web analytics
مقالات

حراك الفلاشا: هزّة في جسد الكيان الإسرائيلي تكشف زيف الأمة وأزمة الهوية!!

 

د.عباس مزهر – رئيس قسم الأنتلجينسيا 

انفجرت مؤخّرًا قضيّة اليهود الفلاشا في احتجاجات عنيفة إثر مقتل الشاب اليهودي الأثيوبي “سولومون تيكاه”، لكنّ جذور هذه الأزمة تعود إلى تاريخ نشأة الكيان الإسرائيلي، حيث أنّ موقف المجتمع الإسرائيلي من يهود الفلاشا بُنيَوي عضوي وعقائدي. فبعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، تمّ استقدام عشرات الآلاف منهم من “إفريقيا” لاستخدامهم بالأعمال البسيطة في مزارع ومصانع وممتلكات اليهود الأوروبيين، وذلك بمبادرة سابقة عام 1900م من “يعقوب فايتلوفيتش” – أشكينازي بولندي من روّاد الحركة الصهيونية – الذي وضع نظرية “القبيلة الضائعة” حول اليهود الإثيوبيين، وأقنع البارون “دو روتشيلد” بتمويل رحلته إلى “غوندار” معتبرًا أنّ اليهود السود هناك هم قبيلة “دان” الضائعة، وذلك بهدف تصحيح عقيدتهم ووصل الانقطاع التاريخي لهم، لكنّ “الآليانس” أي “الاتحاد الإسرائيلي العالمي” لم يكن راضيًا عن دمج اليهود السود في المجتمع الإسرائيلي الذي كان يتمّ التحضير له آنذاك، رغم تعرضهم للاضطهاد الشديد في بلدهم، كما رفضت “الوكالة اليهودية” هذا المشروع بسبب اختلاف لون بشرتهم. هذا الأمر دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة في مطلع السبعينيات إلى اعتبار الصهيونية حركة عنصرية، مما فرض على الجمعيات اليهودية محاولة درء هذه التهمة، إلا أن مسار السياسة الحكومية الإسرائيلية في هذا الملف، تجعل مصير المحاولة الفشل الحتمي، حيث منعت “غولدا مائير” فور تقلّدها رئاسة الوزراء مشروع هجرة “الفلاشا” إلى الأراضي الفلسطينية بذريعة عدم انطباق “قانون العودة” عليهم، وأعادت قسمًا كبيرًا منهم إلى “إثيوبيا”، واستمرّ هذا القرار حتى العام 1975 حيث قام “اسحاق رابين” بتعليق منع هجرة الفلاشا إلى فلسطين المحتلة، بشرط إسكانهم في الأطراف وخضوعهم لتأهيل يهودي يشرف عليه الحاخامات، لتغيير عاداتهم وتقاليدهم، لكن تعالت أصوات سياسية ودينية في “تل أبيب” معتبرةً أنّهم أدنى من اليهود المتحضّرين ومشكوك في يهوديّتهم، وبأنّهم إذا نجحوا في تغيير عاداتهم وطقوسهم فلن ينجحوا في تغيير لون بشرتهم، كما لم يكتب “لإسحاق رابين” الكثير من الحظ إذ اغتالوه زملاؤه على وقع الكثير من الملفات إحداها ملف الفلاشا.

لتنطلق بعدها مطلع التسعينيات عملية “سليمان” لجلبهم بطريقة سريّة، نفذها الموساد الإسرائيلي بدقّة وكتمان، لتوزيعهم على المناطق الملتهبة والمضطربة المحاذية للعرب المسلمين كدروع بشرية في أي مواجهة ولتقليل الضرر بالجسد اليهودي الأبيض.

واستمرت عملية الموساد حتى عام 2003، حيث وضعت الحكومة الإسرائيلية قرار “2948” بشأن هجرة اليهود الفلاشا، وذلك عبر وزارة الخارجية وتحت إشراف كبار حاخامات إسرائيل، شرط إثباتهم أنّهم من نسل يهودي، في قرار لا يكاد يتحمله عقل أي كائن بشري يمتلك القليل من الضمير أو الإنسانية، لتتوقف العملية مجدداً ويعلق استخدام القانون نتيجة الاحتجاجات الكبيرة التي قام بها البيض ضد زيادة عدد السود، وتشويه السود للصورة الأممية لليهود البيض، بوصفهم عرق أسمى من الديانة نفسها، لتتخبط الهوية الإسرائيلية بين العرقية والدينية والقومية والطبقية!!.

 

إذًا، تعرّض “الفلاشا” منذ قيام الحركة الصهيونية للتمييز العنصري، تبدأ من الابتزاز الجنسي على أيدي “الموساد” الإسرائيلي، مقابل تسجيل أسمائهم في لوائح “قانون العودة”،و تطبيق الحاخامات البيض ما سُمّيَ بقانون “التوبة” على اليهود الأفارقة، وتتجلى بوضوح فيما بعد بالحق بالتعليم والتوظيف والسكن، فلا يحقّ لأبنائهم الجلوس مع اليهود البيض على مقاعد الدراسة، وهم ممنوعون من تشكيل الجمعيات وتأسيس أحزاب مؤثرة، ولا يرتقون في الجيش إلى رتب عالية، بل يوضعون كجنود في مقدّمة المعارك ليكونوا متاريس للجنود اليهود البيض، إضافة إلى حرمانهم من العديد من الحقوق المدينة داخل الدولة.

اعتقد “الفلاشا” أنّ هجرتهم إلى “فلسطين” ستحمل إليهم العسل واللبن في “أرض الميعاد”، فاصطحبوا معهم رمادًا أحمر يرمز إلى البقرة المقدّسة لملاقاة “المسيح” المخلّص، لرشّ الرماد في هيكل “سليمان”،  لكنهم لم يجدوا الهيكل ولا “المسيح” ولا “النعيم”، بل كيان عسكري على شكل دولة، لا يرى إلا التمييز، ولا يصنفهم إلا في خانة الدروع البشرية سواءً في الحياة المدنية أم في الحياة العسكرية، فكانت صدمة كبيرة لهم توازي صدمة “الخروج الموسوي”، ومعاناة تفوق عذابات الشتات، مما كرّس عندهم شعورًا بالاضطهاد والمذلّة أدّى إلى بلورة وعيٍ مقهور لديهم، فبدأوا بالرفض والاحتجاجات منذ العام 1996. إثر تسرّب فضيحة عرفت باسم “الدم الفلاشي”، وهي أمر رسمي مرفق بقرار حاخامي ينصّ على وجوب التخلّص من أكياس الدماء التي تبرّع بها اليهود الإثيوبيّون بسبب أنّه دم أسود فاسد، لا يجوز حقنه في أجساد اليهود البيض، وهذا حدث عنصري لم يحصل في تاريخ الأمم الأكثر عنصريّة. .

ليتكرر المشهد في العام 1997 بسبب الفقر والتهميش، بمظاهرات راح ضحيتها 11 شابًّا من اليهود السود وجرح العشرات،  وفرض حظر التجوال على السود، وفي كانون الثاني من العام 2012 كرر يهود “الفلاشا” محاولتهم للتظاهر من أمام مبنى “الكينيست”، احتجاجًا على التمييز العنصري وللمطالبة بالمساواة وتوفير فرص العمل والعيش الكريم، وانتهت المحاولة بفتح وابل من النيران من قبل الجيش والشرطة الإسرائيلية خلّف عدداً أكبر بكثير من العدد المصرح به رسمياً. وفي العام 2015 انتشر فيديو يصوّر جنديًّا إسرائيليًّا أسود من يهود “الفلاشا” يتعرّض للضرب المُبرح على أيدي الشرطة الإسرائيلية، فخرج “الفلاشا” إلى الشوارع مندّدين بهذا التصرّف العنصري ومطالبين بحقوقهم كمواطنين إسرائيليين، لكنّهم تعرّضوا للضرب والاعتقالات والقمع الشديد، فظلّوا مكبوتين وصامتين إلى مطلع تموز من العام 2019 حيث انفجرت الأوضاع بعد مقتل الشاب الأثيوبي “سولومون تيكاه”، ما جعل “إسرائيل” تشهد أعنف موجة احتجاجات للفلاشا لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسرائيلي.

اليهود “الفلاشا” واليهود “العرب” وحدة في المعاناة والمصير:

لم يقتصر التمييز العنصري في الكيان الإسرائيلي على يهود “الفلاشا”، بل تعرّض اليهود المشرقيون للمعاناة نفسها، وخاصة اليهود العرب. فقد كان يهود “اليمن” أوّل الوافدين من يهود العرب إلى فلسطين في أواسط القرن التاسع عشر، ليكونوا سخرة اليهود (الأشكيناز)، في سلوك لا يقل بشاعة وعنصرية عمّا جرى بحق “الفلاشا”، وأطلق عليهم تسمية “مزراحيم” أي المشرقيّين، وتم تصنيفهم كمتخلّفين وبدائيين ولاعقلانيين ومحبَطين، وهم مصدر شك وعدم ثقة بحجّة تدنّي مستواهم الثقافي والاجتماعي مقارنةً بيهود الأشكيناز، فعملت السلطات الإسرائيلية على “أسرلة”، اليهود الشرقيين لأنّ سماتهم الشرقية مناقضة للسمة الأوروبية لإسرائيل، فخضعوا بين عاميّ 1948 و1956 لبرنامج “محو الذاكرة” في مخيّمات “التأهيل القسري”، ورغم ذلك جرى توطينهم في الضواحي والمستوطنات البعيدة عن المدن الرئيسية لاسيما في “الجليل” وعلى طول “الحدود الشرقية”، وتمّ استخدامهم كأيدي عاملة رخيصة في قطاعات الصناعة والزراعة والأعمال الدُّنيا وينالون الأجور الأدنى. هذا التمييز العنصري بحق اليهود الشرقيين أدى إلى ظهور حركات تمرّد واحتجاج في صفوفهم، كان أبرزها ثورة “الفهود السود” في العام 1971 حيث شنّوا هجمات بالقنابل على الشرطة الإسرائيلية والمراكز الحكومية، وتظاهر عشرات الآلاف منهم في الشوارع فتعرّضوا لبطش شديد واعتقالات وقتل، وقد وصفتهم “غولدا مائير” رئيسة الحكومة آنذاك “بالأولاد الأشرار وغير الشرعيين”، ونعتتهم الصحافة الإسرائيلية ب”حثالة البروليتاريا” وبالعِرق الذي يحاول تقسيم الأمة اليهودية!!، أمة لا يستطيع أحد أن يعلم على أي أساس تقوم إذا كانت كل الممارسات الإسرائيلية تثبت حجم الانتقائية، وحجم تكفير الآخر ابن نفس الديانة، واعتبارهم (أولاد حرام) إن صح التعبير؟!.

 كما تبنّى “دايفيد بن غوريون” – أول رئيس حكومة إسرائيلية – هذا الموقف في مذكّراته حيث كتب عن اليهود الشرقيين والفلاشيين: “نحن نعتبرهم مثل الزنوج الذين أُحضِروا إلى أميريكا كعبيد، أمّا يهود أوروبا فقد شكّلوا شخصية الشعب اليهودي في العالم بأسره، والصهيونية في الأساس هي حركة اليهود الأوروبيين”. هذا الكلام ليس عرَضًا، فهو يصدر عن رؤساء حكومات إسرائيلية، وكذلك تصريحات المؤسسات الدينية اليهودية كانت أشدّ حدّة وأكثر “تكفيراً”، من الجانبين السياسي والاجتماعي، فالعنصرية الإسرائيلية الأشكنازية تجاه اليهود المشرقيين والأفريقيين متأصلة في بُنية الدولة وفي طبيعة المجتمع الإسرائيلي.

وبينما نجد الحكومة الإسرائيلية تبذل جهدًا كبيرًا لاسترجاع أشلاء جنود يهود أشكيناز نراها لا تهتمّ إذا كان الأسير فلاشيًّا أسود، كأحد الأدلة القطعية على نازية اليهود أنفسهم تجاه أبناء ديانتهم، ولولا الخوف من الرأي العام وصورة إسرائيل أمام المجتمع الدولي، لنُظّمت بكل تأكيد واستناداً على عينة الأدلة التي ذكرها المقال، محارق سرية عرقية من قبل الحكومة الإسرائيلية ضد كل أصناف وأعراق اليهود الآخرين بلا شك.

هذا التمييز العنصري الإسرائيلي بحق اليهود الشرقيين و”الفلاشا”، كلّها أمور أدّت إلى انقسام ثقافي وعرقي وطبقي حاد وعميق بين فئتين: الأولى يهودية أشكينازية غربية تدّعي التفوّق ويظهر فيها التأثير المرض النفسي الجمعي الذي دفعها إلى ممارسة ذات التصنيف والممارسات التي تعرضوا واختزنوها في ذاكرتهم الجماعية، وأخرى يهودية مشرقية وإفريقية تزرح بالدونية والتهميش تحت وطأة المرض النفسي الجماعي والجرح النرجسي للجماعة الأولى.

هذه الأحداث تثبت بالدليل القاطع فشل إسرائيل في طرح نفسها كنموذج للديموقراطية والتعدّدية في الشرق الأوسط، وتثبت زيف ادعائها حول حقوق الإنسان وحتى حق الأقليات في التواجد بوطن آمن، وهي ذات الفكرة الذي أسس عليها المشروع الصهيوني اليهودي كوطن بديل آمن لكل اليهود، وبطلان الحق بالادعاء بأنهم شعب الله المختار بعد كل هذا الظلم والتنكيل.

كما أعادت إلى الواجهة مسألة الأمن الإسرائيلي المضطرب، وأكّدت هشاشة الجبهة الداخلية المتصارعة والمتآكلة. وسقوط مفهوم البُنية الأساسية التي قام عليها “الشعب اليهودي الإسرائيلي”، والتي وصفها “آحاد عاهام” الملقب بأبو المفكرين الصهاينة،  بما عرف “بالفولك” الشعب العضوي الذي يشكل جسداً واحداً لأمة يهودية، إلا أن الواقع عكس ذلك تماماً ويشير إلى هشاشة المجتمع الإسرائيلي وانتفاء صفة اليهودية كدين جامع لليهود، وبروز الطبقية والعنصرية كمكون أساسي يحكم كل فئات المجتمع.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق