web analytics
تقدير مواقف

تقدير موقف: ملف الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى أزمة الاستراتيجية الروسية في الشراكة الجديدة مع الصين.

أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية تعليق التزاماتها بمعاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى (INF)، في شباط/فبراير من عام 2019، كرد على انتهاك موسكو المزعوم للمعاهدة التي تحظر تطوير الصواريخ العاملة في مدى (500-5000كم)، بعد تطوير روسيا لسلسلة من الصواريخ للمنظومة التكتيكية المتنقلة ألكسندر 9M، كان آخرها صاروخ (9М729-Novator) الذي يصل مداه إلى 480كم، ويستطيع تخطي الصواريخ الاعتراضية بقدرته العالية على المناورة في مستويين أثناء التحليق نحو الهدف، وقد علَّقت موسكو العمل بالمعاهدة كرد جوابي، معتبرةً أن الصاروخ السابق لا يشكل خرقاً للمعاهدة، على عكس استخدام الولايات المتحدة منظومة “الصواريخ الأهداف” ونشرها منصات إطلاق من نوع “MK-41” في أوروبا، وقد أعلنت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا انسحابهما الرسمي من المعاهدة في 02/08/2019، لتشرع بعدها واشنطن بالدعوة لمعاهدة جديدة، أكثر شمولاً وحداثة، تكون الصين طرفاً فيها، بالتزامن مع إعلان واشنطن عزمها نشر صواريخ متوسطة المدى في منطقة آسيا والهادئ، وفي هذا الإطار يقدِّر مركز الدراسات والأبحاث الأنتروستراتيجية التطورات المرتبطة بفسخ المعاهدة السابقة في سياق الانهيار المخطط للاستقرار الاستراتيجي في العالم، والمرتبط بالاستراتيجيات الدولية السابقة لكل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين، للفترة الممتدة بين 2008-2018، كما يرى مركز الدراسات والأبحاث الأنتروستراتيجية أن الشراكة الاستراتيجية الجديدة بين الصين وروسيا، التي أدت إلى دمج استراتيجيتي الدولتين، في مواجهة الاستراتيجية الأمريكية، تواجه عقبات كبيرة ناجمة عن آثار الاستراتيجية الروسية السابقة.

 

الاستراتيجية الروسية وأهدافها السابقة:

كانت ولاتزال الاستراتيجية الدولية الروسية تعمل على ركيزتين أساسيتين، الأولى خلق هيكلية اقتصادية عالمية تعددية جديدة، تكون موازية للأمريكية، والثانية تصحيح الأخطاء التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي في السابق، كل ركيزة من هاتين الركيزتين تعمل كموجه للسياسة الخارجية الروسية، وأجنداتها، حيث يعتبر سباق التسلح أحد أهم أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي تداركته موسكو بالتطوير النوعي السري لترسانتها العسكرية بالخفاء، بالتزامن مع إطلاق إدارة أوباما استراتيجيتها المتضمنة الانسحاب من الشرق الأوسط، باتجاه الصين، بحيث تستطيع موسكو تفادي الصدام، وتطوير قدراتها الاقتصادية والعسكرية، لمواجهة المنتصر في المواجهة الأمريكية الصينية، في خطة تهدف لوضع واشنطن أمام تطور عسكري روسي غير مسبوق، يحسم إطلاق سباق التسلح لصالح موسكو قبل حتى أن يبدأ، في ذروة الانشغال الأمريكي في المواجهة مع الصين.

وقد شكل الإعلان عن تطوير الصاروخ الروسي الجديد (9М729-Novator) الشرارة الأولى لانهيار المعاهدات الضابطة لسباق التسلح، ليعلن بعدها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في شهر آذار/مارس من عام 2018، دخول الأسلحة فائقة القدرة والتكنولوجيا الخدمة العسكرية في الجيش الروسي، والتي حققت هدفها بتشكيل صدمة كبيرة لواشنطن، وعجز أمريكي للتصدي للأسلحة الروسية الجديدة.

وقد سعت موسكو من خلال ذلك لتحقيق هدفين:

الهدف الأول: إحداث شرخ بين الأمن الأوروبي والأمن الأمريكي، بالتزامن مع المشاريع الطاقوية مع ألمانيا، والتي أحدثت بدورها شرخاً بين المصالح الأوروبية والمصالح الأمريكية، في خطوة مدروسة لفك الارتباط الأوروبي بالولايات المتحدة الأمريكية، وإعادة بناء تعريف جديد لأمن المنطقة ومصالحها بحيث يشمل روسيا، ويقلص من النفوذ الأمريكي.

 

الهدف الثاني: زيادة حدة المواجهة الصينية الأمريكية المفترضة في الاستراتيجية الأمريكية السابقة، من خلال تخليص واشنطن من قيود الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، ما يدفع كلا الطريف لرفع مستوى المواجهة، بشكل استنزافي، يبقي موسكو في مأمن من رد واشنطن، ويأمّن لها فرصة أكبر في التفوق على المنتصر، بحيث تعيد صياغة العلاقات الاستراتيجية في العالم، بما يضمن تحول النظام الدولي نحو التعددية الدولية، تكون فيه روسيا أحد أكبر الأقطاب.

 

التغيَّر الجذري في الاستراتيجية الأمريكية وتأثيرها على بكين وموسكو:

الأهداف الروسية كانت لتتحقق لولا فشل استراتيجية إدارة أوباما في الشرق الأوسط، والانسحاب منه من جهة، والتغيير الجذري للاستراتيجية الأمريكية في عهد إدراة ترامب من جهة ثانية، والتي ارتكزت على إعادة تعريف أعداء وخصوم واشنطن لتشمل موسكو، وإعادة تعريف الدور الأمريكي حول العالم بالكامل، وانسحبت بموجب ذلك من العديد من الاتفاقيات الدولية، وسلكت مساراً تصعيدياً كان عصياً على كل من روسيا والصين التنبؤ به، أو تركيب استراتيجيتيهما عليه، كاستراتيجيات مضادة.

 

إدراك كل من موسكو وبكين بالتغييرات الجديدة، وأثرها على التوازن الاستراتيجي في العالم، دفع بكليهما إلى التقارب حد الدمج بين استراتيجيتي الدولتين، والذي أعلن عنه بزيارة الرئيس الصيني لموسكو في حزيران/يونيو من العام الحالي.

وبالرغم من المسار الجديد لكل من روسيا والصين، وفعاليته في إعادة صياغة الاستقرار الاستراتيجي لمصلحتي البلدين في وجه واشنطن، إلا أن هذا الدمج يترتب عليه الكثير من الجهود المشتركة لإزالة التناقض بين الاستراتيجيات السابقة للدولتين، النابع من الرؤية المختلفة لمستقبل التوازن الاستراتيجي وطبيعة النظام الدولي، بين كل من بكين وموسكو، ولعل ملف الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى يشكل أحد أكبر العقبات أمام الشراكة الجديدة، والذي أصبح في مسار أزموي خاص به، يهدد الأمن القومي الصيني، وينذر بتصعيد أمريكي  مباشر، يخرق الالتفاف الصيني الروسي بأدوات تصعيد غير مباشرة ضد واشنطن، كالملف النووي الكوري الشمالي، والملفات المشابهة، والموضح في تقدير سابق بعنوان: (زيارة الرئيس الصيني لكوريا الشمالية تفويض مزدوج ونمذجة صينية للملفات المشابهة)، الأمر الذي من شأنه أن يجر اقتصاد بكين وموسكو ومصالحهما الجيوسياسية نحو التأثر بالاضطراب في البيئة الاستراتيجية، ليمتد من الأقاليم ذات النفوذ الأمريكي، إلى الأقاليم التي تنشط فيها المصالح الروسية والصينية، كحال البيئة الاستراتيجية لبحر اليابان والوارد في تقدير استراتيجي للمركز بعنوان: (بوادر أزمة جيوسياسية جديدة في بحر اليابان)، ومحاولة واشنطن تصدير الأزمة الناشئة إلى بحر الصين الشرقي والجنوبي، ليتحول هذا التأثير بفعل عقبات الاندماج إلى عامل مؤثر في صياغة التوازن الاستراتيجي الجديد التي تطمح له العاصمتين، أي أن المسارات التي خلقتها كل من بكين وموسكو بشكل مستقل في السابق، أصبحت عاملاً مؤثراً على فعالية الشراكة الجديدة وقدرتها على تحقيق أهدافها.

 

في النتيجة قد تدفع المتغيرات الجديدة الناجمة عن الشراكة الصينية الروسية، بكل من موسكو وبكين إلى إعادة التفاوض حول معاهدة جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، كخيار وحيد لتفادي امتداد التأثير إلى الأقاليم ذات الأولوية للمصالح الجيوسياسية الروسية والصينية، تحت ضغط التهديد الأمريكي بالانسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية (ستارت3)، ونشر صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى في محيط الصين، وستضع الدولتين في مسار إجباري لإزالة التناقضات بين استراتيجيتيهما، والذي سيضفي بالضرورة إلى تعديل رؤية الدولتين للنظام الدولي، وتحول الدولتين إلى قطب واحد في مواجهة القطب الأمريكي، أو مواجهة التفكك في العلاقة الثنائية لصالح الولايات المتحدة الامريكية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق