مقالات
أخلاق القوة
أخلاق القوة
أنماط القوة في تدبير الصراعات الدولية والقوة الإيتيقية العربية السورية
(صدرت في مجلة الراية النخبوية ل “حزب البعث العربي الإشتراكي”، في العدد 407/ للعام2015)
إنّ الحراك العالمي في كلّ أنساقه الزمانية والمكانية حراكٌ تغالبي نزاعي يقوم على الصراع والتدافع، وهذا الحراك تحكمه أنماط متعدّدة من القوة: القوة الصلبة، القوة الناعمة، القوة الذكية، قوة الطاقة، وقوة الإستثمار. لكنّ كلّ هذه الأشكال من القوة فاقدةٌ الأخلاق الدولية والقيم الإنسانية، حيث تسعى إلى السيطرة وفرض النفوذ والاستغلال والحوكمة رغم اختلاف أساليبها التي تبدو في أحيان كثيرة حضارية برّاقة. إلّا أنّ نموذجاً مختلفاً من القوة يطالعنا اليوم في السياسة الدولية، إذا تفحّصنا جيّداً المنطلقات الأخلاقية للسياسة العربية السورية والإيرانية تجاه الملفّات المعقدة والمصيرية في الشرق الأوسط والعالم: لا سيما القضية الفلسطينية، وحركات المقاومة، والمسائل الوطنية والقومية، وكذلك إدارة صراعها مع الغرب القائم على التمسّك بالحقّ، إضافة إلى علاقاتها مع حلفائها التي تتقوّم على قيم علائقية كالصدق والإخلاص والتعاون والتعاضد الدفاعي والشراكة… وهي معايير أساسية لتكريس الأخلاق الدولية. إنّها القوّة الجديدة في العالم المعاصر: القوة الإيتيقية، التي تمارسها سوريا ومحور المقاومة.
يشمل مصطلح “Ethika“ أو إيتيقيا كل المفاهيم القيمية والاتجاهات الأخلاقية في التعامل مع الآخر ومع الوجود، وهو يمثّل البراديغم المعنوي والتطبيقي للسلوك السياسي الذي اتبعه الرئيس الخالد “حافظ الأسد” في مضمار العلاقات الدولية والميادين القطرية والقومية. فقد أوجد بسياسته مذهباً نظرياً وعملياً يضمن اتجاهاً قيمياً شاملاً وكاملاً للوضعيات الصراعية والدموية المنحرفة التي أنتجتها أميريكا في المنطقة العربية، حيث اعتمد على الحكمة والقيم في إرساء أسس المنظومة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة. وهذا المنهج الإيتيقي الإشتراكي يقف على نقيضة أساسية بالضرورة إزاء المنهج الرأسمالي الأمريكي، لذلك سعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وأدواتها إلى إغراق المنطقة العربية بالفوضى والنزاعات والخلافات والحروب انطلاقاً من نوازع الشرّ الجيوسياسي، وذلك لتقويض السلام والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم. فسوريا دولة سلام، وحروبها مع الكيان الإسرائيلي كانت حروباً دفاعية وإنْ اتخذت شكل الهجوم والتقدّم كما حصل في حرب تشرين، ذلك أنّ إسرائيل دولة تحتلّ قطراً عربياً مركزياً هو “فلسطين”، من هنا يُعتبر كل هجوم على الكيان الإسرائيلي حرباً دفاعية، لا بل السلام الحقيقي يتحقّق بزوال هذا الهجين الاستيطاني العسكري الإسرائيلي.
هذا الاتجاه الإيتيقي في السياسة العربية السورية يبتعد عن التضارب والتزاحم ورقعات الشطرنج والفوضى والاستغلال وكلّ الشرور التي جعلت الأواصر البشرية والعلاقات الدولية لا تمتّان بأية صلة إلى المفاهيم الإنسانية. فالمفهوم الإيتيقي نجده اليوم معاملاً قياسياً للسياسة العربية السورية، في مقابل كلّ أشكال القوة الأخرى التي أنتجت عهداً من الميول الغرائزية واللاعقلانية في السياسات الدولية. فالقوة الصلبة تقوم على الحرب في المجال العسكري، وعلى المضايقات والخداع بالمجتمع الدولي في المجال السياسي، وعلى الضغط والمقاطعة والحصار في المجال الاقتصادي. وقد استخدمتها الولايات المتحدّة الأميريكية في ملفّي العراق ولبنان، في مقابل القوة “الإيتيقية” لمحور المقاومة التي واجهت المخططات الأميريكية في المنطقة باقتدار “مادي” في مقارعة الاحتلال ومواجهة العدوان، وكذلك بفاعلية “روحية” قائمة على المبادئ والعقيدة والإيمان بالقضية.
أمّا بالنسبة إلى القوّة الناعمة التي حدّدها المفكّر الأمريكي الأدميرال “جوزيف ناي” فهي تؤمّن للولايات المتحدة الأمريكية نفس الأهداف والغايات التي تريدها بالقوة الخشنة، ولكن باستخدام أساليب رخوة كنشر الأفكار والاستقطاب والإعلام وبثّ الدعايات وترويج السلع والخدمات بغية زعزعة ثقة الشعوب بأنظمتها ونمط حياتها. وحسب “ناي” لم يعد بالإمكان في العالم المعاصر استخدام العصا، حيث باتت القوة العسكرية كسياسة ردع وإكراه وإخضاع صعبة ومكلفة جدّاً. فالقوة الناعمة هي التي أسقطت الاتحاد السوفياتي، حيث جعلت الجماهير السوفيات يشاهدون النمط الأميركي ويتمثّلون بخلفياته السياسية مما أدّى إلى زعزعة لحمتهم النسقية ونظمتم الوجودية، وبالتالي انهيارها. لكنّ القوة الناعمة – رغم فعاليتها في نشر الفتن واللايقين والخلافات بين الشعوب – لم تحقّق المراد لأميريكا في العالم، حيث أصبحت تعاني من أزمة في إدارة قوتها ونفوذها لا سيما في الشرق الأوسط، أضف إلى ذلك عجزها عن استخدام القوة الصلبة مع إيران أو سوريا. لذلك أوجد “ناي” مفهوماً جديداً للقوة، يقوم على استراتيجية تعضيد القوة الناعمة بالقوة الصلبة، فابتكر مصطلح القوة الذكية، وقوامها استخدام القوة الصلبة والناعمة معاً. تماماً كما يجري اليوم في سوريا، حيث عمد الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية إلى استخدام القوة الناعمة بنشر شعارات الحرية والثورة والديمقراطية، ثم استخدام القوة الصلبة بدعم الجماعات الإرهابية بالسلاح والمال والتلويح بضربة عسكرية لسوريا وفرض الحصار والعقوبات الاقتصادية عليها وكذلك المضايقات والضغوط في المجتمع الدولي.
تنبّهت الولايات المتحدّة الأمريكية في الآونة الأخيرة إلى نوع آخر من القوة تستخدمه روسيا: قوة الطاقة. هذه القوة تقوم على توفير الطاقة للحلفاء والأصدقاء كتمرير أنابيب أو حفر منصّات للنفط في مناطق مائية تنازعية، تماماً كما تفعل الصين اليوم في بحر الصين الجنوبي. لذا تسعى الولايات المتحدة الأمريكية اليوم إلى إقصاء روسيا عن معادلة قوة الطاقة، وقد تجلّى ذلك في محاولتها إبعاد أوروبا عن الاعتماد على الغاز الطبيعي الروسي، وكذلك عندما عرضت عبر الوسيط القطري-السعودي على الرئيس الدكتور “بشّار الأسد” مدّ أنابيب الغاز عبر تركيا بهدف تجريد روسيا من فاعلة القوة الطاقوية، وعندما رفض العرض قامت أميريكا والسعودية وقطر وتركيا بتخريب سوريا. وهكذا بدأت أميريكا اليوم تعتمد في سياستها الخارجية أيضاً على قوى الطاقة، باعتبارها يمكن أن تحقّق أهدافاً أكبر من تلك التي يمكن تحقيقها بالقوتين الناعمة والذكية. ولكن مع بروز قوة جديدة اليوم متمثّلة بقوة الاستثمار، وجدت الولايات المتحدة نفسها في مأزق كبير يتهدّد قوتها ونفوذها القائمين على استئثارها بحركة الاقتصاد العالمي. فقد أسّست الصين البنك الأسيوي للتنمية والاستثمار، الذي ينافس صندوق النقد والبنك الدولي اللذين تقودهما أميركا، فبدأت بعض الدول الأوربية بالانضمام إليه، ما جعل الإدارة الأمريكية تفقد السيطرة وتشنّ هجوماً سياسياً وإعلامياً على الصين، كونها لم تستطع التحرّك بسرعة لمواجهة قوة الاستثمار، خاصة وأنّ الصين هي الدائن الأكبر لأميريكا، التي إذا أرادت التحرّك الآن بقوة استثمارية فسوف يكون تحرّكها وهماً يشبه الشيكات البلا رصيد.
اليوم يتحدّث باحثون ومراقبون وكذلك منظّمات وأحزاب بما فيها بعض المنظومات الممانعة، عن ضعف أو وهن في السياسة الخارجية العربية السورية والإيرانية إزاء بعض الملفات المصيرية: كالمؤامرة على سوريا، والتحرّك البحريني، والعدوان على اليمن، وغيرها… فيلقون محاضرات وتصريحات مفادها: أنّ على سوريا وإيران أن تقوما بعمل يهزّ الداخل التركي لترتدع تركيا عن التخريب في سوريا، أو يدعونهما إلى إحداث أزمات داخل السعودية، أو القيام بعمليات أمنية في جغرافيات معينة، باعتبار أنهما قادرتان على ذلك، وخصوصاً سورية التي تمتلك أوراقاً حساسة في الملعب الدولي. الحقيقة أنّ مثل هذه الدعوات تدلّ على قصور الكثيرين في فهم الاتجاه الإيتيقي الأخلاقي للسياسة العربية السورية، القائم على فكر ومنهج حزب البعث العربي الإشتراكي، الذي تقاطع مع الإيتيقيا الإيرانية التي تعتمد على مبادئ ودستور ووصايا النظام الإسلامي فيها، الذي يحرّم سفك الدماء والغدر والخداع والتخلّي عن الحلفاء، أو ترك القضايا المصيرية كفلسطين وسوريا وحركات المقاومة. فكلّ أنماط القوة السابقة خالية من عناصر القيم والأخلاق، منها ما ينشر العنف والقتل والدمار، ومنها ما يقوم على الخداع والغدر، ومنها ما هو وسائل استغلال وابتزاز. تبقى القوة الإيتيقية لسوريا هي الصفة الأساسية لكل تحرّكاتها القووية، مما يدعونا إلى بدء وضع ملامح جديدة للعلاقات الدولية، قائمة على أخلاق القوة التي تضمن القيم العالمية.
د. عباس مزهر
مؤسّس علم الأنتروستراتيجيا الدولية