مقالات
القدس أحجية التاريخ ولغز المستقبل!!
مازن بكري
تعاقبت الصفقات على القدس “مدينة السلام” منذ أن أبصرت النور قبل 5000 عامًا، حيث بناها الكنعانيون وأعطوها اسمها نسبة إلى سالم أو شالم “إله السلام”، وتعرّضت للهدم وأعيد بناؤها ثمانية عشر مرة في التاريخ، ولفظت إحتلال العبرانيين، الفارسيين، السلوقيين، الرومانيين والإفرنج، وكذلك العثمانيين والبريطانيين، إلى أن جاء وعد “جيمس آرثر بلفور” (1907)، وقامت المنظمات الصهيونية المسلحة في عام 1948 باحتلال الجزء الغربي منها، وفي عام 1967 تم احتلال جزئها الشرقي، وأقر الكنيست الإسرائيلي ضمّ شطريها، وأعلنها عاصمة للكيان الإسرايلي عام 1980. وقد تعرّضت القدس إلى العديد من الإجراءات العنصرية تراوحت بين هدم أحياء بكاملها مثل حي المغاربة، ومصادرة الأراضي لإقامة المستعمرات، وقد صادرت ما يزيد على 23 ألف دونم من مجموع مساحة القدس الشرقية البالغة 70 ألف دونم منذ عام 1967، وأقيم عليها 35 ألف وحدة سكنية للإسرائيلين، ومازال الكيان مستمرًا في مصادرة الأراضي حتى يومنا هذا.
ومؤخرًا جاء وعد ترامب (2017) الذي اعترف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، بعد أن عارضت الولايات المتحدة الأمريكية إعلانها عام 1948 وكذلك عارضت خطة الأردن لإعلانها عاصمة ثانية عام 1950، وأيضًا عارضت ضم القدس الشرقية إلى الكيان بعد حرب 1967. أصدر الكونغرس عام 1995 قانون سفارة القدس الذي يعترف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل بعد أن أعلنت مرارًا إبقاءها لمستقبل التسوية والتفاوض. ولكن تبقى صفقة القرن الذي أعدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأكثر تهديدًا للسلام ومدينته منذ نشأتها.
تُعتبر القدس بهويّتها الدينية أحد أبرز الأماكن التي تجمع الأديان الابراهيمية، وتضمّ الأماكن الأكثر قداسة بالنسبة إليها، ففيها حائط المبكى الذي يعتبره اليهود مقدسًا ويعتقدون أنّ حجارته أخذت من هيكل سليمان، ويكرّم المسيحيون كنيسة القبر المقدس “كنيسة القيامة” التي تقوم في المكان التقليدي لجبل الجلجلة حيث يعتقدون أنّ المسيح صلب عليه، وكذلك المسجد الأقصى أولى القبلتين للمسلمين وثالث الحرمين الشريفين وكذلك قبّة الصخرة.
لم تنعم مدينة القدس بالسلام الذي طبع اسمها الأول “أورسالم” بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلا في العهد الإسلامي، بعد أن تسلّم الخليفة “عمر بن الخطاب” مفتاحها من البطريريك “صفرنيوس” سنة 638، واستمرت بطابعها الإسلامي على مدى أربع عشر قرنًا في العهود الأموية والعباسية والعثمانية، تمتّع خلالها أبناء الدياناتين اليهودية والمسيحية بالحرية في ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية.
مارس الإحتلال الإسرائيلي على المقدسيين كافة أنواع الظلم والاستبداد، وبدأ الإسرائيليون بأعمال الحفر في مدينة القدس وتحتها بحثًا عن تاريخهم المزعوم في ظلّ صمت عربي ودولي، ولكن يبقى الصمت الإسلامي هو الأكثر استهجانًا إزاء الدلالات الإلهية لرمزية القدس في الوعي الجمعي الإسلامي. لقد اختار الله في البداية أن تكون القدس قبلةً للمسلمين حيث كانوا يؤدّون فروض الطاعة نحوها، ليعلن بعدها النبي محمد الكعبة الشريفة قبلة ثانية ينبغي التوجّه نحوها في دلالة بالغة الأهيمة. ولكن ما هي هذه الدلالة ولماذا؟
من الواضح بالتتبع لمسار التراتبية والتدرج في مخاطبة الناس، أنّ الله إختار مدينة السلام “القدس” لكي تشهد أبرز الأحداث الدينية، وجعلها قبلة أولى ليس من باب العبثية، إنّما لرمزيتها التي تتعدى كونها مكاناً جغرافيًّا بل بوصلة رمزية تشير دائمًا إلى غائية هبوط الرسالات، ألا وهي إحلال السلام على الأرض. وبعد أن نزل الإسلام في “مكة” وجاء بالرؤية التوحيدية الواضحة التي لا لبس فيها، جعلها الله القبلة الثانية، وهنا بيت الله بل هنا بيت القصيد. والقصد الإلهي هنا هو أنّ السلام سبق التوحيد، وهذا ما لا شك فيه، وبالتالي لا يمكن للمسلم أن يكون موحدًا بتوجّهه إلى القبلة الثانية دون المرور بالقبلة الأولى التي تحمل كل معاني السلام.
إذن غابت القدس عن اهتمامات المسلمين، فحلَّ الظلام على المذاهب والفرق التي راحت تبحث عن جذورها في تعويض خسارة الأصل أي السلام، وأخذوا من منطلقاتهم التوحيدية متاريسًا لتغذية النعرات حتى بلغوا ذروة الإسلاموفوبيا. وساهم اجترار التاريخ التوحيدي بضياع تاريخ القدس، في وقت كانت سلطات الإحتلال الإسرائيلي تبحث عن أصل لها، فضاع الأصل فيما بينهم.
بعد إنتصار الثورة الإسلامية في إيران وإعلان الإمام الخميني آخر جمعة من شهر رمضان يومًا عالميًا للقدس، إستعادت الأمة الإسلامية بعضًا من عزيمتها في العودة إلى الأصل، كذلك تضمن الإعلان أبعادًا للتقريب بين المذاهب وكانت القدس هي بوصلة الزحف الفكري والسعي الفعلي نحو السلام. إنّها قضية المسلمين ولا تخصّ طائفة أو مذهبًا معيّنًا، بل هي قضية للوحدة الإنسانية الراغبة بالسلام . هذا الإعلان جعل وجود الكيان الإسرائيلي في القدس يهدّد السلام العالمي، وبرّز عنصريته ونواياه اتجاه الأديان ومصالح شعوب المنطقة، وكشف مكرَهُ في إذكاء الفتنة بين المذاهب الإسلامية. وقد استطاع شعار الزحف نحو القدس كسر الحواجز المذهبية وإطلاق المقاومة كوحدة تعاضدية تتعالى على كلّ خلاف عقائدي وتصبّ في خدمة القدس ومصلحة الوحدة الإسلامية. وعلى أثرها انعقدت مؤتمرات الوحدة الإسلامية وتأسّست المنظمات والجمعيات الوحدوية التي شكّلت بيئة ضامنة لعدم الإنجرار خلف الفتنة.
إنّ مفهوم يوم القدس في جوهره يغدو يومًا للعدالة الإنسانية في عصر الظلم والعدوان، ويغدو يومًا للصلاح العالمي في زمن الفساد والمفسدين في الأرض، عدا عن كونه يوم انتصار المستضعفين لحقوقهم وتخليد قضيّتهم. وهو يوم الاقتدار للشعوب المقهورة إزاء قوى الاستكبار، ويوم الثورة على الباطل ونصرة الخير أمام الشرّ المعاصر. يوم القدس هو عصر تصحيح التاريخ المزوّر، وتصويب الحاضر نحو مستقبل السلام العالمي.