعض الكائنات الدولتية في المنطقة، بقدر ما هو راكب فاعل في تغيير ملاكها نحو الملاك الممانع.
فإقامة تيمة الحرب على الإرهاب سوف يقوم باستدخال مجمل الفاعلين دولتيين كانوا أو غير دولتيين، يعملون بالفعل على مواجهة التنظيمات الإرهابية الإقصائية، بوصفها مهددة للأمن والسلم الإقليمي، وكذا للمجتمعات التعددية بالضرورة، يؤدي إلى تولد سياسة خارجية صلبة ومتينة، بعيدة عن منطق تبويس اللحى أو حتى القبول بتصريف الردع الهجين كما لو أنه آلية عقلانية للضغط على الدول الإقليمية الخصم.
عبد العالي العبدوني
[1] – الدكتور محمد شقير: القرار السياسي في المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى سنة 1992، الصفحة 73، وي