مقالات
ما بعد أيار.. “الجيوبولتيك الاقتصاديّ” محدداً للاستراتيجية الأميركية المضادة لروسيا.
ما إن قضت الأشهر الثلاثة الأولى للعام 2018 حتى خرجت إلى العلن حرب الاستراتيجيات النظرية بين الولايات المتحدة وخصمها الروسيّ وذلك على مستوى تغيير نسقية النظام الدوليّ القائم، دون حسمها حتى هذه اللحظة، مع التأكيد على استقرارها النسبيّ بدلالة التراجعات الأخيرة التي بدت واضحةً في الخطاب الأميركي..، فواشنطن التي قرأت في متغيرات القوة الروسية خطراً داهماً على أحاديتها القطبية، قررت المواجهة متخذةً من استراتيجية” السّلام من خلال القوة” ركناً أساسياً لهذه المواجهة في مسارٍ مشابهٍ لعقيدة ريغان، وعرّفت إدارة الرئيس ترامب مفهوم القوة بشكلّها “العنيف والصداميّ” على مستوى السلوك العسكريّ والدبلوماسيّ، بدءاً من إصدار العقيدة النووية الأميركية الجديدة، وصولاً إلى استراتيجية التوجه النووي البحريّ لإنشاء وحدتين بحريتين جديدتين للأسلحة النووية، في نهجٍ عدائيّ يشير إلى تعريف القوة في إدارة ترامب، وبينما بدأت هذه الإدارة بعسكرة السياسة الدولية ومواجهة روسيا بمنطق الحرب الباردة أطلق الرئيس بوتين في 1ذار خطابا ًنوعياً يُعدّ ضربةً استباقيةً للمخطط الأميركي، معلناً التفوق النوعيّ عسكرياً، الأمر الذي شكّل ضربةً لمفهوم القوة الأميركية التي أراد ترامب تسويقها، لشلّ الحركية الروسية الناشئة، فإذا احتكم ترامب إلى منطق القوة العسكرية فروسيا أصبحت الأقوى، مما أصاب الاستراتيجية الأميركية بمقتلٍ سريعٍ دونما اختبارٍ فعليٍّ في أقلّ من شهرين، بعدها سارعت واشنطن إلى تبني خيار “التقزيم” السياسيّ وإشغال روسيا باحتكاكاتٍ جانبيةٍ تُخفف عبء الفشل وهنا يمكن وضع السلوك العدائيّ البريطانيّ ضدّ روسيا كمحاولةٍ لتصوير روسيا على أنهّا قوةٌ إقليميةٌ كبرى تواجهها قوىً إقليمية ٌكبرى وليست قطباً دولياً، وبدأ التنسيق الأميركيّ البريطانيّ لافتعال أزمةٍ في شرق المتوسط للاحتكاك بروسيا ومصالحها، محاولةٌ اصطدمت فوراً بتهديداتٍ نوويةٍ روسية ضدّ بريطانيا وتقديم مظلةٍ بالستيةٍ لحلفاء روسيا، وفي ظلّ ظروفٍ معقدةٍ مرّت الانتخابات الروسية بسلام، بما يعني فشلاً جزئياً أميركياً وبخلاف كلّ التوقعات اتصل الرئيس ترامب بالرئيس بوتين مهنأً بالفوز وطارحاً استراتيجيةً بديلةً تحت عنوان “التطبيع مع روسيا” ولكن ضمن ذات التوجه” السلام من خلال القوة“، وإذا استبعدنا فرضية النوايا الحسنة في كلام ترامب يبقى لنا احتمالين، الأول هو اقتناعٌ أميركيٌّ بعدم جدوى التصعيد وضرورة الاحتواء المرن، والاحتمال الثانيّ هو الاحتواء المؤقت ريثما يتم استيعاب الخلل الكبير في ميزان القوى الاستراتيجية بين الطرفين الذي مالت كفته لصالح روسيا، وترجيّح أحد الاحتمالين في ظلّ التخبط الكبير لإدارة ترامب ليس أمراً سهلاً ولكن اتجاه ترامب إلى تبني شكل إدارة الصقور الجمهورية النهج في إدارته يوحي بترجيح الاحتمال الثالث، وكلام جون بولتون المستشار الجديد للأمن القومي الأميركي تؤكد ذلك، فكلامه عن السّلام بالقوة يوحي بفهمٍ خاصٍ له بعيداً عن معاني الرئيس ترامب ففي كلام ترامب جانبٌ ردعيّ لمفهوم القوة أمّا في كلام “بولتون” استخدامٌ هجوميٌّ للقوة لفرض السّلام الذي يصبح بمعنى “الهيمنة”، ولكن في مفهوم الرجلين تقاطعاتٌ خطرة، تشير إلى ازدواجيةٍ قادمةٍ في تطبيق مبدأ “السلام من خلال القوة”، فالرئيس ترامب بدأ بتبني مفهوم القوة الاقتصادية المضادة كبديلٍ عن القوة العسكرية التي أجهضتها إدارة الرئيس بوتين بإطلاق مرحلة ما بعد “الحرب الباردة الجديدة”، وتقوم رؤية ترامب الجديدة على تقويض أسس القوة الاقتصادية الروسية التي مهدت للقفزة التسليحية النوعية، وهذا يتطلب أمرين أساسيين، الأول التحكم النسبيّ بأسعار النفط والغاز الدولية، والأمر الثاني التحكم بطرق إمدادات الطاقة الأوربية، وهذا يفسّر إصرار واشنطن على بقاء الأطلسيّ في العراق ومشروع زيادة عدد ونوعية القواعد الأميركية في منطقة ما بين النهرين بما فيها احتمال نقل قاعدة “العديد” الأميركية في قطر إلى أربيل العراق بما يحقق اكثر من غايةٍ أميركيةٍ ومنها ضمناً الهدف الاقتصاديّ، أمّا بما يخص التحكم بطرق إمداد أوروبا بالغاز فعملية نشر الأساطيل والغواصات النووية في البلطيق (براً وبحراً) ونقل قاعدة انجرليك إلى اليونان تقوضان مبدئياً مشروعيّ السيل التركيّ والسيل الشمالي2 لروسيا الذين يُحكمان السيطرة على إمدادات الغاز الأوربي، ويقوضان احتمال نشوء محور “موسكو/برلين” الذي تعتبره واشنطن الهاجس الأكبر للناتو، وتوضع في ذات السياق المحاولات الأميركية للتحكم في إنتاج لبنان للغاز من المتوسط سيما إن أصبح تحت المظلة الروسية باعتباره يُشكّل تحدياً لأنبوب “ايست ميد” الصهيونيّ، بما يعني تبني إدارة ترامب لخيار الجيوبولتيك الاقتصاديّ في تعريف “السّلام من خلال القوة” أيّ تعريف المجال الجيبولتيكيّ الأميركيّ إقليمياً بالمصالح الاقتصادية والاقتصادية المضادة ضدّ روسيا وليس فقط الأبعاد الجيبولتيكية التقليدية للدرع الصاروخيّ العالمي، وهذا التعريف يتطلب السيطرة التامة على العراق وإمكانيات الطاقة في لبنان.
انطلاقاً من ذلك تُعطى أهميةٌ خاصةٌ لانتخاب أيار في كلّ من لبنان والعراق (أيار 2018)، فالرهان الأميركي على ما يبدو كبيرٌ لخلخلة التوازنات الداخلية في كلا البلدين لصالح التيارات المدعومة من واشنطن وحلفائها الإقليميين، بما يسهل المطالب الأميركية لتمرير صفقة ساترفيلد المرفوضة في لبنان وطلبات التمديد للقوات الأميركية في العراق بعد أن طلب البرلمان العراقي جدولة الانسحاب، وإلّا قد تلجأ واشنطن إلى الخطة البديلة وهي الخيار العسكري المباشر أو غير المباشر للإحكام على طاقة البلدين النفطية والغازية، ضمن تحالفٍ أميركيٍّ بريطانيٍّ قد تنضم له فرنسا، فمن جهةٍ يحكّم هذا التحالف السيطرة على ثروة طاقوية ضخمة تقدر بتريليونات الدولارات، ومن جهةٍ أخرى تقيّد حركة وفعالية روسيا في الشرق الأوسط بوجود أكثر اللاعبين الدوليين قوةً في هذه المنطقة الحيوية..، وهذا الأمر سيصطدم بالمصالح الإيرانية في المنطقة، لذلك يصبح الاتفاق النووي الإيراني(14/7/2015) وسيلة الضغط الأميركية على ايران وهو أحد الأسباب التي دفعت بترامب لتقليد منصب مستشار الأمن القومي إلى بولتن المتشدد ضدّ ايران، الأمر الذي يجعل من أيار موعداً حاسماً لتبني وسائل تطبيق الرؤية الجيبولتيكية الأميركية الجديد، وفي المقابل ورغم الآثار الآنية لمخطط واشنطن في الشرق الأوسط على روسيا إلّا أنّ خيارات الأخيرة تبدو واسعةً لإجهاض المحاولة الأميركية للتحكم بأكبر كتلةٍ طاقويةٍ دولياً ومنها استمرار إبرام عقود الطاقة مع مصر والمغرب ومحاولة تسويات الأزمات التجارية في مجال الغاز مع الجزائر، وهذا الأمر سيشعل الصراع على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وكأنّ العقل التجاري لترامب أراد مقايضة الاقتصاد كمحددٍ للجيبولتيك الأميركيّ في مقابل الاعتراف بالجغرافيا(شرق المتوسط) كمحددٍ للجيبولتيك الروسيّ الجديد (الدوغيني)، ولكن عودة جيوبوليتك الاقتصاد كمحددٍ رئيس للاستراتيجيات في الشرق الأوسط بعد تراجعٍ في السنوات الماضية في ترتيب الأولويات لصالح الجيبولتيك التقليدي، سيرخي بظلالٍ عميقةٍ على حلّ الأزمات سيما إن لجأت واشنطن إلى تبني خيار القوة العسكرية لحماية مصادر الطاقة وطرق الإمداد والتي حددتها بقواعد عسكريةٍ احتلاليةٍ في الشرق السوريّ والغرب العراقي، ورغم ذلك إذا كانت واشنطن قد وضعت خيار استخدام القوة لحماية احتلالها لمصادر الطاقة وفي هذا محاولاتٌ لتقسيم الجغرافيا في الشرق الأوسط، فأيضاً لمحور المقاومة خياراته العسكرية الواسعة والمتنوعة التي ستحول أحلام واشنطن إلى كوابيس…
الدكتور سومر صالح/ جريدة الأيام ع63.