مقالات
الجيوبولتيك “الإسرائيلي” حاضراً في الصراع على شرق الفرات.. حدود الدم والماء
تتميّز نشأة الكيان الإسرائيلي بفُرادة تاريخية ودينية منقطعة النظير، حيث قامت إسرائيل على أساس وعد توراتي أسطوري أعطاه إلههم “يهوه” لنبيّه إبراهيم، هذه الفكرة الميتولوجية – التي تعود إلى زمن سحيق قبل الميلاد – تحوّلت إلى كيان معاصر، له حضوره في هيئة الأمم المتحدة ولديه علاقاته الدولية وسياساته الخاصة في الشرق الأوسط والعالم، ولم تكنْ الأساطير الدينية اليهودية سبباً في إقامة “إسرائيل” فحسب، بل هي التي تحدّد اليوم السياسة الخارجية الإسرائيلية وتضع القواعد الجيوبوليتيكية والأسس الاستراتيجية لهذا الكيان، الوجود الإسرائيلي اليوم ومشروعه التوسعي وسياسته الدولية ودستوره الداخلي، كلّها مستمدّة من المفاهيم التوراتية.
إنّ كل الأحداث والأزمات التي تحصل اليوم في جغرافيات “الفرات” ترتبط بالجيوبوليتيك الديني لفكرة كيان إسرائيل الكبير، ففي العام 1904 أعلن “تيودور هرتزل” حدود “إسرائيل” من النيل إلى الفرات، وذلك استناداً إلى نصّ في سفر التكوين “قطع الربّ لأبرام عهداً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر (النيل) إلى النهر الكبير (الفرات)”. وهذا المفهوم نفسه كرّسه “الحاخام فيشمان” عام 1947 في شهادته أمام لجنة التحقيق الخاصة بالأمم المتحدة، وقد تمّ إعلان “إسرائيل” داخل الحغرافيا الفلسطينية عام 1948، على أن تبقى حدود “إسرائيل الكبرى” مفتوحة، وهي التي يحدّدها لاحقاً الجيش الصهيوني، لتحقيق الوعد التوراتي المزعوم: من النيل إلى الفرات، لذلك يرمز الخطّان الأزرقان في العلم “الإسرائيلي” إلى هذين النهرين، أما نجمة داوود (مجن دود) فهي للتأكيد على الطابع الديني الدائم لـ”إسرائيل”، فالجيوبوليتيك الإسرائيلي مرمّز شعارياً في علم هذا الكيان الإيديولوجي، وفقاً لكلام مؤسس الحركة الصهيونية “هرتزل” أنّ المؤسسين الحقيقين لحدود “إسرائيل” هم مهندسو الماء، وهذا ما أكّده “بن غوريون” عندما وصّف الصراع الوجودي مع العرب بالحرب على الماء والسيطرة على نهري النيل والفرات باعتبارهما جوهر بقاء وقوة دولة اليهود.
خلال العام 1902 بحث “هرتزل” ومعاونوه مع وزير المستعمرات البريطاني “جوزيف تشمبرلين” مسألة توصيل مياه النيل إلى “سيناء” عبر أنفاق لتستخدمها “إسرائيل”، لكن المشروع فشل بسبب اعتماد بريطانيا على محاصيلها في ضفاف النيل، وفي العام 1979 قدّم “إليعازر إفتاي” رئيس لجنة الماء في الكنيست الإسرائيلي إلى “مصر” طلباً بتوصيل مياه النيل إلى “النقب” لتشارك “إسرائيل” في استعماله حيوياً، لكن لم ينجح المخطط بسبب أضراره الجسيمة على المصريين، لذلك قامت “إسرائيل” باختراق “إثيوبيا” ونسجت معها علاقات وثيقة وصلت إلى درجة التحكّم بسياستها، وبالفعل تولّت شركة “سوليل بونيه” الإسرائيلية تعبيد الطرق وإقامة القواعد الجوية والموانئ وإنشاء 25 سداً على نهر النيل، وأوصلت “ديسالين” الموظف فيها إلى رئاسة الحكومة الإثيوبية، واستخدمت إسرائيل “إثيوبيا” منصّةً لتخريب “السودان”، فأنشأت “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، ودعمت الإنفصاليين ضد حكومة “الخرطوم”، وأرسلت ضباطها ومخابراتها للعمل على تقسيم “السودان” للسيطرة على جنوبه والتحكّم بالنيل.
أمّا اليوم فإنّ “الفرات” هو نقطة إرتكاز العمل “الإسرائيلي”، ليتمّ السيطرة عليه وتحقيق الرؤية الدينية الوجودية للجيوبوليتيك اليهودي، يدخل نهر الفرات إلى سورية عند مدينة جرابلس، ويمرّ في محافظة “الرقّة”، وبعدها دير الزور، ثمّ يخرج منها عند مدينة البوكمال، لذلك تشهد هذه المساحات من الجغرافيا السورية إلتهاباً دائماً ومعارك مستمرة، حيث كانت ضمن أجندة “داعش” الذي أوكلت إليه “إسرائيل” أن ينوب عنها مؤقتاً في السيطرة على الفرات، وهذا ما يفسّر سعي “تنظيم داعش الإرهابي” إلى احتلال المحافظات العراقية التي يمرّ فيها نهر الفرات-قبل القضاء عليه تقريباً-، لتتمكّن إسرائيل من السيطرة عليه عبر وكيلها الداعشي الهجين، حيث صرّح “أورمانسي” أنّ “إسرائيل” تسيطر على “داعش” التي احتلّت سابقاً المدن السورية والعراقية القائمة على نهر الفرات، كاشفاً أنّ “نتنياهو” هو من كتب خطاب البغدادي في 14/11/2016، باعتبار حدود الدم لتنظيم داعش يستغرق ضمناً حدود الماء الفراتي، ولكن بعد هزيمة “داعش” لم يتخلَّ الإسرائيلي عن عقيدتهِ الجيوبوليتيكية المرتبطة بالفرات، فوجدَ ضالّته في الأكراد، الذين تلقّوا دعماً أميريكياً للسيطرة على جغرافيات سورية محاذية للفرات، مما يمهّد لبسط النفوذ الإسرائيلي عليها.
يرتبط الإسرائيليون والأكراد بعلاقات وثيقة ومصالح وجودية في المنطقة، فحضور اليهود في إقليم “كردستان العراق” كجماعة دينية معترف بها يلقى ترحيباً ودعماً من الأحزاب الكردستانية، لاسيما “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، حيث عمل “مسعود البارزاني” على تثبيت اليهود في الإقليم والاعتراف بهم كطائفة دينية أساسية من المكوّنات الكردية، وقد شارك في احتفالاتهم الدينية خاصة إحياء الذكرى 74 على ترحيل اليهود من العراق، وتمّ ذلك بدعم من وزارة الثقافة الكردستانية تحت عنوان “هولوكوست منسي” وفق طقوس يهودية استُخدم فيها كتاب التوراة والشمعدان، كما جرى تقديم مطلب يهودي ببناء كنيس كبير لهم في “إربيل” بدعم من وزارة الأوقاف الكردستانية في الإقليم، وبناءً عليه ينتقد “أورمانسي” نظرية “فرانكلين رايكارت” الهادفة إلى تطهير المنطقة الممتدّة من النيل إلى الفرات عرقياً واستبدالها بسكّان يهود، بسبب عدم القدرة الديمغرافية اليهودية على ذلك لأنّ عدد اليهود قليل جداً قياساً بهذه الجغرافيا. فاقترح “أورمانسي” أن يسكن المنطقة بين النيل والفرات شعب صديق وتابع لإسرائيل، وبما إنّها تسيطر على “كردستان العراق” يجب مساعدة الأكراد في السيطرة على مدن الفرات في سوريا وبالتالي وصلها ديموغرافياً مع أكراد “العراق”، مما يمنح إسرائيل سيطرة كاملة على الفرات.
يبدو أنّ هذا المشروع فجّر مزيداً من القلق الوجودي لدى “تركيا” ليصبح يافطة لمشاريعه الاحتلالية في سورية والعراق، بذريعة أمنها القومي، وسارعت إلى شنّ الحملات العسكرية في الأراضي السورية بدءاً من عملية “درع الفرات” وصولاً إلى معركة “عفرين” لضرب “داعش” و”قوات سوريا الديمقراطية” و”وحدات حماية الشعب الكردي”، وذلك لكي تمنع إقامة “حزام كردي” على حدودها الجنوبية يمتدّ إلى إقليم “كردستان العراق”، خاصة بعد محاولة “أميريكا” الاعتراف بإقليم كردي شرق الفرات يستدخل سدّ الطبقة الاستراتيجي، مما يحرّك حلم الأكراد جنوب شرق تركيا بالانفصال وإعلان “كردستان الكبرى”، الأمر الذي يسمح لإسرائيل بوضع يدها على المدن التركية المتاخمة للفرات، فالعقيدة الجيوبوليتيكية الإسرائيلية كانت سبباً رئيسياً للاصطدام مع تركيا.
إذاً، نلاحظ أنّ الجيوبوليتيك الإسرائيلي يرتبط بالميتولوجيا السياسية اليهودية، والتي أسمّيها اصطلاحاً “ميتوبوليتيك”، القائمة على النزعة الأسطورية في التفكير والممارسة السياسية، إنها تسييس الأسطورة حيناً وأسطرة السياسة أحياناً، فالميتوبوليتيك الإسرائيلي يقوم على سياسة ذات مضامين ومحرّكات أسطورية، أي ممارسة نمط سياسي له منشأ أسطوري وغاية تتحقّق وفقها وجهة الأسطورة وهدفها بقالب سياسي، وبالتالي تفعيل المادة الأسطورية بحيث تُفرز فكراً سياسياً يتلاءم مع غائيّتها، وهذا ما يتميز به الجيوبوليتيك الديني الإسرائيلي، الذي يسعى إلى إقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وفق عقيدة أسطورية دينية.
د. عباس مزهر / مركز الدراسات الأنتروستراتيجية.