ترجمات
العودة إلى مستقبل الناتو
العودة إلى مستقبل الناتو
توطئة: يقارن هذا المقال بين المفهوم الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي لعام 2022، مع المفاهيم السابقة بدءاً من العام 1949، كما يوضح استراتيجية حلف شمال الأطلسي العملياتية لمرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية 2022، ويستعرض استراتيجية واشنطن لدعم قدرات الحلف الدفاعية والهجومية.
كشف الناتو عن مفهومِ استراتيجيٍّ جديدٍ لعام 2022 الذي يعدّ أول إصلاحٍ شاملٍ لبيان مهمة الناتو منذ اثني عشر عامًا، ومن الجدير بالذكر أنّ الوثيقة تشترك كثيرًا مع مفاهيم حلف الناتو خلال العقود الأربعة الأولى منه في التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
اعتمد الناتو سابقاً على المفاهيم الاستراتيجية لتوجيه عمليات الحلف وانتشاره -والإشارة إلى خصوم التحالف -منذ تأسيسه في عام 1949، وقد تطورت المفاهيم الاستراتيجية مع تغير الزمن والتهديدات، ولكنّها جميعها مبنيةٌ على ردع الحرب، كما أوضح اللورد هاستينغز إسماي، الأمين العام الأول لحلف الناتو، الذي قال “إنّ العمل الأساسي والدائم والشامل لحلف الناتو هو تجنب الحرب”.
ركّز المفهوم الاستراتيجي الأول لحلف الناتو (1949) على تطوير “أقصى قوةٍ ممكنةٍ من خلال التخطيط الدفاعي الجماعي”، والجمع بين القوات القادرة على “منع الحرب” وضمان “التطبيق الفعال للقوة العسكرية والصناعية لدول المعاهدة في دفاع مشترك، ولتحقيق هذه الغاية، وجّه التحالف نحو نشر قدراتٍ لمواجهة هجمات العدو ضدّ قوى حلف شمال الأطلسي بكلّ الوسائل المتاحة”، و “تأمين ومراقبة خطوط الاتصالات البحرية والجوية”، و “توحيد قوة دول حلف الأطلسي من أجل تعزيز الحفاظ على السلام “.
هدف المفهوم الاستراتيجي الثاني لحلف الناتو (1952) إلى “إقناع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بأنّ أيّ محاولاتٍ في وقت السلم من قبل الاتحاد السوفيتي أو أقمارها الصناعية لزيادة تهديدهم” ضد أعضاء الناتو، يعدّ عملاً عدائياً، لذلك يجب تحقيق والحفاظ على التفوق التقني للحلف … وتقديم المساعدة المتبادلة “عبر التحالف، لتسريع” توحيد المعدات وتنسيق الإنتاج”، وتعزيز” تبادل التخطيط والذكاء والمعلومات التقنية”.
دعا المفهوم الاستراتيجي الثالث (1957) كلّ عضوٍ في الناتو إلى “تطوير قوته العسكرية إلى أقصى حدٍّ … بما يتماشى مع الأهمية الأساسية لحماية منطقة الناتو، وتوفير الدفاع عن نفسه، وعند الاقتضاء، التزاماته الدفاعية في أماكن أخرى، ” وأضافت الوثيقة حينها، “من أجل الحفاظ على السلام والأمن في منطقة الناتو، من الضروريّ … مواجهة النفوذ السوفييتي العدائيّ في المناطق غير الأعضاء في الناتو”.
أصدر الناتو مفهومه الاستراتيجيّ الرابع في عام 1966، داعيًا إلى الردع “من خلال مواجهة أيّ عدوانٍ محتملٍ أو مهددٍ أو فعليٍ، بدءًا من العمليات السرية إلى الحرب النووية الشاملة”، كما أعلن حلف الناتو أن أعضاء حلف وارسو “يجب ألا يمنحوا أيّ سبب للاعتقاد بأنّهم يمكن أن يحققوا أهدافهم من خلال التهديد باستخدام القوة العسكرية أو استخدامها ضدّ أيّ جزءٍ من منطقة حلف شمال الأطلسي”، كما أشادت الوثيقة بمفهوم “الدفاع الأماميّ” وحذرت من “عدوان كبير”، ربما يكون مدعومًا بأسلحة نووية وكيميائية تكتيكية”، فضلاً عن “عدوان محدود … ضدّ دولة من دول الناتو”.
ومع سقوط جدار برلين وتراجع الإمبراطورية السوفيتية، أشاد المفهوم الاستراتيجي لعام 1991 بـ “بيئةٍ أمنيةٍ محسنةٍ بشكلٍ جذري” –إذ أشارت الوثيقة إلى استعادة السيادة من أتباع الاتحاد السوفياتي السابقين في أوروبا الشرقية، واستقلال دول البلطيق، وانسحاب القوات السوفيتية من المجر وتشيكوسلوفاكيا، وإعادة توحيد ألمانيا، وهتفت الوثيقة قائلة: “أصبحت الحرب العامة في أوروبا أمرًا مستبعدًا إلى حد كبير“، “لقد تمت إزالة التهديد بشن هجومٍ متزامنٍ واسع النطاق على جميع الجبهات الأوروبية لحلف الناتو”، ورغم ذلك ظل التزام الناتو بالردع والتزامات المادة الخامسة الكل مقابل واحد، ولكن كان هناك تحولٌ جذري بعيدًا عن “مفهوم الدفاع المتقدم نحو تواجد أمامي مخفض”.
ألزم المفهوم الاستراتيجي لعام 1999 التحالف بالاستقرار في البلقان، و “عمليات دعم السلام”، و “التعاون والحوار … مع روسيا”، و “توسيع الاستقرار” في أوروبا الشرقية، والسعي لتحقيق “المصلحة المشتركة والمعاملة بالمثل والشفافية” مع روسيا، وبناء “سلامٍ دائمٍ وشاملٍ في المنطقة الأوروبية الأطلسية على أساس مبادئ الديمقراطية والأمن التعاوني.”
حتى في المفهوم الاستراتيجي لعام 2010 -الذي تمت صياغته بعد الحرب الروسية على جورجيا التي كانت تطمح لعضوية حلف شمال الأطلسي -تشبث قادة الناتو بآمالهم في “شراكة استراتيجية حقيقية بين الناتو وروسيا” و “التعاون العملي مع روسيا”، وأعلنت الوثيقة أنّ “التهديد بشن هجومٍ تقليديٍّ على أراضي الناتو منخفضٌ”، ولم يشر إلى القطب الشمالي أو المحيطين الهندي والهادئ أو الصين أو التهديد الذي يمثله الوفاق الصاعد بين الصين وروسيا.
اليوم يقودنا ذلك إلى المفهوم الاستراتيجي لعام 2022، الأمر الأكثر إثارة للدهشة والكشف هو مدى ضآلة القواسم المشتركة بينه وبين وثائق أعوام 1991 -1999 -2010، ومدى تكرارها للمفاهيم الاستراتيجية لحقبة الحرب الباردة، ومدى تغير العالم.
في إشارة إلى أن حرب الاتحاد الروسي ضد أوكرانيا “حطمت السلام وغيرت بشكل خطير بيئة الحلف الأمنية، يوضح المفهوم الاستراتيجي الجديد أن الناتو يواجه حقبة من “المنافسة الاستراتيجية” و “عدم الاستقرار المتفشي”، وتصف الوثيقة (روسيا بوتين) بأنّها “تهديدٌ مباشرٌ لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية”، إنّه يؤكد ما حذره البعض من الأعضاء في الجزء الأكبر من عقدين من الزمن -من أنه “لا يمكننا اعتبار الاتحاد الروسي شريكًا للحلف”، ومثل وثيقة عام 1966، يحذر النص من أن الناتو “لا يمكنه استبعاد احتمال وقوع هجوم”، مرددًا المفهوم الاستراتيجي لعام 1949، الذي يُلزم المفهوم الاستراتيجي الجديد الحلفاء بـ “تعزيز الاستعداد الجماعي والاستجابة وقابلية الانتشار والتكامل وقابلية التشغيل البيني لقواتنا”، ويتعهد المفهوم الاستراتيجي الجديد “بالردع والدفاع إلى الأمام بقواتٍ قويةٍ في المكان ومتعددة المجالات وجاهزة للقتال وترتيبات قيادةٍ وتحكمٍ محسّنةً وذخيرةً ومعدات مسبقة التمركز وقدرة وبنية تحتية محسّنة لتعزيز أي حليف بسرعة، هنا، يستعير التحالف من التزام المفهوم الاستراتيجي لعام 1952 بتعزيز نوعية وكمية أنظمة الأسلحة على مستوى الناتو، بالإضافة إلى التزام وثيقة عام 1966 بـ “الدفاع المتقدم”.
ولتعزيز الموقف الرادع لحلف الناتو، يوجه المفهوم الاستراتيجي الجديد الحلفاء إلى “زيادة التوافق بين الخطط الدفاعية الوطنية وحلف شمال الأطلسي … وتقوية وتحديث هيكل قوة الناتو … (و) تعزيز الاستعداد الجماعي والاستجابة وقابلية الانتشار والتكامل والتشغيل البيني لقوات أعضائه، كما يحذر قادة الناتو، “يجب ألا يشك أحد في قوتنا وعزمنا على الدفاع عن كلّ شبر من أراضي الحلفاء” في هذا الصدد، يكرر التحالف تحذير المفهوم الاستراتيجي لعام 1966 من أن تراهن موسكو على “التهديد باستخدام القوة العسكرية أو استخدامها ضدّ أيّ جزءٍ من منطقة حلف شمال الأطلسي.
يقرّ المفهوم الاستراتيجي الجديد بأنّ التهديدات التي يتعرض لها الناتو لا تقتصر على أوروبا -وأن الكرملين ليس المصدر الوحيد للتهديدات.
تعلن استراتيجية 2022 أن “الفضاء الإلكتروني موضع نزاع في جميع الأوقات”، وتحذر الوثيقة من أنّ الجهات الفاعلة الخبيثة “تسعى إلى تقويض بنيتنا التحتية الحيوية، والتدخل في خدماتنا الحكومية، واستخراج المعلومات الاستخبارية، وسرقة الملكية الفكرية، وإعاقة أنشطتنا العسكرية”.
تضيف الوثيقة أن الأنظمة المعادية “تستثمر في التقنيات التي يمكن أن تقيد وصولنا وحريتنا في العمل في الفضاء، وتضعف قدراتنا الفضائية، وتستهدف بنيتنا التحتية المدنية والعسكرية، وتضعف دفاعنا، وتضر بأمننا”.
يصف المفهوم الاستراتيجي تصرفات روسيا في القطب الشمالي بأنّها “تحدٍّ استراتيجي” ويثير مخاوف بشأن “قدرة روسيا على تعطيل تعزيزات الحلفاء وحرية الملاحة عبر شمال الأطلسي”.
نصف عالمٍ بعيدٍ ……
تم تحديد جمهورية الصين الشعبية لأول مرة على الإطلاق في المفهوم الاستراتيجي للناتو على أنّها تهديد. يعلن المفهوم الاستراتيجي أنّ “طموحات وسياسات جمهورية الصين الشعبية تتحدى مصالحنا وأمننا وقيمنا”، مثل ربط وثيقة 1957 للأمن في بصمة الناتو بالتهديدات من المناطق غير الأعضاء في الناتو، يدعو المفهوم الاستراتيجي لعام 2022 حلفاء الناتو إلى المساهمة في أمن المحيطين الهندي والهادئ، من أجل “الدفاع عن قيمنا المشتركة والنظام الدولي القائم على القواعد، بما في ذلك حرية الملاحة”، و”تعزيز الحوار والتعاون مع الشركاء الجدد والحاليين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة التحديات عبر الإقليمية.
تستدعي الوثيقة “عمليات بكين الهجينة والسيبرانية الخبيثة … وخطاب المواجهة والمعلومات المضللة ضد أعضاء الناتو، ويدين جهود بكين “لتخريب النظام الدولي القائم على القواعد” ويعلن أنّ “تعميق الشراكة الاستراتيجية بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الروسي ومحاولاتهما المتآزرة لتقويض النظام الدوليّ القائم على القواعد تتعارض مع قيمه واهتماماته.
يقوم قادة الحلف بتوسيع قوة الردّ التابعة لحلف الناتو بشكلٍ كبيرٍ من 40 ألف جندي إلى 300 ألف جندي، وبالمثل، يقوم الناتو بإنشاء وحدة دفاعٍ إلكترونيّ سريعة الاستجابة، يوجه المفهوم الاستراتيجي انتباه خصوم الناتو إلى أنّ “مجموعةً واحدةً أو تراكميةً من الأنشطة السيبرانية الخبيثة … يمكن أن تصل إلى مستوى الهجوم المسلح ويمكن أن تدفع مجلس شمال الأطلسي إلى الاحتجاج بالمادة الخامسة”.
ينشر الناتو أربع مجموعات قتالية جديدة في بلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا، تضاف مجموعات القتال هذه إلى مجموعات القتال الموجودة في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، والتي تشكلت بعد هجوم روسيا عام 2014 على أوكرانيا.
كما أّنّ الولايات المتحدة ستقيم مقر قيادةٍ متقدمٍ دائمٍ للفيلق الخامس في بولندا، وتأسيس فريق لواء قتالي في رومانيا؛ ونشر القوات المدرعة والطيران والدفاع الجوي والعمليات الخاصة عبر دول البلطيق؛ كما تمركز سفن حربية إضافية في إسبانيا، ويتمركز سربان من طراز F-35 في بريطانيا، مع وجود 102 ألف جندي الآن في المسرح الأوروبي، زادت قوة القوات الأمريكية في الناتو بأوروبا بنسبة 30٪ منذ أواخر عام 2021.
تمثل سياسات العودة إلى المستقبل هذه انعكاسًا كاملاً لقرارات واشنطن القصيرة النظر بين عامي 2011 و2013 بسحب كل الدروع الأمريكية الثقيلة من أوروبا، وإلغاء تنشيط الأسطول الثاني الذي يركز على شمال الأطلسي البحري وإغلاق V Corps التابع للجيش ومقره ألمانيا.
الولايات المتحدة ليست وحدها في تعزيز قدرات الردع لحلف شمال الأطلسي على طول الجانب الشرقي، إذ أرسلت بريطانيا وفرنسا والدنمارك قوات إلى إستونيا، وقد أرسلت كندا وجمهورية التشيك وألبانيا وأيسلندا وإيطاليا وبولندا وإسبانيا والجبل الأسود وسلوفينيا وسلوفاكيا قوات إلى لاتفيا، وأرسلت ألمانيا وجمهورية التشيك وبلجيكا وأيسلندا وهولندا ولوكسمبورج قوات إلى ليتوانيا، وأرسلت بريطانيا ورومانيا وكرواتيا قوات إلى بولندا، وأرسلت جمهورية التشيك وألمانيا وبولندا ولوكسمبورغ وسلوفينيا قوات إلى سلوفاكيا، وأرسلت فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وبولندا ولوكسمبورج قوات إلى رومانيا، انتشرت طائرات حربية هولندية وإسبانية في بلغاريا.
أيضاً، تكاد ألمانيا تضاعف الإنفاق الدفاعي، كما ستقفز ميزانية الدفاع البولندية إلى 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام المقبل، كما تزيد لاتفيا من الإنفاق الدفاعي بنسبة 13٪ هذا العام، أيضاً تعمل هولندا والنرويج ورومانيا على زيادة الإنفاق الدفاعي بشكلِ كبيرِ.
أخيرًا، تضيف فنلندا والسويد قدراتهما العسكرية الهائلة والبراعة التكنولوجية والموقع الجغرافي الأمثل إلى الحلف مما يعزز بشكلٍ كبيرٍ العمق الاستراتيجي لحلف الناتو ووضعه الرادع في دول البلطيق والقطب الشمالي.
ذات مرة أعلن الرئيس كينيدي: “نضع أنفسنا، بإرادتنا وبالضرورة، في تحالفات دفاعية مع دول في جميع أنحاء العالم”، مع وجود بيرل هاربور ونورماندي وأوكيناوا وإيو جيما لا يزالون حاضرين في ذاكرتهم، أدرك جيله أن التحالفات مثل الناتو تدافع عن المصالح الأمريكية وتردع حرب القوى العظمى.
Source: Alan W. Dowd, Back to the future for NATO, AUG 15, 2022, https://www.legion.org/landingzone/256623/back-future-nato
مركز الدراسات والأبحاث الأنثروستراتيجية