دراسات وأبحاث
هيدرا .. وكيربيروس .. إلا أنه هناك طائر السيمورغ ( أسطوريات عنفية بالشرق الأوسط )
يتجاذب منطقة الشرق الأوسط محوران جيواستراتيجيان متنافسان، محور يرى مصلحته في الانضمام إلى نادي الأقوياء العالميين، ويرتهن لخياراتهم الأساسية بوصفه جهازا وظيفيا، يقدم خدمات لوجيستية لتنفيذ هكذا مشاريع نظير تصلب دوره في المنطقة وفق معامل رابح – رابح وفق منطق رأس الهرم السلطوي ولو خلاف مصلحة قاعدة الهرم، ومحور يرى مصلحته في قوته الذاتية التي يشتغل على بنائها، ولو في إطار صدام أساسي مع المحور الأول، والتي تصرف في أزمات متوسطة أو صغيرة سريعا ما تكبر.
ولذا كل محور هوامش فرعية لينة تلعب دور امتصاص الصدمات، وتمنع من تطور الأمور نحو الأسوأ وخط اللارجعة، لذلك كانت هذه المنطقة الأكثر توترا في العالم، والأكثر إثارة للانتباه على حد سواء، ليس فقط لتواجد الكيان الصهيوني بجغرافيتها وحسب، بل لأنها معبر الثروات الطبيعية نحو أسواق العالم، ولذلك هي أقرب إلى ” الأعصاب ” من جسم العالم، إذا تشنجت غضب الجسم العالمي، وإذا هدأت سكن معها العالم. ( [1] )
مما دفعها إلى أن تتحول إلى ورش تدخلي عولمي بغرض تهدئتها بالشكل الذي يتوافق مع مصالح القوى الكبرى، وحيث إن القوى الكبرى لم تصل إلى توافق موحد بخصوص السياسات العولمية، صارت المنطقة أقرب إلى ملعب عالمي مصغر لحجم التصادمات والتجاذبات وكذا التنافرات السياسية العولمية.
ما سوف نحاول فعله في هذه الورقة البحثية هو مقاربة تطابقية للسقف الأسطوري الإغريقي الغريب وكمونه في العقلية الاستراتيجية الإسرائيلية، لتدبير سياسة التفتيت للمنطقة المحيطة، حتى يحافظ الكيان الصهيوني على بقائه الذي صار على المحك.
واقعا لم يكن مستغربا أن يطرح الباحث في الأمن القومي الصهيوني داني بروكوفيتش تصوره لمواجهة محور المقاومة تحت عنوان ” قطع رؤوس الهيدرا ” فلطالما عمل الباحثون الغربيون على الاستفادة من البنك الأسطوري لتمرير مشاريعهم.
وملخص القصة أن البطل ( هيراقليطس ) – والذي سيكون له دور جديد مع الكريبيروس – أراد أن يحارب وحشا متعدد الرؤوس، كلما قطع له رأس نبت له آخر، فلم يتوفق البطل الأسطوري من إنهاء الوحش إلا بعملية الكي بعد كل بتر لرأس من رؤوس الوحش.
فالتصور الذي طرحه داني بروكوفيتش وباختصار شديد هو مواجهة محور المقاومة، باستهداف رأس من رؤوسه وإنهائه، بعدها الإتيان بكي للوعي السياسي المحلي يؤدي إلى تغيير في المنظومة الفكرية السياسية لرأس هرم السلطة، وهكذا دواليك إلى حين الانتهاء من المحور برمته. ( [2] )
طبعا هذا التصور الذي طرح سنة 2008 بقي بدون أثر فعلي إلى أن رأى نفسه أمام مناسبة تأريخية لم يكن ليحلم بها، تتعلق بالأزمة الأمنية الكبيرة التي تمر بها سوريا إحدى الدول الهامة جدا بمحور المقاومة، فلقد شكلت الأزمة السورية مناسبة لتفعيل هذا التصور، لكن هذه المرة بدعم التنظيمات التكفيرية القتالية، ذات الثلاثة رؤوس ” إقليمية ” والتي شابهت بوضعها الفعلي ذلك الكلب الأسطوري المسمى كيربيروس ( [3] ) القاعد على باب الجحيم يلتهم ضحاياه ويرمي بأرواحهم إلى النار حارسا إياهم من العودة من جديد.
وهنا سنلاحظ بأن الكيان الصهيوني يريد أن يلعب دور هيراقليطس وعلى المستويين معا، أولا هو يسعى إلى قطع رؤوس الهيدرا والتي جعلها هي محور المقاومة، وفي نفس الآن يتلاعب بكلب الكريبيروس بالحيلة والموسيقى الجيو سياسية ليقضي به أغراضه، لأن دائرة اللعبة الاستراتيجية جعلت من قطع الرؤوس لن يتم إلا بتوسط هذا الكلب الذي أخرج من الجحيم ليرمي بلعابه في مجمل المنطقة الإسلامية كمادة سحرية يستعملها السحرة لأغراض خبيثة.
بالكريبيروس تأتي رؤوس الهيدرا – أو حلم اليقظة في المنعطف الألفي الثالث:
عادت الجغرافيا بقوة إلى حلبة المدارسة السياسية الدولية وتدبير الصراعات الإقليمية، بعد أن كانت متحيزة في الثقافة الحربية والعسكريتارية، بوصفها الثابت الأساسي إلى جانب التأريخ، والتي يمكنها أن تساعد في قراءة الأوضاع بشكل أليق، وأكثر فعالية من غيرها من المدارسات السياسية التي تتشابك داخل الحقول السياسية المحلية.
صحيح أن دراسة الحقول السياسية والتجاذبات فيما بينها، لها أهمية لا تخفى، إلا أن ذلك سرعان ما يرميها إلى الوراء في مقام بحث التحديات الإقليمية والعالمية، إذ أنه لو كان هناك سعي لإسقاط جهاز الدولة – الأمة، فبالأحرى هناك سعي مضاعف لتهميش المشاهد السياسية المحلية، واعتبارها عنصرا عاضدا لا محوريا في الترسيمات الجيواستراتيجية.
إلى أن صارت مستدخلة في الثقافة والاقتصاد والسياسة وكل المجالات المتعلقة بكشف أسواق جديدة بالمعنى الضيق للكلمة، أو الأسواق الاستراتيجية بالمعنى الموسع للكلمة، وبالتالي بدأ التعاطي مع الجغرافيا ومحوريتها يتعاظم على غيرها من الدراسات المؤسسية والتي تغترف من الإرث الويستفالي، لتبحث عن فعالية أكبر في ظل تولد نظام عالمي جديد، يعيد النظر في كل الأثقال السياسية التي وضعتها المرحلة الاستعمارية، يقول روبير دافيد كابلان ” العولمة بحد ذاتها استبطنت مجموعة من الهيجانات الإقليمية، والمرتكزة على وعي ديني أو قومي راكزة في إطار خاص ” ( [4] )
ومن هنا حساسية المنطقة العربية، ذلك أن الاختلاف الإثني والطائفي لا يتم تدبيره ضمن الخيار العقلاني الأمثل، بقدر ما يرفع كشعارات تساعد على نشر القلاقل والأزمات، أكثر من أن يكون بناءا، واستجلاب منافع شخصية قد يدفع بالكثيرين إلى الاقتداء وركوب الموجة حتى يحافظوا على هامش من الربح الاستراتيجي، والتي تشكل جميعها أرضية خصبة للتوغل الإرهابي، فهم كتنظيمات لا يستطيعون العمل إلا في ظل فوضى سيادية، تسمح بهامش كبير من المناورة والولوج بأعداد كبيرة للسيطرة على جغرافيات قد لا تكون ذات أهمية ابتداءا، لكنها تسمح بتشكيل روافع استراتيجية قتالية لهم للمضي قدما.
ففي المذكرة الاستراتيجية التي يتم تداولها وسط دوائر تنظيم القاعدة والأجنحة الحليفة لها، نجد نفس الوعي الجغرافي يقوم حيث يقول منظرها المسمى عبد الله بن محمد في معرض دراسته لمتحولات المنطقة بعد أحداث ” الربيع العربي ” والتي أدخلت المنطقة في حالة من عدم الاستقرار ” فهذه القوة الدافعة للشارع العربي في مقابل بقايا الأنظمة التي ستقاتل دفاعا عن وجودها وفي ظل سيادة الفوضى العارمة على الموقف ستتسبب في إحداث حالة من الشلل العام في منظومة التعاون العربي وفي قدرة كل نظام عربي على تقديم المساعدة لنظام آخر وهذا الجمود الناتج عن سقوط بعض الأنظمة وتداعي بعضها الآخر هو تدمير حقيقي لأعمدة نظام سايس وبيكو ! لأن هذه الفوضى العارمة ستخضع خارطة العالم العربي لتعديلات جديدة على موازين القوى السياسية والعسكرية وستخلق مساحات خالية من السيطرة المركزية وستجلب تحالفات جديدة للمنطقة وستحيي بنفس الوقت الولاء للقبيلة والطائفة والعرق ، وهذا ما سيجعل الحركة داخل المنطقة العربية لا تخضع للحدود المتعارف عليها والتي صنعت على عين سايس وبيكو بتلك المقاييس التي راعت صغر حجم بعض الدول كالبحرين ولبنان حتى تلتزم بالولاء للدولة الراعية مقابل الحماية من تسلط المحيط الأكبر منها وكبر حجم دولا أخرى حتى تلعب دورا إقليميا في إدارة المنطقة بالنيابة وبما أننا نتحدث عن سقوط وشيك لنظام سايس وبيكو في المرحلة القادمة فهذا يعني أن أحد جناحي منظومة الأنظمة الراعية والعميلة سيتم تجاوزه وبقي أن ننظر في موقف الجناح المتبقي .. هل هو بنفس القوة التي كانت تخوله من إلغاء مشاريع إعادة الخلافة كما في السابق أم أن هناك شيئا ما قد تغير ؟ ” ( [5] )، وواقعا نلاحظ أن ثمة تناظر في التصور القاعدي مع التصور الأمريكي خلال رئاسة بوش الإبن، والذي يتحدث عن الفوضى الخلاقة، لأنه يعتبرون بأن الفوضى الأساسية هي إحدى أهم الفرص التأريخية لإحداث تغييرات جيواستراتيجية كبيرة، في اتجاه إنشاء ما يسمونه ” خلافة إسلامية “، وخصوصا أن هذا الشخص يعتبر بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستعود إلى سياسة الانعزال مجددا، لكن هذه المرة تحت الضغط الاقتصادي وارتفاع كلفة الحرب على الإرهاب، واستمرار فراغ القوة في المنطقة، وأنهم يحتاجون ابتداءا إلى الإمساك بموطن القداسة، لأنها ستجلب المحبة والطاعة من عموم المسلمين قائلا ” أن يكون الموقع ضمن أو بالقرب من مناطق التأثير الديني ، فالتاريخ يشهد بأن الخلافة ارتبطت دائما بمن يسيطر على مكة لأنها قبلة المسلمين والرمز الذي يلتفون حوله ولذلك حرص الخلفاء عبر العصور الإسلامية على ن يخطب لهم على منبر الحرم في أول أيام الحكم كي يضفوا الشرعية الدينية على انتقال الحكم إليهم أو تغلبهم عليه وهذه الأهمية تنسحب أيضا على المدينة النبوية والقدس فهذه المدن الثلاثة تضم المساجد التي يشد إليها الرحال وهي مناطق التأثير الديني في العالم الإسلامي ومن المهم لمشروع الخلافة أن يرتبط جغرافيا في مرحلة متقدمة مع واحدة من هذه المناطق كي يستمد شرعيته الدينية في أعين عامة المسلمين ولا أقصد بأن ذلك شرط صحة لعقد الخلافة وإنما الحديث هنا عن عرف تاريخي ارتبط باسم الخلافة ” ( [6] )
وأنه في انتظار ذلك يستلزم لهم ضمن مبدأ ” المصاولة ” الجديدة حتى تساعدهم في التمكين، الاشتغال على استراتيجية ما أسماها ” الذراعين ” أي السيطرة على اليمن والشام، بحيث تضحي كل جغرافيا مرحليا تحمل العبء عن الأخرى في القتال، وتنهك التحالف الدولي عسكريا، لأنه لن يستطيع تدبير الحرب الواسعة في أكثر من جبهة، مما يسمح للثانية عند إثقال الكاهل الحربي على الأولى، بالتقدم نحو موطن ” القداسة ” وهي مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس، سواء من الجنوب أو من الشمال، إذ يقول ” الإستراتيجية العامة للتحرك تعتمد على حشد وتركيز الطاقات الجهادية في منطقتي المشروع الشام واليمن مع تحويل بقية الجبهات إلى مراكز دعم وإمداد بشري وفني لمنطقتي المشروع وبنفس الوقت تقوم هذه الجبهات بتثبيت وإشغال العدو في مجالها الجبهوي أو تهديد ممراته الحيوية التي يستفيد منها في العمل العسكري، وقد جعلت العمل في المشروع في منطقتين بدلا من واحدة كي تتضاعف فرص النجاح من جهة ولكي تعمل الجبهتين والمنطقتين كذراعين تغطي كل واحدة منهما الأخرى وتمنع من تركيز أي مجهود عسكري يستهدف أي جبهة لوحدها وهذا وفقا لمسرح العمليات الممتد من الشام إلى اليمن ” ( [7] )
ومن هنا الكيان الصهيوني لا يهتم كثيرا بالجغرافيا الحاضنة للإرهاب بقدر ما يدرس مجال عملياتها، وكيف يمكنه بتوسطها الوصول إلى إسقاط رأس من رؤوس الهيدرا، لذلك هو يخاتلها، ويدعمها لوجيستيا وعملياتيا، بتنفيذ ضربات في أكثر من مكان داخل التراب السوري.
لأنه اكتشف بأنه ليس ثمة طريق آخر لتنفيذ أصل مأربه إلا بمجالسة ” النفايات البشرية ” .. فالكريبيروس كلب نجس ومنتوجه السائل قاتل للجغرافيات التي يتحرك بها.
فالأزمة الخانقة المتعلقة بالإرهاب العابر للحدود أنها تحولت إلى بروكسي لدول إقليمية هي عينها بروكسي جيوسياسي للقوى الكبرى.
البروكسي هو مفهوم ظهر مؤخرا لتوصيف حالة تأريخية كثيرا ما تكررت خلال الحرب الباردة، وهي تلك المسلكية التي تعتمدها القوى الكبرى بدعم جهات قتالية وطنية في قلب الوطن الواحد لتنفيذ مصالح ومآرب متضاربة بين طرفي القوة، كل يدعم فريقه لتحقيق أرباح استراتيجية على الخصم.
ولذلك يمكن اعتبار الأزمة القتالية في سوريا هي إحدى أنواع البروكسي ما دامت بعض الجهات القتالية سواء المحسوبة على تنظيم القاعدة أو الغير المحسوبة تتلقى دعما لوجيستيا وماليا واستراتيجيا وإعلاميا من قبل كائنات دولتية إقليمية عدة.
وحيث إن بعض الدول الإقليمية واقعا لا يمكن حسبانها لا على القوة العظمى ولا على القوة الكبرى ولا حتى القوة الوسطى، فإنها وفق سلوكها الإقليمي تكون محل تحكم خارج إقليمي مما يجعلها هي نفسها بروكسي، فنكون حكما أمام بروكسي مركب.
لذلك عندما أعلن سماحة السيد القائد علي خامنئ حفظه الله في خطابه ” ثمة نقطة لا تقبل الإنكار هي أن التيار التكفيري و الحكومات التي تدعمه و تحميه تتحرك تماماً باتجاه نوايا الاستكبار و الصهيونية. أعمالهم تصبّ باتجاه أهداف أمريكا و الحكومات الاستعمارية الأوربية و حكومة الكيان الصهيوني المحتل. ثمة شواهد تجعل هذا المعنى أكيداً و قطعياً. التيار التكفيري له ظاهر إسلامي لكنه عملياً في خدمة التيارات الاستعمارية و الاستكبارية و السياسية الكبرى التي تعمل ضد العالم الإسلامي. ” ( [8] ) لم يكن كلامه مستغربا ولا محل جدل، فوضع الخط التكفيري القتالي والخط الصهيوني في نفس المستوى، له عاضد حدسي وهو أنهما مكونان عنفيان يعضد بعضهما البعض.
خطوات طائر السيمورغ – أو الظهور الألفي الجديد:
وفقا الشاهنامة لطائر السيمورغ دورين أساسيين لحماية من يحب، أولها أنه يأتي بثمار من شجرة علاجية تشفي من كل الأمراض وهو الوحيد القادر على الوصول إليها، ثانيها أنه لو وضع أمام مرآة فإن نور لونه ينعكس على المرآة فيصعق الأعداء لتركز القوة في المرآة العاكسة.
وواقعا ما تمارسه الجمهورية الإسلامية في ظل هذه الأزمة الإقليمية الخانقة، هو نفس أدوار طائر السيمورغ، حيث تعمد إلى تقديم المساعدات الأساسية لحماية الأنظمة من التهاوي دون تدخل عسكري مباشر، يعقد الوضع أكثر مما يفكفكه، وفي نفس الآمر تركز على الدور ” الكاشف ” لحقيقة الإرهاب ممارسة وتمويلا وتأثيرا، بغرض سد الطريق على نوع من التماهي الكلياني العربي الإسلامي مع الحالة الإرهابية.
لذلك الجمهورية الإسلامية تعيش حالة من الحينونة EN-TRAIN-DE العالمية الجديدة، حيث للفكرة الإسلامية دور في هندسة العالم تعيد تركيبه على أساس منطق دفاعي لا هجومي، واستدرار المنافع من قلب ” حلقة التفاهم ” الإقليمي والعالمي، ينهي إرث الحرب الباردة وإرث اللحظة الهلوسية التي عاشتها أمريكا بعد سكرة ” النصر التأريخي ” أو ما يسمى بمرحلة ما بعد الحرب الباردة.
ولأن أية لحظة ” حينونة ” تعاني من تدخلات عالمية رامية إلى إيقافها، ذلك أن جميع المدنيات الأخرى تتحسس من ” التغير ” و ” التحولات ” وتنتفض فزعا من حالة بداياتها فإنها تقف في وجه كل المتحولات التي يمكن أن تهدد هيمنتها، وتعرقل مجهودات باقي الدول في التقدم والاستقلال بقرارها، لأنها ترى التسامح مع هكذا تحولات على أنها إقرار بالهزيمة والنكوص.
كما لو أن معضلة ” ميلوس ” تتكرر عند كل مشروع قطيعة حضارية في التأريخ الإنساني، والقصة تهم حوارا مطولا تم بين قادة عسكريين أثينيين مع مستشاري جزيرة ميلوس التابعة لأرض اسبارطا، وفي هذا الحوار المطول صرح الجنرالات بما يلي: ” إننا لا ندعي بأن إمبراطوريتنا مؤمنة بمجرد هزيمتنا للفرس، كما أننا لن نتركك لشأنك لكونك لم تؤذي الشعب الأثيني كما أننا لا نعتقد أن لشعب ميلوس الحق في أن يترك لشأنه، إن من يملك القوة له الحق في استعمالها، كما أن الضعيف عليه أن يقبل بشروط أصحاب القوة، إن حياد ميلوس يمكن أن يفسر على أنه ضعف وعجز أمام أولئك الذي نبسط عليهم سيطرتنا. ” ( [9] )
ثمة هيراركية تحكم العقل الحضاري الغربي لا تتحرك مبانيه الفكرية الاستراتيجية على أساس الندية والحراك الأفقي، بل تراه حقيقة عمودية تستلزم الريادة للبعض والتابعية للباقي، لذلك يظل مفهوم ” المنتظم الدولي ” مجرد إيتوبيا يتم تسريبها لإقناع الكائنات الدولتية بأوضاعها القائمة وقبولها تحت عنوان ” الأمن والاستقرار الدوليين “.
فكل سعي للاقتدار الوطني أو الإقليمي قد يفسر على أنه مساس بالاستقرار العالمي، هي أدوار وزعت من فوق وعلى من يوجد تحت أن يقبلها.
وهذه رؤية واقعية فجة لا تتناسب مع عمق الفلسفة الاستراتيجية لمحور المقاومة، التي تبحث عن مشاركة فعالة أو هيمنة بالحقانية في حالة المغالبة بالباطل.
فالجنبة المغيبة في قراءة الموجود السياسي الإيراني في العقلية الاستحكامية العالمية، والتي أكد عليها الفيلسوف ميشيل فوكو هي خصيصة ” الروحية السياسية ” وذلك منذ عصور النهضة والأزمات الكبرى للمسيحية كان هو الروحية السياسية.
Rechercher au prix même de leur vies cette chose dont nous avons, nous autres, oublié la possibilité depuis la renaissance et les grandes crises du christianisme : une spiritualité politique ( [10] )
ففيما يخص تحرجه من دعم الحكومة الإسلامية كفكرة مطلقة يقول ضمن نفس النص ” أتحرج من الحديث عن الحكومة الإسلامية كفكرة أو مثال، لكن بوصفها إرادة سياسية فقد بهرتني، بهرتني في مجهودها لتسييس – في مقام الجواب على المشاكل القائمة – بنى متداخلة اجتماعيا ودينيا، لقد بهرتني في محاولتها أيضا أن تفتح في السياسة بعدا روحيا “،
Je me sens embarrassé pour parler du gouvernement islamique comme idée ou même idéal. Mais comme volonté politique, il m’a impressionné dans son effort pour politiser, en réponse à des problèmes actuels, des structures indissociablement sociales et religieuses ; il m’a impressionné dans sa tentative aussi pour ouvrir dans la politique une dimension spirituelle. ( [11] )
فالروحية السياسية التي أبان عنها فوكو هي تلك الشأنية الماورائية المستحكمة في الخروج الفيزيقي لها، بمعنى أنها المحرك المعرفي الماورائي المتحكم في الظهورات الفيزيقية، وهذا عين ما يحاول العقل الغربي تجاوزه ومحاربته، فالماورائيات ما هي إلا أساطير مدخولة بالهوى والرعب الأزليين، وبالتالي لا يسمح لها بالتصرف في الفضاء العام، بل هي من تدبيرات هذا الفضاء حيث لا يسمح لها إلا بالتواجد الشخصي وبضمان أمكنة العبادة، لكن لا حق لها في تدبير الفضاء العام، لذا لم يكن مستغربا أن تكون مجمل المؤاخذات على النظام السياسي الإيراني أنه نظام ملالي وآيات الله، وبالتالي لا يمكن الحديث عن نظام سياسي يتحرك وفق معارف يصنفونها تيوقراطية.
فالروحية السياسية كما تتمثل في طروحات ميشيل فوكو هي عملية دمج بين الزمني والقدسي في الشأنية السياسية لكن بتراتبيات معرفية خاصة، تأتت له من خلال استقلال القراءة للمباني الدينية وللإكراهات المادية السياسية، بمعنى أن المبنى الديني ليس معطى معياري صرف بقدر ما هو فكر يتحرك احتكاكا بالواقع، وأن هذه الروحية السياسية ما هي إلى تشخص الفكر الديني في الفضاء العام بإكراهاته الواقعية.
مما يعطي قدرة الإراءة للجمهورية الإسلامية لكي تواجه في العمق هكذا مظاهر، ليس وحسب من جهة المواجهة العنفية، بل أيضا من جهة تحقيق اختراق للمباني الفكرية الداعمة للخط الإرهابي.
لأنه بهذه الطريقة تقضي بضربة مروحة على النهجين الأساسيين في المنطقة وفي العالم على حد سواء.
النهج الفكري التكفيري الخارج من المملكة العربية السعودية بوصف التنظيمات التكفيرية هي حالة عملانية عنفية للتصور المملكي، مما يؤدي إلى اتخاذ موقف جذري على مستوى باقي دول المنطقة، لأنها ترى نفسها على حافة الأزمة الأمنية.
والنهج الفكري الأمريكي الذي يسعى إلى بناء تصور إسلامي ليبرالي من جهة ضرب مجمل ” التمثلات الفكرية الإسلامية ” الممانعة، فيتخذ من الخط التكفيري آلية لتصريف هكذا مشروع.
فتدبير الأزمة الخانقة الآن في الشرق الأوسط تتحرك على ثلاث سرعات:
السرعة الأولى، تتمثل في تقديم المشورة الاستراتيجية لضرب التنظيمات الإرهابية في كل من الجغرافيا العراقية والسورية دون تدخل مباشر فعال، لخنق ” تهديد الأزمة الطائفية “.
السرعة الثانية، تتمثل في توصيف أن السياسات الإقليمية لبعض الدول هو عامل احتقان ليس إقليميا وحسب، بل وأيضا عالميا، مما يحول التهديد الإقليمي إلى تهديد عالمي يستلزم دورا أكبر للقوى الكبرى.
السرعة الثالثة، تتمثل في إبانة أن المنظومة الفكرية الإسلامية كبنية هوياتية للجمهورية الإسلامية كفيلة للتعايش العولمي وفق قاعدتي الندية والاحترام المتبادل، خصوصا بعد صعود معامل ” الاعتماد المتبادل ” في الحوكمة العالمية.
وهي أهم ميكانيزما إقليمية تكفل للجمهورية الإسلامية تدوير الأزمات دون المساس بالدور الذي تبحث عنه في العالم العربي، فطبيعة سياستها الخارجية على المستوى الإقليمي هي ذات جنبة عملانية، بأقل كلفة هوياتية ممكنة.
The nature of Iranian foreign policy towards Iraq and Syria has been pragmatic and in accordance with geopolitical and political-cultural realities of the region especially after the 2003 Iraqi crisis. As long as the U.S. war policy continues, there will be more focus on stronger alliance in the region. In addition, Iran’s foreign policy will insist on a stronger regional presence in accordance with Iran’s larger economic, cultural, and political power. The events that followed 9/11, such as regional crises in Iraq and Afghanistan and the battle against global terrorism have made Iran more significant. In fact, because of the shifting nature of power and politics in the region, Iran is becoming the connecting point of the Middle East security and global politics. Under these circumstances, like any other regional
player, Iran seeks to enhance its security and create opportunities to proactively shape international political realities according to its national interests. ( [12] )
مما يقف حائط صد أمام المشروع الطائفي الذي يتم الاشتغال عليه، لدفعها إلى سياسة انعزالية.
وهو جهد سيمورغي بامتياز.
[1] – دون أن نغفل على أن التوتير قد يكون بفعل خارجي يتوافق مع سقف المصلحة المتعينة لدى كل قوة دولية على حدة، لكنه في جميع الأحوال يظل التوتر بها مؤرقا للجسم العالمي.
[2] – هذه الخلاصة أخذناها من وثائقي ” قطع رؤوس الهيدرا ” الذي أنتجته وعرضته قناة الميادين، فنحن لم نظفر بالترجمة العربية لهذا البحث المحرر باللغة العبرية بالأساس، وللأمانة العلمية أول من استعمل ميثولوجيا الهيدرا في مواجهة خصم متعدد الرؤوس هو الباحث الأمريكي كونراد كران سنة 2002، أستاذ التأريخ سابقا لدى الأكاديمية العسكرية الأمريكية.
FACING THE HYDRA: MAINTAINING STRATEGIC BALANCE WHILE PURSUING A GLOBAL WAR AGAINST TERRORISM
[3] – في الأسطورة اليونانية كلب الكيبربيروس هو أخ شقيق للهيدرا، فكلاهما من دم واحد، وقد تغلب عليه هيراقليطس – والذي قتل الهيدرا – بدون استعمال السلاح بل فقط بالحيلة والشجاعة، وبعد أن أتى به إلى هاديس طلب منه الأخير إرجاعه إلى الجحيم، ومن لعاب هذا الكلب والذي كان مادة سامة، تحول منتوجه اللعابي إلى مادة سحرية مهمة جدا.
[4] – Robert d Kaplan : la revanche de la géographie – ce que les cartes nous disent sur les conflits a venir, éditions du Toucan, 2014, « La mondialisation elle-même a engendre de nombreuses résurgences régionalistes, souvent fondées sur une conscience religieuse ou ethnique ancrée dans un cadre spécifique », p 79.
[5] ـ المسمى عبد الله بن محمد: المذكرة الاستراتيجية، ضمن سلسلة الجمع القيم، عن مؤسسة المأسدة الإعلامية، الصفحة 13 و 14. ( كتاب بصيغة بي.دي. إف )
[6] – المسمى عبد الله بن محمد: ن.م الصفحة 21.
[7] – المسمى عبد الله بن محمد: ن.م الصفحة 24 و 25.
[8] – كلمة سماحة السيد القائد في المؤتمر العالمي للتيارات التكفيرية من وجهة نظر علماء الإسلام، المنعقد بقم بتأريخ 23 و 24 نونبر 2014.
[9] – Michael Walzer : guerres justes et injustes argumentations éthiques avec des illustrations historiques édition Gallimard, folio essai, pp 50 et suivant.
[10] – Michel Foucault : a quoi rêvent les iraniens P 294. in DITS ET ECRITS tome 2 QUARTO GALLIMARD éditions 2001.
[11] – Michel Foucault : a quoi rêvent les iraniens p 294.
[12] – Kayhan Bargezar : Iran Foreign Policy Towards Iraq And Syria, Turkish Policy Quarterly, Volume 6 Number 2, p 84.