دراسات وأبحاث
اللحظة الديونيزوسية
العنف كمحرك للعالم في الألفية الثالثة
العنف هو الموجود الأكثر استئثارا بالتأريخ الإنساني، رغم المؤاخذات المثارة حوله، يظل من ثوابت الإنسانية، وهذا مرجوعه إلى أنه يتقوم على مضمون لا يمكن للوجود الفقري مفارقته وهو ” القوة “، فالعنف مضمونيا هو رغبة القوة التي تسكن أي كائن حي، أما تجليات العنف فما هي إلا سقف أدواتي قد يتصلب ويخشوشن ويصير دمويا، كما قد يتنعم متحركا في جو حريري، ليتحول وسيلة إقناع إكراهية مبطنة بالتعقلن والمصلحة، كما قد يتشفر ويتحول إلى رموز يصعب تفكيكها في قلب الصراع الاجتماعي ( بيير بورديو ).
لذلك لم يكن مستغربا أن يعتبر الكثيرون احتجاجا عنفيا من أجل إسقاط أنظمة سياسية فاسدا ” ربيعا ” يعد بالرفاه، رغم أن ما وقع بعد ذلك أبان عن قلة خبرة وانعدام الفكرة في قلب الاحتجاج العنفي.
فالعنف حتى على مستواه الأكثر صلادة لا يحمل تيمة سيئة، أو جالبا لامتعاض إنساني، بقدر ما تحفظ هكذا أحكام للبعد الغائي منه، والأهداف التي يرجوها الناس منه في مقام تعيني محدد.
الواقع أن اللحظة العالمية أضحت لحظة عنفية بامتياز، لا تجد طريقة لتصريف سيرها إلا في قلب الأزمات وخلق أخرى، وتدبير الصراع الدولي بقوة الحديد والنار في أقصى تجلياتها، أو بقوة الإكراه في أدنى تجلياتها.
اللحظة العالمية لحظة قروسطية:
دافع الباحث زكي لعايدي عن تصور أسماه ب ” اللحظة العالمية ” والذي حاول تقديم دراسة استدلالية على أننا بثنا نعيش ثمة لحظة موحدة تقوم على أساس ديموقراطية السوق ” إن اللحظة العالمية ليست مجرد إضفاء طابع الشرعية على إيديولوجية السوق، وعلى ناتجها السياسي، أي الديموقراطية. وإنما هي تأكيد على الارتباط العضوي بينهما إلى درجة قيام علاقة دائرية بين السوق والتنمية والديموقراطية. ” ( [1] ) وقد عرفها ب ” اللحظة التي تتشابك فيها الآثار الجيوسياسية والثقافية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة مع تسارع وتيرة العولمة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، فاللحظة العالمية ليست هي مرحلة ما بعد الحرب الباردة لأن أوروبا على الخصوص من عاشت آثارها الجيوسياسية، ولا مرحلة العولمة لأنها بدأت منذ زمن ليس بالقصير، بل هي تقاطع لهاتين السيرورتين الكبريين ” ( [2] ) تحاول أن تحتوي الأحداث العالمية ضمن معاني قوية، مستقرة ومنسجمة. ( [3] ) بمعنى أنها تتحول إلى جهاز معرفي كبير خالق للمعنى الأساسي العالمي، بتوسط أفكار – قيم تستطيع أن تنظم سير العالم، والتي تتحرك لزوما مع تيمة ” ديموقراطية السوق ” حيث أضحت ميكانيزمات السوق الحر متحكمة في السير الاقتصادي العالمي شمالا وجنوبا، فضلا عن تحطم المباني الإيديولوجية التي يمكن أن تقف أمام هذا التمدد.
وأن اللحظة العالمية لا يمكن أن تقوم إلا باستجماع ثلاثة شروط أساسية، وهي الحدث وعدم الرجعية والانسجام.
ففيما يتعلق بالحدث بما هو مقطع زمني يفصل بين ” الما قبل ” و ” الما بعد ” يجب أن يكون حاملا لقيمة لا لتصنيف تأريخي محض، لأن الما بعد لا يكون ذي أهمية إن لم يكن مشمولا بقيمة جديدة تنضاف إليه بعد دخول الحدث على خط البتر الزمني ( [4] ).
وواقعا ” الحدث ” عرف حراكا وتداخلا وتهميشا وفق التحولات الفكرية التأريخية التي عرفها الغرب، فمن مقام المحورية في المدرسة المنهجية الإسطوغرافية، إلى الدور المتقلص مع مدرسة الحوليات إلى مرحلة التجمد الكلي مع الجيل الثاني للمدرسة، إلى أن ظهر التوجه النقدي الذي أعاد للحدث محوريته في العملية التأريخية، لكن مع فارق أساسي أنه قطع مع مجمل التصورات السابقة إلى أن أدى به الأمر إلى الوصول إلى خلاصة أنه ” لا معنى للقول بأن المؤرخ يطمح إلى استعادة الأشياء كما وقعت، إن هدفه ليس أبدا أن يجعلنا نعيش من جديد الحدث السابق، وإنما أن يعيد تركيب هذا الحدث ويعيد إنشاءه من خلال نظام رجعي فالموضوعية التأريخية تكمن بالضبط في نبذ ادعاء مطابقة الماضي الأصلي، إذ عمل المؤرخ هو بناء نسق الواقع انطلاقا من فضاء المعقولية التأريخية، ومن ثم فإن هذا العمل يهدف قبل كل شيء إلى تربية ذات المؤرخ : ” إذ التأريخ يصنع المؤرخ بالقدر الذي يصنع فيه المؤرخ التأريخ ” بمعنى أن ” مهنة المؤرخ تصنع في آن واحد التأريخ والمؤرخ ” ” ( [5] ).
فالحدث استعاد مكانته في الهندسة المعرفية العالمية، وبدأت على أساسه تجري المراجعات الفكرية، وليس ببعيد عنا أثر حدثين على الترسيمة الاستراتيجية العالمية، حدث سقوط جدار برلين وحدث الحادي عشر من شتنبر، اللذين أديا إلى إعادة تأصيل لفكر إمبراطوري ذاتي التكون ابتداءا بعد انهيار الكتلة الشرقية، وتدخلي إكراهي بعد أحداث نيويورك وواشنطن.
إذ أنه بما هو واقعة مادية خارجية ذات أثر كبير، تؤدي إلى انقلاب في التصورات وفي السياسات، ووحدها الدولة المتمعيرة في التفكير تبقى خارج الأثر التأريخي للوجود الدولي، مما يجعلها قابلة للدهس في أية لحظة من اللحظات.
لذلك التأريخ الحدثي أعاد رزمة من المتحولات الواقعية إلى داخل الفاعلية المعرفية التأريخية، ولم يعد محكوما بسيف الإسطوغرافيا، بقدر ما جعلها تفلسفا إنسانيا جديدا يعتمدها كإواليات استدلالية على الفكرة.
وطبعا قيام الحدث بوصفه فيصل زمني عن الما قبل والما بعد حاملا لقيمة جديدة للسيرورة التأريخية، يستلزم انضمام شرط عدم الرجعية، لأنه واقعا الأحداث التي لا تقطع مع الما قبل قيميا لا تكون حدثا تأسيسيا بالمرة، وإنما متواليات زمنية تعرف تسارعا نوعيا إلى حين مجيء ” الحدث “، ولو أنه عمليا يصعب الارتهان لهذا المعامل، لأنه رغم وقوع الحدث التأسيسي يمكن للعقل السياسي في جغرافيات معينة أن يناوره لكي يؤبد المرحلة السابقة، ويتجاوز ضرباته، فمثلا فيما يتعلق بالموجة الديموقراطية العالمية والتي تتأصل على شكليات انتخابية ومضمون فكري محدد المعالم، ووجود مؤسسات وبنى سياسية خادمة لهذا المشروع الانتقالي، نجد بأن بعض الأنظمة التي حاولت تجاوز إعضالات هذه الموجة، ركزت على شكلانية الانتخابات بما هي إجراءات سياسية، دون إقحام ثقافتها إلى قلب البنى والمؤسسات السياسية المحلية.
أما الشرط الثالث والضروري فهو الانسجام فأي حدث تأريخي لا يمكن أن يكون له دور عملي في السير التأريخي، إن لم يقدم رؤية منسجمة لكل الحراكات الكبرى، وليس بالضرورة وقوع ثمة توافق في التفاصيل.
ولذلك فإن اللحظة العالمية يمكن أن تتحول إلى براديغم جديد، ليس بمعنى أنه جهاز مساعد على اكتشاف الواقع كما هو بل أيضا من جهة ” طرحه طرق جديدة للفعل والتفاعل ” ( [6] ) بما هي رؤية منسجمة، والتي يراها الباحث لعايدي متقومة في إيديولوجية ” ديموقراطية السوق ” من حيث تسارع وتيرة الخوصصة في العالم أجمع، وانفتاح العقلية الاقتصادية العالمية على مداميك السوق، وتحوير كل ذلك إلى رؤية سياسية وجيوسياسية ضمن أقنوم الديموقراطية والتنمية من داخل قوانين السوق.
بمعنى أن ” اللحظة العالمية ” المتقومة على ديموقراطية السوق لم تعد فقط رؤية كاشفة للحراك الدولي، بل آلية فعل وتفاعل داخل المشهد العالمي، إلا أن الباحث لا يستبعد استمرار بعض اللحظات المحلية والإقليمية بوصفها لحظات مقاومة لهذه اللحظة العالمية، أو في أحسن الأحوال قارئة جديدة لها. ( [7] )
وإذا ما أجرينا دراسة مسحية لميكانيزمات السوق الحر، وكيفية تدبير النزاعات داخله، نستوعب بأن العنف بمجمل تجلياته هو أحد أهم مكوناته، لأنه سعي حثيث نحو الرفاه ولو على حساب الغير، بل حتى الغبن يظل من المناطات الأساسية لتدوير المنفعة داخله، لذلك لم يكن من باب المصادفة تبني التصور الاقتصادي النمساوي بوصفه إحدى أهم المدارس التي بنت تصورا تحرريا للسوق من مجمل الرقابات والضوابط الخارجة عنه، لذلك لم يكن من باب المصادفة أن يتم رفع استراتيجية ” التدمير الخلاق ” للبنى الاقتصادية الكلاسيكية مفسحين مجالا لتراتبية اقتصادية جديدة تقوم على الديناميكا الداخلية للسوق، بوصفه مجال ينظم نفسه بنفسه.
فالاقتصادي النمساوي جوزيف شومبتر ارتأى بأن دور المقاول الفعال من أجل توازن اقتصادي أساسي هو في عرقلة الحركة الدائرية للاقتصاد، وخلق عملية اقتصادية جديدة تحبط التوازن القديم، لتقيم توازنا جديدا، أي التدمير الاقتصادي الخلاق. ( [8] ) والتي تطورت ضمن المنظومة الاقتصادية لكل من ميلتون فريدمان وفريدريش فان هايك، لتعرف انزياحا داخل الحراك الاستراتيجي العولمي تحت يافطة ” الفوضى الخلاقة ” إذ انزاحت من البنية الاقتصادية إلى البنية الدولتية، ليتم التخلص من البنى الدولتية الكلاسيكية والبناء على منظومة سياسية تتوافق وميكانيزمات السوق، حيث الكلمة العليا للقوة بمجمل طبقاتها، حيث الكلمة العليا للعنف بمجمل طبقاته.
نحن أمام حالة ارتجاع لعصور ما قبل ويستفاليا، حيث الثروة حاكمة على السير غفلا عن الضوابط الأخلاقية والعقلانية حتى، ليتنزل التفكير من العقل النظري إلى العقل العملي، والذي يسمح بتحقيق الرغبات والمصالح ضاربا كشطا عن أي ضابطة متمعيرة.
يرى الخبير الاستراتيجي باراغ خانا أن العالم أجمع بدأ يعرف نفس خصوصيات العصور الوسطى، من قبل اضمحلال مؤسسة الدولة الأمة حيث أن الأزمات المالية إذا مست دولة كالولايات المتحدة الأمريكية تنعكس بالسلب على مجموعة من الدول في العالم، أو أنك عندما تنظر إلى جمهورية الصين فإنك تنظر إليها على أنها أكثر من دولة.
The nation-state has just about passed away in terms of exclusivity. Now, when people talk about countries and international relations, they have to acknowledge that what they’re talking about is, at best, a particular slice of what’s going on in the world, and is not at all representative of the entirety of what’s happening. But there are some exceptions. When you look at China, you don’t exactly say that it is disappearing as a state. When you look at the financial crisis, all of a sudden, the United States is more of a state than ever. It has decided to take over practically the entire financial-services industry. ([9])
أو أنك عندما تنظر إلى أفغانستان فإنك لا تنظر إليها كدولة، وقد دافع عن هذا التصور في سلسلة مقالات لا تعدو أن تكون تكرارا لمجموعة ملاحظات يبديها هنا وهناك، لكن المحصلة هي أن العالم لم يعد قرية صغيرة، بل عاد عالما قروسطيا، حيث ثمة صراع على السلطة وتفكيك للإمارات الضعيفة، في ظل العولمة حيث المشروع أكبر من دولة واحدة، بل أكبر من أجل أن يهتم بدولة واحدة.
The key principle is overlap. Many people think that because a company isn’t a country, it falls beneath some jurisdiction. But more and more companies fall into all jurisdictions and under none at the same time, because all they do is regulatory arbitrage. They just move around wherever is best for them. Why did Halliburton go to Dubai? Changing this would never work because globalization is more powerful than any one country. Globalization creates perpetual, universal opportunities for nonstate actors to exploit. And governments can’t control globalization. No one can.([10])
فالمنظومة الفكرية التي يدافع عنها باراغ خانا أن الشرعة الدولية وغيرها من الموازين الدولية لم تعد ذات قيمة تذكر، كما أن العصور الوسطى لم تكن منضبطة لهكذا تصور، وأن سياسة التقسيم الجغرافي لمجموعة من الدول خدمة لمصالح العولمة هي سائرة وغير متوقفة بتاتا، ففي مقالة له حديثة جعل من التقسيم شيئا من الجميل فعله Breaking Up Is Good to Do، حيث جعل من تقسيم السودان مجرد خطوة في اتجاه تقسيم العالم الأجمع، وطبعا ليس من المستغرب أن يركز على منطقة الشرق الأوسط، جاعلا منها قدرا لا يرد.
This growing cartographic stress is not just America’s challenge. All the world’s influential powers and diplomats should seize a new moral high ground by agreeing to prudently apply in such cases Woodrow Wilson’s support for self-determination of peoples. This would be a marked improvement over today’s ad hoc system of backing disreputable allies, assembling unworkable coalitions, or simply hoping for tidy dissolutions. Reasserting the principle of self-determination would allow for the sort of true statesmanship lacking on today’s global stage.([11])
طبعا ليس الغرض هو الغوص في مجمل أفكار هذا الباحث، بل فقط التنويه إلى مسألة حساسة جدا، وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى نفسها كإمبراطورية وباقي العالم رعاياها، ولهذا هي لا ترى نفسها ملزمة بأية شرعية دولية، وهو ما تم التثبت منه خلال إعلان الحرب على العراق دون الرجوع إلى مجلس الأمن، بل نجد بأن الإدارة الأمريكية ذهبت أبعد من ذلك عندما أعلنت بأنها غير معنية بأمم المتحدة إذا ما رأت مصلحتها في التدخل العسكري في أي قطاع ترابي في العالم، في إطار ما أسمته بالحرب الإستباقية.
طبعا ما نريد التنويه إليه الآن هو أنه في الاستراتيجيات العالمية لم يعد ينتبه للأمم المتحدة على أساس أنها رمز الشرعية، بل فقط ينظر إليها على أساس أنها أداة تخدم غرضا مرحليا وإلا فإنه يتم تجاوزها بكل سهولة.
فالمضيق النظري هو أن العقل الاستراتيجي الأمريكي أضحى أحادي البعد لحل المشاكل التي يراها تقف في وجهه، وهي إعادة ترسيم خارطة جديدة للعالم، عن طريق التقسيم.
مما يفتح الباب مشرعا لمساءلة التصور العولمي لمسألة الأمن القومي، فما دامت الرؤية الإستراتيجية الأمريكية تنطلق من مقدمة المنظور الإمبراطوري العائد إلى العصور الوسطى، فإنه يكون من الأسلم التعامل بحذر شديد مع هكذا رؤية، بوصفها ذات حمولة إمبراطورية.
لأن العقلية الأمريكية الحالية الآن وهنا مرتهنة إلى رؤية ” السامري الشهم ” وقصة هذه التسمية راجعة إلى مقالة كتبها الصحافي الأمريكي هنري لوس خلال الأربعينات من القرن المنصرم مستحثا الأمريكيين على ” السعي لإظهار صورة لأمريكا تقدمه كقوة عالمية ، وهي صورة حقيقية وصادقة … أمريكا كمركز دينامي لمجالات متسعة دوما من المبادرات والمشاريع. أمريكا كمركز تدريبي للعاملين المهرة من أجل صالح البشرية، أمريكا ” السامري الشهم ” أمريكا المؤمنة من جديد بأن الرب يبارك لك حين تعطي ولا تأخذ شيئا بالمقابل، أمريكا ك ” محطة توليد ” لمثل الحرية والعدالة ” ( [12] ) فهذا التصور ليس وليد الخمسين سنة الأخيرة، بل شملت حتى عقلية الأباء المؤسسين للولايات المتحدة، ذلك الهجاس لامتلاك إمبراطورية من نوع آخر، فمعضلة عقلية الإمبراطورية أنها لا ترى تنوعا إلا في إطار الاستتباع.
وطبعا هكذا تصور يتداخل مع مفهوم المصلحة القومية للدولة كما نوه إلى ذلك المفكر أليكسندر ونت، الذي حددها في أربع: البقاء المادي، والاستقلالية، والرفاه الاقتصادي، والاعتداد بالنفس الجماعي، بعد أن أضاف الركن الرابع لتحديد المصلحة القومية ومتبنيا في نفس الآن ثلاثية الفقيهين جورج وكيوهان. ( [13] )
فالمدرسة البنائية تتأتى أهميتها في أنها لم تكتف كتوجه فقهي بمتابعة الوقائع الخارجية للدول والمنظمات الفوق دولية لوضع نظريات كالواقعية والواقعية الجديدة، بقدر ما رأت في الحراك الدولي ثقافة اجتماعية يتناسب التعاطي معها معرفيا، ورفعا إلى بنى فكرية عميقة تسمح بوضع نظريات أصلب.
وإذا ما اكتفينا ببحث صيغة الإعتداد بالنفس كمكون للمصلحة القومية للدولة نجد الفقيه ونت يعرفها ” بحاجة الجماعة للإحساس بالرضى عن نفسها، إن من جهة الإحترام أو من جهة المكانة، فالإعتداد بالنفس حاجة بشرية أساسية على مستوى الأفراد كما على مستوى الجماعات.” ( [14] )
وهذا المرتفع القيمي – أي الاعتداد بالنفس – هو مقوم بنيوي يضمن الكرامة وعزة النفس، دونما خنوع لعملية الاستقواء بما هو حتم لأنه أول ما يتهاتر أمام تعملق الدور الأمريكي بوصفه امبراطورية.
فإذا ما اهتز عنصر وركن الإعتداد بالنفس الدولتي فإنه يؤدي إلى ضياع معالم الدولة القوية، لتتحول إلى دولة ضعيفة فاقدة للمشروعية الداخلية، مما يدفع بمصادر القرار إلى التعامل بشكل عنفي وفي إطار انعدام الديموقراطية في مواجهة الاحتجاجات، وربما حتى مشاريع انقسام قد ترتفع في وجه هكذا دول.
فما يصرح به الفقيه هولستي فيما أسماه ” معضلة الدولة الضعيفة ” أن ” الدولة الضعيفة مقحمة في حلقة مفرغة، فهي لا تملك الإمكانيات لخلق المشروعية بضمان الأمن وخدمات أخرى، وأنها في محاولة امتلاك القوة، تتبنى سلوكات افتراسية واختلاسية بين القطاعات الإجتماعية، فكل ما تحاول كسبه من القوة يؤدي إلى دوام ضعفها ” ( [15] )
فإنه يظل من الخطأ القاتل اعتماد الأركان الثلاثة والتركيز عليها، دونما الركن الرابع لأنه سيؤدي حتما إلى عدم الاستقرار، واهتزاز صورة النظام السياسي في مواجهة شعبه.
وعليه فإن دائرة الفكر الاستراتيجي الغربي وللأسف المدعم من قبل دائرة الاعتدال يتأسس بالأصالة على سحب معامل الاعتداد بالنفس، لأنه بغياب هكذا معامل تتناسب التبعية وحراك الهامش.
من هنا يمكن أن نفهم مشروع ” القوة الناعمة ” الذي طرحه جوزيف ناي بأنه نزع الحصانة القيمية والفكرية عن العالم لتتيسر عملية ” أمركة العالم ” فهكذا مشروع لا يقوم إلا بنزع الاعتداد بالنفس عن الآخر الاستراتيجي.
فيكون الجهد الأمريكي يقترب من العقل القروسطي الذي طالما سعى كانط إلى محاربته من أجل خلق اتحاد عالمي عادل، لأن جزئية ” التقسيم ” و “العدوان المستمر ” فكرا وممارسة هي أحد أهم نواقض المشروع الكانطي ذاته، والتي لا تقع إلا ضمن خانة ” العمل المشين “.
فالبعد الاستراتيجي الأمريكي لا يكون رائيا للسلم العالمي بقدر ما يكون رائيا إلى التمدد الإمبراطوري، يحمل في بطنه امتثال العالم للتصور الأحادي بدلا من ” فعل التواصل ” الدولي الناظر لتوافقات وتوازنات دولية تشتغل على المشروع السلمي، وخصوصا أن المجهود الحربي للولايات المتحدة الأمريكية يقف في عرض هذا المشروع بطبيعته.
لأنها ك ” إمبراطورية ” تتحرك على نقيض القواعد الست للسلام الدائم ( [16] )، صحيح أن هناك من حاول تحوير خلاصات وتصورات الفلسفة الكانطية لخدمة مصالحه الفكرية، لكنهم فشلوا وخصوصا جون راولز الذي هدم في كتابه ” حق الشعوب ” ما بناه في ” نظرية العدالة ” و ” العدالة بوصفها إنصافا “، ذلك أن استباحة باقي الشعوب الغير الليبرالية ليس هو عين ما حدده كانط بالدول ” الهمجية ” لأن المقترب الكانطي انبنى على الحقوق الطبيعية لا على الليبرالية التي تحتاج بدورها لمن يدافع عنها كفكرة بله أن تعتمد كحاكم قيمي في العالم ” الحر “، فضلا على أن الاعتماد على القوة العسكرية لفرض تصوراتها تذهب في الاتجاه النقيض للتخلص من الجيوش النظامية.
وطبعا تعود هذه الخصلة إلى ما أسماه هايدغر بخصلة تدمير البدء الأوروبي، ذلك أن الفيلسوف فتحي المسكيني يطرح تصور هيدغر عن الولايات المتحدة الأمريكية قائلا: ” يقول هيدغر ” نحن نعلم اليوم، أن العالم الأنغلوسكسوني للأمركة قد قرر تدمير ( vernichten) أوروبا، وذلك يعني تدمير الوطن، وذلك يعني تدمير البدء الخاص بالعنصر الغربي (den anfang des abendlandischen). إن البدئي (anfangliches) لا يقبل أن يقضى عليه، إن دخول أمريكا في هذه الحرب الكوكبية ليس دخولا في التأريخ، بل هو بعد الفعل الأمريكي الأخير للاتأريخية الأمريكية وتخريبها لذاتها. وذلك أن هذا الفعل هو رفض لما هو بدئي وقرار من أجل ما لا بدء له (das anfanglose). ” ( [17] ) فهيدغر لم يقرأ في السلوك التدميري الذي مارسته الولايات المتحدة الأمريكية في أوربا إلا هدم لذاتها لأنها تريد القضاء على البدء، ويمكن أن نحور النقاش إلى ثقافة ” قتل الأب ” التي اعتبرها فرايزر أصل بداية الحضارات، وهو نفس ما نحى إليه سيغموند فرويد عندما اعتبر أكبر طابو تمر به البشرية هو عملية ” قتل الأب ” وأكله.
المهم أن الأستاذ المسكيني يخرج بخلاصة وهي أن ” هيدغر يضع حدا للصورة ” الحديثة ” لأمريكا في المخيال الأوربي ويرسم صورتها ضد – الأوروبية anti-européenne وضد – الحديثة anti-moderne. إن أمريكا التي ” أوربت ” العالم الجديد قد انقلبت فجأة إلى خطر حاسم على الوجود الماهوي لأوروبا، وذلك يعني على ” الوطن ” الأصلي للغرب. ” ( [18] ) فالولايات المتحدة الأمريكية تحولت إلى موجود ميتافيزيقي نقض حق الجغرافيا بإبادته للهنود الحمر، ونقض حق الولادة/ الوطن بتدميره لأوربا، بوصفها عين البدء، ف ” الأمركة (amerikanismus) ليست صفة جغرافية هنا بل هي ” قرار” ميتافيزيقي إزاء الموجود يتخذ من ” التقنية ” بما هي ” قشتال ” ( الإطار ) – أي بما هي تدبير حسابي يستفز الموجود ويوضعه قصد تسخيره واستعماله بلا حدود، – نمط تأويله لمعنى وجودنا في العالم. ولذلك لا تعني ” اللاتأريخية ” في ماهية أمريكا مجرد فقدانها لتأريخ طويل مثل العالم القديم، بل اللاتأريخية هنا مكانية: إنها تتعلق بالعنصر ” البدئي ” الذي يؤدي في السؤال عن معنى وجودنا في العالم دور مفهوم ” الوطن “. إن لا- تأريخية أمريكا تعني لا- بدئية ولا-وطنية العالم الذي تقيمه بدلا عن الذي تريد تدميره. ” ( [19] ) فالجهد الأمريكي عند هيدغر ينصب بالأساس على تخريب الذات البدئية بما هي وطن، ورسم سؤال الوجود في العالم بميتافيزيقا حديثة.
لكن الأجدر الذهاب أبعد من ذلك لأن الإطار الأوروبي قد تواصل في مراحل تأريخية مع الإطار الفكري الإسلامي والأسيوي، مما يمكن أن نفهم معه بأن الجهد الأمريكي هو نقض للبدء الإنساني برمته.
وهذا ما ساعده في قراءة الولايات المتحدة الأمريكية كمولود أوروبي ثار على والده في البداية، ليستقل بحياته ليعود فيحطمه، كما لو أن ” عقدة أوديب ” ترتفع إلى الأعلى في أصل هذا الوجود، ونعتقد جازمين بأن هذه الجنبة تستحق وقفة.
عرف سيغموند فرويد هذه العقدة، بأنها رغبة الإبن في ممارسة العلاقة المحرمة مع الأم، ومنازعة الأب على هذه الرغبة إلى درجة التفكير في قتل الأب، وإذا ما حاولنا إسقاط هذا المبنى على مناسبة الموضوع، فإننا نستوعب بأن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول منازعة أبيها ” أوروبا ” للاستحواذ على الإرث الاستعماري ” العالم الثالث ” لأن عقدة أوديب ليست بسيرورة ولا بحالة نفسية بقدر ما هي رسم بياني دراماتيكي، ( [20] ) وبالتالي لم يكن من مصير محتمل للسلوك الأمريكي بعد جهادها من أجل ” الاستقلال ” إلا استكمال رغبتها في ” قتل الأب ” وأخذ إرثه الاستعماري، وهي بوابة جديدة تنفتح لاستيعاب ” سر الحراك الإمبراطوري ” الذي أغرمت به، ومحاولة قراءتها بعين جديدة.
لأنه يحكمها ليس فقط ” حلم التمكن ” بل هجاسه لا ترى في التوازنات الدولية إلا مجموعة عراقيل وجودية، عليها أن تسعى لتجاوزها بتحطيم سقف النديات الدولية، هو سباق التحكم، هو سباق الحوكمة العالمية.
من اعتيادية الشر إلى اعتيادية العنف:
استعمل مفهوم اعتيادية الشر لأول مرة من قبل الفيلسوفة حنا أرندت في كتابها ” آيخمان في أورشليم ” حيث حاولت مقاربة حالة أدولف آيخمان الذي كان موضوع محاكمة من أجل دوره في ترحيل اليهود إلى المخيمات من أجل الموت ” المحتوم ” مبينة كيف يمكن لشخص عادي أن يقوم كل صباح للتوقيع على أوراق تقضي بإرسال المئات إلى المعتقلات حيث ينتظرهم الموت، كما لو أنه يقوم بعمل بيروقراطي صرف.
موضحة ذلك بأن ” الدرس الذي نتلقاه من خلال هذه الدراسة الطويلة حول الشر الإنساني، هو الدرس المرعب الخفي هو اللامفكر فيه من اعتيادية الشر ” ( [21] ) عندما تنعدم القيم الإنسانية في وسط اجتماعي حيث الطغيان هو المتحكم، تضحي القيمة العليا هي تطبيق الأوامر بحذافيرها غفلا عن خلفياتها الأخلاقية أو حتى الجرمية، فالأخلاق تقف فقط في دائرة إجرائية وحسب هي الانضباط لأوامر الرؤساء، لتضحي الجريمة ضد الإنسانية وجهة نظر لا دخالة عقلانية لها في هذا الوسط.
طبعا اتهمت أرندت بأنها – وإن كانت يهودية – فهي معادية للسامية لأنها بسطت جرائم النازية وجعلتها عادية ومتقبلة عقلا، والحال أن ” العالم ” يقف مشدوها من شراسة جرائمها، طبعا دافعت عن نفسها قائلة ” لم يكن في خاطري التنقيص من خطورة أكبر مأساة في القرن… لكنه من السهل أن نكون ضحايا شيطان ذي شكل إنساني، من أن نكون ضحايا مبدأ ميتافيزيقي … ما لا يستطيع أحدنا تجاوزه في الماضي ليس عدد الضحايا ولا وقاحة القتل الجماعي بدون وعي الإدانة والضحالة غفلا عن هذا المثال المدعى ” ( [22] ) وطبعا لا يمكن استيعاب هذا التصور غفلا عن مفهومها ” الشر الجذري ” الذي طوعته في كتابها نشأة التوتاليتارية، حيث جعلت من الشر الجذري هو ثمرة منظومة فكرية لا ترى في ظلها أي شيء مستحيل من حيث اقتراف أفظع السلوكات، إلا أنها وفي إطار تحليلها لشخصية آيخمان استعاضت عن هذا المفهوم ب ” اعتيادية الشر ” لأن الفاعلين يكونون بسطاء الفكر لا يحملون خلفية فلسفية ولا عمق إيديولوجي كالتي صاغتها في كتابها. ( [23] )
إلا أن محاولتها في المقاربة ظلت فلسفية أخلاقية ذلك أن ” الإسمنت القيمي ” الذي ” يقوم عليه النظام الإجرامي النازي ليس شيطانيا أو بسيكوباتولوجي، ولكن يقوم على توافق يتم بين رجال ونساء عاديين جدا كآيخمان ” ( [24] )
فاعتيادية الشر في المنظومة الطغيانية تنتقل من مرحلة ” الخضوع ” إلى مرحلة ” المشاركة ” بوصف أن الفكر الطغياني يسمح بعقلنة الفعل الشرير وجعله مجرد سلوك إداري ليس إلا، فلا تقوم مجمل العملية على أخلاقيات الشخص بقدر ما تقوم على كفاءته الإدارية، دون كثير تعمق في آثار الفعل ذاته.
طبعا لن نتعمق في بحثنا عند السقف الذي اشتغلت عليه حنا أرندت لأن اعتيادية الشر كما حددته يظل قابعا في الكيان الصهيوني بدوره، ويكفي مراجعة الكتب المدرسية التي تركز على العداء للعرب المسلمين حتى نعاين حجم الخلل في الكائن الصهيوني الحامل للبذرة الديكتاتورية والتوتاليتارية، فهذا موضوع آخر والغوص فيه سيبعدنا كثيرا عن مظان هذا البحث.
المهم أننا نقتبس هذا المفهوم من جهة أن الشر يتحول لشيء عادي في منظومة اجتماعية وبحث آثاره على مفروض البحث الذي نحن بصدده.
فما يمكن الخروج به هو أن ” الشر ” يتحول إلى ثقافة اجتماعية تحول الناس من مرحلة ” الخضوع ” إلى مرحلة ” المشاركة ” وعلى هذا المستوى يتحول الشر إلى أمر اعتيادي، يقوم به أشخاص عاديون جدا.
مما يرفع المقبولية الاجتماعية للعمل العنفي بوصفه إطارا سلوكيا تدبيريا للصراع، من أصغر الحقول الاجتماعية إلى أوسعها وأكبرها، وواقعا تظل مرافعة حنة أرندت في كتابها الموسوم ب ” في العنف ” ( [25] ) هي أحد أهم مصاديق تحول العنف إلى آلية أساسية في تدبير مفاهيم السلطة والصراعات الدولية، ولذلك هي تراه مضمونيا متطابق مع ” القوة ” أو ” القدرة ” ( [26] ) وأدواتيا هو غير خاضع لدائرة عددية معينة، إذ أن السلوك العنفي يظل ليس وحسب طبيعيا، بل وضروريا في الحياة البشرية.
أو لنقل بأننا أمام لعنة ديونيزوسية بامتياز كما يصرح السوسيولوجي ميشيل مافيزولي قائلا ” الجنس البشري تولد من بقايا جريمة، فالعمالقة السفاحين التابعين لديونيزوس قد تفحموا نتيجة البرق المرسل عليهم من زوس، ومن رماد رفاتهم سينبعث البشر .. ” ( [27] ) كما لو أنه حمل ثقيل لم يغادره حتى اللاهوت المسيحي – اليهودي بخصوص الخطيئة الأصلية.
فالنظريات الإجتماعية المتكثرة بخصوص مفهوم ” التغيير الإجتماعي ” و ” تحوله ” والتي حاولت مقاربة الثورة بوصفها أحد مصاديق التغيير الاجتماعي أو تحقق طفرته، أكدت على مجموعة معطيات وقوانين عقلية تختلف من توجه إلى آخر، إلا أنها أجمعت على حيوية العنف في تحقيقها.
فما يعنينا في هذا المقام هو بحث التغيير الإجتماعي العام بمعنى حدوث الحركة الإجتماعية الرامية إلى إحداث تغييرات عامة، وليست خاصة على مستوى الأفراد. وهذا التخصيص يجد مبرره في أن صلب الموضوع المتحدث عنه في هذا المقام هو التغيير الإجتماعي العام، وهو ما اصطلح عليه علم الإجتماع بالعمل الجماعي، فما هي مخصصات العمل الجماعي في المنظور الإجتماعي الغربي ؟
عرف تشارلز تيلي العمل الجماعي بأنه ” تحرك الناس مع بعضهم البعض لمتابعة مصالحهم المشتركة ” ( [28] )، ويزيد أوبرشال في تعريفه بالتركيز على خصوصية إضافية وهي ” وتهديده للمجموعات القائمة، وقدرته على أن يتبدل إلى عامل تغيير اجتماعي “. ( [29] )
إذا المتفق عليه هو أن العمل الجماعي هو حركة اجتماعية تشاركية رامية إلى تحقيق مصالح مشتركة، ولا يراها أوبرشال إلا مقدمة اعتراضية للوضع القائم رامية إلى تحقيق التغيير الإجتماعي إذا استجمعت شروطها، وبالتالي هي ليست عملا إصلاحيا بقدر ما أنها حراك اجتماعي تغييري جذري ينقض المنبنيات الفكرية والحركية للتصور الإجتماعي السابق، هي عملية ولادة منبنية على تصور جديد حاملة لرؤية جذريا مختلفة عن التصور العام السابق، ورائية إلى أن التصور الجديد هو الأتم في المقام.
أما إميل دوركهايم فقد ركز على البعد النفسي من خلال نماذج وأنماط من الأعمال الإجتماعية، فهو في نظريته ” الإنتقال إلى المجتمع الصناعي عرض مفهوما عن العمل الجماعي، له جذور نفسانية ناشئة من رد فعل الفرد تجاه الظواهر الصناعية. وتنعكس آراء دوركهايم حول هذا الموضوع في أثرين من آثاره ” حول تقسيم العمل الإجتماعي ” و ” الإنتحار “، حيث يرى أن العمل الجماعي هو حاصل ظروف الشخص المتردية، وهذه ناتجة أيضا عن البون الشاسع بين مستوى التمايز الإجتماعي ومستوى الوعي أو الوجدان العام أو الضمير الجمعي ويرى دوركهايم أن العمل الجماعي هو جواب مباشر نسبيا للتنظيم أو التفكك الإجتماعي في جميع المجتمعات، ( [30] ) بمعنى أن العمل الجماعي يعرف وجودا سواء في الوضع الروتيني أو في الوضع الغير الروتيني، لكن المنبنى النفسي يظل حاضرا بقوة حيث يرى المستضعف بأنه خارج دائرة الإهتمام، بل أن الرؤية العامة مؤسسة على تهميشه بالأولى.
فإن تحرك في الوضع الروتيني فإنه يلعب دورا توطيديا لحركة الأفراد داخل المجال الإجتماعي ويحافظ على القيم العليا المتفق عليها، أما في الوضع الغير الروتيني أي عند اختلال العدل الإجتماعي يختل أيضا تقسيم العمل الذي يشكل أساس التضامن بين النظائر، ويضعف الوجدان والشعور الجمعي، ولا يوجد في المقابل ضمير جمعي جديد، فتظهر حينئذ – ما يسميه هو الأنومية اللامعيارية، ويظهر مثل هذا الوضع بصورة خاصة في الظروف الإنتقالية، قبل أن يتشكل وعي جديد مبني على وحدة المصير والتضامن المتبادل ( التضامن العضوي )، بعد زوال الوعي التقليدي المبني على التضامن الآلي. وهكذا فإن الأشكال الغير العادية للعمل الجماعي هي حاصل سخط الأفراد وسعيهم وراء المصالح الآنية، الناتجة عن تلاشي تقسيم العمل. ( [31] )
والملاحظ على نظرية العالم الإجتماعي إميل دوركهايم إجحافا غير طبيعي للجنبة الشخصية للأفراد والتي سبق له أن ركز عليها في تعريفه للعمل الجماعي، وهذا راجع لتصوره الخاص بخصوص الطابع القهري للضغط الإجتماعي وسلب هكذا ضغط الإرادة عن الأفراد. حيث يرى تراكم المرغوبات الفردية لدرجة اضمحلال الضميمة أي الفرد.
أما الباحث الإيطالي الكبير فيلفريدو باريتو فينطلق من أساس اعتقادي عنده، وهو الثبات في الحياة الإجتماعية وفي البنى الفكرية، لذلك هو ينظر إلى العمل الجماعي على أنه تصرف خالي من المنطق واقعا، وإن كان المشارك الإجتماعي يرى كل المنطقية في تحركاته.
وطبعا حتى نفهم تصور الباحث لا بد من محاولة فهم ماذا يعني بالحراك المنطقي، على هذا المستوى يأتينا بمثالين الأول يهم المهندس والثاني يهم المضارب التجاري ( التاجر ).
فالمهندس الملم بتخصصه عندما يحاول أن يشيد جسرا فإنه يكون عالما بالمواد التي ستكون هذا الجسر ودارسا لقدرة صلابتها ومواتاتها للظروف، ويكون حاملا لهدف هو الربح المالي، فالمهندس يكون حاملا لتصورين هامين موضوعيين، الأول يتعلق بالوسائل الكفيلة بإتمام المشروع لتحقيق الهدف، والثاني الوسائل الكفيلة بإتمام المشروع وفق المرغوب الثابت في نفسية المهندس، وعندما يقع التطابق بين الواقع الخارجي والإرادة النفسية نكون أمام الحراك الإجتماعي المنطقي عند بارتو، أي المطابقة الموضوعية بين الوسائل والهدف إن موضوعيا أو نفسيا. ( [32] )
قائلا بأنه سوف يصف الأعمال بالمنطقية تلك الأعمال التي ترتبط موضوعيا بأهدافها، وليست تلك التي ترتبط بالفاعل الإجتماعي المقدم عليها، أو التي تظل لدى شريحة كبيرة من الناس المطلعين مفسرة ذهنيا وموضوعيا. أما في حالة خلاف ذلك فإن الأعمال تظل لامنطقية دون أن يعني هذا بأنها خالية من المنطق بالمطلق ” ( الفقرة 120 من كتاب المطول في علم الإجتماع ) وقد سعى ريمون آرون إلى تفسير هذا الكلام قائلا بأن ” الأعمال اللامنطقية هي الأعمال التي لا تترابط لا ذهنيا ولا موضوعيا بروابط منطقية “. ( [33] )
وأن النخبة تتحكم في المجتمع بالحيلة والمكر مما يجعلها أمام انعدام التوازن الإجتماعي – والذي يظل ممكنا دائما نتيجة سوء توزيع الخيرات واختلاف الملكات الذهنية بين الناس – تحاول الحفاظ على الإستمرارية، لكنها لن تنجح ما لم تكن متحوزة لكمية كبيرة من خلاصات الطبقة الأولى وهي التوفر على الملكات الذهنية والتحرك الإجتماعي المنطقي التجريبي لكن دون مبالغة في هذا الأمر، لأنها إن تجاوزت الحد المعقول فإنها تضحي ضعيفة وغير قادرة على الحفاظ على مكانتها فتكون لقمة سائغة ” للعنيفين بالولادة الذين سوف يهيجون القاعدة ضد هذه النخبة “، ( [34] ) فالإستقرار الإجتماعي المطموح له يكون قائما على نسبة محترمة من الأعمال المنطقية التجريبية لدى النخبة ( أفكار الطبقة الأولى ) في حين تكون الثقافة الدينية والرمزية هي المستحكمة في المجتمع بوصفها أفكار الطبقة الثانية. ( [35] )
الملاحظ على باريتو أنه وخلاف ما ادعاه من موضوعية كان متحاملا كثيرا على مجموعة من الأفكار والتصورات الإجتماعية فهو يكره الدعاة والمربين والجمعيات ومجموعة من التصورات الإنسية المعاصرة وكذا العلماء، ( [36] ) وطبعا بهكذا عقلية لا يمكن لبارتو أن يتفهم الثورة الإجتماعية إلا وكأنها حراك لمجموعة من العنيفين ( بذرة نخبة جديدة ) ( [37] ) تنجح في تهييج الناس لضرب النخبة وكأن هذه الأخيرة موجود مقدس لا بد من الحفاظ عليه، ولا يعدو غريبا أن نجده يعرف التاريخ بأنه مقبرة الأريستقراطية. ( [38] )
على أي ما خلص إليه الأستاذ باريتو يظل صحيحا في بعض الجوانب لكنه متهاتر على أكثر من مستوى ذلك أن هناك مجموعة من الثورات والحراكات الإجتماعية سواء في أمريكا اللاتينية ضمن ما سمى بلاهوت التحرير من قبل رجال الدين العيسويين أو في إيران ضمن الفقه الإمامي الجعفري كانت مؤسسة على الثقافة الدينية بالدرجة الأولى، فالثقافة الدينية لم تعد عامل استقرار المجتمعات والحفاظ على النخب بقدر ما صارت عامل كسر للنخبة.
ويبدو أن ما انتهى إليه الأستاذ فيبر يظل الأصلب في هذا الباب، ذلك أن نظرية هذا المفكر تأسست على العمل الإجتماعي بما هو سلوك له معنى عند فاعله، ويكون اجتماعيا إذا كان هذا العمل يأخذ بعين الإعتبار تصرفات الآخرين. ويعطي أهمية كبيرة للبنى الإعتقادية فهو يرى العمل الجماعي بأنه ينبع بشكل أساسي من التزام أعضاء تلك الجماعة المبدئي بنوع خاص من النظام العقائدي،
وعليه لو أجرينا قراءة تشريحية مبدئية فإن الحراك الإجتماعي العام ( الثورة ) تكون منطقية ولو وفق التفصيل الباريتي ( نسبة لباريتو ) ما دامت هي متملكة لجنبتي الوسائل والهدف، وبالتالي فإن تصوره القبلي والبعدي عن هذا المنظور تظل متهاترة ما دام يحمل في ذهنيته قداسة الأريستقراطية بوصفها ثابتا أنطولوجيا يجب الحفاظ عليه، فلو رمينا بثابته علمنا بأن المدماك المعرفي للثورة الحامل للجنبتين يظل صحيحا.
وبما أن العنف هو إعادة إنتاج للموجودات الخارجية، على أسس ثورية أو نقيضة للقائم عيانا، أي بما هي فعل سوسيولوجي خلاق، هدام بناء ( [39] ) نكون أمام وضع غريب لكنه قائم حقيقة، وهو وضع الغضب بما يحمله من حالات جنونية كخلفية لفعل عقلاني مدروس ومنطقي، أي كأننا أمام حالة ديونيزوس / أبولون النيتشوية، فديونيزوس هو إله السكر والمرح والجنون أما أبولون فهو إله مبدأ التفرد والمعرفة الصارمة والمنطقية، لكنهما ليسا بالنقيضين، بقدر ما هما ضدان تذاوتيين ” لا يتعارض ديونيزوس وأبلون كطرفي تناقض بل بالأحرى كطريقتين تضاديتين في حلة: أبلون بصورة غير مباشرة في تأمل الصورة اللدائنية ( أو البلاستيكية )، وديونيزوس بصورة مباشرة في إعادة الإنتاج، في رمز الإرادة الموسيقية. ديونيزوس هو ما يشبه الخلفية التي يطرز عليها أبولون الظاهر الجميل، لكن وراء أبلون يزمجر ديونيزوس. تحتاج النقيضة إذن للحل لتحويلها إلى وحدة ” ( [40] ) بمعنى أن الظاهر العقلاني يظل محفوفا بخلفية إفراطية في كل شيء، كما الثورة والاحتجاج الاجتماعي وغيرها من السلوكات العقلانية التي تتخذ من العنف مرتكزا تغييريا لأوضاعها.
لتنطرح أمامنا حقيقة أن العنف هو الثابت الأساسي في تأريخ البشرية، يحتاج إلى قنوات عقلانية لتصريفه، لا إلغائه لأن ذلك من المستحيلات العقلية.
خاتـمــــة:
واقعا لا يمكن تجميع المعطيات لإعادة بنينة الخطاب، فالسير العولمي بما هو شبكة تفاعلات، يمتنع عن هكذا ضابطة، لكننا لن ننسى بأننا نعيش لحظة ديونيزوسية عالية الفعالية، حيث المقام الفرداني صار مسيطرا على المقام الجماعاتي، حتى أصاب الوجود العالمي بسكرة العنف، لا ممارسة في الوجود الخارجي وحسب، بل حتى في مقام التفكر والتفكير، لم يعد يستطيع الخروج من هكذا خناق، إلا بلحظة روحية متعولمة الجميع ينتظرها.
هل ثمة حل لهكذا أزمة ؟ سؤال يظل مشروعا وكبيرا في نفس الآن ربما مداخلات أهل الحكمة قد تفيدنا في ذلك.
عبد العالي العبدوني
[1] ـ زكي العايدي: المعنى والقوة في النظام العالمي ( دراسة ) ضمن العمل الجماعي تحت إشرافه ” المعنى والقوة في النظام العالمي الجديد “، ترجمة سوزان خليل، عن دار سينا للنشر سنة 1994، الصفحة 41.
[2] – Zaki Laidi : Le Temps Mondial- Enchainements, disjonctions et médiation. Les Cahiers de ceri, numéro 14, 1996, p 6.
[3] – Zaki Laidi : Op cit, p 7.
[4] – Zaki Laidi : Op cit,pp 17 et 18.
[5] ـ ـ السيد ولد أباه: التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو، طبعة الدار العربية للعلوم الطبعة الأولى سنة 1994، الصفحتان 39 و 40.
[6] – Zaki Laidi : Op cit, p 22.
[7] – Zaki Laidi : Op cit, p 3.
[8] – Thierry Aimar : Les apports de l’école autrichienne d’économie : subjectivisme, ignorance et coordination. Editions Vuibert, mai 2005, p 268.
[9]- Parag khanna : Neo-Medieval Times in good politics review december 2008.
[10] – parag khanna ; op.cit.
[11] -parag khanna ; breaking up is good to do, foreign policy, January 13, 2011
[12] – نيل فيرجيسون: الصنم ـ صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية ترجمة معين محمد الإمام الصفحة 109 عن دار العبيكان سنة 1427 للهجرة.
[13] -Alexander Wendt : op cit « george and Keohane identify three national interests – physical survival, autonomy, and economic well-being – which they describe informally as “life, liberty, and property”. I will add a fourth, “collective self-esteem” p 235.
[14] – Alexander Wendt : op cit « collective self-esteem refers to a group’s need to feel good about itself, for respect or status. Self-esteem is a basic human need of individuals, and one of the things that individuals seek in group membership.”
[15] – Jean-jacques Roche :Théories des relations internationales, clefs politiques, 5 éditions Montchrestien.2004, p 110.
[16] – Emmanuel Kant ; Vers La Paix Perpétuelle, avec analyse de Michael Foessel, éditions Hatier 2007.
[17] ـ فتحي المسكيني: الفيلسوف والإمبراطورية في تنوير الإنسان الأخير. طبعة المركز الثقافي العربي سنة 2005 الطبعة الأولى الصفحتان 82 و 83.
[18] ـ فتحي المسكيني: ن.م الصفحتان 83 و 84.
[19] ـ فتحي المسكيني: ن.م الصفحة 84. الملاحظ بأن الفيلسوف المسكيني عمد إلى تعريب أفهوم gestell ب ” قشتال ” إلا أننا فضلنا البعد العربي للأفهوم وهي ” الإطار “.
[20] – Georges Politzer, Critique des fondements de la psychologie, Presses Universitaires de France, Coll. « Quadrige »,
[21] – Hannah Arendt : Eichmann a Jérusalem, édition quarto gallimard, 2002 “ la leçon que nous a apprise cette longue étude sur la méchanceté humaine – la leçon de la terrible, de l’indicible, de l’impensable banalité du mal »,