تقدير مواقف
تقدير موقف: الاعتداءات الإسرائيلية على سورية (الخلفية الدولية والأهداف الاستراتيجية).
قام الاحتلال الإسرائيلي بشن غارات مكثفة بطائرات حربية وصواريخ كروز على سورية ليلاً، في بداية اليوم الأول من شهر تموز لعام 2019، استهدف من خلالها مواقع مختلفة في ريف دمشق وحمص وطرطوس، بالتزامن مع تصريح مستشار الأمن القومي الأمريكي “جون بولتون” لضرورة إخراج كل القوات الأجنبية من سورية، وفي هذا السياق يقدّر مركز الدراسات والأبحاث الأنتروستراتيجية هذا العدوان كجزء من سلسلة اعتداءات جديدة، أتت كنتاج متوقع أفرزته النشاطات الدبلوماسية والأمنية الأخيرة لكل من واشنطن وتل أبيب، وتهدف إلى تحويل سورية إلى متنفس عسكري أقليمي لتصريف الضغط الناتج عن التوتر الأمريكي الإيراني المباشر، واستهداف القوات الإيرانية في الخارج كأحد الفواعل الأساسية لهذا التوتر، حيث عملت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي في مختلف المناسبات الاقليمية والدولية على إعادة صياغة ظروف استهداف جديدة تسمح للطرفين بتدمير أهداف إيرانية في الخارج في إطار مكافحة نفوذ طهران خارج أراضيها، تحت ضغط الانزلاق لمواجهة مباشرة بين واشنطن وطهران تكون شاملة ومدمرة لكل المنطقة، وذات نتائج كارثية لا يمكن لأحد حسابها أو تحملها.
العدوان الإسرائيلي على سورية مبني على خلفية متينة ضمنت الاحتواء للتصعيد ما بعد العدوان، وتتكون هذه الخلفية من ثلاث ركائز أساسية، أولها القمة الأمنية الثلاثية في مدينة القدس المحتلة في 25/06/2019 بين المستشارين الأمنيين لكل من (روسيا-أمريكا-الكيان الإسرائيلي) للتفاهمات الثلاثية، وسعت واشنطن وتل أبيب من خلالها إلى جر روسيا نحو موقف معادي لطهران في سورية، مقابل مقعد جاهز لموسكو على طاولة الأمن الأقليمي في الشرق الأوسط، والتوجه نحو إدارة ثلاثية ندية مشتركة للأقليم، هذا العرض أثار حفيظة روسيا لما له من أبعاد خطيرة على الأمن القومي الروسي، وسياسة روسيا الخارجية، كون العرض ينطوي على زيادة الطلبات الأمنية والعسكرية الأمريكية من موسكو، بذريعة مواجهة الخطر الإيراني، والتي من الممكن أن تصل إلى حد طلب استخدام نظام العبور “الدون-فولغا” الواصل من بحر آزوف إلى بحر قزوين، في خطوة للألتفاف على إيران من الخلف، وهو مطلب غير مستبعد نظراً للوجود الأمريكي المسبق في الموانئ الكزخستانية ضمن اتفاقيات مسبقة، الأمر الذي دفع موسكو لخفض سقف التوقعات الإسرائيلية والأمريكية من الاجتماع بتصريح مسبق من الرئيس الروسي حول رفض موسكو المتاجرة بحلفائها، بالتالي خلصت القمة إلى تفاهمات تكاد لا تختلف كثيراً عن التفاهمات والبروتكولات السابقة، وإنما تنطلق منها نحو زيادة خطيرة في مستوى التنسيق الأمني والاستخباراتي الثلاثي في سورية عبر مراقبة أي تغيّر في النشاط الإيراني العسكري، وضمان روسيا عدم ملئ الفراغ الأمريكي من قبل الحرس الثوري في حال الانسحاب الأمريكي، وحماية المنطقة من أي انزلاق نحو مواجهات شاملة، والإبقاء على الخيار العسكري الإسرائيلي في مواجهة إيران داخل الأراضي السورية في حالات الضرورة القصوى، ودون إعلام مسبق للطرف الروسي حول أي هجوم كما في السابق.
تفاهمات القدس لم تكن تفاهمات نهائية ولم يتم التصديق عليها، وإنما كانت أشبه بإعداد ورقة عمل لمناقشتها والاتفاق عليها بين كل من الرئيس الأمريكي “ترامب”، والرئيس الروسي “بوتين”، في اللقاء الذي جمعهما في 28/06/2019 على هامش قمة العشرين في أوساكا، والتي قدرها المركز سابقاً بعنوان: (قمة أوساكا الأجندات اليابانية الثلاث مقابل الأجندات الأمريكية والروسية)، كركيزة ثانية لمسار الذي شكل عدوان اليوم إذعاناً بانطلاقه، حيث اتفق الرئيسان على تفعيل التفاهمات السابقة والتي وضعت في قمة هلسنكي في بولندا 15/07/2018، والتي تأكد على إخلاء سورية من كل القوات الأجنبية، وذلك بتعهد واشنطن بحيادها وحياد الناتو إزاء إخراج روسيا وسورية للجيش التركي من الشمال السوري، وتوريط تركيا في ليبيا بمباركة روسية ضمنية وتنسيق سعودي-أمريكي، مقابل الحياد الروسي لإخراج إيران من قبل أمريكا والكيان الإسرائيلي من سورية، يليه انسحاب كامل القوات الأمريكي وخفض التواجد الروسي إلى الحد الأدنى، ورفع العقوبات بالتزامن مع إطلاق اللجنة الدستورية، بما يضمن لكل من واشنطن وموسكو إخراج الساحة السورية من ساحات الصراع الدولي والأقليمي، وغلقها بالكامل.
أما الركيزة الثالثة فكانت زيارة الرئيس ترامب إلى كوريا الشمالية، حيث سارع ترامب تحت الضغط الصيني الموضح في تقدير المركز السابق بعنوان : (زيارة الرئيس الصيني لكوريا الشمالية تفويض مزدوج ونمذجة صينية للملفات المشابهة)، سارع إلى احتواء المواجهة المشتركة التي ستفرض عليه بعد الزيارة الصينية، بزيارة أقرب ما تكون لزيارة خفض تصعيد، بعد اجتماعه بالرئيس الصيني “شي جين بينغ”، الوارد تفصيلياً في تقدير للمركز بعنوان: (قمة أوساكا الأجندات اليابانية الثلاث مقابل الأجندات الأمريكية والروسية)، ليعمل الرئيس “ترامب” على إحياء العلاقة مع الزعيم الكوري الشمالي “كيم جونغ أون” في مسعى أمريكي لفصل الملفات، واحتواء المساعي الصينية بنمذجة الصراع مع إيران في الشرق الأوسط عموماً، وفي سورية خصوصاً مع الصراع في كوريا الشمالية، خاصة بعد دعوة الصين لزيارة وزير الخارجية السوري إلى بكين في 16/06/2019، وتنسيق زيارته إلى كوريا الشمالية، في زيارة سياسية-عسكرية بحتة، عاد منها وزير الخارجية بالعديد من الملفات والأبحاث العسكرية المتعلقة بالأسلحة الصاروخية، ما دفع الكيان الإسرائيلي إلى قصف أهداف محددة بناءً على نتائج الزيارة الأمريكية، والنجاح الأمريكي في فصل الملفات، والذي شكل السبب الرئيس لاختيار مراكز البحوث والمستودعات العسكرية السورية والإيرانية كأهداف أساسية للعدوان، علماً أن تصريح وزير الخارجية السورية صباح اليوم شرح الزيارة لكوريا الشمالية في إطار “جلب عمال بناء”، وتعاون اقتصادي بين كوريا الشمالية وسورية.
بناءً على الركائز الثلاث السابقة، التي شرحت الخلفيات الدولية، والأهداف الاستراتيجية للعدوان الإسرائيلي على سورية، يتوقع مركز الدراسات والأبحاث الأنتروستراتيجية ارتفاع وتيرة وشدة الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، تحت ذريعة الضرورة القصوى، واعتماد كل من واشنطن والكيان الإسرائيلي أسلوب الرد على إيران في سورية، والذي بدوره سيولد استنكار روسي للاستخدام المفرط والمتكرر للقوة، بسبب خرق سقف التفاهمات السابقة وسلوك الكيان الإسرائيلي الاستفزازي لباقي الأطراف، كتحليق الطيران الإسرائيلي فوق المضادات الروسية على الشريط الساحلي السوري، الأمر الذي سيحرج موسكو ويعرّض التفاهمات السابقة لاحتمالية الانهيار أو تعليق العمل بها، وذلك بحسب الظروف الدولية والأقليمية المستجدة وقدرتها على التأثير في بنية الصراعات الاستراتيجية حول العالم.