web analytics
دراسات وأبحاث

أنتروستراتيجيا الحوار الوطني في لبنان

“ألمسار التكاملي للحوار الوطني اللبناني في المقترب المنظومي البرلماني”

د. عباس مزهر

(مؤسّس علم الأنتروستراتيجيا الدولية)

صدرت في مركز الدراسات والمعلومات في المجلس النيابي اللبناني

الحياة النيابية / المجلّد السادس والتسعون / عدد أيلول 2015

ألفهرس

* ألمقدمة

* ألمبحث ألأول: أنتروستراتيجيا الحوار الوطني في لبنان

– ألمطلب الأول: مفاهيم وتعريف الحوار – خصوصية الحوار الوطني

– ألمطلب الثاني: المسار التكاملي للحوار الوطني اللبناني

– ألمطلب الثالث: إشكالية الحوار الوطني اللبناني منذ العام (2005)
(قراءة أنتروستراتيجية للأزمة الوطنية)

* ألمبحث الثاني: الحوار الوطني في المُقترب المنظومي البرلماني

– ألمطلب الأول: الحوار الوطني بين دستور الدولة ودستورانية الوطن

– ألمطلب الثاني: الحوار الوطني آلية ضابطة بين البرلمان والمجتمع المدني

– ألمطلب الثالث: ألبرلمانية الإعلامية والحوار الوطني

* ألمراجع والمصادر

المقدمة

     “يستحقّ الحوار أن يكون بداية الكلام اليوم، وكما في كلّ يوم فهو قدرنا، نمارسه بدءاً من منازلنا مروراً بمسارات حياتنا اليومية وصولاً إلى نظامنا السياسي… نعم، إنّ الحوار هو بداية الكلام ونهايته. إنّه قدرنا في لبنان، فهل نتعامل مع قدرنا بما نستحقّ ويستحقّ؟”[1]

     تشكّل كلمة دولة الرئيس “نبيه بري” في “بداية الكلام: حوار”[2] حول الحوار الوطني اللبناني الأساس الإرتكازي والمنطلق المفاهيمي لهذه الدراسة، فهو رئيس المجلس النيابي الذي يجمع الأطراف الوطنية على الحوار، وهو صاحب الفكرة والدعوة والرعاية، حيث أرسى في كلمته العناصر الرئيسية لمفهوم الحوار الوطني: طبيعته وظروفه وشروط نجاحه وتاريخيته وآلياته وأهميته وأهدافه وأبعاده ودلالاته… فإذا كان الحوار “بداية الكلام”، لا بدّ أن يكون أيضاً بداية البحث والتدارس والاطلاع والاهتمام لكلّ المواطنين. وإذا كان الحوار “قدرنا في لبنان”، فلا بدّ للشعب اللبناني أن يصنع قدره.

     فالحوار هو أوثق تجلّيات التواصل الإنساني والتلاقي الوطني والتفاهم السياسي في لبنان، وهو ضمانة للسلم الأهلي وضرورة للعيش المشترك. وهو طريق العبور من كيانات الطائفية والمحازبة إلى دولة الرسالة الوطنية، حيث يتحوّل إلى آلية ضبط وطني وأمني وإجتماعي. ولكي يترسّخ الحوار الوطني كنموذج مفهومي عند اللبنانيين، لا بدّ أنْ يتحوّل إلى ثقافة وسلوك عند الشعب اللبناني بمختلف أطيافه وجماعاته وأفراده: من سياسيين إلى رجال دين إلى باحثين وإعلاميّين ونقابيّين ومهنيّين وعمّال ومعلّمين وطلّاب… أي أنْ يتمّ إدراك وإدخال ثقافة الحوار في الوعي الوطني الجماعي، وبالتالي دمج هذه الثقافة واستيعابها في الشخصية الوطنية للبنانيين مما يكفل سلامة السلوك الوطني التكيّفي.

ألمبحث الأول: أنتروستراتيجيا الحوار الوطني في لبنان

     عندما نتعامل مع موضوع الحوار كآلية علائقية تواصلية، لا يمكننا التعمّق فيه إذا درسناه بشكل آنيّ ظرفي، أي بأسلوب انقطاعي يهتمّ بمرحلة معيّنة منقطعة عن المراحل السابقة امتدادياً (الممتدة إلى الماضي) وعن المراحل اللاحقة استشرافياً (الممتدّة إلى المستقبل). لذلك يجب أنْ ندرس موضوع الحوار بأسلوب مساري تراكمي ترابطي وتبادلي، دون الانقطاع في سياقه الزمني، كما ينبغي أن نولي اهتماماً بحثياً للإطار المكاني الذي يتمّ فيه هذا الحوار، أضف إلى ذلك فهم الظروف والأهداف والوظائف والآليات التي يتمّ بها.

     بالنسبة إلى السياق الزمني للحوار الوطني اللبناني، فالمقصود به تاريخية الحوار في لبنان. أما المكان فهو هنا الجغرافيا اللبنانية، أي الوطن، وتحديداً المجلس النيابي اللبناني. في حين تشكّل ظروف ووظائف وغايات وآليات الحوار الوطني عنصر الدينامية (أي آلية الحوار ووظيفته). وهذه الأبعاد الثلاثة: الزمان، المكان، والدينامية، تؤلّف معاً الأساسَين العلمي والعملي لأنتروستراتيجيا الحوار الوطني في لبنان. فالتدخّل الأنتروستراتيجي في كل المسائل يجب أن يستند إلى هذا الثالوث البُعدي النُظمي: الزمان، المكان، والدينامية. فالأنتروستراتيجيا كما عرّفتُها في دراساتي السابقة هي: “علم التخطيط التكاملي الشامل النسقي النُظمي، القائم على مسار ترابطي اعتمادي منغرس في المكان (الجغرافيا) وصائر في الزمان (التاريخ والحاضر والمستقبل) ومحكوم بالبُعد البنيوي الوظيفي الفكري النفسي والاجتماعي والسياسي (الدينامية)”.[3]

     ولا بدّ أن يكون هذا الالتماس الأنتروستراتيجي للحوار الوطني مستدخِلاً الملاحظة والتحليل والفهم والتأويل والابتكار، وذلك لإدراك تفاصيل إشكالية الحوار وتوصيفها وتصنيفها وإيجاد الحلول المناسبة لها، والتحقّق من كفاياتها ونتائجها، ثم وضع برنامج منهجي يكون بمثابة خارطة استكمالية لها، وبعدها فتح آفاق دلالية ذات طبيعة استباقية لتوقّع المشكلات التي يمكن أن تعيق الحوار الوطني، حيث نتجنّب حصولها بإزلة مسبّباتها، وانتهاءً بالتوصّل إلى حدْس وطني يقوم على التنبّؤ العلمي بالنتائج والمترتّبات.

ألمطلب الأول: مفاهيم وتعريف الحوار- خصوصيّة الحوار اللبناني

     ظهر الحوار في هذا العالم منذ وجود الإنسان على وجه الأرض، فبدأ بطريقة إيمائية إشارية وهمهمات صوتية تؤمّن التواصل للبشر الابتدائيين فيما بينهم، وتكرّس قوانينهم (أعرافهم) الأولية. ثم اخترع الإنسان اللغة لتكون وسيلة الحوار مع بني جنسه، فنشأت الحضارات وتطوّرت مع تطوّر المجتمعات واللغات وتعدّدها، وذلك بفضل حاجة الإنسان إلى التواصل والتحاور. وهكذا فإنّ الحوار كان أسبق عند الإنسان من اللغة والحضارة والقانون، ولولا هذه السمة الحوارية التواصلية عند الإنسان لما أمكن جنسنا البشري أنْ يتقدّم هذا التقدّم الهائل من عصر الغابة إلى عصر التكنولوجيا، ومن عصر الإيماء والهمهمة في الكهوف إلى عصر التواصل عبر القارات والحوار بين الحضارات.

     إذن، الحوار سمة طبيعية في أصل وجود الإنسان والطبيعة، “فالموضوعات العلمية هي من الطبيعة وفي الطبيعة ومرتبطة بوجود الإنسان الذي هو أساس وجود العلم… وهذه الموضوعات على نحوين: إمّا وجود مادي وإمّا وجود معنوي. ووجودهما كالبناء المتماسك، لا يقبل التجزئة والتفكيك.”[4] من هنا فإنّ التواصل الحواري هو من أصالة الطبيعة، التي “تمثّل منشأ فكر الإنسان في مختلف عصوره.”[5] وهذا الاتجاه الحواري المتأصّل في طبيعة الإنسان هو أساس العقد الإجتماعي والقانون، باعتبار “أنّ القوانين الحاكمة في المجتمع هي قوانين تعاقدية بين الناس، وإنّ نوع تلك القوانين يكون سبباً لإيجاد الحضارة. حيث يعتقد (جان جاك روسو) بالعقد الإجتماعي، وأنّ هذا العقد هو العلة الأساسية لجميع الأمور.”[6] فلا يمكن أنْ ينشأ أيّ عقد أو قانون من دون مروره بعملية حوار توافقية، ليتمّ تثبيته كتشريع محدّد في مجتمع ما أو مؤسسة معيّنة. وهذا ما يجيز لنا أنْ نجعل الحوار أساساً لكل عقد وطني أو قانون، مشفوعاً بأصالة الطبيعة الوطنية.

     صحيحٌ أنّ الحوار قد بدأ بوجود الإنسان على الأرض بشكله الإيمائي الإشاري إلى أنْ تطوّر وأصبح علماً قائماً بذاته في عصرنا الراهن، لكنّه شرع يتّخذ مفهومه الإصطلاحي مع اليونانيين، حيث “كان لدى اليونان نوع من التمثيل التقليدي الصامت يحبّه الجمهور، وقد كان المنشأ الأول لمفهوم الحوار. وكان (أفلاطون) أوّل مَن استعمل الحوار فنّاً ينقل فكرة الكتابة، ومنه انتقل إلى المسرح”.[7] ثمّ أخذ مفهوم الحوار يتبلور في كتابات الفلاسفة والعلماء بمختلف انتماءاتهم القومية والعقائدية، كما حرصت الأديان على أهمية الحوار ووضعت له قواعد تستند إلى الأخلاق والشفافية وحسن النية، إلى أنْ أصبح الحوار اليوم حقلاً معرفياً متكاملاً ذا ميادين متعدّدة وأنواع مختلفة ومهارات مبتكرة.

     الحوار لغوياً مشتّقٌ من الفعل الثلاثي الأجوف (حَوَرَ)، وهي كلمة لها “معانٍ متعدّدة تبعاً لتفعيلاتها الصرفية، فقد جاء أنّ (الحَوْر): الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، ويُقال (حار) إلى الشيء وعنه حَوْراً. و(التحاور) هو التجاوب، و(يتحاورون) أي يتراجعون الكلام، و(المُحاورة) هي مراجعة المنطق في المخاطبة، والمَحُورة من المُحاورة مصدر كالمَشُورة من المُشاورة”.[8]

     أمّا الحوار اصطلاحاً فهو “نشاط عقلي ولفظي، يقدّم خلاله المتحاورون الأدلة والحجج والبراهين التي تبرّر وجهات نظرهم بحريّة تامة، من أجل الوصول إلى حلّ لمشكلة معيّنة أو توضيح لقضية ما”.[9]

     أمّا في المفهوم الوطني فالحوار “توصيل رسالة إلى الآخر (فرد، أو جماعة)، وهو الحركة التي توصل إلى المعرفة السياسية والوطنية، انطلاقاً من الرغبة أو القناعة. ففي الفلسفة الوطنية والسياسية المعاصرة، تقوم الديمقراطية الصحيحة على حوار الأنا – الآخر، حيث يتكوّن الفكر السياسي في إطار الحوار الداخلي الحيوي، وفي النطاق الإجتماعي للذاكرة والمعرفة”.[10]

     وبما أنّ لبنان يتميّز بفرادة خاصة – من حيث تركيبته البُنيوية المؤلّفة من طوائف ومذاهب متعدّدة، ومن منظومات سياسية مختلفة الآراء والتوجّهات – ينبغي أنْ نضع تعريفاً خاصاً بالحوار الوطني اللبناني الحالي (2015). إنّه تلاقي القوى الوطنية اللبنانية بوجهها السياسي تحت القبة البرلمانية، للتباحث في الملفّات المحلية والدولية العالقة. وهو يتّخذ شكل التبليغ والتوصيل واستعراض وجهات النظر، ثمّ المناقشة وتداول الآراء على أساس تفهّم كلّ طرف لأفكار ومفاهيم الطرف الآخر، وذلك تمهيداً لبلورة حوار مستمرّ وجدّي ومُجدي. أي إنّه حوار على الحوار، أو حوار من أجل الحوار. حيث يمكننا وصفه بأنّه مرحلة تدارسية تأسيسية ومؤقّتة لحوار توافقي لاحق ودائم. ويتجلّى الهدف من هذا الحوار الراهن في تنفيس الاحتقان وتخفيف حدّة التشنّج في المجتمع اللبناني، وكذلك في وضع برنامج توافقي حول الملفّات الخلافية لتحصين النّسَق الوطني فيالحيّز المحلّي الداخلي وتدبير مكانة ودور لبنان في الحيّز الدولي الخارجي.

ألمطلب الثاني: المسار التكاملي للحوار الوطني اللبناني

     إذا تتبّعنا المسار التاريخي لمفهوم الحوار الوطني في لبنان سينتهي بنا الامتداد الماضوي إلى أهمّ محطة في تاريخ لبنان، ألا وهي مرحلة نشوء الدولة اللبنانية واستقلالها. فتكوين الدولة اللبنانية قام أساساً على الحوار، الذي أحدث معجزة وطنية أدّت إلى ولادة وتمايز لبنان ككيان وطني قائم بذاته وبالتالي كدولة مستقلة. فالصيغة التي وضعها آباء الاستقلال منذ العام 1930 هي نتاج حوار وطني مبدئي، يشكّل النواة الأولى للحوار الوطني. وقد تحوّلت هذه الصيغة في العام 1943 إلى الميثاق الوطني اللبناني، الذي كرّس معادلة صعبة وعميقة هي: تنازل المسلمين عن مطلب الانضمام إلى الداخل السوري العربي، تخلّي المسيحيين عن مطلب حماية فرنسا لهم. وقد نتج عن هذه المعادلة خوفٌ متبادلٌ بين المكوّنات اللبنانية على مصيرها، خاصة المسيحيين. لذلك فإنّ “آباء الاستقلال أدركوا ذلك في ميثاق 1943. إنّ عبارة طمأنة المسيحيين وطمأنة اللبنانيين… على لسان كاظم الصلح ورياض الصلح… لم تكن مجرّد بلاغة كلامية. إنّها ترد بأشكال مختلفة في وثائق 1943”.[11] لذلك كان نجاح هذه المعادلة المعقّدة أساساً لتشكيل الوطن اللبناني، وما كانت هذه المعادلة لتتحقّق لولا فعل الحوار الواسع والدقيق الذي قام به آباء الحوار الوطني اللبناني. وقد أدّى هذا الحوار إلى إعلان بيان حول استقلال لبنان التام في 21 أيلول من العام 1943، بحيث تحوّل مشروع تعديل الدستور إلى المجلس النيابي. تسبّب هذا الأمر بغضب المفوّض السامي الفرنسي الذي علّق الدستور وأرسل ضباطه وجنوده لاعتقال: بشارة الخوري، رياض الصلح، عادل عسيران، كميل شمعون، عبد الحميد كرامة، وسليم تقلا، حيث تمّ احتجازهم في قلعة راشيا. فاجتمع آنذاك رئيس مجلس النواب صبري حمادة ووزير الدفاع الوطني مجيد إرسلان والوزير حبيب أبو شهلا في قرية بشامون، وذلك في جلسة حوار مصيري أفضت إلى رفع علم لبنان بشكله الحالي، والتمسّك باستقلال الوطن. فانطلق مفهوم النضال اللبناني من أصالة الحوار الوطني، الذي أدّى إلى استقلال لبنان نهائياً في 22 تشرين الثاني 1943. إذن، إنّ أساس نشأة لبنان واستقلاله كان نتيجة الحوار الوطني الجادّ بين رجال الاستقلال، الذين كانوا بحق آباء الحوار الوطني، الذين سطّروا أوّل محطة حوارية مصيرية وطنية في لبنان.

     تتجلّى المحطة الحوارية المصيرية الثانية في لبنان باتفاق الطائف، الذي جاء بعد الحرب الأهلية اللبنانية. حيث حضر إلى المملكة العربية السعودية 62 نائباً لبنانياً من أصل 73 في 21 أيلول 1989، وخرجوا بنص يحتوي على أربع مواد رئيسية: المبادىء العامة والإصلاحات، بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، والعلاقات اللبنانية السورية. وقد تمّ “مصادقة وثيقة الوفاق الوطني لاتفاق الطائف، في جلسة مجلس النواب اللبناني بتاريخ 5/11/1989”.[12] هذه الوثيقة إذاً، كانت نتيجة التلاقي والحوار بين مختلف الأطراف اللبنانية. والحقيقة تُقال: بمعزل عن التدخلات الخارجية في الحرب الأهلية اللبنانية، فإنّ هذه الحرب قد اشتدّت نتيجة غياب الحوار الوطني بين اللبنانيين، فانقطاع الحوار يؤدّي إلى التباعد والتضارب والاحتقان والانفجار، واشتداد الأزمات والمشكلات. ولكن بعد وصول الأطراف المتصارعين إلى قناعة التلاقي والحوار، توصّلوا إلى حسر أزمة الحرب وإطفائها والعمل معاً على بناء الوطن.حيث أدّى الحوار في وثيقة الوفاق الوطني التي خرج بها اتفاق الطائف إلى إقرار “هوية لبنان” التي كانت موضع اختلاف في إبان الحرب، وتغييرات في النظام السياسي وتوزيع السلطة فيه الذي دارت حوله سابقًا نزاعات أيضًا، وعدد من الإصلاحات كان القصد منها إرساء بنية إدارية – إجتماعية – إقتصادية، تقوم عليها دولة ما بعد الطائف (ذات الهوية والنظام السياسي الجديدين) وتعالج أمورًا كان هناك جدال حولها في فترة إرهاصات الحرب. وقد شملت هذه الإصلاحات ستة قطاعات: الإدارة (اللامركزية الإدارية)، القضاء (المحاكم)، قانون الانتخابات النيابية، إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي للتنمية، التربية والتعليم، الإعلام.

     لكنّ أول حوار وطني ذو طبيعة برلمانية يُصنع لبنان، هو الحوار الذي دعا إليه دولة رئيس المجلس النيابي اللبناني الأستاذ “نبيه برّي” في شهر كانون الأول من العام 2006، وقد حدّد في مبادرته الحوارية ثلاثة نقاط، هي: “كشف الحقيقة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والاغتيالات الأخرى، القرار الدولي 1559 وملحقاته أي ترسيم الحدود، والاتفاق على ماهية سلاح المقاومة والعلاقة مع سوريا.”[13] وقد انعقد مؤتمر الحوار الوطني في أول جلسة له بتاريخ 20 أذار 2006 في مجلس النواب حول طاولة مستديرة، جمعت قيادات الأحزاب اللبنانية والكتل الممثّلة في مجلس النواب. وقد اتفق المؤتمرون في لقائهم الحواري الأول على أنْ يكون دولة الرئيس “نبيه برّي” مديراً لجلسات الحوار ومتحدّثاً باسمه. ومن أبرز نتائجه التوافق على عدّة مواضيع حسّاسة منها: الموضوع الفلسطيني، موضوع العلاقات اللبنانية السورية، وموضوع لبنانية مزارع شبعا. استمرّ هذا الحوار أربعة أشهر، ثمّ توقفت جلساته بسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان في تمّوز 2006.

     أمّا المحطة الرابعة للحوار الوطني في التاريخ اللبناني، فقد تبلورت في اتفاق الدوحة، بعد أنْ بلغ الانقسام الداخلي في الساحة اللبنانية حدّاً خطيراً، نجم عنه انقسام البنية اللبنانية إلى موالاة ومعارضة، وبالتالي استقالة وزراء المعارضة من الحكومة اللبنانية، وانفجار الأوضاع بصورة عنيفة في السابع من آيار عام 2008. “واستناداً إلى المبادرة العربية بشأن احتواء الأزمة اللبنانية، وتنفيذاً للاتفاق الذي تمّ ما بين الأطراف اللبنانيين برعاية اللجنة الوزارية العربية في بيروت بتاريخ 15/5/2008 والذي هو جزء لا يتجزّأ من هذا الإعلان، انعقد مؤتمر الحوار الوطني اللبناني في الدوحة برعاية سموّ أمير دولة قطر، خلال الفترة من 16 إلى 21/5/2008، بمشاركة القيادات السياسية اللبنانية أعضاء مؤتمر الحوار الوطني.”[14] حيث ركّزوا على: ضرورة إنقاذ لبنان، والخروج من الأزمة السياسية الراهنة وتداعياتها الخطيرة على صيغة العيش المشترك والسلم الأهلي بين اللبنانيين، والتزامهم مبادئ الدستور اللبناني واتفاق الطائف. وصيغت هذه النتائج من انتهاء مفهوم لا غالب ولا مغلوب، وظهور مفهوم الغالب والمغلوب: “الغالب هو لبنان، والمغلوب هي الفتنة.”[15] وهكذا أدّى الحوار الوطني اللبناني في الدوحة إلى إنهاء مرحلة كانت تنذر بالكارثة الوجودية الوطنية على لبنان، والتأسيس لمرحلة الثقافة الميثاقية المواطنية.

     يتمثّل الحوار الوطني اللبناني اليوم في تلاقي حزب الله وتيار المستقبل على طاولة التباحث حول القضايا المصيرية المتعلّقة بلبنان، وقد تمّ بدعوة من رئيس المجلس النيابي الأستاذ “نبيه برّي”، وبرعايته أيضاً في مقرّ الرئاسة الثانية في “عين التينة”. وقد تحقّق الاجتماع الأول بين الفريقين في23 كانون الأول 2014، وذلك بحضور ممثّلين عن الطرفين على مستوى نيابي ووزاري، وبحضور رئيس المجلس الذي “عرض مخاطر المرحلة التي تمرّ بها المنطقة ولبنان، والتي تستوجب الانتباه والمسؤولية في مقاربة القضايا المطروحة، والحاجة إلى مساهمة كل القوى في تحصين وصيانة العلاقات الداخلية وتنقيتها، بهدف حماية لبنان واستقراره وسلمه الأهلي، والحفاظ على وحدة الموقف في مواجهة الأخطار، لا سيما في ظلّ التصعيد المتمادي على مستوى المنطقة نحو تسعير الخطاب الطائفي والمذهبي.”[16] وبعد عدّة جلسات اتفق المتحاورون على “أنّ هذه اللقاءات تهدف إلى تشكيل اصطفاف سياسي جديد على الساحة الداخلية، وليست في مواجهة أحد أو للمصادرة والضغط على موقف أيّ من القوى السياسية في الاستحقاقات الدستورية، بل هي من العوامل المساعدة لاتفاق اللبنانيين مع بعضهم البعض، وتنفيس الاحتقان المذهبي، ودعم استكمال الخطة الأمنية، وحماية القرارات الوطنية التي تحصّن الساحة الداخلية، ودعم الجيش والقوى الأمنية في مواجهة الإرهاب، ووقف ظاهرة إطلاق النار في لبنان.”[17] ولا يزال هذا الحوار مستمراً حتى الوقت الراهن، رغم تعقيدات الأحداث والظروف المحلّية والإقليمية. وهنا تكمن أهميته، حيث ظلّ نائياً عن التأثيرات السلبية لزخم المجريات الخطيرة المحيطة بلبنان والمنطقة، وهذا ما يجعل منه حواراً جدّياً مؤسِّساً لمرحلة هامة في لبنان، تتبنّى التلاقي والحوار والتفاهم نسقاً كليّاً عاماً لحلّ المآزم والإشكالات الوطنية.

     إذن، هناك مسار تاريخي طويل من محطّات الحوار الوطني في لبنان، وهذا المسار يجب تثبيته كفاعلة من فاعلات الاقتدار الوطني، الهادف إلى إخراج لبنان من مشاكله وأزماته، واجتراح الحلول التوافقية للمشكلات الخلافية. هذا وحده ما يكفل للبنان الانتقال من دولة الخصام الوطني إلى دولة الحوار الوطني.

ألمطلب الثالث: إشكاليّة الحوار الوطني اللبناني منذ العام 2005
(قراءة أنتروستراتيجية للأزمة الوطنية)

     شكّلت جريمة اغتيال الرئيس “رفيق حريري” في 14 شباط 2005 منعطفاً خطيراً في المسار الوطني اللبناني، حيث تدخل في إطار آلية الصدمة، وهي حالة حدث فجائي سبّبت الفوضى في أنساق المجتمع اللبناني، لأنّ الصدمة تؤدّي إلى تفجير البُنى والنُّظم الاجتماعية والسياسية التي تقوم عليها الدولة. فالصدمة لا يمكن تجاوزها بسهولة، ولا يمكن كبْتُها أو خنقُها وإطفاؤها بيُسر.

   “Le traumatisme ne connaît pas le refoulement. Oui, rien n’a été oublié. Tout est là, obsédant et lancinant. L’assassinat de Rafic Hariri a réactualisé tout ce qui était là, à la portée de notre conscience, que nous n’avons jamais pu oublier, pris que nous étions dans une repetition de traumas inexpliqués.”[18]                                                  

     كلّ ما هو موجود يتكوّن من نظُم وأنساق، بدايةً من الكون الهائل وصولاً إلى أصغر أجزاء المادة، وهذه حقيقة علمية لا تحتمل اللبس ولا التشكيك. وقد أثبتَ علم الإجتماع الحديث والأنتروبولوجيا النسقية أنّ المجتمعات البشرية تتكوّن من أنساق نفسية واجتماعية، تشكّل البنية النفسية-الاجمتاعية لكل شعب ودولة. لذلك، فإنّ أيّة صدمة هلعية تتفجّر داخل مجتمع ما سوف تغيّر أنساقه كلها، وتخلق أنساقاً جديدة ومكاناً وزماناً جديدين، وديناميات علائقية جديدة داخل النظُم المتشكّلة. وحسب طبيعة ومسار ووجهة الصدمة تتحدّد نتائجها. فالمجتمع بناءٌ كلّي قائم على أنساق ونظُم تفاعلية ترابطية إعتمادية، وكذلك الدولة هي منظومة تكاملية متوازنة تحتوي أكثر الأنساق النفسية والاجتماعية والسياسية وضوحاً. ذلك أنّها نسق إجتماعي وسياسي يقوم على الاعتمادية المتبادلة بين أعضائها، كما إنّ مؤسسات الدولة أنساق فرعية تتضافر لأداء الوظيفة الأساسية للنسق العام الذي يؤمّن وجودها.

   ولكي يتم تغيير أنساق أيّ مجتمع أو أيّة دولة والتحكّم بنُظمتها المسارية، لا بدّ من إحداث صدمة في هذا المسار، أي عملية تفجير استباقي تؤدّي إلى فوضى نسقية في بنية الدولة وأسسها الترابطية العلائقية، وكذلك توليد زمن جديد وواقع مستجدّ. لذلك كانت واقعة اغتيال الرئيس “الحريري” صدمة هلعية شديدة في مسار الدولة والمجتمع أدّت إلى تغييره وحَرْف وجهته، باعتبار التفجير الصدمي حالة فجائية غير اعتيادية في النسق، تؤدي إلى انقطاع مساره وانهياره ونشوء أنساق أخرى مكانه. وهذا ما حدث في بنية المجتمع والدولة اللبنانية، بعد الحادث الصدمي المتمثّل بذلك الاغتيال، ضمن سياق لعبة “الصدمة” واستراتيجية “الانفجار”. فالتفجير الاستباقي استراتيجية خطيرة من شأنها أن تُحدث تغييراً في البُنى والأنساق، وتؤدّي إلى خلق نُظُمات جديدة في الكيان المستهدف بالتفجير الصدمي، كما تُؤدّي إلى إيجاد زمن جديد (تغيير المراحل) ومكان جديد (تغيير الخرائط). إنها استراتيجية التدخّل في التاريخ والجغرافيا معاً، وكذلك في بنية المجتمع ونظامه السياسي وأنساقه الجزئية التحتية وأنساقه الكلّية العامة. وبالفعل هذا ما حدث في لبنان، فبعد التفجير الاستباقي باغتيال الرئيس “الحريري”، تغيّرت الأنساق الداخلية في البنية الاجتماعية والسياسية في لبنان، مما تسبّب في انقسامه بين موالاة ومعارضة، ثم إنتاج منظومة 14 آذار ومنظومة 8 آذار. ليست التسميات مهمة، بل المهم أنّه حدثت انقسامات واصطفافات جديدة وتبدّلت الأنساق السابقة التي كان يقوم عليها الوطن، مما أدى بالضرورة إلى اختلاف الأطراف والقوى اللبنانيين على مفهوم الوطن فضلاً عن اختلافهم على مفهوم الدولة. كما تشكّلت مرحلة زمنية جديدة منقطعة تماماً عن السياق الاعتيادي الزمني لتتابع المراحل في لبنان، وحدث التغيير الجغرافي بانسحاب الجيش السوري من لبنان كنتيجة حتمية لملفّ اغتيال “الحريري”، لكنّ التغيير الجغرافي لم يبدُ أنّه سيكتمل مما استدعى تفجيراً استباقياً يتكامل مع التفجير الأول فكانت حرب تمّوز 2006، التي جاءت كآلية استكمالية لفرض جغرافيا جديدة بالقوة، أو إيديوغرافيا جديدة بتعبير أدقّ. (الإيديوغرافيا هي التوزيع السكاني على أساس عقائدي طائفي) وهذا ما يدلّ بوضوح على وقوف العدو الرئيسي للبنان، أي الكيان الإسرائلي، وراء ما يحدث من فتن ومشكلات في الوطن.

     وهكذا انضرب مفهوم الحوار الوطني اللبناني في أهمّ حيّز له، وهو ما أسميه الزمن الوطني، الذي تنحصر فيه ثوابت التاريخ والحاضر والمتسقبل، وحتى آليات العمل السياسي. ذلك أنّ “la politique, tout comme l’histoire, s’inscrit dans la durée. La primarité du temperament favorise des approaches (ici et maintenant) incompatibles avec l’historicité de tout fait politique, même mineur.”[19]    

كما حدثت حالة من الاغتراب الوطني في العمل السياسي، وطغت اللاعقلانية السلوكية على العقلانية الوطنية. “En politique, il ya toujours une part d’aliénation, au sens marxiste.”[20]                              

فالصدمات المتتالية في المسار الوطني اللبناني، المناخ الطائفي المتقلّب، والتلاعب بالغرائز والشحن المذهبي، كلّها أمور أدّت إلى تشويه الوعي والعقل السياسيَّين في لبنان. “L’inaptitude à la vision synthétique et totalisante est à l’origine de plusieurs opérations militaires en 1975-1990, comme les 7-8 mai 2008, dans telle ou telle localité.”[21]  

        أضف إلى ذلك الخلافات الوطنية العميقة بين الأطراف اللبنانيين على قضايا هامة: كسلاح المقاومة، والعلاقة مع سوريا، والملفّ الفلسطيني، وإشكالية ما يُسمّى بالربيع العربي، وكذلك المجريات الإقليمية والدولية… هذه الموضوعات الخلافية لا بدّ من معالجتها بالحوار الوطني القائم على إرادة حلّ الأزمات، لا تسعيرها وتأجيجها. ولكي ينجح الحوار ينبغي أنْ يتحلّى بالروح الوطنية والتفهّم والتفاهم، والأهمّ حُسن النية الوطنية.

ألمبحث الثاني: الحوار الوطني اللبنانيفي المُقترب المنظومي البرلماني

     إنّ الحوار الدائر اليوم بين حزب الله وتيّار المستقبل يجري تحت القبة البرلمانية، وتحديداً في مقر رئاسة المجلس النيابي وبرعاية رئيسه، وهذا له دلالات وطنية وسياسية هامّة في المقترب المنظومي البرلماني. فالنظام اللبناني نظامٌ برلماني توافقي منبثق من مفهوم العيش المشترك بين مكوّنات المجتمع اللبناني، وهكذا يكون الحوار الوطني قد اتّخذ وجهته الصحيحة انطلاقاً من الإرادة الوطنية والسياسية. بمعنى أنّ هذا الحوار هو شكل من أشكال الاقتدار الوطني في لبنان، لأنّ مكانه ودواعيه ودوافعه وظروفه وأطرافه ومواضيعه ورعايته… كلّها لبنانية. وعندما يكون البرلمان حاضن الحوار الوطني بروحيّته التشريعية، فهذا قد يكون مؤشراً على جعل الحوار يرتقي إلى مستوى القانون.

     تعود نشأة النظام البرلماني للمرّة الأولى إلى أواخر القرن الثامن عشر في “بريطانيا”، ثم انتقل في بدايات القرن التاسع عشر إلى “فرنسا”، وتحديداً في العام 1814 ثم تبلور في العام 1840. ثم اعتمدته “هولندا” في نهايات القرن التاسع عشر، تبعتها “النرويج” و“الدنمارك” بين العامين 1900 و 1914، وقد عملت به “بلجيكا” عام 1931. وبعد الحرب العالمية الأولى انتشر النظام البرلماني في دول أوروبا الوسطى والجديدة التي نتجت عن معاهدة “فرساي”. لكنْ مع اندلاع الحرب العالمية الثانية سقطت هذه الأنظمة البرلمانية وعلى رأسها أول دولة برلمانية وهي فرنسا التي أرست قواعد النظام البرلماني منذ العام 1875، وأصبحت ضمن نطاق الجغرافيا الدكتاتورية للرايخ الألماني. وبعد سقوط ألمانيا النازية عادت الديمقراطيات البرلمانية إلى أوروبا، ثم انتشرت في العديد من دول العالم، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

     أمّا بالنسبة إلى لبنان، فإنّ النظام البرلماني يختلف في مضمونه عن الأنظمة البرلمانية الأوروبية من حيث بنيته وديناميّته المراعية للطوائف، فجاء نظاماً برلمانياً مشابهاً لتركيبة لبنان المذهبية. فالطوائف الدينية في لبنان لم تكن محصورة في الشعائر والممارسات العقائدية داخل المؤسسات الدينية، بل كانت كيانات اجتماعية – سياسية متجذّرة في الواقع اللبناني ولها امتدادات جغرافية خارج لبنان، وكذلك تتمتع بأبعاد تاريخية لا يمكن إغفالها، ولها قوّة وتأثيرات على الأرض يستحيل تجاوزها بسبب انتماء جماعات الشعب اللبناني إليها. “فبدا المجتمع اللبناني مكوّناً بشكل أساسي من طوائف دينية، على الرغم من وجود قوى اجتماعية وسياسية فيه عابرة للطوائف.”[22] لذلك كفل الدستور اللبناني هذه الثوابت، فلم يقتصر على الحقوق المدنية والسياسية، بل ضمن في مادته التاسعة حرية الاعتقاد واحترام نظام الأحوال الشخصية لكل الطوائف ومصالحها الدينية. لذلك “حاول الذين وضعوا الدستور اللبناني في العام 1926 التوفيق بين ما يتطلّبه الواقع اللبناني في بنيته المجتمعية الطوائفية، وبين المبادىء المعمول بها في الأنظمة الديمقراطية البرلمانية.”[23]

     إذن، البرلمان اللبناني هو وجه تشريعي قانوني لبنية وتركيبة المجتمع اللبناني، إنّه المرآة الدستورية التي تعكس الصورة الحقيقية للطبيعة التكوينية ونسيج الوطن. لذلك فإنّ “مجلس النواب اللبناني هو عنصر أساسي في الحياة السياسية، فالأقليات الطوائفية بحاجة إلى تمثيل جماعي لكي تستمرّ متّحدةً، أيّ منها لا يستطيع أنْ يهيمن دون أنْ يهدّد وجود الدولة. وإذا لم تجد العناصر المتنوّعة، المكوِّنة للبنان، نفسها في مجلس يمثّلها، يُخشى أنْ ينفرط عقدها، وهذا ما أدركه ممثلو الدول الأوروبية في العام 1860 و 1864…لقد أكّد تاريخ لبنان المعاصر أنه في كل مرة غاب فيها المجلس، وزال مبدأ التمثيل، حلّت السلطة الطائفية الصرفة مكان المجلس، وبرزت على المسرح مجالس الطوائف. فعندما لا يكون للطوائف ممثلين سياسيين، فإنه من الطبيعي أن يصبح رؤساء الطوائف الروحيين ممثلين لها. والقضية الطائفية، بدلاً من أن تذوب في الحياة الوطنية، تنفجر.”[24]

     عندما يحتضن البرلمان الحوار الوطني فإنّ ذلك يمنحه روحية تشريعية، وإنْ لم يكن الحوار بنداً تشريعياً في برنامج المجلس النيابي. لكنْ أنْ ترعى السلطة التشريعية الحوار الوطني فهذا يرفعه إلى مستوى القانون، قانون ذي صفة معنوية يعطي المبادىء الدستورية للدولة مرونة في التطبيق. ومن جهة ارتباط المجلس النيابي بالشعب من حيث مبدأ التمثيل، فإنّ هذه الناحية تضفي على الحوار الوطني قرينة المجتمع المدني. وهذا ما يدعونا إلى الحديث عن دستورية الحوار الوطني ودستورانيّته.

ألمطلب الأول: الحوار الوطني بين دستور الدولة ودستورانية الوطن

     الحوار الوطني أساس دستور الدولة اللبنانية، رُبّ معترضٍ على هذا القول يطالعنا بحجة أنّ الدستور اللبناني لم ترد فيه مادة تنصّ على الحوار كقانون. نعم، هذا صحيح إذا ما نظرنا نظرة سطحية إلى مفهوم الدستور وفلسفة الحوار الوطني. ولكن عندما ندرك أنّ الدستور اللبناني هو نفسه وليد الحوار الوطني بين مؤسسي الدولة اللبنانية، سيصبح للكلام معنى آخر. إنّ دساتير الدول ليست كتباً سماوية هبطت من السماء، وليست متأتّية من نقوش ومآثر اكتُشِفتْ في حضارات بائدة فتمّ إحياؤها واستخدامها، ولا تستوردها الأمم من أماكن معينة ليجري تطبيقها في أوطانها. الدساتير هي وليدة الحوار والمناقشة والتشاور والتفاهم والتنسيق والتدارس والتباحث بين قيادات الدولة، حيث يتمّ تنصيصها بما يتوافق مع مفاهيم وأعراف وثقافة الشعب، مما يتيح لها إمكانية وشرعية وقوّة التطبيق.

   وسوف أسوق دليلي الآن على هذه المعادلة المتعلّقة بالعمق الدستوري للحوار الوطني: عندما يختلّ التفاهم وينعدم الحوار بين الأطراف اللبنانيين، تتعطّل المؤسسات الدستورية ويصبح الدستور مستلباً ومغترباً عن أصوله التطبيقية. فالأزمات الدستورية الأخيرة: شلل المؤسسات، الفراغ الرئاسي، الاحتقان المذهبي، الانشطار الوطني، والصراع السياسي… ناجمة عن انقطاع الحوار الوطني وعدم التلاقي السياسي بين القوى اللبنانية المنقسمة. وهكذا فإنّ الحوار الوطني الذي يؤدّي إلى تفعيل المؤسسات والقضايا الدستورية يكون ذا أبعاد وأسس دستورية. وبذلك نكون قد أثبتنا دستورية الحوار الوطني في لبنان. وبما إنّ الأطراف السياسية المتحاورة تتألّف من نواب يمثّلون الشعب اللبناني، ولأنّ المجلس النيابي كمؤسسة دستورية يتعهّد هذا الحوار ويرعاه عبر رئيسه، يصبح الحوار الوطني في لبنان حوار الدستورية.

     أمّا بالنسبة إلى الدستورانية الوطنية للحوار، فهو يأتي في صلب هذه الدستورانية. ذلك أنّ الحوار الوطني هو فاعل اقتداري للدولة اللبنانية ومفهوم يرتقي إلى مستوى العرفان الوطني، وهو عنصر قيمي في أخلاقيات الحكم. فالدستورانية الوطنية – كما عرّفتُها ووضعتُ أسسها ومفاهيمها وأبعادها – هي: “تجلّيات الوعي الفكري والأخلاقي لدستور الدولة، إنّها عملية اصطفاء مفاهيمية ومعارفية وقيمية للدستور. فدستورانية الوطن هي إقتدارية دستور الدولة، وهي آلية تقييمية وتقويمية للدستور بما ينسجم ويتماهى مع الثوابت الوطنية. إنّها آلية معرفية مثالية للوطن، أي بمثابة عرفان وطني يتعالى عن المنزلقات السياسية والطائفية وعن النقاط الإشكالية في الدستور. وهي تقوم على أساسَين مفاهيميَّين كبيرين: ميلاك الدستور ومثاله…” (أنظرْ دراستي الموثّقة أدناه)[25]

     بناءً على ما تقدّم، يكون الحوار الوطني عنصراً أساسياً من عناصر الدستورانية الوطنية. فالحوار يمنح الدستور طابعاً إحيائياً ويخرجه من التشييء النصّي، كما يعزّز مبدأ الارتحام الوطني بمعنى أنّه يكفل صلة الرحم الوطنية بين العائلات الروحية في لبنان أي الطوائف اللبنانية، وكذلك فهو يضفي على النظام السياسي قيمة أخلاقية إنسانية، وذلك بالنظر إلى الدستورانية في لبنان ” على أنّها النسق السياسي والقانوني للدستور في بنية إنسانية قيمية أخلاقية فكرانيّة وعيانيّة هدفيّة توافقيّة وطنيّة.”[26] فالحوار الوطني في لبنان له صفة الإلتزامات الجماعية الوطنية في وجه النزعات الذاتية الطائفية، وهو آلية اجتماع إزاء التفريق، ومبدأ توافق ضدّ الصراع، وهو ما يحقّق دينامية التماهي الوطني بدل الخلاف. وهكذا يمكننا وصف الحوار الوطني في لبنان بأنّه لغة دستورانية تخطّ أبجديّة الوطنية اللبنانية.

ألمطلب الثاني: الحوار الوطني آلية ضابطة بين البرلمان والمجتمع المدني

     ألبرلمان في لبنان هيئة تشريعية مستقلّة، لكنه غير منفصل عن الشعب الذي يشكل البنية البشرية لهيئات المجتمع المدني. فالنواب ممثّلون للشعب ومنتخبون من قِبله، وبذلك هم يمثّلون أيضاً المجتمع المدني اللبناني. لذلك يجب تفعيل العلاقة التبادلية بين المجلس النيابي ومؤسسات المجتمع المدني، على قاعدة التفاعل والمساءلة وتعزيز التواصل والشفافية. من هنا ينبغي تعميم الحوار الوطني ليتجاوز البرلمان إلى المجتمع المدني في لبنان. “إنّ تطوير وتعزيز العلاقة بين المجتمع المدني والبرلمان، يعني خلق مساحة جديدة لفكرة المشاركة، التي لم تعد تعني فقط الإدلاء بالصوت أثناء الإنتخابات، لأن البرلمان اليوم أصبح متابَعاً من طرف المجتمع المدني الذي فوّضه في مرحلة ما، وهو الآن يريد التواصل… في هذا الإطار نجد دليل الممارسة الجيّدة الذي أعدّه الإتحاد البرلماني الدولي عام 2006، يتحدّث على الصيغ والأشكال التي بإمكانها أنْ تجعل البرلمانات متاحة لقدر أكبر من المواطنين، أفراد وجماعات، عن طريق أساليب التواصل المباشر بين المواطنين ونوّابهم، ثمّ وسائل تمكين المواطنين من حلّ مشكلاتهم، وأخيراً المهيّأة لمشاركتهم في مراحل سنّ التشريعات وغير ذلك من أعمال لجان البرلمان. أمّا المركز العربي لتطوير حكم النزاهة والقانون، ففي إحدى وثائقه المرجعية حول البرلمان الصالح، يمكن أنْ نطّلع على أربعة مبادىء أساسية هي: التمثيل، المشاركة، الاستقلالية، النزاهة.”[27] إذن، الإرتباط بين البرلمان والمجتمع المدني هو من ضروريات الديمقراطية المعاصرة، وهذا الحوار الوطني الدائر اليوم في المجلس النيابي اللبناني يشكّل آلية ضابطة بينه وبين المجتمع المدني.

     فالمجتمع المدني هو المكوّن البُنيوي للدولة، كونه التنظيم النسقي للشعب، حيث يجسّد في تواصله وعلاقاته أعلى تجلّيات الديمقراطية. فهو حسب (هابرماس): “له أساس أخلاقي يقوم على حاجات الإنسان بشكل كوني عالمي ذي علاقة بالنظام الديمقراطي الرشيد يُسمّى بالشكل المشاركاتي، ويُعتبر فيه المجتمع المدني أهم أساس له إلى جانب أسس أخرى تؤدّي في النهاية إلى ضمان أكبر لحقوق الإنسان.”[28] وهو “مجموعة من المؤسسات والفعاليات والأنشطة التي تحتلّ مركزاً وسطاً بين العائلة باعتبارها الوحدة الأساسية التي ينهض عليها البنيان الاجتماعي والنظام القيمي في المجتمع من ناحية، والدولة ومؤسساتها وأجهزتها ذات الطبيعة الرسمية من جهة أخرى، وعليه فإنّ مؤسسات المجتمع المدني تشمل المؤسسات التقليدية الاجتماعية العشائرية والقبلية والطائفية إضافة إلى المؤسسات الحديثة مثل الجمعيات والنقابات والأحزاب والأندية والاتحادات والتعاونيات ومراكز الأبحاث ومنظّمات حقوق الإنسان.”[29] وهذا المفهوم هو الأقرب إلى طبيعة المجتمع المدني اللبناني، حيث يتألّف من مكوّنات طائفية تدخل في كل المؤسسات الأهلية، ومن جمعيات دينية، وعائلات روحية. ولا شكّ في أنّ المجتمع المدني السليم هو القائم على التواصل والحوار والتلاقي بين جميع شرائحه وجماعاته، خاصة المجتمع الأهلي اللبناني الذي لا يمكنه أن يتلاءم ويلتئم من دون الحوار والتوافق بين جميع مكوّناته. لذلك يجب أنْ يمتدّ الحوار الوطني من البرلمان إلى هيئات المجتمع المدني، لا أنْ يبقى محصوراً في أروقة المجلس النيابي. ومن الأهمية بمكان أنْ يصبح الحوار الوطني ثقافة وطنية في المجتمع اللبناني بكلّ فعالياته ومؤسساته وهيئاته النقابية والعمالية والتربوية والمهنية، هذا وحده ما يجعل الحوار الوطني عنصراً جامعاً بين الشعب وممثليه، بين المجتمع المدني والمجلس النيابي. وهذا ما يجعل المجتمع الأهلي في لبنان مجتمعاً وطنياً، وينقله من بلد الخلافات إلى وطن الحوار، فلا يمكن أن تستقيم دولة المؤسسات التواصلية إلا على أساس وطن الحوار.

     إنّ البرلمان في لبنان يستمدّ سلطته وشرعيّته من الشعب اللبناني بالاقتراع المباشر، حيث يغدو النائب ممثلّاً للوطن بغضّ النظر عن الحزب السياسي الذي ينتمي إليه أو المنطقة التي انتخبته أو الطائفة التي يمثّلها. وبذلك يكون المجلس النيابي اللبناني المنظومة التدبيرية والضبطية للدولة، أي هو مجلس التلاقي والانصهار والتفاهم والحوار في الوطن. وبما أنّ لبنان وطنٌ قائم على التنوّع والتعدّدية من حيث مكوّناته المذهبية والاجتماعية والثقافية، كان من الطبيعي أنْ يأتي مجلسه النيابي اختلافياً، ولكن لا يجوز أنْ يكون خلافياً. فالاختلاف سمة طبيعية مميّزة للأفراد والجماعات في سلوكياتهم وأفكارهم السياسية والاجتماعية، وهو علامة غنى وتنوّع للأمم، حيث يفضي إلى التلاقي والتوافق رغم تعدّد الآراء وتباين المواقف وتمايز المفاهيم. أما الخلاف فهو صراع وتنازع وتغالب يؤدي إلى غالباً إلى التباعد والخصومة السياسية والشرخ الوطني بين مكوّنات الدولة ومجتمعها. لذلك وحدُهُ الحوار الوطني يشكّل آلية ضبط وتنظيم وتقويم للمسارات العلائقية بين المنظومات السياسية، وكذلك بين هيئات المجتمع المدني.

     وعلى هذا الأساس يمكننا أن نصوغ المعادلة التالية: إذا تعهّد المجلس النيابي الإختلاف الوطني بالحوار، فإنّ ذلك يؤدي إلى التوافق وعدم الخلاف. أمّا إذا حلّ الانقطاع وانعدام الحوار على الاختلاف الوطني، فإنّ ذلك سيؤدي حتماً إلى الخلاف المفاهيمي حول الوطن. وبالتالي تنتقل العدوى المفاهيمية الخلافية من البرلمان إلى هيئات المجتمع المدني، فتنعكس اضطراباتٍ ومشاكل واحتقاناً وتضارباً بين مكوّنات الشعب اللبناني. فالحوار الوطني هو الذي يضمن تدبير وصيانة وحماية النسق العلائقي التبادلي بين البرلمان والمجتمع المدني والقوى السياسية وشرائح الشعب اللبناني وكافة المؤسسات. وهذا ما قصدناه تماماً في اعتبارنا أنّ الحوار الوطني آلية ضابطة للبرلمان والمجتمع المدني.

ألمطلب الثالث: ألبرلمانية الإعلامية والحوار الوطني

     تتجلّى أهمية الإعلام في كونه المدار التواصلي الأجدى اتصالاً والأكثر تأثيراً والأوسع انتشاراً في المجتمعات، كما يُعتبر اليوم قوّة فاعلة في مختلف الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وهو اليوم الوسيلة الأبرز في الإقناع واستمالة الرأي العام، والتأثير في الشعوب. كما بات محوراً أساسياً للدول في علاقاتها وصراعاتها وحواراتها، وهو المِعْبر الأول لكلّ الأحداث والملفّات سواء كانت دولية أو إقليمية أو محلّية أو وطنية. لا بل ذهب دوره أبعد من ذلك ليصبح السلطة الرابعة، التي تمارس التنسيق والرقابة والضبط على السلطة التنفيذية والتشريعية داخل الدول. “وذلك من خلال ما شكّله الإعلام من دور في الضغط والتأثير على اتجاهات الرأي العام وتوجيهه ، والأهم من ذلك أنّ الإعلام يلعب دوراً وسيطاً في هذا التأثير باتجاهين ما بين السلطة التشريعية من جهة وبين بقية السلطات من جهة أخرى.[30] لكن في لبنان لا يمكننا أنْ نتجاهل الانقسام الإعلامي وتبعيّته للقوى السياسية، مما يؤدّي إلى اضطراب وظيفته الأساسية ويؤثّر على موضوعيّته، وبالتالي يصبح مشابهاً – إلى حدّ التطابق – لطبيعة القوى السياسية المتصارعة، فينحصر دوره في المشاحنات والصراع والتنازع حول الرأي العام. وتكبر خطورة هذا الأمر في لبنان كون الشعب اللبناني يتصل مباشرة بسياسيّيه عبر الإعلام، مما ينقل الخلافات السياسية إلى نسيج المجتمع المدني، وهذا ما يفسّر الاحتقانات والانقطاعات والصراعات الجماعية الشعبوية التي قسمت الشعب اللبناني إلى فئتين: هما نفس الفئتان اللّتان انقسم وفقهما سياسيو لبنان. من هنا، ينبغي أنْ يتنبّه البرلمان اللبناني في حواره الوطني إلى ضرورة وضع استراتيجية إعلامية تتفق وتتماشى مع أهداف هذا الحوار القائم. وتقع هذه المهمة على عاتق لجنة الإعلام والاتصال في المجلس النيابي، حيث يجب أن تواكب مجريات الحوار الوطني، وتضع برنامجاً وطنياً توعوياً ترشيدياً إنطلاقاً من عملية عقلنة سياسية وإعلامية في تعميم فكرة الحوار الوطني ونقلها إلى الشعب.

     تبرزُ مُعضلة كبرى في السياق الإعلامي الدولي والمحلّي، هي بمثابة عائق أمام ديمقراطية الإعلام ونزاهته. وتتمثّل هذه المشكلة في سيطرة عالمية أحادية القطب على الإعلام، وهذا القطب هو الذي يحتكر أكبر منظومة إعلامية بفعل امتلاكه للتكنولوجيا التواصلية من أقمار اصطناعية وشبكات تواصل ووسائل رصد متطورة… حيث يعاقب كلّ وسيلة مرئية أو مسموعة أو مكتوبة على شبكة الأنترنت بالحجب والكفّ إذا خالفت منهجه أو أثّرت على مشروعه الدولي. “وعلى ضوء ذلك فإنّ المجتمعات الإنسانية تعيش الآن هوة كبيرة بين طموحات الأفراد والجماعات والأمم وبين هذه القلة القليلة التي تتحكّم بالمعلومات والمعرفة، ولذلك أصبحت الحاجة ماسة إلى وجود تشريعات واضحة ذات مفاهيم ومنطلقات دقيقة إزاء حاجة الإنسان للاتصال والتواصل مع الآخرين.[31] هذا الإعضال للأسف يطال الإعلام اللبناني شأنه شأن الإعلام في الدول النامية، حيث لا يمتلك منظومة إعلامية وطنية مستقلة، بل هو تابع تقنياً لمنظومات إعلامية خارجية، وهذه التبعية التقنية ترافقت مع ضروب من التبعيات السياسية أيضاً. مما سهّل تورّط الإعلام اللبناني في لعبة الشحن والتحريض والقطيعة الوطنية – بغضّ النظر عن التبريرات والدوافع – خاصة خلال سنوات الأزمة اللبنانية في السنوات العشرة الأخيرة (2005 – 2015)، التي عرفت إشكالات عميقة في الشؤون الداخلية وكذلك في المواقف من القضايا الإقليمية. وذلك على الرغم من أنّ “قوانين الإعلام قد حدّدت ضوابط عامة، وحظّرت المسّ بثوابت وطنية أو التعرّض لموضوعات لها علاقة بتركيبة البلد، وقد وردت هذه الضوابط بصيغ عديدة في تلك القوانين، ومنها: تعكير السلام العام، إثارة النعرات الطائفية، الأخبار الكاذبة، تعكير الأمن… قد لا تكون المشكلة هنا في النص القانوني، فهو موجود وواضح، لكن تسييله في التطبيقات العملية أدّى بأغلبه إلى تغليب الاعتبارات السياسية على حساب الحقّ العام.”[32] لذلك يجب أنْ ينبري المجلس النيابي اللبناني بلجنته الإعلامية، إلى الخروج بوثيقة إعلام وطني حواري، وتفعيل القوانين التي تضبط الوسائل الإعلامية في لبنان، والعمل على تطبيقها بالاتفاق والتوافق بين القوى السياسية وتحت قاعدة الإلزام تجاه وسائل الإعلام، وكذلك نقل المناخ الحواري من مقر الرئاسة الثانية للبرلمان إلى الإعلام، حيث يتمّ تخصيص برامج تتحدّث عن الحوار الوطني وموضوعاته الجامعة، بغية تطبيع الوعي العام عند اللبنانيين بما يتماشى مع أهداف وغايات الحوار الوطني، وهذا وحده الكفيل والضامن لتعميم ثقافة الحوار الوطني.

     ويجب الالتفات إلى أنّ الجمهور عاطفي وانفعالي، أي أنّ لديه قابلية للإيحاءات الوجدانية، فهو يتفاعل مع الخطاب الغرائزي بسرعة وتأثير أكبر من الخطاب العقلاني. لذلك يجب مخاطبة الشعب بالإقناع الوطني، حيث تقوم رسالة التواصل الإعلامي على الإقناع، “باعتباره حالة مقصودة من المرسل لتغيير معتقدات أو اتجاهات أو سلوكيات المتلقّي من خلال نقل الرسائل.”[33] لذلك ينبغي أنْ تكون هذه الرسالة ذات بُعْد قيمي يضمن أخلاقيات التواصل، ويحقق الغاية الوطنية التي نشأ الحوار من أجلها. هذا ما يدعو البرلمان اللبناني وكافة المؤسسات الدستورية وهيئات المجتمع المدني في لبنان إلى أنْ تعيد النظر في مسألة الديمقراطية بإشكالياتها الحالية، أي يجب بدايةً تهديف الحوار الوطني ليكون غائياً هادفاً شاملاً متكاملاً ومنسجماً مع المفاهيم الوطنية اللبنانية، ثم القيام بما أسمّيه الولاف السياسي في لبنان، أي توليف الديمقراطية بما يتوافق مع خصوصية لبنان التعدّدية المتنوّعة مذهبياً واجتماعياً وثقافياً. أي ترشيد الحوار كآلية تمهيدية لتحقيق ما أسميه الديمقراطية الموجّهة، وذلك لكي لا نقع في مغالطات مفاهيمية تجعل من الإعلام اللبناني يتعامل مع الديمقراطية بنوع من التفلّت والتسيّب وعدم الالتزام واللامحدودية في السلوك الإعلامي، فيقع في فخ البراغماتية الإعلامية التي صاغت مفهوم حرية التعبير التجاري تحت شعار ديمقراطية الإعلام، وذلك لأغراض تسمح لرجال المال وتجّار السياسة التحكّم بالرأي العام. “من هنا تكون دعوة التفاؤل بقيام علاقة ضرورية بين الإعلام والديمقراطية دعوة مغرضة، تؤكّد المظهر الإيجابي وتغفل الأعماق السلبية، التي تجعل صناعة الإعلام صياغة تجارة وفعل وسياسة.”[34] فما نريد الخلوص إليه هو مشروطية الديمقراطية، أي يجب أنْ تكون مشروطة بالحدود الوطنية ومشفوعة بالضوابط القانونية، التي يجب على جميع اللبنانيين – أفراد وجماعات ومؤسسات – الإلتزام بها في كل حوار مهما كان نوعه: سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً أم تربوياً، وبغض النظر عن الأطراف التي تقوم به، سياسية كانت أو برلمانية أو نقابية.

     في النهاية، لا بدّ من التنويه إلى أنّ الحوار الوطني في لبنان يجب أنْ يخرج من فكرة التفهّم التي وضعها المتحاورن إلى فكرة التفاهم، وذلك لكي يتمّ تخليصه من التحزّب والأدلجة والأحكام المسبقة والعصبية السياسية. كما يتناسب وضع برنامج مبنّد واضح وهادف وفق مخطّط وطني شامل، وذلك لكي لا يقع الحوار في مشكلة الجدل السياسي، الذي يؤدي حتماً إلى الخلاف والتغالب، ومن ثمّ القطع والخصومة والتراشق السياسي. ألا إنّ لبنان ليس وطناً فحسب، بل هو بيت لجميع اللبنانيين. ولبنان تغلب على مواطنيه صفة العائلات الروحية، لذلك يجب تفعيل الحوار الوطني وتعزيزه لأنه حالة من الارتحام الشعبوي، وهو وحده الذي يضمن صلة الرحم الوطنية في لبنان.

المراجع والمصادر

1- إبن منظور. لسان العرب. مراجعة وتدقيق د. يوسف البقاعي وإبراهيم شمس الدين ونضال علي. تونس: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. ط1. (2005). الجزء الأول.

2- اتفاق الطائف: وثيقة الوفاق الوطني. (1989). بيروت: الفكر السياسي.

3- اسماعيل، سيف الدين. (2003). مقاربة المجتمع المدني والأهلي من منظور إسلامي. دمشق: دار الفكر.

4- ترحيني، آمال و سنجقدار، طارق. الحوار… لماذا؟ الحياة النيابية. بيروت: المديرية العامة للدراسات والمعلومات في المجلس النيابي. المجلد الرابع والتسعون. آذار 2015.

5- جوليان، كلود. (2009). انتحار الديمقراطيات. ترجمع عيسى عصفور. بيروت: الإعلام البرلماني والسياسي.

6- حاروش، نور الدين. (2012). تطوير علاقة البرلمان بالمجتمع المدني. الجزائر: مجلّة الفكر. العدد العاشر.

7- الحديدي، منى. و إمام علي، سلوى. (2011). الإعلام والمجتمع/ الإعلام الدولي والعولمة الجديدة. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية.

8- الحوار الوطني من آذار 2006 إلى حزيران 2012. بيروت: جريدة السفير. العدد 30/5/2012.

9- خليل، أحمد خليل. (1999). معجم المصطلحات السياسية والدبلوماسية. بيروت: دار الفكر اللبناني. ط1.

10- دولة الرئيس نبيه برّي. بداية الكلام: حوار. الحياة النيابية. بيروت: المديرية العامة للدراسات والمعلومات في المجلس النيابي. المجلّد الرابع والتسعون. آذار 2015.

11- سليمان، عصام. (2013). وضع البرلمان في الجمهورية اللبنانية. المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة.

12- شريعتي، علي. (2006). تاريخ الحضارة. ترجمة د. حسين نصيري. بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم. ط1.

13- الشمّاس، عيسى. (2008). المجتمع المدني (المواطنة والديموقراطية). دمشق: منشورات اتحاد الكتّاب العرب.

14- شيلر، هربرت. (1999). المتلاعبون بالعقول. ترجمة عبد السلام رضوان. الكويت: عالم المعرفة. العدد 143.

15- عطالله، طوني وحلو، مرغريت وآخرون. (2009). اتفاق الدوحة: بناء ثقافة المواثيق في لبنان من أجل مواطنية فاعلة. إشراف أنطوان مسرّة. المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم. بيروت: المكتبة الشرقية.

16- فضل الله، حسن. (2014). التشريعات الإعلامية في لبنان: أزمة نص أم تطبيق؟ مجلس النواب. الحياة النيابية. المجلّد التسعون. بيروت: المديرية العامة للدراسات والمعلومات.

17- محافظة، محمد. (2003). دور الإعلام في التأثير على السلطة التشريعية. مجلة رسالة الأمة. العدد الخامس. المجلّد الحادي عشر. أيلول 2003.

18- مزهر، عباس. (2014). لبنان من دستور الدولة إلى دستورانية الوطن. مجلس النواب اللبناني. الحياة النيابية. بيروت: مركز الدراسات والمعلومات. المجلّد 93.

19- مزهر، عباس. أنتروستراتيجيا الأزمة الوطنية والدستورية في لبنان. الحياة النيابية. بيروت: المديرية العامة للدراسات والمعلومات في المجلس النيابي. المجلد الرابع والتسعون. آذار 2015.

20- مسرّة، أنطوان. التعبئة النزاعية. بيروت: جريدة النهار. 26 آب 2008. العدد 76.

21- الموسوعة العربية الميسّرة. (2001). المجلّد الثاني. ط2. بيروت – القاهرة – تونس: دار الجيل.

22- Khair Badawi, Marie-Thérèse. (2005). Si nous voulons construire une nation. L’ORIENT LE JOUR. 26 avril 2005.            

23- Chamoun, Mounir. (1969). Psychologie de l’ethnotype libanais. Travaux et jours. N 30. Janvier-mars 1969.                  

24- Messarra, Antoine. (2008). Les limites du pouvoir. L’ORIENT LE JOUR. 14 octobre 2008.                                                              

25- Messarra, Antoine. (2008). Le libanais moyen a-t-il l’esprit politique? L’ORIENT LE JOUR. 10 octobre 2008.                                                                                                                                                                        

26- RABBATH, Edmont. (1982). La constitution libanaise. Librairie Orientale: Beyrouth.                                                        

27- CHIHA, Michel. (1964). Politique Interieure. Ed. Du Trident; Beyrouth.                                                                                        


دولة الرئيس نبيه برّي. بداية الكلام: حوار. الحياة النيابية. المديرية العامة للدراسات والمعلومات في المجلس النيابي: بيروت. المجلّد الرابع والتسعون. آذار 2015. ص 5 – 6.

المرجع السابق. ص 5 – 6.

مزهر، عباس. أنتروستراتيجيا الأزمة الوطنية والدستورية في لبنان. الحياة النيابية. بيروت: المديرية العامة للدراسات والمعلومات في المجلس النيابي. المجلد الرابع والتسعون. آذار 2015. ص 104.

شريعتي، علي. (2006). تاريخ الحضارة. ترجمة د. حسين نصيري. بيروت: دار الأمبر للثقافة والعلوم. ط1. ص 20.

المرجق السابق. ص 56.

المرجع السابق. ص 98.

الموسوعة العربية الميسّرة. (2001). المجلّد الثاني. ط2. بيروت – القاهرة – تونس: دار الجيل. ص 1028.

إبن منظور. لسان العرب. مراجعة وتدقيق د. يوسف البقاعي وإبراهيم شمس الدين ونضال علي. تونس: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. ط1. (2005). الجزء الأول. ص 981.

ترحيني، آمال و سنجقدار، طارق. الحوار… لماذا؟ الحياة النيابية. بيروت: المديرية العامة للدراسات والمعلومات في المجلس النيابي. المجلد الرابع والتسعون. آذار 2015. ص 192.

خليل، أحمد خليل. (1999). معجم المصطلحات السياسية والدبلوماسية. بيروت: دار الفكر اللبناني. ط1. ص 78.

مسرّة، أنطوان. التعبئة النزاعية. بيروت: جريدة النهار. 26 آب 2008. العدد 76.

اتفاق الطائف: وثيقة الوفاق الوطني. (1989). بيروت: الفكر السياسي. ص325.

الحوار الوطني من آذار 2006 إلى حزيران 2012. بيروت: جريدة السفير. العدد 30/5/2012.

الحوار… لماذا؟ الحياة النيابية. مرجع مذكور. ص 194.

عطالله، طوني وحلو، مرغريت وآخرون. (2009). اتفاق الدوحة: بناء ثقافة المواثيق في لبنان من أجل مواطنية فاعلة. إشراف أنطوان مسرّة. المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم. بيروت: المكتبة الشرقية. ص 356.

الحوار… لماذا؟ الحياة النيابية. مرجع مذكور. ص 194.

المرجع السابق نفسه. ص 195.

Khair Badawi, Marie-Thérèse. (2005). Si nous voulons construire une nation. L’ORIENT LE JOUR. 26 avril 2005. P 5.                                                                                                                                                          

Chamoun, Mounir. (1969). Psychologie de l’ethnotype libanais. Travaux et jours. N 30. Janvier-mars 1969. P 72 – 80.                                                                                                                                                          

Messarra, Antoine. (2008). Les limites du pouvoir. L’ORIENT LE JOUR. 14 octobre 2008.

Messarra, Antoine. (2008). Le libanais moyen a-t-il l’esprit politique? L’ORIENT LE JOUR. 10 octobre 2008.                                                                                                                                                                            

RABBATH, Edmont. (1982). La constitution libanaise.Librairie Orientale: Beyrouth. P 215.

سليمان، عصام. (2013). وضع البرلمان في الجمهورية اللبنانية. المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة. ص 10.

CHIHA, Michel. (1964). Politique Interieure. Ed. Du Trident; Beyrouth. pp 54-56

مزهر، عباس. (2014). لبنان من دستور الدولة إلى دستورانية الوطن. مجلس النواب اللبناني. الحياة النيابية. بيروت: مركز الدراسات والمعلومات. المجلّد 93. ص 12.

المرجع السابق. ص 14.

حاروش، نور الدين. (2012). تطوير علاقة البرلمان بالمجتمع المدني. الجزائر: مجلّة الفكر. العدد العاشر. ص 137.

اسماعيل، سيف الدين. (2003). مقاربة المجتمع المدني والأهلي من منظور إسلامي. دمشق: دار الفكر. ص 98.

الشمّاس، عيسى. (2008). المجتمع المدني (المواطنة والديموقراطية). دمشق: منشورات اتحاد الكتّاب العرب. ص 10.

محافظة، محمد. (2003). دور الإعلام في التأثير على السلطة التشريعية. مجلة رسالة الأمة. العدد الخامس. المجلّد الحادي عشر. أيلول 2003. ص 15.

جوليان، كلود. (2009). انتحار الديمقراطيات. ترجمع عيسى عصفور. بيروت: الإعلام البرلماني والسياسي. ص 89.

فضل الله، حسن. (2014). التشريعات الإعلامية في لبنان: أزمة نص أم تطبيق؟ مجلس النواب. الحياة النيابية. المجلّد التسعون. بيروت: المديرية العامة للدراسات والمعلومات. ص17 – 19.

الحديدي، منى. و إمام علي، سلوى. (2011). الإعلام والمجتمع/ الإعلام الدولي والعولمة الجديدة. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية. ص 70.

شيلر، هربرت. (1999). المتلاعبون بالعقول. ترجمة عبد السلام رضوان. الكويت: عالم المعرفة. العدد 143. ص 17 – 18.

مقالات ذات صلة

إغلاق