مقالات
ألدولار والجغرافيا السياسية: الشيفرة الرئيسية للحراك الأميريكي في العالم
ألدولار والجغرافيا السياسية: الشيفرة الرئيسية للحراك الأميريكي في العالم
(صدرت في مجلة الراية النخبوية ل “حزب البعث العربي الإشتراكي”، في العدد 406/ للعام2015)
لا شكّ في أنّ الحراك الدولي لا تقوده الاعتبارات الأخلاقية، بل ترتسم مساراته وفق معادلة المال والجغرافيا السياسية، التي تفسّر لنا حقيقة ما يجري اليوم في العالم والشرق الأوسط. فقد ظلّ الدولار منذ العام 1945 العملة الاحتياطية للعالم، حيث كان منضمّاً إلى معيار الذهب. لكن في العام 1966 قامت البنوك المركزية الأجنبية بأخذ 14 مليار دولار أميريكي وفقاً للصندوق الدولي، بينما كانت الولايات المتحدة الأميريكية تمتلك 3،2 مليار بقيمة الذهب، مما يعني أنّ بنك الاحتياط الفدرالي الأميريكي قام بطباعة أموال أكثر مما يمكنه سداده. وقد نتج عن ذلك تفشّي التضخّم وعزوف عام عن الدولار، فوجدت الولايات المتحدة نفسها أمام مشكلة خطيرة يمكن أن تتسبّب بانهيارها اقتصادياً. لذلك جاءت “صدمة نيكسون” في بداية السبعينيات لتقوم بإزالة الدولار من معيار التغطية الذهبية كليّاً، واتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية الدولار من المضاربين، وتعليق إمكانية تحويل الدولار في الذهب أو غيره من الأصول الاحتياطية، والقبول بالمبالغ والشروط التي من شأنها الحفاظ على الاستقرار المالي والمصلحة القصوى للولايات المتحدة الاميريكية. لكنّ ذلك لم يحلّ المشكلة، بل عرّض بنك الاحتياط الفدرالي الأميريكي لتراكم الديون الإجمالية حيث يُقرض أموالاً لا يمتلكها. لذلك افتعلت الإدارة الأميريكية أزمة النفط في شركة “أوبك”، وعلى أثرها قام “هنري كيسنجر” وزير خارجية نيسكون عام 1974 بوضع معادلة جديدة في مفاوضاته السرية مع السعودية، تقتضي تشكيل “نظام إعادة تدوير البترودولار”، مما منح الولايات المتحدة الأميريكية السيطرة على الأسواق العالمية من خلال ازدياد الطلب الدولي على الدولار كلما ازداد الطلب على مصادر الطاقة. وهكذا انتقل الدولار من العملة المدعومة بالذهب إلى العملة المدعومة بالنفط. فأصبح بإمكان أميريكا فرض عقوبات على الدول والتحكّم بمسارات الاقتصاد العالمي. هذه المعادلة هي الأساس الوجودي والقووي للولايات المتحدة الأميريكية، حيث باتت مستعدة لتدمير كل جهة أو دولة تفكّر بالخروج عن هذه المعادلة.
لنراقب الآن حقيقة ما يجري في الشرق الأوسط وفق معادلة “الدولار والجغرافيا السياسية”. فقد استمرّ نظام البترودولار بلا منازع حتى شهر أيلول من عام 2000، حيث أعلن “صدام حسين” تحويل عملة بيع العراق للنفط من الدولار إلى اليورو، وبالفعل قام بعدّة عمليات بيع من هذا القبيل. بغض النظر عن أهداف “صدام” المتمثّلة بالضغط على أميريكا وابتزازها لكي يستعيد مكانته عندها، وكذلك فكّ القيود المصرفية الأميريكية عليه في حال فشله في تحسين وضعيته عند الأمريكيين، إلّا أنّه انتهك المحرّم والمحظور الأمريكي. فسارعت الولايات المتحدة الأميريكية إلى تلفيق مسألة أسلحة الدمار الشامل، وقامت بغزو العراق عام 2003 وإسقاط نظام البعث العراقي ثمّ إعدام صدام حسين، حيث أعادت بيع النفط بالدولار بدل اليورو، فتمّت المهمة الأميريكية بنجاح. لكن في نفس العام اتجهت إيران إلى تنظيم سوق مستقل بالنفط غير مرتبط بالدولار الأميريكي، فتهدّدت بذلك المعادلة القووية الأميريكية البترودولارية. فما كان من الولايات المتحدة إلّا أنْ تقوم بفرض عقوبات اقتصادية على إيران، والتلويح بتوجيه ضربة عسكرية إليها بذريعة أنّها تطوّر منظومة أسلحة نووية، ثم القيام بجهد استخباراتي لتخريب الداخل الإيراني وإسقاط نظام الثورة الإسلامية فيها. لكنّها فشلت واستمرّت تتبع شتى الوسائل الضاغطة، التي كان آخرها تكريس إيران عدوة للعرب والمسلمين السنّة، وذلك لضرب مشروع الاستقلال النفطي الإيراني الذي يشكّل خطورة كبرى على معادلة البترودولار التي تقوم عليها كل التدابير القووية الأميريكية في العالم.
في العام 2009 تمّ تعيين “معمّر القذافي” رئيساً للاتحاد الإفريقي، فاقترح تشكيل عملة موحّدة قوامها الدينار الذهبي، ترعى النفط بعملة إفريقية واحدة. وقد أصدر الاتحاد الإفريقي وثقية بعنوان “نحو عملة إفريقية واحدة”، وجاء في البندين 106 و107 وضع أهداف البنك المركزي الأفريقي بموجب معيار الذهب، كما ورد في الصفحة 94 من الوثيقة أنّ مفتاح النجاح في الاتحاد المالي الإفريقي سيكون ربط عملة إفريقية واحدة بالذهب والنفط وسائر موارد الطاقة. حذّرت أميريكا القذافي سرّاً من هذا المشروع، لكنّه استمرّ به بترحيب صيني وتشجيع روسي. فكانت النتيجة أنّ وكالة الاستخبارات الأمريكية وحلف الناتو قاما بعملية إسقاط النظام الليبي وقتل القذافي بسبب خطورة المشروع على معادلة البترودولار. وفي هذا العام أيضاً كانت قطر والسعودية قد قدّمتا اقتراحاً إلى الرئيس “بشار الأسد” بتوصيل أنابيب الغاز عبر تركيا إلى أوروبا لإقصاء روسيا، فرفض وصاغ اتفاقاً مع إيران والعراق لمدّ أنابيب الغاز شرقاً، مما يساهم في تخفيف سطوة البترودولار وإضعاف حلفاء أميريكا- قطر والسعودية وتركيا- في المعادلة البترودولارية. وهذا ما جعل هذه الدول أكثر المحاور الإقليمية تشدّداً إزاء سوريا، حيث تبنّت مشروع إسقاط الرئيس “بشار الأسد”، بعدما قام جهاز الأمن القومي الأميريكي بتشخيص سياسة الحكومة السورية أنّها خطر كبير على مسار قوة أميريكا وحلفائها في الشرق الأوسط.
أمّا بالنسبة إلى الحراك العدواني الأمريكي تجاه روسيا فقد كان سببه افتتاح بورصة روسية للطاقة عام 2008، مع مبيعات قوامها الروبل والذهب دون أيّة متعلّقات بالدولار الأمريكي مما يخلّ بالمعادلة القووية الأمريكية. فردّت الولايات المتحدة على الروس بتفجير الأوضاع في جورجيا بهدف ليّ الذراع الروسي وثنيهِ عن التعرّض للمصالح الأمريكية القصوى. وفي العام 2014 قامت روسيا بعملية ترتيب لإنشاء الاتحاد الأوراسي الذي يتضمّن خططاً لاعتماد عملة موحدة وسوق مستقلّ للطاقة، مما يشكّل ضربة هائلة لمعادلة البترودولار ويتسبب في انحسار نفوذ واقتصاد الولايات المتحدة الأميريكية، فنقلت رقعة الشطرنج إلى مكان آخر وهو أوكرانيا، حيث أحدثت فيها فوضى عارمة وأطاحت بحكومة “بيانوكوفيتش” وعيّنت حكومة “بورشينكو” العميلة لها، وذلك بهدف تطويق روسيا وإحباط مشروعها الطاقوي المستقلّ. وفي أعقاب الأزمة الأوكرانية مباشرةً، اتجهت الصين باتجاه روسيا وإيران، ودعتهما إلى عقد اتفاقية أمنية واقتصادية مشتركة واعتماد عملة أوراسية موحدة وغير مرتبطة بالدولار الأمريكي. ثمّ لم تنتظر الصين تبلور هذه الاتفاقية فأنشأت البنك الآسيوي للتنمية والاستثمار، المنافس لصندوق النقد والبنك الدولي اللذين تقودهما الولايات المتحدة، التي راحت تقود حملة تشنيع وتشويه للصين في العالم، وكذلك عمليات تحريض عليها في أوروبا. وهكذا يتبدّى من تتبّع مسار الحراك الأميريكي في العالم أنّه يقوم على شيفرة قووية، تتمثّل بالعلاقة بين الدولار والجغرافيا السياسية. لذلك فإنّ كل دولة أو منظومة تحاول فكّ هذه الشيفرة وإبطالها سوف تتعرض لأعنف الهجمات الأميريكية على مختلف الصعد والمستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وكذلك العسكرية.
د. عباس مزهر: مؤسس علم الأنتروستراتيجيا الدولية