تقدير مواقف
تقدير استراتيجي: بوادر أزمة جيوسياسية جديدة في بحر اليابان.
يعدّ بحر اليابان من المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية الكبيرة بالنّسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وتطلّ عليه كلٌّ من (اليابان، روسيا، كوريا الشمالية، كوريا الجنوبية)، ويشكل جزءاً أساسياً من الارتكاز الجيوستراتيجي للقوات الأمريكي في شرق آسيا، حيث تنتشر القواعد الأمريكية في الدول الحليفة لواشنطن، لتشكّل بمجملها نظام التحالف الأمريكي في شرق آسيا عموماً، وفي بحر اليابان على وجه الخصوص، إلّا أنّ الدول المطلّة على بحر اليابان والحليفة لواشنطن (اليابان، كوريا الجنوبية)، ليست على وفاقٍ تامٍ فيما بينها، في حين تفرض البيئة الاستراتيجية المضطربة للمنطقة، توافقاً ذا طابعٍ شبه قسريٍّ بين اليابان وكوريا الجنوبية، في مواجهة التهديد المباشر الناجم عن الملف النووي الكوري الشمالي، والمنافسة المستمرة مع روسيا التي تطوِّرُ قواتها البحرية المطلة على بحر اليابان بشكل مطرد.
وفي حين تمتع بحر اليابان باستقرار جيوسياسي قلقٍ ( استقرار غير طبيعي ناجم عن تدخل قوة خارجية شكلت عاملاً للاستقرار بوضعية جديدة غير نهائية)، إلّا أن مركز الدراسات والأبحاث الأنتروستراتيجية يرى في تبدل محددات السياسة الخارجية الأمريكية، وصياغة رؤية روسية صينية مشتركة للمنطقة، سببين في تشكيل أزمة جيوسياسية جديدة، ناجمة عن الدور المتداخل للدول المطلة على بحر اليابان، والتي تدفع بمجملها باتجاه وضعية استقرار جديدة، تحقق التوازن وتقلص أثر الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة.
البيئة الاستراتيجية لبحر اليابان وطبيعتها:
تتمتع دول منطقة بحر اليابان بعلاقات متشابكة فيما بينها، يسودها التنافسية بشكليها؛ العلني وغير العلني، والرؤى ذات الاختلاف الجذري لمستقبل المنطقة، ليشكل التحالف الأمريكي الياباني، والأمريكي الكوري الجنوبي، في النصف الأول من القرن الماضي، عاملاً يجعل كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية، تعملان على ترحيل مشكلاتهما البينية، والأمنية الأقليمية، باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية كقوةٍ مرجعيةٍ، بصيغة تجاوزية، أثّرت على سياسة الدولتين بالدفع نحو تبني الدبلوماسية، وأنتجت اتفاق 1965 لتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، والذي شكل خلاصة التفاهمات للقضايا العالقة في الحرب العالمية الثانية أثناء احتلال اليابان لكوريا الجنوبية، كقضية الأجور غير المدفوعة للعمال الكوريين الذين تم تجنيدهم للعمل في شركة ’’نيبون للفولاذ وسوميتومو للمعادن‘‘ اليابانية، إبان الاحتلال الياباني لكوريا بين عامين 1910-1945، إضافة إلى نزاع “صخور ليانكورت”، وهو نزاعٌ إقليميٌّ بين الدولتين، بحيث تدَّعي كلٌّ منهما السيادةَ على هذه المجموعة من الجزر الصغيرة في بحر اليابان.
أما العلاقات الروسية اليابانية، احتّلت الدبلوماسية المرتبة الأولى فيما بينهما، وعملت كلٌّ من طوكيو وموسكو على تحويل التنافس الإقليمي، إلى تعاونٍ فعّالٍ، كخيارٍ ناتجٍ عن أهم قضيةٍ إشكاليةٍ بين الدولتين والمتمثلة في الخلاف على تبعيّةِ جزر الكوريل التي تفصل بحر “أخوتسك” عن المحيط الهادي، والذي شكل مدخلاً نحو تفاهمات روسية يابانية، أثرت إيجاباً على استقرار البيئة الاستراتيجية في بحر اليابان، وحوّلت موسكو لوسيطٍ في مواجهة التهديدات الكورية الشمالية الصاروخية والنووية، إلّا أنّ مدى التأثير الذي تمتعت العلاقة البينية به، كان محدوداً بسبب الدور الأمريكي الطّاغي في المنطقة.
وقد شكلت كوريا الشمالية بنظامها السياسي الشيوعي المعادي للولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها، وبملفها النووي والصاروخي، أحد الأجزاء الأساسية التي تشكل البيئة الاستراتيجية لبحر اليابان، بدور ذي أثرٍ مزدوجٍ على نظام التحالف الأمريكي في المنطقة، ليتراوح بين الأثر الإيجابي المعزز لنظام التحالف الأمريكي بضرورة ردع الخطر المشترك على الدول الحليفة لواشنطن، وبين الأثر السلبي على المدى الزمنيّ الطويل مع بلوغ التهديد الكوري الشمالي مستويات خطيرة ومتصاعدة، تجعل من الدور الأمريكي الضامن للأمن الإقليمي في تراجعٍ مستمرٍ، وشيوع حالة عدم اليقين بين حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية.
العوامل المؤثرة في البيئة الاستراتيجية لبحر اليابان:
نظام التحالف الأمريكي في بحر اليابان، خلق بيئةً تتَّسِمُ بالاستقرارِ القَلِق، وشكل نواةً أساسية لصياغة معادلة الأمن الإقليمي الأمريكية، وذلك عبر السعي لإنهاء التهديد الكوري الشمالي، ما يفرض على المنطقة شكلاً كلياً ومحدداً من الاستقرار النهائي، تسعى إليه واشنطن، وتعمل بموجبه على تحييد النشاط الروسي في بحر اليابان، وإغلاقه أمام نشاطات أي دولة من خارجه، لاسيما النشاط الصيني.
أي العوامل المؤثرة في البيئة الاستراتيجية لبحر اليابان، هي الاستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة، وطبيعة العلاقات بين دول المنطقة، وطبيعة أدوار القوى الخارجية في ذات المنطقة.
ما يعني أنّ أيّ تبدّلٍ في حجم وتأثير عاملٍ أو أكثر من هذه العوامل، مهما كان طفيفاً، سيُحدِثُ بالضرورة تغيّيراً طارئاً في البيئة الاستراتيجية للمنطقة، تؤدي بالضرورة إلى سلسلةٍ من التغيّرات والتّبدلات المتتابعة، تستمر حتى بلوغ مرحلة استقرارٍ جديدٍ، كنوعٍ من أنواع التوازن.
ويعد الملف الكوري الشمالي أحد أهم موجهات الاستراتيجية الأمريكية في شرق آسيا، وفي بحر اليابان على وجه الخصوص، ويعمل كقياسٍ لنجاح نظام التحالف للولايات المتحدة الأمريكية في ضبط الاستقرار بشكل نهائي، من عدمه.
محددات السياسة الخارجية الأمريكية:
تعد السياسة الخارجية الأمريكية أحد أهم الأدوات التنفيذية للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، بشِقَّيْها العسكريّ والدبلوماسيّ، وتخضع لمحدِّداتٍ تغيرُ في طبيعتها، ووسائل تنفيذ أهدافها، وتتحدد السياسة الخارجية الأمريكية بناءً على طبيعة الإدارة الأمريكية في البيت الأبيض، والتي تعمل على مفاضلة وسائل وأدوات على حساب وسائل وأدوات أخرى، حيث عملت إدارة أوباما فيما سبق، على تنشيط التجسس الخارجي، وإطلاق يد الاستخبارات الأمريكية في برامج الطائرات المسيرة للعمليات الأمنية خارج الحدود، وتحويل السفارات إلى مقرات تجسسٍ وتمويلٍ سريٍّ، بينما عملت إدارة ترامب على إغلاق كثيرٍ من برامج الاستخبارات الأمريكية غير النافعة، وإطلاق اليد لوزارة الخزانة الأمريكية لفرض أقسى العقوبات على خصوم الولايات المتحدة الأمريكية، والتوجه نحو “الدبلوماسية الشعبوية”، كنوعٍ جديدٍ مرادفٍ للدبلوماسية التقليدية، تمتاز ببناء علاقات شخصيةٍ وطيدةٍ، تفوق حجم الملف المراد التفاوض حولَهُ، وتسعى لكسب الوقت قدر الإمكان، بالشراكة مع العقوبات الاقتصادية المشددة، لفتح مدخلٍ واسعٍ للدبلوماسية التقليدية، والتي تصيغ في النهاية الأهداف الأساسية للاستراتيجية الأمريكية.
هذا الاختلاف الشّاسع بين كلٍّ من إدارة أوباما، وإدارة ترامب، أعاد صياغة السياسة الخارجية الأمريكية، والتي أثرت بدورِها على البيئة الاستراتيجية في بحر اليابان.
وبعد امتلاك كوريا الشمالية للقنبلتين النووية والهيدروجينية، وتطوير الصواريخ البالستية بوصفها (نظام التوصيل Delivery System )، لتطال الأراضي الأمريكية، تحولت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة، نحو التواصل بشكل أكبر مع “بيونغ يانغ”، وإطلاق “الدبلوماسية الشعبوية” بين الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” والزعيم الكوري الشمالي “كيم جونغ أون”، بالتزامن مع تشديد العقوبات الاقتصادية ضد “بيونغ يانغ”، ولا تزال هذه الوسائل الأمريكية متّبعة حتى الوقت الراهن، دون أن تستطيع تحقيق أيّ هدفٍ للاستراتيجية الأمريكية في بحر اليابان، وتحييد خطر كوريا الشمالية عن نظام التحالف الأمريكي.
من جهة أخرى، يمارس الرئيس الأمريكي مختلف الضغوطات على طوكيو، والتي وصلت إلى درجة إطلاق الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في أواخر شهر حزيران/ يونيو من العام الجاري، لتصريحات تعدّ الأولى من نوعها، تحدث خلالها عن التفكير في الانسحاب الأمريكي من معاهدة التعاون المتبادل والضمانات الأمنية مع اليابان لعام 1960، كونها تلزم واشنطن بالدفاع عن طوكيو من جانبٍ واحدٍ، دوناً عن اليابان.
بالتالي اختلاف محددات السياسة الخارجية الأمريكية، أدى إلى تحولٍ جوهريٍّ في أدوات ووسائل السياسة الخارجية الأمريكي، والذي غيّرَ بدورِهِ طريقة تعاطي الولايات المتحدة الأمريكية مع كلٍّ من اليابان وكوريا الشمالية، الأمرُ الذي يُفضي إلى التأثير المباشر على البيئة الاستراتيجية لبحر اليابان.
النشاط الروسي الصيني المشترك في بحر اليابان:
مع تبدّلِ طبيعة السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، واختلالِ الروابط بين واشنطن وحلفائها، والتوجهِ نحو زيادة حدّة العداء الأمريكي ضدّ كلٍّ من روسيا والصين، اتجهت كلٌّ من موسكو وبكين نحو تعزيز علاقاتهما الثنائية وتطويرها من مرحلة الصداقة بين الدولتين إلى مرحلة الشراكة الاستراتيجية، والموضحة بشكل مفصّل في تقدير سابق لمركز الدراسات والأبحاث الأنتروستراتيجية بعنوان: (دمج استراتيجي جديد يهدد مكانة واشنطن عالمياً)، والتي ألقت بظلالّها على بحر اليابان، حيثُ عملت موسكو على تأمين دخول صينيٍّ دائمٍ على بحر اليابان، وذلك بإطلاق دوريات مشتركة، للمرة الأولى، بطائرات استراتيجية بعيدة المدى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مروراً ببحر اليابان والذي يعدُّ الهدفَ الأساسي للعملية المشتركة، والتي أثارت بدورِها موجةً ضخمةً من الاضطرابات لدى كلٍّ من كوريا الجنوبية، واليابان، حيث اتهمت اليابانُ على الفور طائراتٍ روسية وصينية بانتهاك مجالها الجوي في المنطقة، فيما زعمت كوريا الجنوبية أن هذه المجموعة دخلت إلى ما يسمى بمنطقة تحديد الهوية لنظام الدفاع الجوي الكوري الجنوبي، وخرقت فيما بعد مجالها الجويّ من قبل قاذفةٍ روسية.
النفوذ الصيني كدولةٍ خارجيةٍ في بحر اليابان، لم يقتصر فقط على بوابة العلاقات الصينية-الروسية، بل كانت بكين قد دخلت من بوابة العلاقات الصينية-الكورية الشمالية، بزيارة تاريخية للرئيس الصيني “شي جين بينغ”، إلى “بيونغ يانغ”، والموضحة في تقدير سابق لمركز الدراسات والأبحاث الأنتروستراتيجية بعنوان: (زيارة الرئيس الصيني لكوريا الشمالية تفويض مزدوج ونمذجةٌ صينيةٌ للملفات المشابهة!!)، بالتالي شكلت الزيارة صدمةً حقيقيةً في الأوساط الأمريكية، وقلقاً كبيراً لدى دول بحر اليابان الحليفة لواشنطن.
تزايد النفوذ الصيني في بحر اليابان، وتطوير موسكو المستمر لأساطيلها البحرية في المنطقة، سبب بتراجع الثقة لدى كلٍّ من كوريا الجنوبية واليابان بالولايات المتحدة الأمريكية كمرجعيةٍ أمنيةٍ، وقدرتها على ضبط البيئة الاستراتيجية، الأمر الذي أضعف الصيغة التجاوزية لعلاقات حلفاء واشنطن ببعضهم بعضاً، ودفع بكلّ دولة إلى تعديل رؤيتها ومحاولة تحصيل حقوقها، باستخدام وسائلها الخاصة.
البيئة الاستراتيجية الجديدة لبحر اليابان:
تتسم البيئة الاستراتيجية الجديدة في بحر اليابان، بتزايد حالة اللّايقين، وارتفاع منسوب الخطر، وتزايد نفوذ الصين كدولةٍ خارجيةٍ، على حساب نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، ليصبح التحالف (الروسي-الصيني-الكوري الشمالي)، تحالفاً ثلاثياً، يعيدُ توزيع خارطة النفوذ في بحر اليابان، ويهدّدُ بشكلٍ مباشرٍ نظامَ التحالفِ الأمريكي، في مقابل ضعف الروابط بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، والولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية، والذي أدى بدوره إلى عودة التوتر في العلاقة اليابانية-الكورية الجنوبية، بدءاً من قضية العمل القسري إبان الحرب العالمية الثانية ضد شركة ’’نيبون للفولاذ وسوميتومو للمعادن‘‘ اليابانية، والتي أُعيْدَ فتحُها من قِبَلِ العمال الكوريين الجنوبيين، بحكمٍ لصالحهم من قِبلِ المحكمة العليا في 30 /10/2018 يجيز مصادرة أصولِ الشركات اليابانية في كوريا الجنوبية، بحكمٍ اعتبرته اليابان مخالفاً لاتفاقية 1965 للتطبيع بين الدولتين، بعد أن دفعت اليابان بموجبِهِ التعويضات المستحقة لحكومة سيؤول، لترد طوكيو بعدها بتطبيق لوائح صارمة لتصدير 3 موادٍ أساسيةٍ إلى كوريا الجنوبية، وهذه المواد ضرورية لإنتاج الرقائق وشاشات العرض، على أساس أن سيؤول تدير نظاماً متساهلاً للتحكم في البضائع التي يمكن تحويلها للأغراض العسكرية، وطرح خطة لرفع كوريا الجنوبية من قائمتها البيضاء للشركاء التجاريين الموثوق بهم الممنوحين إجراءات تفضيلية للتصدير، الأمر الذي من شأنه أن يكون له أثرٌ مدمّرٌ على المدى البعيد للاقتصاد الكوري الجنوبي.
لتشعِلَ بعدها الدورية الروسية الصينية المشتركة فوق بحر اليابان، ملف جزر “صخور ليانكورت” المُتنازَع عليها بين الدولتين، لِيَلِيَهَا بيومين إطلاق كوريا الشمالية لصاروخين قصيرَيّ المدى سقطا في بحر اليابان.
هذه المتغيراتُ تشير إلى حدة التجاذبات والضغوط المطبقة في المنطقة، بين التحالفين الثلاثيين، وأثّر ذلك على تمتين التحالف (الروسي-الكوري الشمالي-الصيني)، مقابل أثر هذه المتغيرات السلبي على نظام التحالف الأمريكي، ما يعني أنّ البيئة الاستراتيجية الجديدة لبحر اليابان أصبحت بيئةً مواتيةً لنشوءِ أزماتٍ جيوسياسيةٍ حادةٍ، قد تفضي إلى صدامٍ داخليٍّ بين دول المنطقة، لترفع بذلك تصنيف بحر اليابان إلى بيئة ساخنة، تفرض على دولها، مزيداً من الاعتماد على الذات، ورفع الموازنات الدفاعية، والنأيِ عن الانخراط بأي توترٍ خارجيٍّ قد يؤثر على أداء الدولة في بيئتها الاستراتيجية.
بالنتيجة ستسعى الولايات المتحدة الأمريكية لتَدَارُكِ العجز في بحر اليابان، بخطواتٍ مزدوجةٍ، تعمل على رفع درجة التوتر، وتصدير الأزمة الجيوسياسية المقبلة نحو بحر الصين الشرقي، ما ينبئُ بأزماتٍ جيوسياسيةٍ حادةٍ مقبلةٍ على بحر الصين الشرقي وبحر اليابان في المدى القريب، قد ترقَى إلى صدَاماتٍ عسكريةٍ بين دول المنطقتين.