نشاطات المركز
رؤية المركز حول القانون الإنتخابي الجديد
بتاريخ ٢٣-١١-٢٠١٧ عقد مركز الدراسات و الأبحاث الأنتروستراتيجية حلقة بحثية بعنوان : القانون الإنتخابي الجديد (بين الواقع و المرتجى) ، حاضر فيها الدكتور جواد شاهين و ناقشها عدد من الباحثين ، طارحين رؤية المركز حول الموضوع .
مقدمة
لقد أدّى الخلل في النظام اللبناني وفي الدستور إلى حرب أهلية طاحنة في لبنان، دامت أكثر من عقد ونصف من الزمن، ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا، إلى أن أتت اللحظة الإقليمية الدولية التي أذنت في وضع حد للحرب الداخلية، واتفق المجتمعون على وضع عقد اجتماعي جديد، سميّ باتفاق الطائف، وكان من ضمن بنوده بند رئيس تمثّل بالاتفاق على قانون انتخاب عصري جديد على قاعدة النسبية، وعلى أساس لبنان دائرة إنتخابية واحدة، إضافة إلى إلغاء الطائفية السياسية، وغيرها من البنود المهمة التي لم تتخطّ الحبر الذي كُتبت فيه.
لقد مثّل القانون الانتخابي حلماً عند اللبنانيين، بعد المماطلة في إقراره على مدى أكثر من سبع وعشرين سنة، إلى أن توصلوا أخيراً إلى قانون على قاعدة النسبية، لم يمثّل طموحات اللبنانيين في أن يكون قانونًا يخرج من الشرنقة الطائفية، ويجعل الطوائف والمجموعات المختلفة تتلاقى في مساحة مشتركة بعيدًا من الخطاب الطائفي والمذهبي البغيض، بحيث يكون لبنان دائرة إنتخابية واحدة، فينتخب ابن الشمال مرشحه في الجنوب أو العاصمة ممن يلتقي معه في الرؤية السياسية، وهكذا حتى تصبح الأحزاب والتكتلات السياسية تحمل برامج وطنية.
ولكنّ القانون الجديد قد يمثّل الخطوة الأولى على طريق الألف ميل، على الرغم من الشوائب التي اعترته وخففتْ من وهجهِ كإنجاز كبير طال تحقيقه، ويبقى الأمل معقودًا على وعي الشعب اللبناني في اختيار من يستطيع أن يمثّله ويعمل على تحقيق مصلحته كمواطن ينتمي إلى وطن وليس إلى طائفة أو مجموعة أو فريق.
ولمناقشة هذا القانون، قام مركز الدراسات الأنتروستراتيجية في وضع تصور عام، وبجهد مشكور للدكتور جواد شاهين، قارب من خلاله الإيجابيات التي تضمنها المشروع وسلبياته أيضًا، بحيث يستطيع المتابع أن يشكّل رؤية موضوعية محايدة عن هذا القانون العتيد الذي طال انتظاره.
في فلسفة القوانين الانتخابية وتطبيقها في الواقع اللبناني
الدكتور جواد شاهين
وفقاً للتعريف المعتمد من قبل المذاهب المختلفة في العلوم السياسية, فإنّ الدولة هي “سلطة سياسية ما، تُمارس على شعب ما داخل اطار جغرافي ما, وقد يُضاف إليها الاعتراف”. وبالتالي, فإنّ العناصر المكونة للدولة هي: السلطة والشعب والإقليم والاعتراف. من هنا نشأت الحاجة إلى تكوين السلطة السياسية بما يرضي خيارات ومتطلبات الشعب, و بالتالي أهمية أنْ تكون هذه السلطة منبثقة من الشعب, فكانت الانتخابات وكانت أهمية تنظيمها عبر قانون الانتخاب الذي يعبّر بموجبه أفراد الشعب عن رأيهم السياسي.
تقوم فلسفة القوانين الانتخابية على مبدأ وهدف تحقيق التمثيل الصحيح للجماعات المكوّنة للنسيج الاجتماعي و السياسي في كل بلد. لكن هذه القوانين تختلف من بلد إلى آخر تبعاً لاختلاف الأحوال والظروف في كلّ من هذه البلدان, والهدف من وراء كلّ قانون. من هنا تعتبر فقرة “الاسباب الموجبة” من أهم الفقرات لتبرير أي مشروع أو اقتراح قانون مهما كان موضوعه, و باختلاف هذه الأسباب الموجبة تختلف روحية ونصوص القوانين الانتخابية.
من الأمثلة على ذلك تعديل القوانين الانتخابية في ألمانيا بعد الوحدة، وذلك بهدف الحفاظ على تمثيل بعض الأحزاب المناطقية الصغيرة في ألمانيا الشرقية سابقاً, وعدم اضمحلالها مع ما ومن تمثّل من أقليات عرقية و إثنية في بحر الأحزاب الكبرى في ألمانيا الموحدة, لما يشكّل هذا التنوّع من غنى حضاري وثقافي وسياسي. أما في فرنسا فإنّ التعديلات التي طرأت على قوانين الانتخابات كان من أسبابها الحقيقية, وإنْ غير المعلنة, كبح جماح و تحجيم حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف بزعامة “جان ماري لوبن” وخليفته ابنته “مارين”.
أما في لبنان فإنّ القصور في فهم فلسفة فكرة الأنتخابات في وجهها التمثيلي لشرائح المجتمع يحوّلها الى أداة بيد البعض تستعمل لإقصاء البعض الآخر, فنكون أقرب الى المشرّع الفرنسي الإقصائي منه الى المشرّع الألماني التشاركي. و ما يزيد الطين بلّة في الحالة اللبنانية هو اعتبار البعض أنّ وجودهم وحدهم في السلطة يحقق التمثيل الصحيح لجماعتهم الطائفية, فيكون التماهي بين الشخص و الجماعة. من هنا نشأت ظاهرة اعتبار الطائفة ومصيرها مهدداً في حال رسوب هذا المرشح أو ذاك في الانتخابات, أو تضاؤل حصته النيابية, حتى ولو كانت هذه الانتخابات تستند الى قانون يؤمن التمثيل الصحيح.
ويلعب الناخب اللبناني دوراً في تشويه التمثيل الصحيح عبر جنوحه الى الاقتراع دون الانتخاب، وهنا يجدر التمييز بين المفهومين. فالانتخاب هو الاختيار الحرّ من قبل المواطن لمرشحه, أما الاقتراع فهو عملية ميكانيكية تقوم فقط على إسقاط المظروف في الصندوقة المخصصة لذلك. وفي تقرير أعدّه أحد علماء الاجتماع الفرنسيين عن سلوك المواطن اللبناني يوم الانتخاب, كتب جملته التي تختصر كل شيء: “الفارق بين المواطن الفرنسي والمواطن اللبناني بسيط جداً يوم الانتخاب. فالمواطن الفرنسي ينام أربع سنوات ثم يصحو يوم الانتخاب, بينما المواطن اللبناني يصحو اربع سنوات و ينام يوم الانتخاب!!”.
– تأثير القوانين الانتخابية الأكثرية في لبنان
يكمن تأثير القوانين الانتخابية الأكثرية بدورة واحدة في لبنان في وجهين:
أ- الانصهار الوطني: من المفارقات أنّ المواطن اللبناني ينتمي إلى عدة انتماءات: الطائفة والحزب, قبل انتمائه إلى الوطن. وتُعتبر الطوائف والأحزاب هي العناصر الفاعلة في المجتمع السياسي اللبناني, وتسيطر الطائفية على العمل السياسي بحيث أنّ معظم الأحزاب هي أحزاب طائفية. ولم تستطع القوانين الانتخابية أنْ تنقل اللبنانيين من أتباع لطوائف إلى مواطنين في دولة يتمتّع مجتمعها بالانصهار الوطني وأولوية الانتماء إلى الوطن.
ب- فعالية مؤسسات الدولة: يعاني لبنان منذ الاستقلال من عدم استقرار سياسي وحكومي نتيجة الخلل في التمثيل النيابي والسياسي لمكونات المجتمع اللبناني المذكورة أعلاه, أي الطوائف والأحزاب. ففي الوقت الذي يفترض أن تتمثل جميع القوى بشكل عادل وصحيح في البرلمان ليكون مساحة للحوار بين الموالاة والمعارضة, نرى أنّ البرلمان – ونتيجة لسوء التمثيل – لم يعد يشكّل هذه المساحة, فتنشأ الاضطرابات بهدف تصحيح التمثيل في السلطة, و هو ما لا يؤمّنه قانون الانتخابات الأكثري, و بعدها نشهد ولادة هيئات وأشكال أخرى للحوار, تأخذ من البرلمان أحد أهم أدواره كممثل للشعب, ومنها نذكر هيئات الحوار الوطني وطاولة الحوار, وهي هيئات لا تتمتع بأي صفة دستورية.
– قانون 2017, ما له و ما عليه:
لا شكّ في أنّ توصّل لبنان وبعد 17 سنة من الصراع الحاد حول قانون الانتخاب، إلى قانون انتخاب جديد يختلف في خطوطه الرئيسية عن كلّ ما سبقه من صيغ لقوانين الانتخاب التي اعتمدت منذ إنشاء لبنان دولة في العام 1920، يُعتبر حدثاً سياسياً مهمّاً ويشكّل قفزة نوعية إيجابية بالرغم من أخذه في النهاية بمنطق «التوافقراطية» التي يعمل بها لبنان خلافاً لقواعد الديمقراطية التي ينصّ عليها الدستور اللبناني. وهنا أهمية هذا القانون الذي كرّس من حيث اعتماده المذهب السياسي اللبناني القائم على «التوافقراطية» والتي يسمّيها البعض تجاوزاً الديمقراطية التوافقية في تركيب عجيب للمتناقضات. وتكمن إيجابيات هذا القانون في النواحي التالية:
– اعتماد النسبية كمبدأ لتحقيق العدالة في التمثيل: إن إرساء القانون على قاعدة النسبية، ما يُفسح لتمثيل الجميع وفقاً لحد أدنى متفق عليه من شأنه أن يُحقّق ومن دون شكّ عدالة في التمثيل، أفضل من كلّ ما سبقه من نظم أكثرية كانت تقوم على قاعدة القوة الإلغائية. ففي حين أنّ النظام الأكثري يسحق كتلة انتخابية تقارب نصف المقترعين، فإنّ النظام النسبي يتيح تمثيل من يحصل على قدر قد لا يتعدّى الربع أو الثلث من الأصوات المقترعة في بعض الحالات. وفي هذا انتقال من نظام المحادل الساحقة الى نظام التمثيل الواسع.
– توسيع الدائرة الانتخابية: وفي هذا التوسيع اقتراب ولو بخطوة قصيرة محدودة من تطبيق مبدأ دستوري أنّ النائب يمثّل الأمة من دون الوصول الى تحقيقه فعلياً، لأنّ تطبيقه الصحيح يفرض أن يكون لبنان كلّه دائرة واحدة يساهم كل الشعب فيها بانتخاب كل النواب، لكن يبقى الوضع الجديد أفضل مما كان لجهة اختصار الدوائر من 26 دائرة الى 15.
– اعتماد الصوت التفضيلي: فالناخب في النظام الأكثري السابق يرجّح عادة لائحة بكاملها من دون مفاضلة بين أعضائها إذ يكون عليه الناخب أن يقترع للائحة كلّها أو يشطب بعض الأسماء، بينما مع الصوت التفضيلي فإنّ الناخب يقترع للائحة كلّها دون تشطيب ثم يقترع لفرد واحد منها يتقدّم بنظره عمّن سواه، أي أنّ الناخب يُدلي بصوته مرّتين: مرّة للائحة ومرّة لمرشح. وفي هذا اختبار لقوة المرشح ورسالة تفرض على المعنيين بشؤون اللائحة أخذها في الاعتبار في الإنتخابات المقبلة نظراً لكشفها عن القوة الشعبية و الانتخابية للمرشح.
– اعتماد الحاصل الانتخابي: وهو يحتسب على أساس قسمة مجموع المقترعين على عدد المقاعد، ففي دائرة اقترع فيها 30 ألفاً وعدد نوابها 6، يكون الحاصل الانتخابي 5000 صوت. ما يعني أنّ كلّ لائحة حازت على 5 آلاف صوت تمثل في البرلمان. وهنا أهمية هذا العنصر في تمثيل الأقليات الشعبية.
بالرغم من إيجابيات قانون الانتخاب الجديد, يبقى أن نتوقف عند سلبياته وهنا نسجّل ما يلي:
– تشويه النسبية الصحيحة واعتماد النسبية المقيّدة المجزأة، ففي حين أنّ النظام النسبي الصحيح الذي يحقق العدالة التامة في التمثيل يفرض اعتماد التصويت على أساس الدائرة الواحدة والانتخاب خارج القيد الطائفي، لأنّ إدخال أي قيد عليها يؤدي الى تشويهها والحدّ من فعالية عدالة التمثيل التي تبتغيها. وهذا الأمر يفرض على القوى الوطنية التي تطمح إلى بناء نظام سياسي عصري أن لا تتراجع عن المطالبة بتصحيح هذا الخلل وأن تتخذه شعاراً مركزياً للإصلاح الانتخابي.
– الجنوح الى الطائفية المقنعة بعيداً عن المواطنية الواضحة المنفتحة، ويتجلّى ذلك من وجهين: الأول تقسيم الدوائر الـ 15، حيث جمعت في كل دائرة قوى متجانسة طائفياً إلى حدّ كبير حتى ومذهبياً في حالات معينة حشد المسيحيين في دوائر خاصة بهم والمسلمين كذلك، ثم فصل الشيعة في بعض الدوائر عن السنة، كما حصل في صيدا وصور، رغم أنهما أصلاً من محافظة إدارية واحدة. وفي هذا السلوك خنق للنزعة الوطنية وتشجيع للنزعة الطائفية والمذهبية ينبغي العمل على الحد من آثارها السلبية.
– منع القوى الوطنية ذات الانتشار الوطني الواسع من الاستفادة من قوتها التجييرية الحقيقية، لأن تقسيم الدوائر يعني تجزئة قوتها ومنعها من التحشيد
– ترك الباب مفتوحاً أمام المال السياسي لأنّ اعتماد دوائر صغيرة بحجم القضاء يبقى على فعالية المال السياسي، وقد يجعل تأثيره أكبر مما كان عليه في النظام الأكثري، ففي حين أنه يتطلب في النظام الأكثري بلوغ عتبة الأكثرية المطلقة لتحقيق الفوز، فإنه يكفي أن يستعمل لبلوغ الحاصل الانتخابي في النظام النسبي. وهو أدنى طبعاً من الأكثرية المطلقة. وإنّ الحدّ من تأثير المال السياسي يفرض حتماً توسيع الدائرة.
هذه بعض أهم سلبيات قانون الانتخاب الجديد، والتي تتمحور على الصفة الطائفية والمناطقية التي تطبع القانون على حساب المصلحة الوطنية، ولكنْ ومهما يكن من أمر هذه السلبيات يجب الإقرار بأن هذا القانون يبقى أفضل مما سبقه من قوانين اعتُمدت منذ مئة عام، وفي مختلف الحقبات والأوضاع. ويكون على القوى الوطنية اللاطائفية أنْ تستفيد من إيجابيات هذا القانون لتطويرها، والتركيز على سلبياته لتعطيلها، وصولاً الى قانون وطني يؤسس لقيام الديمقراطية الحقيقية التي تقيم الدولة المدنية الوطنية الجامعة، ويُسقط «التوافقراطية» التقسيمية الطائفية التي تمنع قيام دولة المواطن دولة العدالة والمساواة وتبقي على دولة الطوائف والحصص التي تتذرّع بالمعتقد الديني، وتتمسّك به كجواز مرور للحصول على المكاسب والامتيازات، وتُشهره في وجه شركاء في الوطن لتمنعهم من الحصول على حقوق المواطن المدنية.
وهنا تجدر الإشارة الى أنّ الإصلاح الحاصل في القانون الانتخابي لا يشكل وحده حلاً لأزمة الحياة السياسية في لبنان, بل يجب أن يكون مترافقاً مع عدّة خطوات أخرى، من أهمها وضع قانون حديث للأحزاب. فالأحزاب التي تشكّل عصب الحياة السياسية في كل بلد, ما زالت خاضعة في لبنان لقانون الجمعيات العثماني 1909, والأحزاب هي الهيئات الوحيدة القادرة على إنتاج النخب وتأطيرها ودفعها لتبوؤ المناصب السياسية وتنفيذ مشاريعها وخططها, بما يخلص البلاد من حالة الإفلاس السياسي التي تعاني منها.
قانون الإنتخاب الجديد
(الإمتحان الكبير بين تكريس السلطة وإمكانية التغيير)
د. محمودعبد الرؤوف كوثراني
أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية
بعد مخاض عسير دام حوالي قرن من الزمن ولد قانون الإنتخابات الجديد في لبنان، وكما لم تكن هذه الولادة سهلة، لم يكن أيضاً سهلاً تسويق قانون مربَك يصل الى حد توصيفه بالقانون الجدلي، حيث يكتنفه الغموض لدرجة ان المعنيين به من نواب مشرعين ومسؤولين وسياسيين وقفوا عاجزين في بعض الأحيان عن تفسير كنه مواده المعقدة، لأنه يجمع بين النسبي والأكثري، بالإضافة الى تعقيدات العملية الإنتخابية، المتمثلة بتركيب اللوائح والنسب المفروضة لاستيفائها الشروط القانونية ومسألة الحاصل الإنتخابي، فضلاً عن الصوت التفضيلي، وغيرها من الشروط.
إنّ الإنتقال من القانون الأكثري الى القانون النسبي ليست مسألة سهلة في بلد مثل لبنان قد ابتلي بمرض الطائفية والمذهبية المزمن والذي تم تكريسه دستورياً ليستمر الى الأبد بدل ايجاد العلاج الذي يؤمن له الحياة الطبيعية، لذلك نجد من الصعب أن يتقبل المرء فكرة انتاج قانون بعيداً عن تأثيرات هذا المرض الذي أنهكَ جسده وبات غير قادر على تحمل آثاره، وبات يستنجد مخلصاً من كوكب آخر بعد أن سئم خطب التسكين العابرة للطوائف التي اصبحت قاصرة النتائج ولم ولن تسطع يوماً شفاءه من مرضه.
لكنّ الجديد في الأمر أنّنا بدءنا ولو ببطء الإنتقال من الأكثري الى النسبي ولو بشكل متواضع وخلافاً لآمال وطموحات الكثير من المواطنين الذين انتظروا طويلاً ولادة قانون يحدث نقلة نوعية في الحياة السياسية، ويخرج لبنان من دوامة الأزمات السياسية وغير السياسية التي تعتبر سمته الأبرز منذ ولادته، والتي منعت عنه الإستقرار اللازم والضروري للإزدهار الإقتصادي والإجتماعي.
أما وقد اتُخذ القرار وولِد قانون إنتخابات جديد بتاريخ 16/6/2017 بناء على اقتراح قانون معجّل من الحكومة رقم 883 تاريخ 14/6/2017، قسّم لبنان انتخابياً إلى خمسة عشر دائرة على أساس النسبية المحاصرة ببدعة الصوت التفضيلي، هذا الإبتكار اللبناني الجديد، وكما تعودنا في كل مأزق سياسي على بدع من هذا النوع، كبدعة الديمقراطية التوافقية التي ينفرد بها لبنان والتي تتناقض أساساً مع أصل معنى ومفهوم هذا المصطلح، لكن المواطن اللبناني ألفها وأصبحت عرفاً أقوى من القانون يستخدم في الإنتخابات والتعيينات بكافة اشكالها ومواقعها، كما سيتقبل هذا القانون الجديد بجميع بدعه وابتكاراته بكل رحابة، بالرغم من اعتراضات تبدأ أولاً عاصفة وسرعان ما تخفت وتزول دون أية مفاعيل تغييرية كما جرت العادة. والسبب في ذلك واضح ولا يحتاج الى تفسير معمق، وهو أنّ أكثرية المواطنيين ينتمون إلى فئة المقترعين وليس إلى فئة الناخبين تحت اعتبارات طائفية ومذهبية وحزبية، ولكنها في الحقيقة اعتبارات شخصية بحتة يصار الى إلباسها الاعتبارات السابقة الذكر، ويتمّ تأجيجها غبّ الطلب لتكريس واقع سياسي يخدم تلك الإعتبارات.
وعلى هذا الأساس، وإذا اعتبرنا هذا الإنجاز أفضل الممكن في بلد تزدحم فيه القوى وتتزاحم لتكريس حصصها على حساب التثميل الحقيقي وإرادة المواطن الحقيقية، لا بد من التسليم بأن هذا القانون هو بمثابة الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، التي من المفترض السير بها وصولاً الى النسبية الكاملة، مع الإعتراف بصعوبة تحقق مثل هذا القانون بسبب تعارضه مع مصالح الأكثرية من الطبقة السياسية التي كرسها دستور الجمهورية الثانية. لذلك نعتبر أنّ رحلة النسبية قد بدأت من تاريخ إقرار القانون الجديد وعلى كل القوى الوطنية القادرة والفاعلة التوحد لمتابعة مسار هذه الرحلة لتحقيق المزيد لمصلحة الوطن والمواطن.
إذاً لقد انفرد لبنان بقانون انتخابات جديد اعتمد تقسيمات غير متوازنة من حيث حجم الدوائر التي تم اعتمادها، وذلك بناءً على حسابات النتائج المتوقعة لكل فريق، بهدف ضمان أكبر حصة ممكنة له وتحديداً رأس الهرم فيه، وهذا واضح من طريقة التقسيم والتفاوت بين دائرة واخرى من حيث المساحة الإنتخابية التي جاءت على الشكل التالي:
-1- دائرة بيروت الأولى وتضمّ المدوّر والرميل والصيفي والمرفأ والأشرفية، وينتخب أبناء بيروت في هذه الدائرة ثمانية نواب: ثلاثة أرمن أرثوذكس، نائب عن الأرمن الكاثوليك وآخر ماروني ومقعد للروم الكاثوليك ومقعد للأقليات (وقد تمّ نقل هذا المقعد من دائرة بيروت الثانية الى دائرة بيروت الأولى).
-2- دائرة بيروت الثانية وتضم المزرعة والمصيطبة ورأس بيروت وعين المريسة وميناء الحصن وزقاق البلاط والباشورة، وينتخب البيارتة في هذه الدائرة أحد عشر نائباً منهم ستة من السنّة واثنان من الشيعة ودرزياً وأرثوذكسياً وإنجيلياً.
-3- دائرة صور والزهراني: سبعة نواب، ستة منهم شيعة ونائب كاثوليكي.
-4- دائرة صيدا وجزين: خمسة نواب: اثنان من الموارنة واثنان من السنّة وكاثوليكي واحد.
-5- دائرة حاصبيا – مرجعيون – بنت جبيل – النبطية: احد عشر نائبا: ثمانية شيعة وارثوذكسي وسنّي ودرزي.
6- دائرة الشوف وعاليه، يُنتخب فيها ثلاثة عشر نائباً، خمسة موارنة واربعة دروز واثنان سنّة وكاثوليكي وارثوذكسي.
-7- دائرة بعبدا، وتحظى بستة مقاعد مقسمة على الموارنة (ثلاثة) والشيعة (نائبان) والدروز (نائب واحد).
-8- دائرة المتن: ثمانية نوّاب موزّعون على المقاعد الاتية: اربعة للموارنة، اثنان للروم الاثوذكس، نائب عن الروم الكاثوليك وارمني ارثوذكسي.
-9- دائرة كسروان وجبيل: ثمانية نواب: سبعة نوّاب موارنة ونائب شيعي.
-10- دائرة البترون – بشري – الكورة – زغرتا، حيث ينتخب أبناء هذه الدائرة عشرة نوّاب، سبعة منهم موارنة وثلاثة ارثوذكس
-11- دائرة طرابلس – المنية – الضنية، تضم احد عشر نائباً، منهم ثمانية سنّة ونائب ماروني وآخر ارثوذكسي ونائب علوي.
-12- دائرة عكار، وتضم سبعة مقاعد موّزعة على السنّة (ثلاثة) والارثوذكس (مقعدان) والموارنة (مقعد) والعلويين (مقعد).
-13- دائرة بعلبك – الهرمل، اذ ينتخب ابناء البقاع الشمالي عشرة نواب، منهم ستة شيعة واثنان سنة وماروني وكاثوليكي.
14- دائرة زحلة ينتخب فيها ابناء هذه الدائرة: 7 نواب على الشكل التالي: نائبين من الروم الكاثوليك ونائبا شيعيا ونائبا سنّيا ونائبا ارثوذكسيا وآخر من الارمن الارثوذكس.
15- دائرة البقاع الغربي – راشيا وتضم ستة نواب، اثنان سنّة وماروني وارثوذكسي وشيعي ودرزي.
وبذلك تكون مجموعة السلطة قد عمدت الى تقسيم دوائر معينة بطريقة طائفية مذهبية مصلحية، وأبرز مثال على ذلك هو إعادة العمل ببيروت الشرقية (الدائرة الأولى) وبيروت الغربية (الدائرة الثانية)، تماماً كما كانتا في الحرب الأهلية”.
أما الأمر الآخر، فهو غياب المساواة في تقسيم الدوائر، فبعضها صغير جداً لناحية عدد المقاعد المُخصّصة لها (في دائرة جزين ــ صيدا 5 مقاعد، أما الشوف ــ عاليه فـ13 نائباً).
لذلك تُعتبر هذه التقسيمات تكريساً للطائفية والمذهبية التي تخدم الطبقة السياسية وتكرّس سلطتها، وهذا بحد ذاته يُعتبر افراغ لمسألة النسبية من مضمونها التمثيلي الصحيح من خلال الإلتفاف عليها بهذه الطريقة الواضحة، وإن ذكر النسبية هو فقط لمحاولة امتصاص الضغط الذي قامت به بعض القوى السياسية والمدنية بهذا الخصوص، والتي باتت تشكل معه هذه القوى خطراً نسبياً على علاقة قوى السلطة بقواعدها، نتيجة ملل هذه القواعد الخطاب التقليدي الذي لم يتزامن مع اي انجازات إقتصادية أو اجتماعية قد تساهم في تأمين حلول للمشكلات المتراكمة على هذه الصعد.
وختاماً، وإذا أخذنا بعين الإعتبار مساحة التفاؤل الضيقة التي تضمنها القانون الجديد، والتي تعتبر بمثابة مرحلة انتقالية يمكن أن يسجل خلالها تغييراً ولو محدوداً على الخارطة السياسية للقوى التقليدية من خلال دخول عناصر جديدة نأمل أن تشكل مدخلاً لبناء لبنان جديد تتمثل فيه كل القوى والنخب الوطنية، بعيداً عن الإستئثار والإحتكار والتهميش لكل القادرين على الوصول الى الندوة البرلمانية من خلال نسبة تأييد شعبي ناتج عن طرح برامج انتخابية غابت لفترة زمنية طويلة عن المشهد الإنتخابي الطبيعي الذي على أساسه تتم المحاسبة والمساءلة من قبل المواطنين في الإنتخابات المقبلة. فهل بعد هذا القانون يمكن أن نشهد بعض التغيير، كما نشهد عودة لمثل هذه البرامج، ومعها نشهد عودة للزخم الإنتخابي بصوَرِه الطبيعية؟.
قانون الإنتخاب(النسبيّة) بين الواقع والتمنّي
الدكتور علي حرب
لعّل وعسى أن تشّكل الحالة الإستثنائيّة التي انبثقت عن المجلس النيابي في لبنان باتفاق الأقطاب السياسيّة اللبنانيّة على رؤية جديدة ولو كانت الغاية منها وعلى المدى المنظور تأمين مصالح الزعماء السياسيّن الحاليّين بحيث أتى القانون الإنتخابي الحديث مفصّلاً والى حدّ كبير على قياس الطوائف بمرجعيّاتها وأركانها السياسيّة لأنّ ذلك المفهوم السائد في ثقافة اللبنانييّن الذين لم يرقوا بعد إلى مصاف المواطنيّة الحقيقيّة، كما هو حاصل في دول العالم المتحضّر الذي يقيّم الفرد بقدر عطائه للوطن ككلّ وليس لفئة محدّدة أو ما شابه.
لا يمكن أنْ نمنع أنفسنا من أنْ نحلم و نتمنّى أنْ تكون خطوة إعلان بنود وتفاصيل قانون الانتخاب الجديد بداية رؤية مستقبليّة على حجم الوطن، وأكبر من المصالح الضيّقة والمفصّلة على حجم ومصالح الأشخاص.
أن الأوان أن يكون الشعب هو صاحب السلطة الفعليّة وتكون له إرادة وحريّة التعبير والتمثيل الصحيح للجماعات التي يتكوّن منها النسيج اللبناني. الأمل كبير في أنْ يكون لأولادنا والأجيال القادمة فرصة بناء وطن حقيقي وتنظيف البلاد من مربّعات الطوائف وزواريب الزعماء والأتباع.
الحقيقة أن بنود القانون النسبي ليست على قدر طموح المواطن اللبناني الذي يتطلّع الى أنْ يكون نائب البقاع كما هو نائب الجنوب، بأنه نائب عن الأمّة وللأمّة بأجمعها، ومن واجباته أن تشمل خدماته كل المناطق دون استثناء، لأنّ مصلحة المواطن والوطن فوق الأشخاص وأكبر من منطقة أو زاروب لتصبّ في إطار المصالح الشخصيّة الضيّقة، والمطلوب عدم السّماح بإقصاء أي مكوّن من مكوّنات هذا البلد.
حلم المواطن اللبناني ليس باختيار الأسماء بمن يمثّلهم بل باللّذين من يعمل لأجلهم ولتحسين مستواهم المعيشي. حلم اللبناني أنْ ينتخب بدون تسييس أو توجيه أو إملاءت, أنْ يكون مطلق الحريّة بانتخاب من يراه نزيهاً عادلاً وطنيّاً حّراً وغير مرتهن لأي مرجعيّة خارجيّة أو أجنبيّة, يعمل مع باقي الشرفاء لإعادة تجهيز البنية التحتيّة من شبكات الكهرباء, الماء, والعمل على إيجاد الحلول المركزيّة والجذريّة لمعالجة النفايات من الحدود الى الحدود لتأمين بيئة صحيّة نظيفة لجميع اللبنانييّن.
حلم المواطن اللبناني أنْ يكون على رأس السلطة التنفيذيّة من النوّاب ومسوؤلين شرفاء يشاركون المواطن العادي همومه والعمل على إيجاد فرص العمل من خلال بناء المصانع والمعامل، وليس العمل على تزفيت الشوارع الفرعيّة أو إرضاء مراجع معنيّة لتمجيد زعيم أو سياسي أو مسوؤل.
لعلّ بخطوة النسبيّية نكون قد خطونا الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل لعملية الإصلاح السياسي والاجتماعي على مستوى الوطن ووضع حجر الأساس للمواطنيّة الصحيحة والسليمة.
مداخلة الدكتور مالك مرسل نصر
قبل الخوض في أهمية قانون الانتخاب فلنسأل السؤال التالي: كيف يستقيم وطن وفيه اربع درجات من المواطنيه؟
الدرجة الاولى لرئاسة الجمهورية. –
– الدرجة الثانية لرئاسة مجلس الوزراء.
الدرجة الثالثة لرئاسة مجلس النواب. –
أما الدرجة الرابعة فمهما كبر علم المرء واتسع فهمه، لا يمكن أن يرقى لأكثر من وزير.
الحل يكمن في الدوله الجامعه حيث يتساوى اللبنانيون أمام الدستور، وإلغاء الطائفيه السياسيه.
فالتجربة الأميريكيه أكبر برهان على تقدّم الإنسانيه في حكم الشعوب لنفسها من خلال إفراز قيادات تمثلها وترعى مصالحها ولا أحد فوق القانون. فكرسي الحكم امتياز للحاكم و حق لكلّ مواطن لا يمكن المحافظة عليه إلّا بصدق المعاملة وتطبيق الدستور.
فمصلحة الوطن فوق كلّ اعتبار. بالنسبة لقانون الانتخاب الجديد نجد أنه خطوة الى الأمام ولكن ما زلنا ندور في نفس الفلك الطائفي. البلد منقسم على نفسه وللمواطن ولاء للطائفة أكثر من الوطن. وكلٌّ يجد لبنانه على طريقته كما قال جبران خليل جبران لكم لبنانكم ولي لبناني.
خاتمة
سيكون الاستحقاق الإنتخابي موعدًا مع التغيير الذي سيؤثّر في المشهد السياسي اللبناني، إنْ لم يكن في الدورة الأولى والتجربة الاستهلالية المزمع خوضها في أيار من العام 2018، فإنّ مجرّد شعور النائب أو المرشح بأنّ هناك مواطنًا ينتظره خلف الستارة، ليعمل على محاسبته على أربع سنوات من العمل والتفويض والأمل، وإنْ كان من خلال الصوت التفضيلي الذي قد يكون فعّالًا في مكان ما؛ نكون قد تخطينا مرحلة “البوسطات” الانتخابية، وانتقلنا إلى حالة يستطيع فيها أن يشكّل صوت المواطن فارقًا ووزنًا في العملية الانتخابية، وهذا سيُشعِر الناخِب والمنتخَب بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، ويُخرِج العملية السياسية والانتخابية من حالة الروتين واليأس التي حكمت وتحكّمت باللبنانيين طيلة عقود مديدة من الزمن، إلى رحاب التغيير والمسؤولية والمحاسبة. من هذا المنطلق، يحمل القانون الجديد بين سطوره الأمل المرتجى للأجيال الآتية التي نأمل أن تنعتق من أسر التسلط والهيمنة والتوارث والتهميش الذي تحكّم في يوميات اللبنانيين وحاضرهم ومستقبلهم.