مقالات
أنتروستراتيجيا “القدس” والأزمة التحوّلية في الشرق الأوسط: انتهت المعارك وبدأت الحرب
عباس مزهر
تشكّل “فلسطين” نقطة ارتكاز جيوستراتيجي لكلّ ما يجري في الشرق الأوسط، فهي ترتبط ارتباطاً تفاعلياً تبادلياً بالأزمة السورية وكذلك بصراع “أميريكا” و”إسرائيل” مع “إيران” وحركات المقاومة في المنطقة. ويُعتبر نقل السفارة الأميريكية إلى “القدس المحتلة” جزءاً من المخطّط الجيوبوليتيكي المُعدّ للجغرافيات والمقدّرات الشرق أوسطية، لأنّ الكيان الإسرائيلي هو الحليف الوجودي للولايات المتحدة الأميريكية والضامن لتدبير قوّتهاوحماية مصالحها في المنطقة، بينما دول النفط الخليجي هي الحليف الارتكازي الأداتي للمشروع الإجرائي الأميركي، لذلك نراها منخرطة في هذا المشروع، فتُجاهر بالعداء للجمهورية الإسلامية الإيرانية وتتآمر على القضية الفلسطينية، حيث كانت قمّة “الظهران” العربية في “السعودية” وتصريحات وليّ عهدها “محمد بن سلمان” بمثابة تمهيد لتصعيد العداء الأميريكي الإسرائيلي تجاه “طهران” – خاصة في الملفّ النووي والضربات العسكرية التي تلقّتها في “سوريا”– إضافةً إلى افتتاح السفارة الأميريكية في “القدس”.
وعندما نتحدّث عن “القدس” بمنظار أنتروستراتيجي ينبغي أن نحدّد – في نسق مساري ترابطي شامل – وضعيّتها التكاملية، المنغرسة في المكان (الجغرافيا)، والصائرة في الزمان (التاريخ)، والمرتبطة بدينامية المخطّطات الدولية (حركة الصراعات). فالعلاقة بين الإسرائيليين والقدس تعود في جذورها إلى العام (1350 قبل الميلاد)، أي إلى زمن الخروج الموسوي من “مصر”، حيث هرب اليهود من النظام المصري الفرعوني الذي اضهدهم بسبب محاولاتهم السيطرة على المناصب العليا في دولته، وتاهوا في صحراء “سيناء”. هناك انقلبوا على نبيّهم “موسى” واخترعوا أسطورة أرض الميعاد التي أعطاهم إياها الإله “يهوا” فصارت “أورشليم القدس” جغرافيا مقدّسة موهوبة لهم من الله، وبدأوا يعدّون العدّة لغزو بلاد “كنعان” وتحديداً “فلسطين”، لكونها بلداً خصبة وآمنة خلافاً للصحراء التي سكنوها. ولهذه الغاية تعاون اليهود مع الدولة البابلية ضد الدولة الفرعونية، فأدخلهم ملك “بابل” إلى “فلسطين” ومنحهم حكماً ذاتياً عليها، لكنّهم عادوا إلى التعاون مع النظام المصري الفرعوني ضدّ البابليين، فأرسل عليهم “نبوخذ نصر” حملة عسكرية عام (586 ق.م.) واحتلّ “القدس”، وأخذهم أسرى إلى “بابل” في عملية السبي البابلي الشهير، حيث سكنوا منطقة “نفرنيبور” الخصبة والغنية وسيطروا عليها، ثمّ تآمروا مع الأمبراطورية الفارسية في حربها على البابليين لقاء وعدٍ من الملك “كورش الفارسي” أعادهم بهِ إلى “فلسطين”.
ومع بروز الدولة الآشورية أعلن اليهود تحالفهم معها ضدّ الفارسيين الذين سقطوا أمام الهجمات الجيش الآشوري، الذي ثبّت حكم اليهود في “فلسطين” على أنْ يكونوا تابعين للدولة الآشورية. وبعد صعود الدولة الرومانية تآمر اليهود معها ضد الآشوريين، مقابل وعد روماني بإبقائهم في “فلسطين” ما أدّى إلى اجتماع مجلس “سنهدرين” اليهودي واتخاذه قرار إعدام “يسوع المسيح” عام 33 ميلادي بأمر روماني.
وبذلك استحكم اليهود في “فلسطين” واستبدّوا فيها، مما أثار قلق الأمبراطور “طيطس الروماني” الذي دمّر “القدس” وطردَ منها اليهود، فعاد إليها أهلها الأصليون من القبائل الكنعانية العربية ليبنوها ويزرعوها، وتشتّتتَ قسم من اليهود في “بابل-العراق” و”مصر” و”الجزيرة العربية” حيث ضربَ ظهور الإسلام مشروعهم بالعودة إلى استيطان “فلسطين”، أمّا القسم الأكبر فقد هرب إلى الأراضي القوقازية جنوب روسيا. هناك أيضاً تآمر اليهود مع الأمبراطورية الخزرية في القوقاز على السلافية الروسية، لكن في العام 965 ميلادي سقطت أمبراطورية الخزر أمام هجمات الروس، الذين هجّروا أكبر تجمع يهودي من “كييف” و”روسيا الجنوبية” إلى أوروبا. وقد بدأوا بالتأثير على ملوكها لشنّ الحملات الصليبية على “القدس” بين العام 1096م إلى العام 1291م، آملين أن تكون هذه الحملات طريقهم الجديدة إلى أرض الميعاد المزعومة. وبعد أنْ خاب أملهم سعى اليهود إلى استرضاء الأمبراطورية النمساوية المجرية بهدف العودة إلى “فلسطين”، ولمّا فشلوا في ذلك تآمروا مع “بريطانيا العُظمى” ضد “ألمانيا” و”النمسا” خلال الحرب العالمية الأولى، ودعموا بالأموال الحكومة البريطانية في الحرب حتى حصلوا مقابل ذلك على وعد رئيسها “جيمس آرثر بلفور” بمنح اليهود أرض “فلسطين” التي كانت تحت الاحتلال البريطاني عام 1917م، حيث بدأت الهجرة اليهودية إليها من أوروبا.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وتزعّم الولايات المتحدة الأميريكية للعالم انقلب اليهود على البريطانيين وأعلنوا ولاءهم ل”أميريكا”، وراحوا يقومون بشنّ هجمات عسكرية على الجنود البريطانيين وتفجير مراكزهم وقتلهم في “فلسطين”،فأعلنوا نهاية الانتداب البريطاني لها، وخرجوا منها تاركين العصابات اليهودية تقوم بإبادة وتهجير الفلسطينيين الكنعانيين وشنّ الحروب على العرب وسط أصداء دويّ إعلان “دولة إسرائيل” عام 1948 برعاية أميريكية.
إنّ افتتاح السفارة الأميريكية في “القدس” تتويجٌ لهذا المسار التاريخي، وتكريسٌ للمشروع الإيديولوجي اليهودي المتعلّق بأرض “فلسطين”، حيث يشكّل اعترافاً أميريكياً بأنّ “القدس” عاصمة دينية لدولة إسرائيل المزعومة، وبالتالي يؤكّد يهودية الدولة الإسرائيلية، مما يعني إعادة إحياء مشروع “إسرائيل الكبرى” الذي ظهرت بوادره في تداعيات المؤامرة على سوريا. فالجيوبوليتيك الإسرائيلي يتحرّك وفقة رؤية توسّعية عقائدية، مرمّزة في علم هذا الكيان بالخطّين الأزرقين، أي “النيل” و”الفرات”. لذلك سيطرت “إسرائيل” على “إثيوبيا” وأثارت الاضطرابات في “السودان” لتتحكّم بماء “النيل”، إضافة إلى تسبّبها بمشاكل مائية ل”مصر” مع “جيرانها” الذين يتقاسمون معها مياه هذا النهر الأطول في العالم.
وفي المقلب “السوري” نجد الكيان الإسرائيلي يسعى إلى تدمير الدولة السورية، لأنّها الداعم الأكبر للمقاومة في “لبنان” و”فلسطين”، وحليف ل”إيران” التي تدخل في صراع إيديولوجي إلغائي مع هذا الكيان. إذاً لا بدّ من إسقاط “سوريا” لتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى” من “النيل” إلى “الفرات”، حيث تنشط الاستخبارات الإسرائيلية للسيطرة على المدن والمناطق السورية الواقعة على طول “الفرات”، عبر وكلائها من “داعش” سابقاً وعبر محاولة إقامة كيان كردي فيها يكون تابعاً ل”إسرائيل” وحارساً مياه “الفرات” لصالحها. هذا التخطيط الجيوبوليتيكي العقائدي ل”إسرائيل الكبرى” الممتدّة من “الفرات” إلى “النيل” يستدعي بالضرورة جعل “القدس” عاصمة دينية لها.
ويأتي نقل السفارة الأميريكية إلى “القدس” أيضاً كخطوة فعلية لتصفية القضيّة الفلسطينية وتمهيداً تطبيقياً ل”صفقة القرن”، التي تقتضي إنهاء الوجود الفلسطيني فيها واقتطاع مزيد من أراضي الضفة للإسرائيليين وإقامة دولة فلسطينية مخنوقة وغير قابلة للحياة في “غزة” وجزء من “سيناء”،وذلك بدعم أردني مصري وتمويل خليجي سعودي. ومن الملفت أنّ افتتاح السفارة الأميريكية في “القدس” تمّ على يد “إيفانكا ترامب”، وهي التي كانت تسرح وتمرح خلال فترة سابقة في الأراضي السعودية. يبدو أنّ هذا التصرف مقصودٌ وله دلالات خبيثة، إنّه سلوك أميريكي إسرائيلي هادف إلى إذلال العرب والمسلمين، حيث تعبث بوضعيّة مقدّساتهم ومصيرها امرأة مثيرة تدوس على رجولتهم التي يمجدونها. هذا الفعل يبتغي أيضاً إلحاق الهزيمة النفسية بالشعوب العربية، وتكريس وضعية الإحباط والقصور والقدرية لديهم.
وربّما يكون هذا الدور الممنوح ل”إيفانكا” في العالم العربي تمهيداً مبكّراً لجعلها رئيسة للولايات المتحدة الأميريكية مستقبلاً، حتى تتمّ مهمتها الملعونة ويحدث في عهدها تدمير المسجد الأقصى. ونستند في هذا التحليل على رؤية اللوبي الصهيوني في “أميريكا” الذي يضع مخططات لعشرات السنين المقبلة، وهو بدأ بالتمهيد لرئاسة “دونالد ترامب” منذ العام 2000م ولكنّه تولّى الرئاسة في العام 2016، أي بعد ستة عشر عام من تهيئتهِ لهذا المنصب.
إنّ مسألة “القدس” ترتبط ارتباطاً وثقياً بالأزمة السورية والملفّ النووي الإيراني وحزب الله وحماس وكذلك العراق واليمن، لكون هذه الجهات تمثّل محور المقاومة والممانعة في وجه المشروع الأميريكي الصهيوني. لذلك نجد الولايات المتّحدة الأميريكية تسعى إلى تكريس وجودها العسكري في “سوريا” و”العراق” لقطع طريق التواصل الذي يربط محور المقاومة جغرافياً وعسكرياً، وتقوم “السعودية” نيابة عنها – باعتبارها أداة ارتكازية أميريكية – بتدمير “اليمن” لجعلهِ خاضعاً لهذا المشروع. وتتّبع “أميريكا” نظرية الأزمة المتحوّلة والمتنقّلة لتُبقي الصراعات مشتعلة في المنطقة، لذا فجّرت صدمة الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني لأنه لا يستوفي الشروط الأميريكية والمصالح الإسرائيلية القاضية بوقف البرنامج الصاروخي الباليستي للجمهورية الإسلامية الإيرانية وخروج قواتها من “سوريا”، فضلاً عن زجّ قضية حقوق الإنسان في هذا الملف مما يسمح بالتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية الإيرانية. وليس ببعيدٍ أيضاً عن القضية الفلسطينية إدراج قيادات “حزب الله” على لائحة الإرهاب أميريكياً وسعودياً، وكذلك اعتبار حركات المقاومة الفلسطينية منظّمات إرهابية، وسط التعاطف السعودي مع الكيان الإسرائيلي الذي بلغ حدود التحالف الاستراتيجي والوجودي في المنطقة.
إنّ تفرّد “أميريكا” في اتخاذ القرارات المصيرية بدأ يثير تذمّر حلفائهم الأوروبيين، الذين لا يقيم لهم الأميريكيون وزناً في سياساتهم الخارجية، مما أدّى إلى تصريحات أوروبية تعارض القرارات الأميريكية بشأن “القدس” والملف النووي الإيراني، وتدين المجازر الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين. وقد تسبّب ذلك بتقارب روسي أوروبي، لا سيما “ألمانيا” التي بدأت تصيغ قواعد جديدة في علاقاتها مع “روسيا” بسبب السلوك الأحادي الأميريكي، هذا فضلاً عن الموقف الروسي الاستراتيجي المناهض لأميريكا في قضايا المنطقة، إضافة إلى تأييد “تركيا” للموقف الإيراني وشجبها للسياسة الأميريكية والجرائم الإسرائيلية، وكذلك توقيعها للعديد من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية مع “روسيا”.
إنّ السياسة الأميريكية في مسألة “القدس”، وتفيعل الأزمة السورية، وضرب الاتفاق النووي الإيراني، وضمّ المغرب العربي إلى جانب دول الخليج في صراعها مع “إيران” عبر تفجير الأزمة المغربية الإيرانية في قضية تلفيق الدعم الإيراني لجبهة “البوليساريو”، وإدراج المقاومة على لائحة الإرهاب، وسعي أميريكا لتهدئة جبهتها في بحر “الصين الجنوبي” بالتقارب من “كوريا الشمالية” لتركّز جهودها في الشرق الأوسط، والاحتراب الإيراني الإسرائيلي المباشر في “الجولان”، والاصطفافات الدولية إزاء ما يجري في المنطقة، كل ذلك جعلها تشهد أزمة تحوّلية مركّبة ومترابطة، وضعت الولايات المتحدة الأميريكية أمام أزمة تدبير قوتها العالمية، وفجّرت قلقاً وجودياً بالغاً عند الكيان الإسرائيلي. هذه الأزمة التحوّلية المركّبة في الشرق الأوسط تفاعلت واتخذت مداها الأقصى ووصلت إلى النتيجة التالية: المعارك انتهت، وبدأت الحرب.