تقدير مواقف
تقدير موقف: التطويق الأزموي للصين (هلال الاضطراب الداخلي).
في سياق الاحتجاجات الكبيرة في هونغ كونغ داخل الصين والذي يعد الأكبر منذ عام 1997 واستدعاء بكين لمستشار السفير الأمريكي في الصين أمس، يقدّر مركز الدراسات والأبحاث الأنتروستراتيجية أحد أهم أجزاء النوع الثاني من الحرب الأمريكية ضد الصين، حيث تتلخص الأجندة الأمريكية ضد الصين بثلاث أنوع متزامنة من الحروب شرحناها سابقاً في لقاء بعنوان (النشواتي لسبوتنك: المواجهة الأمريكية الصينية تعيد صياغة الاستراتيجية الدولية للبيت الأبيض)،تتلخص الانواع الثلاثة ب:
الأولى: الحرب التجارية، الثانية: افتعال الأزمات الجيوسياسية، الثالثة: تسليح البيئة.
يتضح أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بتجزيء النوع الثاني إلى هلالين أزمويين، الأول هو الهلال الخارجي المحيط بالصين، والثاني هو الهلال الدخلي والذي يعتبر أشد خطورة وأكثر وقعاً وتأثيراً على مستقبل نسب النمو الاقتصادي في الصين، والتي بمجرد اختلالها أو إبطائها يعني التأثير على المشاريع الاستراتيجية في التنمية المستدامة، والتي يشكل مشروع (طريق واحد-حزام واحد) عنوانها الرئيس.
ترتكز واشنطن حالياً على ثلاث أقاليم داخلية لتشكيل هلالها الأزموي الداخلي، جزيرة تايوان في المقدمة، حيث تعمل واشنطن على تأجيج وعسكرة الصراع بين جزيرة تايوان والصين، التي تعتبرها الأخيرة جزءاً لايتجزأ من أراضيها، وتعلن أيضاً أنها على استعداد لغزو تايوان إن لزم الأمر، وبالمقابل تقوم واشنطن بزيادة وتيرة صفقات السلاح في الجزيرة لتقويض نفوذ الصين في بحر الصين الجنوبي، الذي يعتبر أحد أهم مرتكزات الطرق البحرية للتصدير نحو غرب آسيا وأفريقيا وأوربا، إضافة إلى الدعم الأمريكي المقدم للحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايوان، والذي سيعاد انتخاب رئيسته في 2020 على حساب الأحزاب الأخرى الموالية لبكين كالحزب القومي الصيني المعارض، هذا الدعم بدأ يأخذ في الوقت الراهن أبعاداً أمنية خطيرة، كنقل الخبرة القتالية والتدريب العسكري الاحترافي لقوات تايوان، ولكن ليس في إطار “قانون العلاقات التايوانية” الصادر في واشنطن منذ 40 عاماً فحسب، بل في إطار مناورات عسكرية واسعة في الجزيرة تحاكي ضرب أهداف للجيش الصيني، ومنعه من التقدم إلى الجزيرة كتلك التي نفذت منذ أسبوعين 30/05/2019.
وتأتي هونغ كونغ كمرتكز ثاني ونموذج أزموي بعد جزيرة تايوان، حيث تعمل واشنطن نحو خلق شرخ كبير بين المدن التي تتمتع بالحكم الذاتي كمدينة هونغ كونغ ومدينة ماكاو وبين البر الصيني الرئيس (وهي المناطق التي تديرها جمهورية الصين الشعبية بشكل مباشر)، وذلك من خلال توتير العلاقات البينية في الداخل، والعمل على صد أي مساعي صينية لتحصين الأمن في هذه المدن، أو محاولات تمتينها في وجه الأساليب الأمريكية، لقيادة هذه المدن والمناطق الأخرى نحو تشويه صورة الاستقرار الصيني، بالإضافة إلى العمل الحثيث على استخدام حقوق الإنسان كأداة أساسية في سبيل ذلك، وقد بدأ الكونغرس بإعداد رصاصته الأولى في الوقت الحالي بطرح مشروع قانون “حقوق الإنسان والديمقراطية في هونغ كونغ”.
أما المرتكز الثالث فيمثله ملف المسلمين الأويغور في إقليم تشينغ يانغ غرب الصين، والذي يقطنه أغلبية مسلمة بعدد يقارب 2 مليون نسمة، وحيث أن هذا الأقليم يشكل أهمية جيوسياسية كبرى للصين، سواءً من خلال موقعه وربطه للصين بآسيا الوسطى، أو من خلال ثرواته الكبيرة، وتعمل واشنطن على تصوير الإجراءات الأمنية الصينية على أنها حولت الأقليم إلى سجن كبير فرضته على سكانه، بالشراكة مع إحياء النزعات الدينية والعرقية للأويغور، والتشارك مع تركيا في قيادة هذا الملف، حيث تعتبر تركيا الأويغور جزء من القومية التركية، وتسعى لبسط نفوذها في تلك المنطقة.
الشراكة الأمريكية-التركية في ملف الأويغور الصينيين كانت قد أثمرت سابقاً بتشكيل الحزب الإسلامي التركستاني، وقاد هذا التشكيل المسلح بأشرس وأخطر العمليات الانتحارية والإنغماسية في سورية، ولا يزال هذا الحزب ناشطاً في إدلب السورية، ومن المتوقع أن يتم صياغة تجربة جديدة مشابهة لكن في الداخل الصيني ضمن ذات الأقليم.
هذه الأقاليم الثلاثة والمساعي الأمريكية التخريبية فيها ليست انفعالات لحظية أو اصطياد في الماء العكر بشكل مؤسساتي أمريكي فردي، بل أجندة منسقة تبدأ بالتدخل بأدوات إنسانية وديمقراطية، تعمل على ضمان امتدادها لباقي الأقاليم الداخلية كأقليم التبت على سبيل المثال، ثم يعاد ربط الهلال كاملاً ليشكل طوقاً ملتهباً من الاضطراب يشتت تركيز الحكومة الصينية بالتزامن مع الاستمرار في النوعين الأول والثالث من المواجهة مع بكين، على شاكلة مشابهة لنظرية مكندر الجيوبولتيكية هو الهلال الداخلي والخارجية، ولكن بتعديل أمريكي حول الوجهة والاتجاه.