مقالات
تراجع الهيمنة الأميريكية على العالم ومستقبل النظام الدولي
لا يختلف أحد على أنّ الولايات المتّحدة الأمريكية هيمنت على موقع الريادة العالمية إقتصاديًّا وعسكريًّا وتكنولوجيًّا قرابة السبعين عامًا، منذ لحظة السويس عام 1956، مرورًا بصدمة نيكسون عام 1971، وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 ونهاية الحرب الباردة في بداية العقد الأخير من القرن العشرين. عدّة تساؤلات تُطرح حول مصير هذه الهيمنة من حيث بقائها إلى تراجعها، بل حتى إلى زوالها. فهل فعلاً الهيمنة الأمريكية تتراجع أم أنها مجرّد افتراض يتمنّى خصومها أن يتحقّق؟ خاصة مع ظهور قوى صاعدة تنافس أميريكا على قيادة النظام الدولي كروسيا والصين.
شكّلت العديد من الأحداث طوال عشرين عامًا، منذ هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 إلى الحرب الدائرة الآن في غزة، الدعامة الأساسية لتراجع الدور الأمريكي العالمي، لا بل وضعه على طريق الإنكفاء والزوال. لقد أثبتت هجمات سبتمبر 2001 أنّ المناعة الأمريكية يمكن اختراقها وتوجيه ضربات موجعة لها، وأنّه لم يكن سرًّا إعلان تنظيم القاعدة الحرب على أميركا وتوجيه ضرباته إليها في سفارتَي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا وصولاً إلى الهجوم الكاسح على المدمرة الأمريكية “كول” في ميناء عدن. لقد أدّى ردّ الولايات المتحدة المتسرّع وغير المدروس إلى الوقوع في المستنقع الأفغاني وإعلانها الحرب على أفغانستان عام 2001 التي انتهت بهزيمة طالبان، إلا أنّ الأخطاء التي ارتكبتها أميركا في البلاد ساهمت في عودة طالبان، مما اضطرّ الولايات المتحدة إلى التفاوض معها على الرغم من إدراجها على قائمة الإرهاب، حيث توصّل الطرفان إلى إتفاقية في شباط 2020 في الدوحة تقضي بانسحاب أمريكا الشامل من البلاد في سبتمبر 2021، إلا أنّ انهيار حلفاء أميركا أدّى إلى النهاية المذلة التي شهدها الانسحاب الأمبريكي من مطار كابل آنذاك.
ولعلّ الحرب على العراق 2003 كانت من أسوأ القرارات التي اتخذتها الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لكنّها اختارت الهدف الخطأ والمبرّر الأكثر خطأً، وفشلها حينها في استصدار قرار من مجلس الأمن يشرعن هذه الحرب رغم الضغوطات. تلك الحرب كانت كارثية على أمريكا واقتصادها وموقعها ودورها، أوصلت البلاد إلى حافة الإنهيار الاقتصادي وأدّى إلى انسحابها عام 2011 دون أيّة نتيجة مرجوة إلا تمزيق وتدمير البلد. وكان من نتائج الاحتلال الأميريكي للعراق ظهور حركات المقاومة العراقية، التي كبّدت الجيش الأميريكي خسائر كبيرة، وجعلت العراق جزءًا من محور المقاومة، وساهمت في إفشال المشروع الأميريكي في سوريا، وقصفت القواعد الأميريكية خلال معركة طوفان الأقصى، ممّا هزّ صورة القوّة الأميريكية في العالم.
ولا مكان أكثر وضوحًا لتآكل الدور الأمريكي مثل الساحة السوريّة، وخاصة بعد التدخل الروسي الإيراني الذي دخل من البوابة العريضة لمساندة الرئيس السوري بشار الأسد بعد مراهنة أميركا على إزاحته، والذي لم يتحقّق. وعليه فإنّ الفراغ الذي حدث في سوريا ملأته روسيا ومحور المقاومة، ولم يعد للوجود الأمريكي أيّ أثر وفاعلية وقيمة في البلاد، إلّا في المناطق التي تحتلّها الولايات المتحدة الأميريكية وتُقيم فيها قواعد عسكرية، لسرقة النفط والغاز السوري. لقد كانت هذه فرصة للدبّ الروسي لاستعراض قوّته العسكرية في سوريا وتحريك أساطيله لفرض نفسه كقوة كبرى دولية لها دور فاعل وقوي على الصعيد الدولي بوجه الولايات المتحدة، ومواجهتها وإحباط مخطّطها التقسيمي الذي يقضي بعزل روسيا عبر المتنفّس السوري.
ولعلّ الحرب الأوكرانية شكّلت أصعب الإكراهات الجيوستراتيجية أمام الولايات المتحدة الأميريكية، حيث لم يواجه الاتحاد الأوروبي مشكلات أمنية تُذكر خلال النصف الثاني من القرن الماضي وخاصة بعد استكماله للمخططات لبناء كيان قوي ومستقل تمثل بمعاهدة ماستريخت عام ١٩٩٢ لبناء جيش أوروبي وبناء وحدة إقتصادية قويّة على الرغم من الحرب الاقتصادية التي وجّهتها أميركا للصناعات الأوربية خاصة العسكرية، إلى أن مهّدت للحرب الأوكرانية الروسية التي كشفت الضعف الأوروبي وهرولته إلى مظلة الناتو، وهذه أحد أهداف أمريكا من هذه الحرب وإجبار أوروبا على على مجاراة الولايات المتحدة ومعاداة روسيا وقطع العلاقات الاقتصادية والتضحية من الاستفادة من الطاقة الرخيصة التي مكّنت روسيا من التطور الاقتصادي الكبير، والإنزلاق نحو التضخّم وارتفاع الأسعار وغضب المواطنين، الأمر الذي دفع القادة الأوروبيين إلى التوجه شرقًا. ومَن هناك أكثر استعدادًا من التنّين الصيني لتقديم الحلول لتلك الأزمة، فالصين تمثل شريكًا تجاريًّا ضخمًا لأوروبا حيث بلغ حجم التجارة 517 مليارعام 2020، إذ قام المستشار الألماني بزيارة إلى الصين عام 2022 سعيًا لتعزيز العلاقات مع الصين، وفي 2023 حذا الرئيس الفرنسي ماكرون حذوه وقام بالذهاب إلى بكين والاعتراف بدولة الصين كأحد الدول العظمى على الصعيد العالمي عامة والأوروبي خاصة. ولعلّ أبرز ما جاء في زيارة ماكرون هو تصريحه بعد عودته حيث قال أنّ الأوروبيين يجب أن لا يكونوا أتباعًا لأميركا في أزمات لا دخل لهم فيها مشيرًا إلى الحرب الأوكرانية الروسية وأنّ والتحالف لا يعني التبعيّة.
صحيح أنّ الولايات المتحدة نجحت في تدمير العلاقة الروسية الأوروبية إلا أنّ ذلك دفع أوروبا بقوة شديدة بعيدًا عن أميركا نحو الصين، وذلك كان من النتائج غير المتوقّعة أبدًا . فالولايات المتحدة لم تنجح في وقف نمو التنين الصيني وكبح ناره، بل على العكس كل يوم يثبت أنّ الصين هي قطب منافس للولايات المتحدة في جميع المجالات اقتصاديًّا و سياسيًّا، وإلى حدّ كبير عسكريًّا فضلاً عن الاقتحام السريع للفضاء والوصول إلى القمر، وعلى الرغم من العقوبات الأميركية التكنولوجية التي تهدف إلى وقف النمو الصيني نرى أنها كانت دافعًا للتطوير المحلي. أصبحت الصين مركز ثقل سياسي واقتصاي كواقع ملموس، وأدرك العالم قوة الصين الدبلوماسية، وخاصة تبنّيها المصالحة في الشرق الأوسط ومبادرة وقف إطلاق النار في روسيا وأوكرانيا، لذلك فالتحوّل الأوروبي تجاه الصين منطقي جدًا. والطامّة الكبرى وغير المتوقعة جاءت من الحلفاء بالخليج الذي تحوّل إلى قوة مناوئة للولايات المتحدة وتحديدًا في تقوية العلاقات مع الصين وروسيا سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا واستخدام عملات أخرى غير الدولار الأمريكي لمساندة موجة عالمية للتخلّي عن استخدام العملة الأمريكية التى بدأت في اتحاد البريكس الذي يضم الهند والبرازيل وجنوب أفريقا إلى جانب روسيا والصين، على الرغم من كل هذه التأثيرات الخارجية والحروب التي خاضتها الولايات المتحدة شرقًا وغربًا لتحقيق مكاسبها وترك تلك البلاد ممزقة وضعيفة. وعلى الرغم من كل الخسائر التي منيت بها على جميع الأصعدة إلا أنّ الهاجس الأساسي والخطر الأكبر يأتي من داخل البيت الأمريكي الواحد.
عوامل كثيرة لعبت دورًا في إضعاف الولايات المتحدة من الداخل مثل جائحة كورونا، ومعها السياسات الإستقطابية في ظلّ الأعراف الديمقراطية المتداعية، ثم الحروب العرقية العنيفة والحروب الثقافية والنزعة الإقليمية في البلاد، وخاصة بعد الذي حصل في ولاية تكساس مع المهاجرين في الولاية الجمهورية والتي تصرفت كدولة مستقلة ضاربة بعرض الحائط اتخاذ القرارات المركزية وتأييد ولايات جمهورية أخرى لقرارات “تكساس”، ثم الفجوة الآخذة بالإتساع بين الأغنياء والفقراء. في كلّ هذه الأزمات يكاد ما يُجمع عليه الأمريكيين اليوم انعدام الثقة الجماعية في مؤسّساتهم وحكومتهم وإعلامهم ونظامهم السياسي، حيث تجتاح فوضى عارمة البلاد ويتزايد القلق بشأن التضخم الحاصل والمتزامن مع تجاوز الديون الوطنية عتبة ال 80 تریلیون دولار، 20 ترليون منها مستحقّة لدول أجنبية، حيث تشكّل الصين الدائن الأكبر لأميريكا. رغم حراجة كلّ هذه المشكلات يبقى الأمر الأكثر إثارة للقلق هو تآكل الديمقراطية في أمريكا وانعكاس ذلك على سياستها الخارجية وخاصة بعد أحداث 7 أكتوبر – والحرب الكونية على غزة والضرب بعرض الحائط حقوق الإنسان والقرارات الدولية وقرارات مجلس الأمن، والدليل على ذلك هو تقرير لمنظمة “فريدوم هاوس” التي سلّطت الضوء على تراجع أميركا إحدى عشرة نقطة في تصنيفها ضمن مؤشر الفجوة الديمقراطية.
لقد فشلت السياسات الأمريكية فى العقود الثلاثة الأخيرة وأدّت إلى تراجع مكانتها على الصعيد العالمي، إضافة إلى ضجر العالم شرقًا وغربًا من الهيمنة الأمريكية في ظلّ غياب إستراتجيات وخطط واضحة لإحلال الأمن والسلم في العالم، فكلّ بلد دخلتها أمريكا أو ساندت حروبًا فيها بقيت ممزقة منهكة. ولعلّ غياب هذه الإستراتيجيات وانكشاف النفاق الأمريكي كان الدافع والحافز للصين للوصول نحو قمّة الهرم العالمي إلى جانب روسيا الاتحادية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويبدو أنّ طوفان الأقصى سيكتب نهاية قصيرة لقصة الهيمنة الأمريكية على العالم، خاصة مع تورّط أميريكا بالإبادة الجماعية وتشوّه صورتها في العالم وانكشاف زيف ادعاءاتها، حيث صار الصوت الأميريكي غريبًا في العالم، واهتزت صورتها بفعل المجازر وجرائم الحرب الإسرائيلية، وكذلك توجيه محور المقاومة ضربات موجعة ومُهينة لأميركا خاصة في البحر الأحمر. وبعد كلّ هذه الأحداث يبدو أنّ الهيمنة الأميريكية في تراجع مستمرّ، وأنّ العالم ذاهب إلى فوضى في القوى ضمن نسق عالم بلا مهيمن، سيتبعها إعادة توزيع الأدوار العالمية وظهور أقطاب جديدة، ممّا يُحدث انتقالاً وتغييرًا في بُنية النظام الدولي.
محمد حمدان
باحث في العلاقات الدولية