web analytics
مقالات

(الأهداف.. الدّلالات.. التقنيات المتّبعة)” براءة المسلمين”.. جريمة صهيوأمريكية

(الأهداف.. الدّلالات.. التقنيات المتّبعة)براءة المسلمين”.. جريمة صهيوأمريكية
(صدرت في جريدة البلد في 2 أوكتوبر 2012)

ما إن تمّ الإعلان عن فيلم “براءة المسلمين” حتى اعتبره المسلمون إساءة سافرة للإسلام ورسوله وأتباعه، فحصلت ردّات فعل مختلفة كان أعنفها اغتيال السفير الأمريكي في ليبيا. إذن، حدث الفعل “المثير” وتسبّب “باستجابة” ردود أفعال مختلفة. في الحقيقة الموضوع ليس بهذا التبسيط، حيث إنّ الفعل وردّات الفعل كلّها مدروسة وتمشي حسب مسار الذي وضعه صنّاع الحدث. وإذا ما أمعنا التفكير في التساؤلات التالية، سنعرف أن للمسألة أبعاداً خطيرة وغايات تتجاوز ما أظهرته وسائل الإعلام العالمية المختلفة، التي كانت بغالبيتها تقوم بالترويج لهذا الفيلم، حتى التي أدانته منها وقعت في فخ الترويج له من زاوية إدانته وانتقاده، تماماً كما شاء مهندسوه.
   أسئلة مجدلة وهامة تطرح نفسها: ما هي الغايات والأهداف من إعداد هذا الفيلم؟ ما هي التقنيات النفسية والاجتماعية والعقائدية والسياسة المعتمدة فيه لتحقيق المرامي المنشودة؟ لماذا اغتيال السفير الأمريكي في ليبيا تحديداً دون غيرها من الدول؟ لماذا هذا التوقيت بالذات الذي يتزامن مع أحداث المنطقة ومتغيّرات العالم؟ ومن هم المستفيدون من الاضطرابات والفوضى والنتائج الكارثية لهذا الحدث؟
   إنّ فيلم “براءة المسلمين” خطوة عملاقة باتجاه صدام الحضارات والصراع العقائدي بين شعوب العالم، وتحديداً بين المسلمين والمسيحيين. هذا الفرز الديني الخطير بين الأكثريات في العالم سيتيح لأقليّة يهودية العيش والتغذّي على هذا الصراع واللعب على تناقضاته، وبالتالي ضمان سيطرتها وإدارتها للعبة الدولية والوجودية. يسعى المشروع الصهيوأمريكي إلى توريط المسلمين في عداء مع الغرب المسيحي، وذلك لإظهار الإسلام على أنه خطر سلفي جهلي يهدّد المدنية الحضارية المسيحية المتسامحة، مما يكوّن وعياً غربياً بضرورة مكافحة هذا الدين والحدّ من انتشاره، وبذلك تصبح الحرب على العرب والمسلمين حاجة جماعية لشعوب الغرب وضرورة وجودية لهم، في الوقت الذي يرفضون فيه أي اتجاه يؤدي إلى الحروب في العالم، مما يؤدّي إلى تغيير جذري وإسترتيجي وثقافي في توجّهاتهم الرافضة للحرب. إذن تسعى الصهيونية العالمية والإدارة الأمريكية إلى السيطرة على العالم الإسلامي وشن الحروب عليه وتقسيمه وتفتيته وإمتصاص مقدّراته وإمكاناته. فما جرى هذه الآونة من مسلسل استفزازي للمسلمين، كان آخره فيلم “براءة المسلمين”، ما هو إلّا جسّ نبض الشعوب الإسلامية تجاه ضرب رموزها المقدّسة، ولدراسة ردّات أفعالها إزاء سلبها حقوقها وتدمير مقدّساتها. فاليوم هناك حاجة ملحّة عند الإسرائيليين للسيطرة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتهويد القدس نهائياً،وتغيير الجغرافيا العقائدية والمشهد الجيوبوليتيكي لفلسطين المحتلّة.وبناء عليه فإن الفيلم المسيء للرسول هو إختبار لأقصى الاستجابات الحرجة عند المسلمين.
   ولعل أخطر أهداف هذا المشروع الصهيوأمريكي هو ضرب نسق التعايش اللإسلامي المسيحي في العالم ، ونظُم حوار الحضارات، وذلك بالتزامن مع زيارة البابا بينيديتوس الى الشرق وتحديداً لبنان. ويهدف هذا المشروع أيضاً إلى ضرب المنظومة الإسلامية في العالم، وتشويهها وتظهيرها على أنها أدنى من الديانات الوثنية والبدائية. وبذلك يقوم بكسر “الرمزية” العقائدية للإسلام، وتحطيم وتشويه فكرة المرجعية النبوية العليا، التي اذا تهمّشت وتقذّرت لن تقوم قائمة لأية مرجعية دينية أو قيادية عند العرب والمسلمين. إن كسر الهالة المرجعية المقدسة للنبي أي قائد الشعب، تصبّ في خانة تقنيات الهندسة العقائدية للشعوب لتفكيك ارتباط الجماعة برمزها القيادي فينفرط عقدها وتتشتّت، وبالتالي تتحوّل إلى جماعات منقسمة ضعيفة لا جدوية ومستهلكة للوهم.
يقوم المشروع الصهيوأمريكي من خلال هذا الفيلم – الذي هو استكمال لمنهج تشويهي متواصل – باستخدام تقنيات خطيرة تعتمد على دراسات أنتروبولوجية، قوامها علم نفس الشعوب الاجتماعي والسياسي. ومن هذه التقنيات إحداث صدمة هلعية عبر هذا الفيلم للمسلمين لإغراقهم في فوضى عارمة، وتسبيب صدامات بينهم وبين حكوماتهم، واستنزاف الطاقة الجماعية لديهم وتوجيهها نحو دولهم، مما يؤدي إلى تفكيك منظوماتهم وخلخلة وزعزعة أنساقهم وبُناهم الوجودية. حيث يوجهون إليهم عبر هذه الاستفزازات فيضاً هائلاً من الإثارات المفرطة، فيعجزون عن إرصانها واستيعابها وتكون نتيجتها الإنفجار ثم الاحباط. تقوم لعبة المشروع الصهيوأمريكي على تغيير الأنساق النفسية والاجتماعية والعقائدية والسياسية للمسلمين، وذلك باستخدام آلية التفجير الإستباقي للنسق الاجتماعي عبر خلق أزمة شديدة فجائية وغير متوقّعة، تُحدث حالة انفعالية هائلة وتشكّل هزّة عنيفة تسبّب انقطاعاً كمّاً ونوعياً في السياق الاعتيادي للنسق، فتعمّ الفوضى الانفعالية: حرق السفارات الأمريكية، التظاهر، الاعتداءات… ولكن لابد من تصريف الاحتقان لإتمام الخطة الصهيوأمريكية. الحل اغتيال السفير الأمريكي في ليبيا بتسهيلات استخباراتية أمريكية، وهذا الفعل هادف إلى أكثر من تنفيس الضغط والاحتقان لاستيعاب الصدمة وتوجيه مسارها.
إنّ اغتيال السفير الأمريكي تمّ في ليبيا، ولم يتمّ في مصر أو المغرب… لسبب بسيط وهو عدم توفّر النفط المطلوب في غيرها من الدول. فأمريكا غير راضية عن العقود النفطية في ليبيا، إذن لا بدّ من حصول حدث يدين الحكومة الليبية لتقديم التنازلات. فاستغلّت الولايات المتّحدة فرصة الاحتجاجات على الفيلم المسيء للرسول، وأحدثت صدمة أخرى بقتل سفيرها. حيث بدا واضحاً عدم توفير الحماية المطلوبة للسفارة الأمريكية في ليبيا، وكذلك ترك السفير يموت وحده دون حمايته من مرافقيه.
إنّ إختيار هذا التوقيت بالذات لإحداث الأزمات، يتزامن مع أحداث الربيع العربي المشبوه مما يدّل على وجود حلقات متتالية ممنهجة ومبرمجة لهندسة المنطقة والعالم وفق النموذج المخطط له من قبل محرّكي المشروع الصهيوأمريك، المستفيدين من كل ما يجري والساعين إلى ضمان استمرار وبقاء الكيان الإسرائيلي. هكذا ينكشف فيلم “براءة المسلمين” أنه جريمة صهيوأمريكية، ولكنه في الحقيقة براءة حقيقية للإسلام. لأنّ أي عاقل يشاهده يدرك مدى السفاهة والافتراء والأكاذيب الموجودة فيه.
تبقى القضية الأساسية قضية مشكلة أخلاق في الأنظمة والحكومات العالمية، تلك الأخلاق التي “ما بُعث رسول الله(ص) إلّا ليتمّمها”.

د. عباس مزهر                

مؤسس علم الأنتروستراتيجيا الدولية

مقالات ذات صلة

إغلاق